نترجم هنا أحد أهم مقالات تشومسكي الفلسفية، والذي يتناول فيه العلاقة بين اللغة والحرية. هذا الجانب الفلسفي من أعمال تشومسكي ما زال غائباً عن الثقافة العربية، وحتى عن فروع الفلسفة في العالم بشكل أعم. الأسباب متعددة ومعقدة، وقد ناقشنا بعضها في مقال سابق.
نتمنى أن تسهم هذه الترجمة في توجيه الأنظار إلى هذا الجانب من عمل تشومسكي، وأن تثير بعض النقاشات والدراسات، آملين فوق كل شيء أن تساهم هذه الأفكار في تشكيل تيار يساري منفتح يؤمن بالحرية وبالعدالة الاجتماعية في آن معاً، أي بما يسمّيه تشومسكي الاشتراكية التحررية.
توصّل تشومسكي عن طريق دراسة اللغة إلى أن الطبيعة البشرية تزوّد كل إنسان بقواعد ومبادئ فطرية تسمح له باكتساب اللغة. هذه المبادئ والقواعد تتيح لمستخدمها أن ينتج عدداً لا محدوداً من الجمل عن طريق عدد محدود من القواعد. تعكس اللغة بعض خواص العقل والطبيعة البشريان. بشكل مشابه، يرى تشومسكي أن سلوك الإنسان الاجتماعي والثقافي والمادي والفني تحكمه مبادئ مشابهة: أي أنه ينطلق من مجموعة مبادئ وقواعد محددة فطرية ليبدع بحرية وبشكل لا محدود. من هنا، الإنسان ليس كائناً مطواعاً وقابلاً للتشكيل كما تريده الدول والمدراء والمدرسون: هذه الأفكار النسبوية والتجريبية خاطئة من جهة، وفاسدة أخلاقياً من جهة أخرى. هناك طبيعة بشرية أساسية لا تستطيع الدولة والأنظمة الاجتماعية التسلطية محوها والقضاء عليها. الحرية والكرامة من خواص هذه الطبيعة البشرية التي يشترك بها كل الناس بلا استثناء.
باختصار إذن، يرى تشومسكي أن كل إنسان مبدع وخلّاق بطريقته الخاصة في استخدامه للغة، وأيضاً في أفعاله المادية والفكرية؛ وعلى أي فلسفة سياسية أن تنطلق من تحرير إمكانيات البشر الخلاقة والمبدعة وأن تسعى لرفع القيود المفروضة عليهم.
يلفت النظر هنا دفاع تشومسكي، المنطلق من أفكار روسو وكنط وهمبولت التنويرية، عن الحرية ضد كل من يدّعي أن بعض الناس ليسوا مهيئين لها بعد. الحرية، في أيامها الأولى، مرهقة ومخيفة ومليئة بالمصاعب؛ ولكن الحصول على الحرية هو الطريق الوحيد لممارسة الحرية. لا دروب أخرى.
في عصر اللاعقلانية والنسبوية والغموض والظلام الذي نعيشه، يأتي صوت تشومسكي المدافع عن العقل والعلم والحرية والتنوير والقيم المشتركة واضحاً لا تلجلج فيه ولا مساومة، ليفتح الباب أمام القراء للمشاركة في المعركة الطويلة، والمحبطة أحياناً، ولكن الأخلاقية دوماً، من أجل العدالة الاجتماعية.
هذا مقال في الفوضوية، وفي تاريخ الفلسفة، وفي الفلسفة السياسية وفلسفة اللغة، وفي التاريخ الفكري لليسار، يجمع تشومسكي فيه بين الاشتراكية والفردانية والليبرالية الكلاسيكية، في صيغة من الفوضوية، أو الاشتراكية التحررية، حيث الحرية والعدالة الاجتماعية هي الهدف الأسمى لكل فلسفة.
عدي الزعبي
هذا المقال هو نص لمحاضرة ألقيت في ندوة الحرية والعلوم الإنسانية، جامعة ليولا، شيكاغو، 8-9 كانون الثاني 1970.
عندما دُعيت لأتكلم عن «اللغة والحرية»، شعرت بالحيرة والفضول. معظم حياتي المهنية كرّستها لدراسة اللغة. لن نجد صعوبة في إيجاد موضوع للنقاش في هذا المجال. وهناك الكثير مما يقال عن مشاكل الحرية والتحرر التي تواجهنا وتواجه غيرنا في منتصف القرن العشرين. المشكل في العنوان هو صلة الوصل. بأية طريقة ترتبط اللغة والحرية؟
بدايةً، دعوني أقدّم سريعاً الدراسات المعاصرة للغة، من وجهة نظري. الكثير من جوانب اللغة واستخدامها يثير أسئلة شيّقة، ولكن – برأيي – حتى الآن بعض منها فقط قادنا إلى إطار نظري منتِج. بالتحديد، أعمق رؤانا تكمن في البنية النحوية الرئيسية. من يعرف لغة ما يكون قد اكتسب نظاماً من القواعد والمبادئ – «نحو توليدي» بالمصطلحات التقنية – يربط الصوت بالمعنى بطريقة محددة. هناك العديد من الفرضيات المعقولة والمضيئة لخصائص هذه الأنظمة، ولعدد كبير من اللغات. أكثر من ذلك، لدينا اهتمام متجدّد بـ «النحو الكلي»، مؤولاً الآن على أنه النظرية التي تحاول تعيين الخصائص العامة لهذه اللغات التي يستطيع البشر تعلّمها بطريقة عادية. هنا، أيضاً، حصل تقدم هام. للموضوع أهمية خاصة. من الملائم اعتبار النحو الكلي كدراسة لإحدى ملكات العقل الأساسية. لذا سيكون مشوّقاً اكتشاف، وأعتقد أننا اكتشفنا، أن مبادئ النحو الكلي غنية ومجردة ومقيّدة ومن الممكن استخدامها للوصول إلى تفسيرات مبدئية لعدد مختلف من الظواهر. في المرحلة الحالية من فهمنا، إذا كانت دراسة اللغة ستزودنا بنقطة الانطلاق لأبحاثنا في مشاكل الطبيعة البشرية، فعلينا أن نركّز انتباهنا على هذه المظاهر اللغوية، لسبب بسيط هو أن هذه المظاهر هي التي نفهمها بشكل معقول. بمعنى آخر، تكشف دراسة الخصائص الأساسية للغة شيئاً ما عن طبيعة البشر بطريقة سلبية: إنها ترسم، وبدقة عالية، حدود فهمنا لهذه الخواص العقلية التي تبدو مقتصرة على البشر والتي تدخل في صميم إنجازاتهم الثقافية، وإن كان بطريقة غامضة.
