ثلاث صور
نهاية آذار الماضي، ضجّت شبكات التواصل الاجتماعي، ثم وسائل الإعلام العربية والغربيّة، بصورة طفلة سوريّة، لاجئة في مخيم أطمة، وقد رفعت يديها برعب واستسلام حين رأت عدسة الكاميرا واعتقدت أنها سلاح مصوّب نحوها. لم تكن الصورة جديدة – حسب تعريف زمن الانترنت لسرعة الخبر والمشهد- فقد التقطها المصوّر التركي عثمان صاغرلي قبل نحو خمسة أشهر. لكنها انتشرت بكثافة في الأيام الأخيرة بعد مشاركتها من قبل المصوّرة والصحفية الفلسطينية ناديا أبو شعبان في حسابها على تويتر.
بعد انتشار صورة عثمان صاغرلي بأيام قليلة، نشر رينيه شولتهوف، العامل في الصليب الأحمر الدولي، صورة أخرى التقطها خريف العام الماضي، في مخيم الزعتري في الأردن، لطفلة رفعت أيديها مستسلمة أيضاً حين رأت الكاميرا. انضمت صورة شولتهوف إلى سابقتها، وباتت الصورتان مواداً بصرية مرفقة لعدد هائل من النصوص والتغريدات المتضامنة مع أطفال سوريا، والداعية لإنقاذهم من ويلات الحرب الدائرة في بلادهم.
الأسبوع الماضي، اختارت صحيفة الغارديان البريطانية صورة قادمة من سوريا ضمن باب «صور الأسبوع» على موقعها. تُظهر هذه الصورة -التي التقطها عبد الرحمن اسماعيل في حلب لصالح وكالة رويترز– طفلتين مغبرتي الوجه والشعر، تمسك إحداهن بيد الأخرى، بعد انقاذهن من تحت الأنقاض إثر قصف طيران النظام على أحياء حلب المُحرّرة. يبدو على وجه إحداهنّ بوضوح أن الذهول شلّ استيعابها لما جرى، في حين يظهر أن الأخرى بدأت تعي، نسبياً، ما حدث لهنّ، وبدأت دموعها المذعورة بالسقوط على وجنتيها المغبرتين.
استُخدمت الصور الثلاث بكثافة خلال الأيام الماضية في نصوص وتغريدات تدعو لحماية الأطفال السوريين من ويلات الحرب التي تجري في بلادهم، ولم تكن هذه الصور الثلاث أولى صور الأطفال السوريين التي تنتشر، وليس استثناءاً أن تترافق مع دعوات لحماية الأطفال. يُلاحظ أيضاً أن الصور الأكثر انتشاراً في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي ليست الأكثر قسوة بين الصور المُلتقطة في سوريا، بل أن أكثرها رواجاً هي تلك التي لا دماء فيها أو أشلاء. وتنتشر بالذات مشاهد تحوي «نهاية سعيدة» (بقدر ما يمكن للسعادة أن تكون في هذا السياق)، مثل إنقاذ أطفالٍ على قيد الحياة من تحت الأنقاض، أو صور لأطفال لم يعودوا تحت خطر الموت المباشر، كالحال في مخيمات اللجوء.
الحرب الأهلية
قبل سنة أو أكثر، كان من الشائع أن نجد في كتابات السوريين تساؤلات حول إن كان ما تعيشه سوريا حرباً أهلية أم لا، وتوزّعت المواقف حينها. هناك من رفض المصطلح بالكامل؛ أو من أقرّ به مع التأكيد على أن هذه الحرب الأهلية كانت رد النظام على الثورة الشعبية ضدّه؛ وهناك من تمسّك بالحديث عن ثورة رغم وجود ملامح واضحة لحرب أهلية في البلد؛ وأيضاً من اعتبر أن سوريا تعيش حرباً أهلية صرفة، وأن هذه الحرب هي ما أجهض الثورة.
بالكاد هناك آثارٌ لهذا النقاش اليوم، وليس واضحاً أنه قد حُسم قبل أن يندثر. ربما لم يعد هناك إحساس بالحاجة للتعامل مع المصطلحات، أو صار هناك ما يُشبه اليأس من تسمية الأمور بمسمياتها، أو لأن ما نعيشه قد فاض عمّا بين يدينا من مصطلحات وتسميات.