في البحث عن نقطة افتراق، يعود المرء بشكل طبيعي إلى فترة من تاريخ الفكر الغربي عندما كان ممكناً الاعتقاد بأن «التفكير بجعل الحرية مادة وغاية الفلسفة قد حرر الروح الإنسانية في كافة علاقاتها، و… أعاد توجيه العلم بكافة أجزائه بقوة أكبر من أية ثورة سابقة». كلمة «الثورة» تحمل أبعاداً مختلفة في هذا الاقتباس، حيث يعلن شلنغ أن «الإنسان ولد ليعمل وليس ليتأمل»؛ وعندما يكتب « لقد حان الوقت لإعلان حرية الروح لإنسانية أنبل، ولا حاجة للصبر بعد الآن مع الندم الحزين على القيود القديمة»، نسمع أصداء الفكر التحرري والأفعال الثورية لنهاية القرن الثامن عشر. كتب شلنغ «بداية ونهاية كل الفلسفة هي الحرية»، هذه الكلمات محمّلة بالمعنى والإلحاح في زمن كان الناس يسعون للتخلص من قيودهم، ولإنشاء تنظيمات اجتماعية أكثر إنسانية وديمقراطية. في مثل هذا الزمن قد يجد الفيلسوف نفسه مدفوعاً إلى البحث في طبيعة وحدود الحرية البشرية، وربما إلى أن يخلص، مع شيلنغ، فيما يخص الأنا البشرية، أن «جوهرها هو الحرية»؛ وفيما يخص الفلسفة، «أن أعلى كرامة تحققها يكمن بالضبط في أنها ترتكز بأكملها على الحرية البشرية».
نحن نعيش، مرة أخرى، مثل هذا الزمن. يجتاح المد الثوري ما يسمى بالعالم الثالث، موقظاً جموعاً هائلة من سباتها واعتيادها على السلطة التقليدية. هناك من يشعر بأن المجتمعات الصناعية جاهزة أيضاً للتغيير الثوري، وأنا لا أشير فقط إلى ممثلي اليسار الجديد.
خطر التغيير الثوري يجلب القمع ورد الفعل. علاماته واضحة بأشكال مختلفة، في فرنسا، في الاتحاد السوفييتي، في الولايات المتحدة، وحتى في هذه المدينة حيث نلتقي. من الطبيعي، إذن، أن ننظر في مشاكل الحرية بشكل تجريدي، وأن نعود باهتمام وانتباه جديان إلى فكر مرحلة سابقة عندما كانت التنظيمات الاجتماعية القديمة عرضةً لتحليل نقدي وهجمات متكررة. ستكون هذه العودة مناسبة وطبيعية، طالما أخذنا في الاعتبار مقولة شلنغ، أن الإنسان لم يولد فقط للتأمل بل أيضاً للعمل.
كتاب روسو بحث في اللامساواة (1775) هو أحد أبكر وأكثر أبحاث القرن الثامن عشر في الحرية والعبودية جدارةً بالملاحظة، وهو بطرق متعددة كراسة ثورية. يسعى روسو في الكتاب إلى «تبيان أصل وتطور اللامساواة، وتأسيس وتعسف المجتمعات السياسية، آخذين بعين الاعتبار أن هذه الأمور يمكن الاستدلال عليها من طبيعة الإنسان باستخدام العقل وحده». كانت استنتاجاته صادمة لدرجة أن الحكام في لجنة جائزة أكاديمية ديجون، التي قُدّم البحث لها كجزء من مسابقة، رفضت الاستماع إلى البحث كاملاً. شكك روسو بشرعية جميع التنظيمات الاجتماعية تقريباً، وكذلك بشرعية التحكم الفردي بالملكية والثروة. يوجد «اغتصاب للشرعية… مؤسس فقط على حق عارض ومتعسف… اُخذ بالقوة فقط، ويمكن للقوة أخذه {ثانيةً} دون أن يملك {الأثرياء} حق الاعتراض». حتى الملكية المكتسبة بالجهد الفردي ليست مدعومة «بحقوق أفضل». الاعتراض على هذه الأخيرة يأتي كما يلي: «ألا تعرف أن حشوداً من إخوتك ماتت أو عانت من الحاجة إلى ما تملكه بوفرة أنت اليوم، وأنك بحاجة إلى موافقة الجنس البشري الكاملة والواضحة إن أردت تملّك ما يزيد على حاجتك من الموارد العامة؟». إنه لمن المتناقض مع القوانين الطبيعية أن«ثلة من البشر تتمتع بالرفاهية فيما معظم الناس لا تملك حتى الضروريات».
يجادل روسو بأن المجتمع المدني ما هو إلا مؤامرة من قبل الأثرياء للحفاظ على ما سرقوه. بنفاق يطلب الأثرياء من جيرانهم أن «يسنوا تشريعات العدالة والسلم التي يجب على الجميع الانصياع لها، والتي لا تستثني أحداً، والتي تعوّض بشكل ما تقلبات الحظ عن طريق إخضاع القوي والضعيف لواجبات تشاركية بشكل متساو»، هذه القوانين التي، كما سيقول أناتول فرانس، تمنع بسلطانها وبشكل متساو الثري والفقير من النوم تحت الجسر ليلاً. بمثل هذه الحجج، ضُلّل الفقراء والضعفاء: «يركض الجميع إلى قيودهم مصدقين أنهم قد أمّنوا حريتهم…» حيث أن المجتمع والقوانين «أعطت قيوداً جديدة للضعفاء وسلطات جديدة للأقوياء، ودمرت الحرية الطبيعية بشكل دائم، وأرست إلى الأبد قانون الملكية واللامساواة، وحولت اغتصاب الشرعية الخبيث إلى حق نهائي، ولمصلحة قلة من الطموحين أجبرت كامل الجنس البشري على العمل والخدمة والبؤس». تنحو الحكومات نحو التسلط الاعتباطي بشكل حتمي، وهو«فسادها و حدّها». هذه السلطات «بطبيعتها غير شرعية»، وعلى الثورات الجديدة أن «تحلّ الحكومات بشكل كامل أو أن تقربها من مؤسستها الشرعية… الانتفاضة التي تقضي على السلطان بخلعه تملك شرعية مماثلة للشرعية التي أتى بها هذا السلطان، سابقاً، وتحكّم بواسطتها برعاياه وبمصالحهم. القوة وحدها أبقت حكمه، والقوة وحدها خلعته».
المثير للانتباه، فيما يخصنا الآن، هو السبيل الذي سلكه روسو في الوصول إلى هذه النتائج «عن طريق العقل وحده»، منطلقاً من أفكاره حول طبيعة الإنسان. هو يريد أن يرى الإنسان «كما شكّلته الطبيعة». يجب أن نستمد مبادئ الحق الطبيعي وأسس الوجود الاجتماعي من طبيعة الإنسان.
«هذه الدراسة للإنسان الأصلي، لحاجاته الحقيقية، وللمبادئ التي تكمن خلف واجباته، هي أيضاً الطريقة الوحيدة التي يستطيع المرء فيها أن يستخدم أو يزيل الكم الكبير من الصعوبات التي تعترضنا عندما نبحث في أصل اللامساواة الأخلاقية، والأسس الحقيقية للجسم السياسي، والحقوق المتبادلة لأعضائه، وآلاف الأسئلة المشابهة المهمة وإن كان من الصعب صياغتها بوضوح».
لتحديد طبيعة الإنسان، يقارن روسو بين البشر والحيوانات. الإنسان «ذكي وحر… الحيوان الوحيد المحبو بالقدرة على التفكير». الحيوانات «تفتقد للتفكير وللحرية».
«في كل حيوان أرى آلة بارعة حبتها الطبيعة بحواس كي تحيا وتحافظ على ذاتها، إلى مدى محدد، من كل ما ينحو إلى تدميرها أو تخريبها. أجد الأمر ذاته بالضبط في الآلة البشرية، مع الفارق بأن الطبيعة وحدها تقوم بكافة العمل في الحيوانات، في حين أن الإنسان يساهم في هذا العمل لكونه فاعلاً حراً. الأول يختار أو يرفض بناءً على الغريزة وحدها أما الأخير فبالفعل الحر، لذا فالحيوانات لا تستطيع أن تكسر القواعد المفروضة عليها حتى إن كان ذلك الكسر نافعاً لها، والإنسان يكسر القواعد غالباً برغبته… ليس الفهم فقط ما يميز الإنسان عن الحيوان بل الفعل الحر. الطبيعة تحكم الحيوانات، والحيوانات تطيع. يشعر الإنسان بأوامر الطبيعة نفسها، ولكنه يدرك أنه حر في أن يعصي أو يطيع؛ وتظهر روحانية نفسه، قبل كل شيء، في الوعي بهذه الحرية. تشرح الفيزياء بطريقة ما ميكانيزم الحواس وكيفية تشكل الأفكار؛ ولكن في قوة الإرادة، أو بالأحرى الاختيار، وفي الإحساس بهذه القوة توجد أفعال روحية فقط لا تفسرها قوانين الميكانيك».
إذن فجوهر الإنسان هو حريته ووعيه بهذه الحرية. لذا يستطيع روسو القول أن «القضاة اللذين يعلنون بجسارة أن ابن العبد ولد عبداً، يقررون بكلمات أخرى أن الإنسان لم يولد إنساناً».
يبحث السياسيون والمثقفون السفسطائيون عن طرق لطمس حقيقة أن جوهر الإنسان حريته: «إنهم يعزون للإنسان ميلاً طبيعياً للطاعة، دون أن يفكروا أن الأمر ذاته ينطبق على الحرية وكذلك على البراءة والفضيلة: يشعر الإنسان بقيمة هذه الأشياء طالما يستمتع بها بنفسه وينسى مذاقها حالما يفقدها». على العكس، يسأل روسو ببلاغة، «بما أن الحرية أنبل ملكات الإنسان، أليس من المسيء لطبيعة الإنسان أن يضع نفسه في منزلة الحيوانات المستعبدة لغريزتها، بل أليس في هذا إهانة لخالق الإنسان حين ننكر دون تحفظات أثمن عطاياه ونجبر أنفسنا على ارتكاب كل الخطايا التي حرّمها كي نرضي سيداً متوحشاً أو مجنوناً؟»، هذا السؤال الذي طرحه رافضو الخدمة العسكرية في أمريكا في السنوات الأخيرة، وكثر غيرهم ممن بدؤوا يتعافون من كوارث الحضارة الغربية في القرن العشرين، التي أكدت مقولة روسو التراجيدية:«من هنا تأتي الحروب القومية والمعارك والجرائم والانتقام التي تهزّ الطبيعة وتصدم العقل، وكل هذه الافتراضات المسبقة الفظيعة التي تجعل شرف إسالة الدم البشري من بين الفضائل. يتعلم أرقى الرجال أن واجبهم قتل إخوتهم البشر؛ مع الزمن يقوم الناس بارتكاب مجازر بالآلاف دون أن يعرفوا السبب؛ لقد ارتُكبت جرائم في يوم واحد من القتال وفظائع في حصار مدينة واحدة أكثر مما ارتُكب على سطح الأرض منذ قرون».
يرى روسو البرهان على أن الصراع من أجل الحرية خصيصة إنسانية جوهرية، وعلى أن الشعور بقيمة الحرية يستمر طالما كان المرء يستمتع بها، في «المعجزات التي يجترحها الناس الأحرار للحفاظ على حريتهم في وجه القمع». من الصحيح أن أولئك الذين تخلوا عن حياة الإنسان الحر: «لا يفعلون شيئاً إلا التباهي باستمرار السلم والسكينة التي يستمتعون بها في قيودهم… ولكن عندما أرى الآخرين يضحّون بالملذات والسكينة والثروة والسلطة وبالحياة ذاتها للحفاظ على هذه القيمة وحدها التي يزدريها بشدة أولئك اللذين فقدوها؛ عندما أرى أن الحيوانات ولدت حرة وأنها تكره الأسر لدرجة أنها تضرب رؤوسها بقضبان أقفاصها؛ عندما أرى جموعاً من الهمج العراة بشكل كامل يستنكفون عن المتع الحسية الأوروبية ويحتملون الجوع والنار والسيف والموت ليحافظوا فقط على استقلالهم، أشعر أنه لا ينبغي للعبيد أن ينظّروا للحرية».
أفكار مشابهة عبّر عنها كنط، بعد أربعين عاماً. هو لا يستطيع، بحسب ما قاله، أن يقبل بأن بعض الناس «ليسوا مستعدين للحرية»، على سبيل المثال، خدم صاحب أرض.
«إذا قبل المرء بهذا الافتراض، فالحرية لن تُنال أبداً؛ لأن المرء لن يستطيع الوصول إلى النضج اللائق بالحرية إن لم ينلها بدايةً؛ على المرء أن يكون حراً كي يتعلم كيف يستخدم قواه بشكل حر ونافع. بالتأكيد ستكون الخطوات الأولى قاسية وستؤدي إلى أوضاع أكثر ألماً وخطورة مما كان الحال عليه تحت سيطرة سلطة خارجية، بل وتحت حمايتها. ولكن، يكتسب المرء الفكر فقط من خلال تجاربه الخاصة وعلى المرء أن يكون حراً كي يختبر هذه التجارب… القبول بالمبدأ القائل بأن الحرية عديمة الجدوى لمن هم تحت سلطة المرء وأنه يملك الحق في رفضه إعطائها لهم إلى الأبد، هو تعدّ على حقوق الله نفسه، الذي خلق الإنسان حراً».
هذه الملاحظة مثيرة للاهتمام بشكل خاص بسبب من سياقها. كان كنط يدافع عن الثورة الفرنسية، في فترة الإرهاب، في وجه من ادّعوا أن الجماهير غير جاهزة لنعمة الحرية. لملاحظات كنط أهمية معاصرة. لا يوجد أي شخص عاقل يدافع عن العنف والإرهاب. بالأخص، إرهاب دولة ما بعد الثورة، التي وقعت بأيدي مجموعة شرسة من المستبدين، ووصلت إلى مستويات غير معقولة من الهمجية أكثر من مرة. ولكن أي إنسان ذو فكر أو إنسانية لن يدين بسرعة كبيرة العنف الذي غالباً ما يحدث عندما تتمرد الجماهير المقموعة لفترات طويلة ضد مضطهديهم، أو عندما يخطون خطواتهم الأولى نحو حريتهم ونحو إعادة البناء الاجتماعي.