بالمقابل، ما زالت هناك حساسية واسعة لاستخدام مفهوم الحرب الأهلية لتسمية ما يجري في سوريا. من النادر استخدام المصطلح بين السوريين، ليس فقط ضمن القطاع المتمسّك بتسمية «الثورة السورية»، وانما أيضاً في القطاعات الأقل تسييساً، أو حتى بين المؤيدين للنظام. بالكاد يُسمع مصطلح «الحرب الأهلية» بالمقارنة مع «أزمة» أو «أحداث»، أو حتى «حرب» دون توصيفات مضافة.
[quotes]لم يعد هناك نظام ديكتاتوري مجرم يشنّ حرباً ضد القطاعات الشعبية المنتفضة، والموقف ضده أخلاقي قبل أن يكون سياسياً، بل أصبح هناك «حرب أهلية»، لها «أطراف»، ودور المجتمع الدولي يجب أن ينصب في إيجاد «تسوية» عبر إجلاس هذه «الأطراف» على «طاولة مفاوضات»، ما يعني أيضاً أن هذه «الأطراف» متساوية في التمثيل والمسؤولية السياسيتين.[/quotes]
ثمة مستوىً معيّن من عدم الرغبة باستخدام «الحرب الأهلية» في الحديث عن سوريا أجد نفسي قريباً منه. ليست عدم الرغبة هذه نابعة عن التعفف عن التفكير بوجود حرب أهلية في سوريا فعلاً، من حيث أن هناك سوريون يقاتلون سوريين ضمن تشكيلات قتالية متبلورة، وأن هناك انشطاراً عمودياً في كل المفاهيم والأفكار المتعلقة بسوريا، بل وربما تم تجاوز هذا الانشطار المستقيم والنظيف إلى تشظٍ لا عودة عنه. هنا، في الابتعاد عن الحديث عن «حرب أهلية» مقاومة لمنطق أوساط سياسية وفكرية، محلية وإقليمية ودولية، انحازت مبكراً لسردية الحرب الأهلية باعتبارها الخيار الأسهل لاتخاذ ضربٍ منحط من «اللاموقف»، إما عبر مساواة الأطراف، أو التبرؤ اللفظي الكامل منها. هناك فعلياً موقفٌ مضمر في اللاموقف اللفظي، فالمساواة بين طرفين غير متساويين في القوة والقدرة على الحرب هي انحياز للأقوى!
على مستوى السياسة الدولية. كان في الانتقال الكامل نحو توصيف الحرب الأهلية ما يتجاوز الاستفزاز نحو درجات متقدمة من الخسّة. صحيحٌ أن الحديث عن «حرب أهلية سوريّة» بدأ بالظهور منذ تبلور وجود حالة مسلحة مناهضة للنظام، لكن انتقال المجتمع الدولي النهائي نحو مقاربة الأزمة السورية بوصفها حرباً أهلية ارتبط بمجزرة الكيماوي في غوطة دمشق، حين غُطّي الاتفاق الروسي-الأميركي حول سحب الترسانة الكيماوية من النظام السوري بحديث غائم حول «مؤتمر سلام» بين الأطراف السورية، ومؤتمر السلام هذا هو ما يُفترض أنه حصل في جنيف أوائل عام 2014. لم يعد هناك نظام ديكتاتوري مجرم يشنّ حرباً ضد القطاعات الشعبية المنتفضة، والموقف ضده أخلاقي قبل أن يكون سياسياً، بل أصبح هناك «حرب أهلية»، لها «أطراف»، ودور المجتمع الدولي يجب أن ينصب في إيجاد «تسوية» عبر إجلاس هذه «الأطراف» على «طاولة مفاوضات»، ما يعني أيضاً أن هذه «الأطراف» متساوية في التمثيل والمسؤولية السياسيتين. بمعنى آخر، بشار الأسد تحوّل من مجرم بحق الشعب السوري، لا مستقبل له إلا محاكمة، دولية كانت أم محلية، إلى طرف في حرب أهلية، متساوٍ في السوء مع «خصومه السياسيين»، ويجب الضغط عليه وعليهم للوصول إلى تسوية.