دعوني أعد الآن إلى حجة روسو ضد السلطة المؤسَّسة، سواء كانت سياسية أم مالية. جدير بالملاحظة أن حجته، وصولاً إلى هذه النقطة، تتبع نموذجاً ديكارتياً مألوفاً. يتميز الإنسان بكونه خارج حدود التفسير الفيزيائي؛ الحيوانات، من جهة أخرى، مجرد آلة بارعة، تُطيع القانون الطبيعي. حرية الإنسان ووعيه بهذه الحرية تميزه عن الحيوان-الآلة. مبادئ التفسير الميكانيكي غير قادرة على شرح الميزات البشرية، بالرغم من أنها تشرح الإحساسات وحتى تركيب الأفكار، والتي «يختلف الإنسان عن الحيوان فيها بالدرجة فقط».
بالنسبة لديكارت وخلفائه، مثل كورديموي، الإشارة الوحيدة الأكيدة على أن كائناً حياً آخر يملك عقلاً وبالتالي يقع خارج حدود التفسير الميكانيكي، هو استخدام اللغة بالأسلوب العادي الخلاق البشري، وغير الخاضع لمثيرات محددة، والجديد والمبدع، والملائم للأوضاع، والمتماسك، والذي يولّد في أذهاننا أفكاراً جديدة. بالنسبة للديكارتيين، من الواضح لكل إنسان عن طريق الاستبطان أنه يملك عقلاً، أي عنصر جوهره التفكير؛ استخدامه الخلّاق للغة يعكس حرية التفكير والتعقّل هذه. عندما نجد دليلاً على أن كائناً حياً آخر يستخدم اللغة بهذا الأسلوب الحر والخلاق أيضاً، سنعزو له عقلاً مشابها لعقلنا. بناءً على فرضيات مشابهة تتعلق بحدود التفسير الميكانيكي ذاته، وعدم قدرة هذا التفسير على شرح حرية الإنسان ووعيه بهذه الحرية، انتقد روسو المؤسسات السلطوية، والتي تنكر على الإنسان خاصيته الجوهرية في الحرية، بدرجات مختلفة.
لو جمعنا بين هذه الاقتراحات، لربما طورنا علاقة مثيرة للاهتمام بين اللغة والحرية. الخواص الجوهرية للغة وطريقة استخدامها تزودنا بالمعيار الرئيسي للحكم على امتلاك كائن حي آخر عقلاً بشرياً وقدرة بشرية على التفكير الحر والتعبير عن النفس، وعلى الحاجة البشرية الجوهرية ليكون حراً من القيود الخارجية للسلطات القامعة. أكثر من ذلك، ربما نحاول التقدم من الدراسة المفصلة للغة واستخدامها إلى فهم أعمق وأكثر تحديداً للعقل البشري. باتباع هذا النموذج، ربما نستطيع دراسة جوانب أخرى من الطبيعة البشرية، والتي يجب، كما لاحظ روسو، فهمها بطريقة صحيحة إن أردنا أن نطور،نظرياً، أسس تنظيم اجتماعي عقلاني.
سوف أعود لهذه المشكلة، ولكن أولاً أريد أن أتابع فكر روسو في هذه المسألة. يبتعد روسو عن التراث الديكارتي في عدة جوانب. هو يحدد «الميزة الأساسية للجنس البشري» بأنها «ملكة الوصول للكمال الذاتي»، والتي، «بمساعدة الظروف، تُطور تباعاً بقية الملكات، وتوجد فينا كنوع بشري عامة كما توجد في كل فرد». في حدود معرفتي، لم يناقش الديكارتيون ملكة الوصول للكمال الذاتي وللنوع البشري عبر الانتقال الثقافي بأية مفاهيم مشابهة. ولكني أعتقد أن ملاحظات روسو يمكن تأويلها على أنها تطوير للتراث الديكارتي في اتجاه جديد، وليس كرفض لهذا التراث. لا يوجد تناقض في فكرة أن الخواص المحدودة للعقل تشكل القاعدة لطبيعة بشرية تطورت تاريخياً ضمن حدود هذه الخواص؛ أو أن خواص العقل هذه تزودنا بإمكانية الوصول للكمال للذاتي؛ أو، بتزويدها بالوعي بالحرية، تعطي هذه الخواص الجوهرية للطبيعة البشرية الإنسان الفرصة كي يخلق شروطاً اجتماعية وأشكالاً اجتماعية تضاعف فرص الحرية والتنوع والاكتفاء الذاتي الفردي إلى أقصى مدى. إذا استخدمنا تشبيهاً حسابياً لقلنا أن الأعداد الصحيحة لا تفشل في تكوين مجموعة لانهائية، فقط لأنها لا تغطي الأعداد الحقيقية. بشكل مشابه، لا ننكر مقدرة الإنسان على «الكمال-الذاتي» اللانهائية بالقول أن هناك خواص ملازمة للعقل تحكم تطوره. أود أن أجادل بأن العكس هو الصحيح، وأنه بدون نظام من الحدود الأساسية لا يوجد أفعال خلّاقة؛ وبالأخص، بدون خواص ملازمة ومحددة للعقل، سيكون هناك فقط «تشكيل للسلوك» وليس أفعال خلاّقة للكمال الذاتي. أكثر من ذلك، يعيدنا اهتمام روسو بالطابع التطوري للكمال الذاتي، من مكان مختلف، إلى الاهتمام بالطبيعة البشرية، التي ستبدو كشرط لمثل هذا التطور للمجتمع والثقافة، حيث يرى روسو كمال الجنس البشري في تجاوز أي أشكال بدائية.
يرى روسو أنه «بالرغم من أن ملكة الكلام طبيعية للبشر، الكلام نفسه ليس طبيعياً فيهم». مرة أخرى، لا أرى أي تناقض بين هذه الملاحظة وبين وجهة النظر الديكارتية التقليدية القائلة بأن المقدرات الفطرية «تتصف بالقابلية»، أي أنها ملكات تجعلنا ننتج أفكاراً (بالأخص، أفكاراً فطرية) بطريقة خاصة تحت ظروف معطاة من المثيرات الخارجية، ولكن أيضاً تزودنا بالقدرة على التفكير دون هذه العوامل الخارجية. اللغة أيضاً، إذن، طبيعية للإنسان فقط بطريقة محددة. هذه مساهمة هامة وأساسية، كما أرى، للغويين العقلانيين تم تجاهلها، إلى درجة كبيرة، تحت تأثير علم النفس التجريبي منذ القرن الثامن عشر حتى اليوم.
يناقش روسو أصل اللغة بشكل مطول إلى حد ما، بالرغم من إقراره أنه لم يستطع أن يتوصل لحل المشكلة بطريقة مُرضية: «إذا احتاج البشر إلى الكلام ليتعلّموا التفكير، فقد احتاجوا بشكل أكبر إلى معرفة كيف يفكروا لاكتشاف فن الكلام…لذا فالمرء يجد صعوبة في وضع تخمينات معقولة حول فن تواصل الأفكار هذا وتأسيس تفاهم بين العقول؛ هذا الفن الجليل الذي نأى كثيراً عن أصوله…».
لقد رأى أن «الأفكار العامة تستطيع أن تأتي إلى العقل فقط عن طريق الكلمات، والفهم يلتقطها فقط عن طريق الجمل»- هذا الواقع يمنع الحيوانات، المفتقرة للفكر، من تشكيل الأفكار أو من الوصول إلى «الكمال الذي يعتمد عليهم». حيث لا تستطيع الحيوانات أن تفهم الأساليب التي بواسطتها «يوسّع نحويونا الجدد أفكارهم ويعممون كلماتهم»، أو يطوروا الأساليب «للتعبير عن كل أفكار الإنسان»: «الأرقام، الكلمات المجردة، الأفعال الناقصة، وكل أزمان الأفعال، أحرف الجر، القواعد، ربط الجمل، التفكير، وكل تركيب منطق الخطاب». يتصور روسو ما قد تكون عليه المراحل المتقدمة من تطور جنسنا «عندما تتعدد وتنتشر أفكار البشر، وعندما تؤسس اتصالات أقرب بينهم، وعندما يستخدمون إشارات أكثر ولغة أوسع». ولكن كان عليه أن يترك جانباً «المشكلة المعقدة الآتية: أيهما كان أكثر ضرورة، المجتمع المؤسّس مسبقاً لتشكيل اللغة، أم اختراع اللغة السابق لتأسيس المجتمع؟».
يقطع الديكارتي العقدة المستعصية بالقول بوجود مزايا خاصة للجنس البشري، مادة ثانية تشرّع ما قد نسميه «المبدأ الخلّاق» إلى جانب «المبدأ الميكانيكي» الذي يحكم بشكل كامل سلوك الحيوانات. لم يكن الديكارتيون بحاجة لشرح أصل اللغة في سياق التطور التاريخي. على العكس من ذلك، طبيعة الإنسان مميزة كيفياً: لا يوجد جسر من الجسم إلى العقل. ربما نعيد تأويل هذه الأفكار بمصطلحات معاصرة بالقول أن تحولاً وراثياً مفاجئاً ودرامياً قد أدى إلى خواص الذكاء التي، بحسب ما نعرف، تقتصر على الإنسان، حيث اللغة بالمفهوم البشري أكثر هذه الخواص تميزاً. إن كان هذا صحيحاً، على الأقل كمقاربة أولية للوقائع، قد تكون دراسة اللغة الإسفين المخترِق، أو ربما النموذج، لبحث في الطبيعة البشرية قد يزودنا بأرضية لنظرية أوسع في هذه الطبيعة.
قبل أن نصل لنتائج هذه الملاحظات التاريخية، سأنتقل، كما فعلت في كتابات أخرى، إلى فيلهلم فون همبولت، أحد أكثر المفكرين إثارة للفضول والتفكير في هذه الفترة. كان همبولت، من جهة، أحد أعمق المنظرين للسانيات العامة، ومن جهة أخرى، مناصر مبكر وحازم للقيم التحررية. الفكرة الرئيسية في فلسفته هي التربية، التي، بحسب ج. دبليو. بورو، «قصد بها التطور الأكمل والأغنى والأكثر انسجاماً لإمكانيات الفرد والمجتمع والجنس البشري». ربما تخدمنا أفكاره الشخصية كحالة نموذجية. بالرغم من أنه، بحسب معلوماتي، لم يربط صراحةً بين عمله اللغوي وفكره الاجتماعي التحرري، إلا أن هناك بوضوح شديد أرضية مشتركة تطور كلا العملين منها، وهي مفهوم مُلهم للطبيعة البشرية . يصدّر مِل كتيبه في الحرية بصياغة همبولت «للمبدأ الموجّه» لفكره: «الأهمية الجوهرية والفائقة للتطور البشري بتنوّعه الأكثر ثراءً». يختم همبولت انتقاده للدولة السلطوية بالقول: «لقد شعرت بنفسي على الدوام مفتوناً بالاحترام العميق للكرامة الموروثة للطبيعة البشرية، وللحرية، التي وحدها تليق بهذه الكرامة». بشكل مختصر، مفهومه للطبيعة البشرية هو:«الغاية الحقيقة للإنسان، أو ما هو مكتوب عن طريق التعاليم الأبدية والثابتة للعقل، وليس ما تقترحه الرغبات الغامضة والمؤقتة، هو التطوير الأسمى والأكثر انسجاماً لقواه إلى كل كامل ومتناغم. الحرية هي الشرط الأول الذي لا يُستغنى عنه التي يفترضها مثل هذا التطور؛ ولكن هناك بالإضافة للحرية، ومرتبط بها بشكل حميمي، شروط أخرى جوهرية متعددة».
مثل روسو وكنط، رأى همبولت أن: «لا شيء يحضّ على نضوج الحرية كالحرية ذاتها. هذه الحقيقة، ربما، لن يعترف بها أولئك اللذين يستخدمون عدم النضوج هذا كعذر لاستمرار الاضطهاد. ولكنها تبدو لي نابعة بشكل لا ريب فيه من طبيعة الإنسان نفسها. لا يمكن أن نجهل كيف نتصرف بحرية إلا بسبب نقص القوى الأخلاقية والعقلية؛ السمو بهذه القوى هو السبيل الوحيد لمعالجة هذا النقص؛ ولكن هذا يفترض تدريب هذه القوى، وهذا التدريب يفترض الحرية التي توقظ الفعالية العفوية. لا يمكن أن نسمّي تخفيف القيود التي لا يشعر بها المقيّد وهباً للحرية. ولكن لا يوجد إنسان على سطح الأرض- مهما تجاهلته الطبيعة، أو مهما حطّته الظروف- إلا وكانت تلك الحقيقة صحيحة بالنسبة لكافة القيود التي تكبّله. فلنرفعها واحدة واحدة، حيث يستيقظ الشعور بالحرية في قلب الإنسان، وسوف نسرّع التقدم مع كل خطوة».
«أولئك الذين لا يدركون هذا «من المنصف اتهامهم بعدم فهم الطبيعة البشرية، والرغبة في تحويل الإنسان إلى آلة».