تكريس هذه السردية لم يقد إلى نقل التوصيف من انتفاض المفقّرين والمهمّشين والمسحوقين من السوريين ضد نظامٍ مجرم وإفقاري إلى نزاع مسلح بين النظام السوري و«المعارضة» فحسب، بل تمت إعادة كتابة تاريخ السنوات الخمس الأخيرة بخفة منقطعة النظير، وبدا ذلك واضحاً منتصف الشهر الماضي حين انهمرت المواد الصحفية وبيانات المؤسسات الإنسانية والحقوقية الدولية حول «دخول الحرب الأهلية السورية عامها الخامس».
في سوريا حرب أهلية، بل وما هو أسوأ حتى. لكن هذه الحرب الأهلية لم تبدأ منتصف آذار عام 2011. لا يمكن حتى لمن لم يعترف بوجود ثورة أصلاً أن يقول هذا. وقد يكون علينا أن ننتظر المؤرخين كي يجيبوا على السؤال حول موعد بداية الحرب الأهلية السوريّة فعلياً، مع الأمل بأن يكونوا أكثر رصانة من كُتّاب بيانات مؤسسات الأمم المتحدة.
يجدر القول، بعد توضيح مكمن الابتعاد عن استخدام مصطلح «الحرب الأهلية»، أن هذا المصطلح أكثر نزاهة بما لا يقاس من مصطلحات أخرى مثل «حرب بالوكالة»، أو «حرب الآخرين على أرضنا». في التاريخ الحديث والمعاصر، لم تخلُ أي حرب أهلية من استقطابات إقليمية ودولية حولها، وتأثيرات خارجية على ديناميكيات الصراع ومخرجاته. في كل حرب أهلية «حرب بالوكالة» متضمنة. لكن الحديث عن «حرب بالوكالة» أو «حرب الآخرين..» فيه تبرئة زائفة للذات، وفيه أيضاً تسفيه للعوامل الذاتية التي أدّت للصراع، وإبعاد للمسؤوليات إلى ما وراء حدودٍ لم تعد موجودة أصلاً.
الحرب
الحرب شرٌّ لا لبس فيه. هذا جوهر المنطق السلامي وفكر مناهضة الحرب. هذه الفكرة محطّ إجماعٍ إنساني. تبدو مُسلّمة لدرجة أن كثيراً من حاملي السلاح على طول العالم وعرضه قد يوافقونها بالكامل. من المنطقي والسليم أن يكون خطاب مناهضة الحرب قوياً، بل أن المطلوب منه أن يكون الأقوى: لقد عانت الإنسانية على مرّ تاريخها من ويلات الحروب ما يكفي للاقتناع بأن هذا الطريق في إحراز الأهداف يجب أن يُسدّ إلى الأبد، وأن تُعالج الخلافات والخصومات عبر أساليب السياسة السلمية.
ليس الجدل على هذه المفاهيم، بطبيعة الحال.
[quotes]للحرب كيانية قائمة بحد ذاتها، لا تنتمي للعالم الذي نعيش فيه ولا تنشأ من ظروفه وتتفاعل معها، بل لها إرادات ورغبات ونزوات شريرة بالمطلق، تظهر وتتحرك وفقاً لها، تقتل هنا وتدمر هناك وتُشرّد إلى هنا وهناك.[/quotes]
من الشائع أن نجد، في خطاب مناهضة الحرب، نوعاً من البحث عن طريق سهل ومباشر لذمّ الحرب، أي نزع ورفض أي شكل من أشكال التفكير المنطقي فيها، والتعفف عن تفكيكها وتحليلها والبحث في أسبابها ومنطلقاتها وطبيعة المتحاربين ودوافعهم ووسائلهم، والفوارق الكمية والنوعية بين مسؤولياتهم عن الاقتتال ونتائجه. الحرب مفهوم مجرّد، لا منطقي، مُختزل إلى صورة كاريكاتيرية سطحية وبائسة. للحرب كيانية قائمة بحد ذاتها، لا تنتمي للعالم الذي نعيش فيه ولا تنشأ من ظروفه وتتفاعل معها، بل لها إرادات ورغبات ونزوات شريرة بالمطلق، تظهر وتتحرك وفقاً لها، تقتل هنا وتدمر هناك وتُشرّد إلى هنا وهناك.
الحرب، وفق هذا النوع من الخطاب، كارثة كالأعاصير والزلازل والفيضانات. لكنها غير ناتجة عن عوامل الطبيعة الأرضية مثل الزلزال، بل عن طبيعة بشرية شريرة: البشر المتحاربون أشرار، يُصرّفون شرّهم عن طريق حمل السلاح والقتل، ولشرّهم هذا ويلات على البشر غير الأشرار.