الإنسان في جوهره خلّاق بحّاثة يسعى للكمال: «الإبداع والبحث: هذه هي المراكز التي تدور حولها كل أفعال الإنسان بشكل مباشر تقريباً». ولكن حرية التفكير والتنوير ليسا للنخبة فقط. مرة أخرى نسمع صدى صوت روسو، حين يقول همبولت: «هناك ما يحطّ من الطبيعة البشرية في رفض حصول أي إنسان على الحق في أن يكون إنساناً». هو متفائل بنتائج «نشر المعرفة العلمية عن طريق الحرية والتنوير». ولكن، «كل الثقافة الأخلاقية تنبع بشكل آني وحصري من الحياة الداخلية للروح، ويمكن تنشيطها فقط عن طريق الطبيعة البشرية، ولا يمكن توليدها أبداً عن طريق وسائل خارجية أو صنعية». «ثمار الفهم، كما هو الحال مع أي من ملكات الإنسان الأخرى، يحصدها الإنسان عموماً من خلال نشاطه الخاص، وأصالته الخاصة، أو طريقه الخاص في استخدام اكتشافات الآخرين…» التعليم، إذن، يجب أن يزوّدنا بفرص لتحقيق الذات؛ في أحسن الأحوال يستطيع أن يخلق بيئة غنية ومحفّزة للفرد كي يستكشف، على طريقته الخاصة. حتى اللغة، بالمعنى الدقيق، لا يتم تعليمها، ولكن فقط «إيقاظها في الذهن: لا نستطيع إلا تزويد المرء بالطريق التي سيطورها بنفسه». أعتقد أن همبولت سيوافق على معظم أفكار ديوي في التعليم. وربما أيضاً سيبدي إعجابه بالتطورات الثورية الحالية على هذه الأفكار، كما نجدها مثلاً عند الكاثوليك الراديكاليين في أمريكا اللاتينية المعنيين «بإيقاظ الضمير»، مشيرين إلى «تحول الطبقات الدنيا المضطهَدة المغيبة إلى جموع ناقدة وواعية بمصيرها» كما هو الأمر مع ثوار العالم الثالث في أمكنة أخرى. سيقبل، أنا متأكد، انتقادهم للمدارس التي:«تشغل نفسها بشكل أكبر بنقل المعرفة مما بخلق، من بين أمور أخرى، الروح الناقدة. من وجهة نظر اجتماعية، يسعى النظام التعليمي إلى الحفاظ على البنى الاجتماعية والاقتصادية بدلاً من تغييرها».
ولكن اهتمام همبولت بالعفوية يتجاوز كثيراً النظام التعليمي بالمعنى الضيق. إنه يطرح أيضاً أسئلة حول العمل والاستغلال. الاقتباس السابق حول ثمار الفهم والفعل العفوي يتبعه الملاحظات التالية:«لا يعتبر الإنسان شيئاً ملكه بقدر عمله؛ وربما بمعنى أصح العامل الذي يعتني بالحديقة هو مالكها، أكثر من المتبطّل الذي يستمتع بثمارها… من وجهة النظر هذه،
عندما يتصرّف الإنسان بطريقة ميكانيكية فقط، منفعلاً بمتطلبات أو توجيهات خارجية بدلاً من أن توجّهه اهتماماته وطاقاته وعنفوانه الشخصي، «فنحن نحترم الفعل، ولكن ليس الفاعل».
منطلقاً من هذه الأفكار قدّم همبولت تصوره لدور الدولة، التي تميل إلى «جعل الإنسان أداةً لتحقيق أهدافها العشوائية، وتتجاهل تطلعاته الفردية». تعاليمه كلاسيكية ليبرالية، تعارض بقوة أي تدخل للدولة في الحياة الشخصية والاجتماعية إلا بالحد الأدنى.
لم يفكر همبولت، وهو يكتب أطروحاته حوالي العام 1790، بالأشكال التي ستتخذها الرأسمالية الصناعية لاحقاً. لذا لم يكن متنبّهاً لأخطار السلطة الخاصة.
«ولكن عندما نتفكّر (مازلنا نميّز بين النظرية والممارسة) بأن تأثير السلطة الخاصة عرضة للانحلال والزوال، بسبب المنافسة و تبذير الثروة، وحتى الموت؛ ونرى بوضوح أن أياً من هذه النوائب لا تصيب الدولة؛ سنبقى حاملين للمبدأ القائل بأن الأخيرة لا يجوز أن تتدخّل بأي أمر لا يتعلق حصرياً بالأمن».
همبولت يتكلم هنا عن المساواة الجوهرية في ظروف المواطنين الأفراد، وبالطبع لم يكن لديه أدنى فكرة عن إعادة تأويل مفهوم «المواطن الفرد» في زمن رأسمالية الشركات. لم يتنبأ بأن «الديمقراطية وشعارها المساواة بين كل الناس أمام القانون والليبرالية مع شعارها في حق الإنسان في التحكم بذاته سيتحطّم كلاهما على صخرة واقع الاقتصاد الرأسمالي». لم ير أنه في اقتصاد رأسمالي لصوصي، سيكون تدخّل الدولة ضرورة مطلقة للحفاظ على الوجود الإنساني ولمنع تدمير البيئة الفيزيائية، وأنا متفائل هنا. كما أشار كارل بوانتي، مثلاً، إلى أن السوق القائم على التصحيح الذاتي «لا يستطيع أن يوجد لفترة طويلة من الزمن دون أن يقضي على المادة الطبيعية والبشرية في المجتمع؛ فهي ستدمر الإنسان فيزيائياً وتحيل محيطه إلى هباء». لم يتنبّأ همبولت بنتائج تسليع العمل، والتسليع يعني، بكلمات بولاني، أن «الأمر لا يعود للسلعة لتقرير ما إذا كانت يجب أن تُعرض للبيع، وكيف ستُستخدم، ومن يغيّر سعرها، وبأية طريقة ستُستهلك أو تُعدم». ولكن السلعة، في حالتنا، حياة بشرية، والحماية المجتمعية هي الضرورة الأدنى للحد من الآثار المدمرة واللاعقلانية للسوق الحرة. ولم يفهم أيضاً أن علاقات الاقتصاد الرأسمالي ستؤبّد نوعاً من الرق، كان سيمون لينغويت في فترة مبكرة جداً، عام 1767، قد رآها أسوأ من العبودية.
«استحالة العيش بأية وسائل أخرى هي ما يجبر عمال مزارعنا على زرع الثمار التي لن يأكلوا منها، وبنّاؤونا على تعمير مساكن لن يعيشوا فيها. إنها الحاجة التي تدفعهم إلى الذهاب إلى هذه الأسواق بانتظار السادة الذين سيشترونهم. إنها الحاجة التي تجبرهم على الركوع للرجل الغني ليقبل بأن يجعلوه أغنى… ما المكسب المؤثر الذي حصل عليه من خلال تجريم العبودية؟… إنه حر، كما تقول. آه! هذا من سوء حظه. العبد كان ثميناً عند سيده بسبب المال الذي دفعه لشرائه، أما الحرفي فلا يكلّف المتبطل الذي يوظّفه شيئاً على الإطلاق…هؤلاء الناس، يُقال، لا سيد لهم، ولكن هناك سيد واحد يستعبدهم، وهو الأسوأ، والأكثر غطرسةً من بين كل السادة، إنها الحاجة. هذا ما يجعلهم تحت رحمة أشد أشكال التبعية».
إن كان هناك ما يحط من الطبيعة البشرية في فكرة الرق، فعلينا انتظار شكل جديد من التحرير، «المرحلة الثالثة والأخيرة من التحرر في التاريخ» حسب فورير، والتي ستحوّل البروليتاريا إلى أناس أحرار عن طريق إنهاء تسليع العمل وعبودية الأجور وجعل المؤسسات المالية والصناعية والتجارية تحت حكم ديمقراطي.
ربما كان همبولت سيقبل بهذه النتائج. فقد رأى أن تدخل الدولة في الحياة الاجتماعية مشروع «إذا كانت الحرية ستدمّر الظروف التي تعتمد عليها الحرية بل والوجود ذاته» وتحديداً الظروف التي تنشأ من اقتصاد رأسمالي منفلت العقال. على أية حال، يشكل انتقاده للبيروقراطية والدولة الاستبدادية تحذيراً بليغاً لبعض أسوأ أوجه التاريخ المعاصر، وأساسات نقده صالحة للتطبيق على مروحة واسعة من المؤسسات القمعية أكثر مما كان يتخيّل.
بالرغم من تبنيه مذهب الليبرالية الكلاسيكية، لم يكن همبولت داعية لفردية بدائية على طريقة روسو. يمجّد روسو الهمجي «الذي يعيش بذاته»؛ ولا يقدّر «الإنسان الاجتماعي الذي يعيش دائماً خارج ذاته، الذي يعرف كيف يحيا فقط بناءً على آراء الآخرين… والذي من أحكامهم فقط… يعطي إحساساً لوجوده»
هكذا كان يأمل بالوصول إلى مجتمع قائم على التعاون الحر دون إكراه الدولة أو المؤسسات السلطوية، حيث يستطيع الناس الأحرار أن يبدعوا ويبحثوا، ويبلغوا التطور الأكمل لقواهم. سابقاً زمنه بمراحل، قدّم تصوّراً فوضوياً مناسباً، ربما، للمرحلة القادمة من المجتمع الصناعي. ربما يمكننا أن نأمل بأن تجتمع هذه الأفكار كلها في صيغة من الاشتراكية التحررية، هذا الشكل من الحياة الاجتماعية الذي لا يكاد يوجد اليوم بالرغم من إدراك بعض عناصره: في ضمان الحقوق الفردية التي وصلت إلى أعلى أشكالها- بالرغم من عيوبها التراجيدية- في الديمقراطيات الغربية؛ في الكيبوتزات الإسرائيلية
مفهوم مماثل للطبيعة البشرية يطرحه عمل همبولت اللغوي. اللغة عملية إبداع حر؛ قوانينها ومبادئها ثابتة، ولكن الوسيلة التي تُستعمل المبادئ بها لإنتاج اللغة حرة ومتغيرة بشكل لا نهائي. حتى استعمال وتأويل الكلمات يحتوي على خلق حر. الاستعمال العادي للغة واكتساب اللغة يعتمد على ما أسماه همبولت الشكل الثابت للغة، وهو نظام من العمليات التوليدية مزروعة في طبيعة العقل البشري والتي تحدّ ولكن لا تحدّد الإبداع الحر للذكاء العادي، أو على مستوى أعلى وأكثر أصالة، للكاتب أو للمفكر. همبولت، من جهة، أفلاطوني يصر على أن التعليم نوع من التذكّر، حيث العقل عندما يُثار بالتجربة، يعود إلى مصادره الداخلية ويتبع طريقاً مرسوماً سلفاً؛ وهو أيضاً رومانسي يطرب للاختلافات الثقافية، وللاحتمالات اللانهائية لمساهمات الروح الخلاقة المبدعة. لا يوجد تناقض في هذا، كما لا يوجد تناقض في إصرار نظريات علم الجمال على أن إبداع الأعمال الفنية يتبع لمبادئ وقواعد. الاستعمال العادي والخلّاق للغة، والذي اعتمده العقلانيون الديكارتيون كأهم وسيلة للتأكد من وجود عقول أخرى، يفترض نظاماً من القواعد والمبادئ التوليدية، الذي حاول النحويون العقلانيون الوصول إليه وشرحه، مع بعض النجاحات.
العديد من النقاد الجدد اللذين وجدوا نوعاً من التناقض في القول بأن الإبداع الحر يحدث – يفترض، في الواقع- نظاماً من الحدود والمبادئ الحاكمة مخطئون تماماً؛ إلا إذا كانوا، بالطبع، يتكلمون عن المعنى الفضفاض والمجازي «للتناقض» كما عند شلنغ، الذي كتب «دون التناقض بين الحرية والضرورة، ليست الفلسفة فقط، بل كل طموح نبيل للروح، ستسقط في هذا الموت المميز للعلوم التي لا تحوي هذا التناقض». دون هذا التوتر بين الحرية والضرورة، بين القانون والاختيار، لن يوجد أي إبداع، أي تواصل، وأية أفعال لها معنى على الإطلاق.
لقد بحثت في هذه الأفكار التقليدية مطولاً بعض الشيء، ليس بسبب اهتمامات تاريخية، بل لأنني أعتقد أنها ثمينة وصحيحة في العمق، ولأنها تقدّم درباً نستطيع اتباعه وينفعنا. يجب أن يكون الفعل الاجتماعي مصحوباً برؤية للمجتمع القادم، وبحكم واضح على قيم هذا المجتمع. يجب أن نستقي هذه القيم من مفهوم ما لطبيعة الإنسان، وبإمكان المرء أن يبحث عن أسس تجريبية لهذه الطبيعة كما تظهر في سلوكه وفي إبداعاته المادية والفكرية والاجتماعية. لقد بلغنا، ربما، مرحلة في التاريخ حيث من الممكن جدياً أن نفكر في مجتمع نستبدل فيه الروابط الاجتماعية المشكّلة بحرية بقيود المؤسسات التسلطية، بالمعنى الذي أعطاه همبولت كما رأينا لهذه الروابط، وفي الأفكار التي تطورت بشكل أكمل في تقاليد الاشتراكية التحررية في السنوات التي تلت.
خلقت الرأسمالية اللصوصية نظاماً صناعياً معقداً وتكنولوجيا متقدمة؛ كما سمحت بمقدار معقول من الممارسات الديمقراطية وتبنّت قيماً ليبرالية معيّنة، ولكن ضمن حدود يجب التخلي عنها وتغييرها الآن. هي ليست بنظام مناسب لأواسط القرن العشرين. وهي ليست قادرة على إشباع حاجات الإنسان التي لا يمكن التعبير عنها إلا بمصطلحات جمعية، ومفهومها عن الإنسان التنافسي الذي يسعى فقط إلى مضاعفة ثروته وسلطته، والذي يُخضع نفسه إلى علاقات السوق، إلى الاستغلال والسلطات الخارجية، هو لا إنساني وغير مقبول إلى أبعد الحدود. الدولة التسلطية ليست بديلاً مقبولاً؛ ولا تستطيع الدولة الرأسمالية العسكرية التي تنشأ في الولايات المتحدة أو دولة الرفاه المركزية البيروقراطية أن تكون هدفاً للوجود الإنساني. التبرير الوحيد للمؤسسات القمعية هو العجز المادي والثقافي. ولكن مثل هذه المؤسسات، في مراحل معينة من التاريخ، تؤبد وتنتج مثل هذا العجز، بل وتهدد حتى البقاء البشري. يستطيع العلم والتكنولوجيا الحديثان أن يحرّرا الإنسان من ضرورة العمل التخصصي الممل. من حيث المبدأ، يستطيعان أن يزودانا بأساسات تنظيم اجتماعي عقلاني مبني على التفاعل الحر وعلى الحكم الديمقراطي، إن امتلكنا الإرادة للوصول إليه.