الحرب واضحة بقدر ما هي شريرة، ولا تعقيد فيها يستحق التحليل. لا سياسة في الحرب، بل تُعادى السياسة كما تُعادى الحرب تماماً. لا بحث عن أسباب الحرب وتتالي أحداثها وخطوطها البيانية، كما -طبعاً- لا نقاش في سلّم المسؤوليات، ولا في الاختلافات الكمّية والنوعية بين المتحاربين، ولا تدرّج في سلم المسؤوليات. كل المتحاربين، كما الحرب، أشرار. لا يهمّني من بدأ، كلّكم معاقبون، كما تقول الأم الغاضبة من أبنائها المتشاجرين على قطعة حلوى أو لعبة.
في الابتعاد عن تفكيرٍ أكثر تعقيداً من الحُكم القيمي المجرّد فضيلة في نظر شطر كبير من المنطق السلامي: الإقرار بتعقيد الحروب قد يقود لتفهّمها، أو تبرير بعض جوانبها، أو اهتزازاً في الثبات على رفض استخدام العنف كحلّ للخلافات. في تجريد الحرب وتشريرها المطلق والابتعاد عن أي خوضٍ في تفصيلاتها إحساس بالصلابة والثبات على عدم المساومة فيما يُفترض أنه موقف أخلاقي. هو أيضاً -والحق يُقال- كسلٌ أخلاقي وفكري عند أصحاب النية الحسنة من متبنّي هذا الخطاب، وتضييع للمسؤوليات وتمييع للوقائع عند سيئيها.
الضحايا
الحرب «مجنونة» بقدر ما ضحاياها «أبرياء». يبدو أنه لا يكفي أحياناً أن نقول «ضحية»، بما تحمله الكلمة من إقرار بالظلم الواقع عليها، بل يجب أن نلحقها بوصف البراءة.
[quotes] يجب أن يبدو واضحاً أن الضحية لم تُشارك في «دوامة العنف»، ولا انحيازات لها ضمن طيف المتحاربين، وبالتالي يصعب، مثلاً، الحديث عن الذكور البالغين بوصفهم ضحاياً أبرياء إلا بوصفهم آباءً لأطفال يعانون ويلات الحرب المجنونة.[/quotes]
الضحية البريئة للحرب الشريرة المجردة هي ضحية سلبية.. ضحايا الحرب منسلخون عنها فكراً ونسباً وهوية حُكماً، فالحرب والمتحاربون فيها ينتمون لكوكب آخر، وهم من طبيعة مُغايرة، وحصل أن وقعت ويلاتهم على الضحايا الأبرياء. يجب أن يبدو واضحاً أن الضحية لم تُشارك في «دوامة العنف»، ولا انحيازات لها ضمن طيف المتحاربين، وبالتالي يصعب، مثلاً، الحديث عن الذكور البالغين بوصفهم ضحاياً أبرياء إلا بوصفهم آباءً لأطفال يعانون ويلات الحرب المجنونة. أو يحصل أيضاً أن يتم التأكيد، عند الحديث عن قصف منطقة سكنية ما، أن جميع الضحايا «مدنيون»، وكأن وجود من هو غير مدني بينهم يُشرّع القصف، أو يُحيل المسؤولية إلى من استُهدف.
لا ينطبق هذا الكلام على من ماتوا في الحرب فقط، بل أيضاً على من اضطروا للجوء بعيداً عن منازلهم. يقتصر التفكير فيهم والحديث عنهم في أغلب الأحيان على مستوى البقاء على قيد الحياة، أي المقاربة الإنسانوية الصرفة. لا إمكانية للتفكير، مثلاً، أن مجتمع اللجوء هو ذاته مجتمع المتحاربين، مع كل ما يعنيه هذا الواقع. تجريد الحرب يقود لاعتبار اللاجئين كتلة صمّاء وصامتة وسلبية، متجانسة في عزلتها عن أحداث بلادها. في هذا المنطق الإنسانوي مقدار كبير من الاستلاب.
ضحايا داعش
من المُلاحظ عند متابعة وسائل الإعلام الغربية أن ضحايا داعش غير مشمولين ضمن ضحايا «دوامة العنف» في سوريا. وقد يبدو السبب للوهلة الأولى مقتصراً على أن الرأي العام الغربي يرى في داعش عدواً له، في حين يرى «الأطراف المتحاربة» في سوريا مجرد جبهات من السيئين تتقاتل بجنون. لا شك في أن هذا سبب، انما يرجح أنه ليس الأوحد.
لا تقبل داعش لنفسها أن يكون ضحاياها مجرد «ضحايا حرب»، فهي شديدة الغيرة على «ضحاياها».. يجب أن يموتوا، أو يُسبوا أو يُهجّروا، ويجب أن يموتوا أو يُسبوا أو يُهجروا كما تريد داعش، وأن يراهم العالم كما ترغب هي أن يُروا. الأمر هنا لا يتعلّق بالوحشية فقط. فقد قتل النظام فقط بالبراميل المتفجرة التي طحنت أحياءً وبلدات وقرى بأكملها، أضعاف من قتلتهم داعش، لكن رأس النظام يُنكر استخدام البراميل المتفجرة على الإعلام بوقاحة. لا معنى أو أهمية إن كان أحدٌ يصدّق إنكاره هذا أم لا، أو إن كان هو نفسه يعتقد أن أحداً يُصدّقه أم لا. إنكاره يعني أنه لا يستعرض هذا الاستخدام في الخطاب، ولا يتباهى به. فيما داعش تصوّر إعداماتها من ثلاث أو أربع أو خمس زوايا، وتُشغّل خبرات تقنية للعمل على تفادي مسح منتجاتها «الإعلامية» في شبكات التواصل الاجتماعي ومشغلات الفيديو على الانترنت.
عدا ذلك، في الحديث عن «ضحايا الحرب» ضمن منطق الحرب المُجرّدة كمّ كبير من معاداة السياسة، أي بتبنّي التقييم الأخلاقوي الصرف أسلوباً وحيداً للخطاب. داعش عصيّة على السياسة لدرجة أنه حتى منطق معاداة السياسة لا يُجدي معها.
الأطفال كضحايا نموذجيين
في التركيز على الأطفال كضحايا نموذجيين للحرب المجرّدة ارتياحٌ إلى قطعية كون الطفل ضحية بشكلٍ لا جدل فيه، فيما يمكن، عند الحديث عن البالغين، خصوصاً الذكور منهم، الدخول في شكوك حول إن كانوا ضحايا «أبرياء» بالمطلق أم لا. الطفل «حقيقة مطلقة» في هذا المجال، بمعنى أنه لا يمكن للأطفال أن يكونوا أطرافاً في صراع، سياسي كان أم عسكرياً. طفلٌ مغبرّ الوجه ناجٍ بأعجوبة من قصف جوّي هو ضحية بريئة، لكن قتيلاً تحت التعذيب، على سبيل المثال، ليس كذلك، لأنه لا وضوح في «براءته». صورة هذا الطفل يمكن أن تدور حول العالم خلال دقائق، فيما تتجاهل نفس الأوساط أخباراً عن أكثر من عشرة آلاف شهيد تحت التعذيب في دمشق وحدها. الطفل ضحية «دوامة العنف»، فيما ليس واضحاً أن الشهيد تحت التعذيب لم يكن جزءاً من هذه «الدوامة» بشكل أو بآخر.
قد يبدو الكلام متحاملاً، أو متعامياً عن التعاطف الإجباري مع الأطفال بوصفهم الضحايا الأضعف، أو غير متفهّم للوطأة النفسية الخاصة -والمشروعة- لصورة طفل يُعاني بالمقارنة مع معاناة البالغين. ليس في التفاعل الأكبر مع معاناة طفلٍ ما يُعيب بطبيعة الحال، لكن احتكار المشاعر لصورة الأطفال غير مجدٍ، لا لهؤلاء الأطفال ولا لغيرهم: أيّ حل جزئي يمكن أن يُقدّم لإنقاذ الأطفال السوريين دون «إنقاذ» أهاليهم، وكيف يتم «إنقاذ» أهالي الأطفال دون «إنقاذ» مجتمعاتهم ككل؟ وكيف يمكن التفكير بذلك دون تفكيك المشكلات؟ وكيف يتم تفكيك المشكلة دون فك التجريد عن مفهوم الحرب الشريرة، المُغلق بإحكام في مساحات واسعة من خطاب مناهضة الحرب، والممتنع عن البحث في الخط البياني للحرب وتوزع المسؤوليات كمّاً ونوعاً؟