رؤيا التنظيم الاجتماعي المستقبلي تُبنى بدورها على مفهوم الطبيعة البشرية. إن كان الإنسان فعلاً قابلاً للتشكيل بشكل لانهائي، وكائناً مطواعاً بشكل كامل، دون أية بنية فطرية في العقل ودون أي حاجة جوهرية ملازمة لمزايا ثقافية واجتماعية، لكان موضوعاً مناسباً «لتشكيل السلوك» من قبل الدول التسلطية، ومدراء الشركات، والتكنوقراط، واللجان المركزية. سيأمل أولئك اللذين يتمتعون ببعض الثقة بالجنس البشري أن الأمر ليس كذلك وسيحاولون تحديد المزايا البشرية الرئيسية التي تزودنا بإطار للتطور الفكري، ونمو الوعي الأخلاقي، والإنجازات الثقافية، والمشاركة في المجتمع الحر. بشكل مشابه جزئياً، تتحدّث التقاليد الكلاسيكية عن العبقرية الفنية التي تعمل من داخل، وتتحدى بشكل ما، إطار القوانين. هنا نلمس أموراً محدودة الفهم. يبدو لي أننا يجب أن نبتعد، بشكل حاد وجذري، عن معظم العلوم السلوكية والاجتماعية الحديثة، إذا أردنا أن نفهم هذه الأمور بشكل أعمق.
هنا أيضاً، أعتقد أن التقاليد التي استعرضتها تقدّم لنا بعض الفائدة. كما قد لاحظنا، أولئك الذين كانوا مهتمين بتميز وإمكانيات الإنسان انتهوا إلى البحث في ميزات اللغة. أعتقد أن دراسة اللغة باستطاعتها تزويدنا بومضات لفهم السلوك المحكوم بالقواعد وإمكانيات الأفعال الحرة والخلّاقة ضمن منظومة القواعد التي، جزئياً على الأقل، تعكس خواص التنظيم العقلي البشري. يبدو لي من العادل القول أن بعض جوانب دراسة اللغة المعاصرة تشكل عودة لمفهوم همبولت لشكل اللغة: نظام من العمليات التوليدية مزروع في الخواص الفطرية للعقل ولكنه يسمح، بحسب كلمات همبولت، باستعمال لا محدود معتمداً على وسائل محدودة. لا يمكن وصف اللغة بأنها نظام من السلوكيات المحددة. بدلاً من ذلك، لفهم استخدام اللغة، علينا أن نكتشف الشكل المجرد الهمبولتي للغة، أي القواعد التوليدية، بالمصطلحات الحديثة. أن تتعلم اللغة يعني أن يشكل المرء بنفسه هذا النظام المجرّد، بشكل غير واعٍ بالطبع. يستطيع عالم اللغات وعالم النفس دراسة استعمال واكتساب اللغة فقط بقدرتهما على الوصول إلى خواص هذا النظام الذي أتقنه من يعرف اللغة. أكثر من ذلك، يبدو لي أننا نستطيع الدفاع عن المقولة التجريبية القائلة بأنه يمكن اكتساب هذا النظام، تحت شروط معطاة من الوقت والقابلية، فقط عن طريق عقل ذي خواص محددة والتي نستطيع الآن، بشكل أولي، وصفها ببعض التفصيل. طالما أننا نقصر أبحاثنا، مفهومياً، على السلوك وتنظيمه وتطوره من خلال تفاعله مع البيئة، لن نفهم خواص اللغة والعقل هذه. من حيث المبدأ، يمكن دراسة جوانب أخرى للنفس والثقافة البشرية بذات الأسلوب.
نستطيع إذن أن نتصور تطوير علم اجتماع قائم على قضايا تجريبية موثوقة في الطبيعة البشرية. بالضبط كما ندرس مجموعة اللغات البشرية المتوفرة، ببعض النجاح، نستطيع دراسة أشكال التعبير الفني، أو المعرفة العلمية التي بمتناول البشر، وربما حتى مجال الأنظمة الأخلاقية والبنى الاجتماعية التي يستطيع البشر العيش والعمل فيها، بالنظر إلى حاجاتهم وقدراتهم الداخلية. ربما يقوم المرء أيضاً بإعداد مشروع لفكرة تنظيم اجتماعي، تحت ظروف معطاة لثقافة مادية وروحية، يشجع ويتلاءم مع الحاجات الإنسانية الرئيسية، كالمبادرة العفوية والعمل الخلاق والتضامن والسعي إلى العدالة الاجتماعية، إن كانت هذه الأمور تنتمي إلى تلك الحاجات.
لا أريد أن أبالغ، ولا أشك في أنني قد بالغت، في دور دراسة اللغة. اللغة هي منتوج الذكاء الإنساني والذي يشكل، حالياً، المادة الأكثر قابلية للبحث. هناك تقاليد غنية ترى في اللغة مرآةً للعقل. بدرجة ما، هناك حقيقة ورؤيا مفيدة في هذه الفكرة.
ما زلت حائراً، وفضولياً، في موضوع «اللغة والحرية»، كما كنت في بداية البحث. في هذه الملاحظات المختصرة والتخمينية هناك فجوات كبيرة لدرجة أن المرء قد يتساءل ما الذي سيتبقّى إن أزلنا التخمينات غير المؤكدة والمجازات. من الهام أن نصحو– وأعتقد أننا يجب أن نصحو- على فكرة أن التقدم الذي أحرزناه في معرفتنا بالإنسان وبالمجتمع، أو حتى في وضع صياغة واضحة للمشاكل التي يجب أن تُدرس بجدية، صغير جداً. ولكن هناك، برأيي، بعض الخطوات الهامة في هذا المجال. أحب الاعتقاد بأن الدراسة التفصيلية لأحد مظاهر السيكولوجيا البشرية، أي اللغة البشرية، قد تساهم في تأسيس علم اجتماع إنسانوي قد يستخدم أيضاً كمرجع في المعركة الاجتماعية. بالطبع، من النافل القول أن المعركة الاجتماعية يجب ألا تنتظر تأسيس نظرية متكاملة عن الإنسان والمجتمع، ولا يجوز أن تتحدد صحة تلك النظرية بآمالنا وأحكامنا الأخلاقية. كلا الأمرين، النظرية والفعل، يجب أن يتقدّما بأفضل ما يستطيعان، منتظرين اليوم الذي يزودنا فيه البحث النظري بدليل موثوق للصراع الدائم، والمحبط أحياناً، ولكن غير الميؤوس منه أبداً، من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية.