نسعى في هذا المقال إلى مقارنة حضور «الدولة العثمانية» والموقف منها، بين خطاب الوهابية من جهة وخطاب السلفية الجهادية من جهة ثانية. هذه المقارنة ستشكل إضاءة على الاختلافات الفكرية والعقدية بين الطرفين، وعلى الموقف من الخلافة وشؤون السياسة والحكم أيضاً.
مع بدء ظهور دعوة التوحيد التي أُطلق عليها اسم «الوهابية» في الجزيرة العربية، حدث تصادم مبكر وجريء مع الدولة العثمانية التي كانت في آن واحد: دولة دينية وسلطانية. لم تقبل الدعوة الوهابية في بواكيرها الأولى حكم العثمانيين، وعدم القبول هذا كان مرده منهجياً، فالدولة العثمانية كانت أكثر دولة إسلامية عبر التاريخ قامت برعاية المزارات الدينية التي تحولت إلى طقوس علاجية في حياة عامة المسلمين. كان التناقض بين الدعوة الجديدة والدولة القائمة حاداً ولا توجد نقطة للتلاقي، والحكم الشرعي الذي ساد بخصوص الدولة العثمانية هو رعايتها للشرك.
لم يتسامح الوهابيون مطلقاً معها حتى حينما تم تدمير عاصمتهم وتشتيتهم على أيدي ابراهيم باشا، ذلك أن ترسيخ الوهابية كان شرطه الأساسي إثبات عدم صلاحية الدولة العثمانية لدعوة التوحيد. تالياً، انهارت الدولة العثمانية وتأطرت الدعوة الوهابية في مؤسسات دولة حدّت من نزعة «الدعوة والفتح» التي كانت في علاقة عضوية مع انتشارها الفيزيائي. حينما يكفّر بعض مشايخ الوهابية في طور التأسيس الدولة العثمانية كان ذلك أبرز نقطة في تأليب العثمانيين للعامة عليهم، لكن هذا الموقف كان من ضرورات التأسيس نفسه بالنسبة للوهابية التي طرحت نفسها بديلاً -لا انفصالاً- عن الدولة العثمانية.
لدى مقارنة موقف دعاة الوهابية الأولى مع مواقف السلفية الجهادية، فإن هناك تمايزاً في الموقف من الدولة العثمانية، وهذا التمايز يكشف عن فروقات تفصيلية، لكنها غير ثانوية، بين هذه التيارات الدينية الداعية إلى نموذج الخلافة. ويمكن تقسيم السلفية الجهادية إلى تيارات، هي القاعدة، داعش، مع التعريج على نموذج آخر خبا نجمه وهو الجماعة الإسلامية في مصر. لكل من هذه الفروع موقف يتقارب أو يفترق عن الآخر، وفي المحصلة يكشف عن جانب سياسي ودعائي لكل منها. القاعدة هي الأكثر تسامحاً مع الدولة العثمانية وحتى المغولية باعتبارها دول كانت تحارب غير المسلمين، وتأخذ الجماعة الإسلامية في مصر الموقف ذاته بخصوص العثمانيين، فيما يقارب موقف داعش موقف الوهابية الأولى في عدم اعتبار الدولة العثمانية نموذجاً لأي شيء يمكن الحنين إليه. هذا الحنين الذي نجده لدى «القاعدة» – تحديداً في فترة زعيمها الحالي أيمن الظواهري- له ما يترتب عليه كما سنرى في السياسة وآلية تنفيذ المنهج.
الأمر ذاته ينطبق على تباين رؤية كل من تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة لقضية فلسطين وموقعها في الصراع وفق أجندة كل منهما
1- الوهابية والدولة العثمانية
جاءت الدعوة الوهابية بداية ظهورها منتصف القرن الثامن عشر كحركة إصلاح دينية مجال دعوتها هو المجتمع قبل الدولة، فهي من الحركات التي انتهجت التغيير من القاعدة وليس التغيير الفوقي الذي تمارسه السلطة الحاكمة، غير أن المجال الاجتماعي لم يكن ليكون متاحاً بدون سلطة، ولو كانت محدودة، تسمح بفرض التغيير، وبدونها ما كان بإمكان مؤسس الدعوة محمد بن عبد الوهاب «هدم قبة قبر زيد بن الخطاب بيده»
ولعل أهم سبب من أسباب انتشار الدعوة الوهابية، عسكرياً أكثر منها سلمياً، أنها نشأت في أرض خالية من الأمراء والجيوش، وبعيداً عن أعين الدولة العثمانية، ويورد الدكتور عبدالله العثيمين أن ابن عبد الوهاب بعد انتقاله إلى الدرعية أوضح لأميرها محمد بن سعود أن «نجد ميدان مفتوح أمامه لكي يمارس فيه نشاطه».
وتزخر أدبيات تأريخ سيرة ابن عبد الوهاب وحركته في طورها الأول بألفاظ «الردة»، كما لدى تلميذه المؤرخ حسين ابن غنام في تاريخ نجد، ويورد فيها وقائع تظهر تلازم الدعوة مع الحكم، ففي كل البلدات التي «فتحها» ابن عبد الوهاب كان يفرض على أهلها إما مقداراً من المال في حال الصلح كما في بلدتي القصب والمحمل
الدولة السعودية الأولى
هذه النماذج من ممارسة الحكم يوضح مناط التكفير الذي اعتمدته الوهابية خلال المرحلة التي سميت بالدولة السعودية الأولى من سنة 1744 وانهارت سنة 1818. «فالدعوة الوهابية كان منطلقها في الحركة هو تكفير عباد القبور ومن وقع في الشركيات نحو الدعاء والذبح والاستغاثة بغير الله تعالى. أما السلفية الجهادية فمنطلقها هو تكفير الحكام وأنصارهم وأعوانهم وجيوشهم. وهذا لا يعني أننا لا نجد في المدونة الوهابية أو النجدية نصوصًا متعلقة بمسألة الحاكمية ، وأننا لا نجد في التراث السلفي الجهادي نصوصًا متعلقة بمسائل الشركيات، وإنما الكلام عن المنطلق المؤثر – أو الأكثر تأثيرًا – في كل من الحركتين»
إلا أن هذا التمايز في مناط التكفير يعود إلى ظروف نشأة الوهابية والدولة السعودية الأولى، إذا أنها كانت على غير احتكاك بالدولة العثمانية بشكل مباشر إلا مع مطلع القرن التاسع عشر حينما بدأ آل سعود بالزحف باتجاه مكة، والأصح أن الحركة في بواكيرها الأولى كفّرت كلاً من المجتمع والحكّام بمعاييرها، وهذا ما يجعلها حركة تغييرية شاملة اجتماعياً وسياسياً. ويعود غنى المصادر الوهابية في توصيف الدولة العثمانية نظراً لكون الأخيرة مجالاً لدعوة الأولى، بل هدم الثانية اطرادياً شرط لقيام الأولى.
ترد بيعة الدرعية سنة 1744، بين ابن عبد الوهاب ومحمد ابن سعود، في ثلاثة مصادر تاريخية للوهابية، ويذكر حسن بن جمال بن أحمد الريكي أن ابن عبد الوهاب قال للأمير: «أنت كبيرهم وشريفهم، أريد منك عهداً على أنك تجاهد في هذا الدين، والرياسة والإمامة فيك وفي ذريتك بعدك، وأنّ المشيخة والخلافة في الدين فيّ وفي آلي من بعدي أبداً»
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين، وهو من الوهابية: «إذا قال بعض الجهال: إن من شرط الإمام أن يكون قرشياً، ولم يقل عارضياً (مسقط رأس ابن عبد الوهاب)، يشير إلى أنه قد ادّعاها من ليس من أهلها، يعني محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ومن قام معه وبعده بما دعا إليه…؟ فأجاب: إذا قال بعض الجهال ذلك، فقل له: ولم يقل: تركياً، فإذا زال هذا الأمر عن قريش، فلو رجع إلى الاختيار لكان العرب أولى به من الترك، لأنهم أفضل من الترك…. وهذا الذي يعظمه الناس تركي لا قرشي، وهم أخذوها بغياً على قريش».
وظل الحط من شأن العنصر التركي أساسياً في الخطاب السياسي الوهابي، ففي عهد الدولة السعودية الثانية التي تأسست سنة 1824 وانهارت سنة 1891، ورد في كتاب «منهاج أهل الحق والإتباع في مخالفة أهل الجهل والابتداع» أن الشيخ سليمان بن سحمان قال: «وكذلك قوله رحمه الله وقد استزل الشيطان أكثر الناس في هذه المسألة فقصر بطائفة فحكموا بإسلام من دلت نصوص الكتاب والسنة والإجماع على كفره. قلت: وهؤلاء كأمثال الذين حكموا بإسلام طائفة الترك وأشباههم
الدولة السعودية الثانية
في فترة الدولة السعودية الثانية، تأصلت المؤلفات التي تكفر العثمانيين ومن يرضى بحكمهم، ومن أبرز من كان لهم باع في ذلك الشيخ حمد بن علي بن عتيق. ويمكن من خلال التشدد في هذا التكفير العثور على خيط مهدوي توارى لاحقاً في الدعوة الوهابية، فهي قدمت نفسها في العديد من الأدبيات أنها حركة مهدوية لكن من دون أن تذكر ذلك بالاسم، ففي كتاب بن عتيق «سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين والأتراك». ويستهل الكتاب بذكر الحديث النبوي «الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ»، ثم يعرج على إحدى المرويات النبوية عن آخر الزمان، فيقول إن النبي مما أخبر به أن أمته «تقاتل الترك الكفّار»
ويقول : «وقد ابتلي كثير من هذه الأمة من الملوك وغيرهم بهذا الشعار…سلط عليهم الترك الكافرون الذين وعد الله بقتالهم»
وكان الموقف من الدولة العثمانية أساسياً للحكم، ففي الخلاف الذي نشب بين الأخوين عبدالله وسعود، ابنا فيصل، سنة 1870، انحاز علماء الوهابية بقوة إلى جانب سعود، ذلك أن عبدالله – كما يذكر والي بغداد مدحت باشا في مذكراته «لم يعاكس الدولة العلية العثمانية»، وحكم بعض العلماء بردّة عبد الله بن فيصل الذي هُزِم
وعلى منوال الأولين من الوهابية، يذكر محمد حامد الفقي، رئيس أنصار السنة المحمدية: «وملوك العثمانيين إنما خلافتهم الوهمية تعتمد على هذين الحرمين…. وما كانت هذه الخلافة الضعيفة إلا نكبة على الإسلام والمسلمين»
وبلغ الافتراق بين الجانبين في منع متبادل للحج، حيث منع شريف مكة الرعية التي تقيم تحت حكم آل سعود من الحج، وبعد سيطرة سعود بن محمد على مكة والمدينة سنة 1803 منع هو الآخر قافلة حجاج الشام من الحج، وشاع حينها أن الوهابيين منعوا المسلمين من الحج، ويبدو أن المنع الذي وقع فعلا كان بتدبير من الشريف غالب، شريف مكة الذي بايع سعود، بهدف تحريض العثمانيين على تجريد حملة عسكرية على الحجاز ونجد
تراجع خطاب تكفير الدولة العثمانية في الوهابية بعد تأسيس الدولة السعودية الثالثة سنة 1926، ويعود في جزء منه إلى انهيار العثمانية نفسها، ثم تحول الوهابية إلى مؤسسات دولة. واتخذ عبد العزيز بداية لقب «السلطان» ثم سرعان ما أصبح «الملك»، وقد أدت طبيعة النزاعات في الدول السعودية الثانية بين الحاكم السياسي والمرجع الديني (آل الشيخ) إلى ضعف الأخير ونهاية التوازن النسبي في الحكم. وخلال تمرد حركة الإخوان الذي وصل ذروته سنة 1929 والقضاء عليهم في العام التالي، باتت معظم الحركات السلفية الجهادية التي تأسست لاحقاً على صلة بنيوية بتلك الحركة التي كان جانب من احتجاجها متعلقاً على حد تعبيرها بإغلاق المجال أمام نشر الدعوة وتوسيعها، وعدم العمل بقاعدة «الولاء والبراء» التي كانت أساساً وراء تكفير الدولة العثمانية ورعيّتها، ولم تراع هذه الحركة أن الدعوة انتقلت من مرحلة التأسيس إلى الدولة مع ما يقتضيه ذلك من «تخاطب» الضرورة بين الدول. ولعل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) يعتبر استئنافاً معاصراً لحركة الإخوان السعودية، مع فارق أن الإخوان عارضوا معظم التقنيات الجديدة واعتبروها بدعة، مثل التلغراف، فيما داعش تقبل عليها بـ«نَهم».
2- السلفية الجهادية والدولة العثمانية
على الرغم من مركزية الموقف من الدولة العثمانية في الوهابية، فإن السلفية الجهادية آثرت عدم الخوض في هذا الشأن، أولاً لأن هذه الدولة لم يعد لها وجود، وثانياً لأن ما جاء بعدها من دول أسسها البريطانيون والفرنسيون في المنطقة باتت وفق أحكام السلفية الجهادية أسوأ بشكل يبدو مجحفاً مقارنتها مع الدولة العثمانية. لم يتبنّ التيار الجهادي أحكام منظّري الوهابية في هذا الخصوص، حتى حينما يرد ذكر الدولة العثمانية عرضياً فإنه لم يحدث أن تم اتهامها بأنها دولة شركية تشجع على عبادة القبور وتحمي الصوفية وتحج بالطبول والموسيقا، ذلك أن منظّري هذه السلفية العسكرية نظروا من زاوية مللية عامة، فالعثمانيون في النهاية مسلمون، وكانت الكثير من الأحكام الشرعية تسري حينما انتهت هذه الدولة. هذه الرؤية على ما يبدو تأثّرت بمنهج إخواني (الإخوان المسلمين) في إعادة مجد الأمة إلى ما قبل انهيار العثمانيين، واعتبار الانحطاط الكبير بدأ بعد ذلك، الأمر الذي غيّب مقاربات الوهابية التي لا تنقصها الأدلة على أحكامها وتوصيفاتها، فالسياسة لدى معظم السلفية الجهادية تقدمت على أصول الحاكمية.
أحدث مثال عن الدولة العثمانية في هذا الخطاب جاء خلال تأسيس أحدث فروع تنظيم القاعدة، وهو فرع شبه القارة الهندية.
نوستالجيا عاصم عمر
تشابهت السيرة الذاتية التي اجتهدت وسائل الإعلام في صياغتها عن الزعيم الجديد لفرع تنظيم القاعدة في شبه القارة الهندية، عاصم عمر. فالرجل أقام بعيداً عن أضواء الإعلام وركز جهوده على الدعوة والتنظير، والصورة الفوتوغرافية الوحيدة التي تدل عليه لا يظهر فيها أي ملمح لوجهه.
من المتداول عن عاصم عمر أنه من خريجي دار العلوم الحقانية في باكستان، وله محاضرات كثيرة باللغة الأوردية وعدة كتب، المتداول منها «جيش المسيح الدجّال» عن شركة «بلاك ووتر» الأميركية.
لم ينخرط عاصم عمر في القتال، وبقي مجاله الدعوة وإقامة صلات مع الشخصيات الإسلامية في بنغلادش والهند، وهو ما وفر له الأفضلية في القيادة الجديدة على مسؤول تنظيم القاعدة للدعوة والإبلاغ في باكستان، أحمد فاروق.
الإضافة الوحيدة التي تداولها عدد قليل من أنصار «القاعدة» على مواقع التواصل الاجتماعي معلومة وحيدة عن أن «عاصم عمر من أسود المسجد الأحمر ويحظى بتأييد إمام المسجد الشيخ عبد العزيز غازي». ومن المرجح وفقاً لهذا أن يكون عمر فرّ من المسجد مع الألف طالب قبيل اقتحامه عام 2007 من قبل الجيش الباكستاني حيث قتل العشرات من الطلبة الذين بقوا معتصمين وقتلوا مع زعيم المجموعة عبد الرشيد غازي.
تمايز الخطاب
في إعلان تأسيس فرع القاعدة في شبه القارة الهندية، كان ترتيب عاصم عمر هو الثالث في الخطاب بعد زعيم القاعدة أيمن الظواهري، والناطق باسم الفرع الهندي للتنظيم، أسامة محمود. ما يلفت أنه يمكن رصد تمايز في خطاب «قاعدة الهند» عن أدبيات الجهاديين السائدة، المثال (النموذج) الذي يروج له تنظيم القاعدة، وما تفرع عنه من تنظيمات، يتحدث عن «خلافة على منهاج النبوّة»، وهي عبارة كررها عاصم عمر في خطاب التأسيس، ووعد بتحويل شبه القارة الهندية إلى «شبه القارة الإسلامية»، لكن كل ذلك مؤسس على مثال (نموذج- حلم)، وسيعمل الفرع الجديد على استعادته في حزمة واحدة لا يجمعها منهجياً سوى الحنين (الرومانسية التاريخية). هذه الحزمة تختلط فيها الخلافة العثمانية مع سلطنة المغول مع «خلافة على منهاج النبوة».
هذه الاستعادة التي ضمنها عاصم عمر في خطاب التأسيس، تحمل إشكاليات «شرعية» في مضمونها إذا ما قارنّاها باجتهادات السلفية الجهادية بخصوص حكم الدول التي كانت قائمة قبل الاحتلال البريطاني للهند، والبريطاني الفرنسي لمعظم الأراضي العثمانية.
وعاصم عمر لا يسمي الدولة العثمانية إلا بأنها «خلافة»، والنموذج الذي يسعى لاستعادته من حيث المنهج هو ذاك الذي ذكره في خطاب أغسطس 2013: «يجب أن يوضع في الاعتبار أن الفترة التي تلت انتهاء الخلافة العثمانية هو عصر فساد الأرض»، ما يعني أن صلاح الأرض سيعود باستعادة تلك الخلافة التي لا يتطلع أي تيار جهادي إلى استعادتها في شكلها العثماني. وليس عاصم عمر وحيداً في اكتشافه الجهادي هذا، أي أن العثمانية هي المدينة الفاضلة، بل إن الناطق باسم «قاعدة الهند» أسامة محمود يعتبر هو الآخر أن «النظام الغاشم أبطل تحكيمَ شرعِ الله على وجه المعمورة بالقضاء على الخلافة العثمانية».
سلطان المغول
أما استعادة التاريخ المغولي للهند، فمبنية على منهج «تحرير الأرض» قبل إقامة الشرع، حيث يذكّر عاصم عمر في خطاب التأسيس أهل الهند من غير المسلمين أن سلطان الإسلام هو الذي علمهم الإنسانية، وفي خطاب أغسطس 2013 يحرض مسلمي الهند على استعادة أمجاد معركة «بانيبات» التي وقعت عام 1761، وهي أكبر معركة برية جرت في ذلك الوقت بين جحافل القوات الأفغانية المؤلفة من قبائل البشتون والبلوش، وقوات الماراثا الهندية التي منيت بالهزيمة وقتل في تلك المعركة نحو 100 ألف وكتبت بها عمراً جديداً لحكم المغول. ويعتبر عاصم عمر سقوط المغول حدثاً مفصلياً ينبغي استئنافه، فهو يتوجه إلى مسلمي الهند معاتباً بالقول: «حان الوقت لإشعال الحمم التي خمدت في قلوبكم منذ 1857»، مشيراً إلى العام الذي خلع فيه آخر سلاطين المغول في الهند، بهادور شاه الثاني، على أيدي الاحتلال البريطاني
ما يمكن استنتاجه أن الأدبيات القليلة المتوفرة لهذا الفرع لا تنتمي إلى منهج «القاعدة» ما قبل الظواهري، ولو انتسبت إليها. وإن كان يرجح أن التذكير بـ«الخلافة العثمانية» و«سلطان المغول» استعادة تاريخية موظّفة لتحريك مخيلة شريحة من المسلمين من دون أن يكون ذلك محاولة جدية لـ«استعادة تصويرية» لما سبق، فالهدف هو السيطرة على الأرض قبل أي شيء، وهي بمعزل عن مسائل «التوحيد» و«حاكمية الشريعة»، لكن حتى في هذه، فإن «القاعدة» لم تلجأ في مسيرتها إلى ذلك النوع من التوظيف «الصريح» الذي قد يخلق لها إشكالات مع منهجها مستقبلاً، إلا في عهد الظواهري الذي يخرج بخطابات وكأنها مستلة من الحنين الشعبي الناتج عن سوء الحكام الحاليين.
أيمن الظواهري
أما أيمن الظواهري، فقد قارب موقفه ما صدر عن عاصم عمر بخصوص نظرة التمجيد للدولة العثمانية. في خطاب نشره في يوليو 2010 في رثاء مصطفى أبو اليزيد، جاء على ذكر الدولة العثمانية عبر دعوته الشعب التركي إلى «استعادة الدور المجيد للدولة العثمانية بالدفاع عن ديار الإسلام عامة وعن فلسطين خاصة.. إنّ دور الشعب التركي المسلم في الدفاع عن الإسلام والمسلمين لا يمكن أن يتضاءل لمجرد إرسال سفينة أو عدة سفن لإغاثة غزة, لقد كان العثمانيون لمدة خمسة قرون هم المدافعون عن المسلمين وديارهم في وجه أطماع الصليبيين, فكيف يمكن أن يقتصر دور أبنائهم على مجرد بعض شحناتٍ من الإغاثة؟!.. لقد كان الأتراك العثمانيون هم المجاهدون ضد كل طامعٍ ومعتدٍ»
في اللقاء الثاني مع مؤسسة السحاب عام 2006، جاء الظواهري على ذكر العثمانيين مجدداً، وقال: «نعم، لا شك هو عارٌ تاريخيٌ ينقلُه الجيلُ للجيلِ، كما نُقِلت إلينا خيانةُ أبي رغالٍ وخيانةُ أهلِ الكوفةِ للحسينِ رضي الله عنه، وخيانةُ ابنِ العلقميُ للمسلمين في العراقِ، وخيانةُ الخديوي توفيقُ بتحالفِه مع الإنجليزِ لاحتلالِ مصرَ، وخيانةُ الشريفِ الحسينِ بنِ عليٍ وعبدِ العزيزِ آلِ سعودٍ في تواطئهِما مع الإنجليزِ ضد الدولةِ العثمانيةِ…».
ويقول في موضع آخر من اللقاء إنه «بعد سقوطِ الخلافةِ العثمانيةِ، سرت موجةٌ من الانهزامِ النفسيِ والانكسارِ العقديِ».
وفي رسالة له بعنوان «نصيحة مشفق» سنة 2007، يقول الظواهري: «وعبد الله بن الحسين الذي أعلن جدُّه الثورة على الدولة العثمانية من مكة في الحرب الأولى لحساب الإنجليز يجمع اليوم الأحزاب وينسج المؤامرات والدسائس ضد دولة العراق الإسلامية من عمّان لحساب الأمريكان».
وفي خطابه «صنم الوحدة الوطنية»، يقول الظواهري إن: «الخدمة التي يقدمها الجيش الباكستاني الأمريكي اليوم للأمريكان هي نفس الخدمة التي قدمتها قوات الشريف حسين صاحب الثورة العربية الذي طعن الدولة العثمانية في ظهرها من أجل انتصار بريطانيا الصليبية».
على الرغم من أن الظواهري ملأ موقع القيادة في «القاعدة» خلفاً لأسامة بن لادن، إلا أنه أدخل أيضاً تعديلات جوهرية في أسلوب وآلية عمل «القاعدة». ورغم أن هذا التحول ليس مجال هذه الورقة، إلا أن الإشارة لبعض مواضعه سريعاً يفيد سياق ما ورد أعلاه من تمجيده للدولة العثمانية، فالظواهري كان حتى تاريخ دمجه لتنظيم الجهاد المصري مع القاعدة في صيف 2001، كان صاحب مشروع يصفه المنظّر الجهادي أبو مصعب السوري بـ«التطلعات القُطرية» لتجربة الجهاد المصري، حيث بقي الظواهري حتى بيعته لبن لادن يسير في مشروع يقوم على «إحداث انقلاب عسكري يقوم به ضباط أعضاء في التنظيم كان قد زرعهم في الجيش المصري منذ أيام أنور السادات. واستمرت خلاياه إلى أن قضي عليها مع حملات الاعتقالات الكثيفة التي تعرض لها التنظيم فيما بعد».
وظهرت في العديد من خطابات الظواهري المواكبة للإطاحة بحسني مبارك شهية غير خافية لتجربة بناء متدرجة لدولة إسلامية في مصر، وعلى هذا الأساس أيّد ثورة الشعب المصري، وتودد باعتدال للرئيس السابق محمد مرسي، في مسعى استراتيجي يهدف إلى استيعاب القاعدة الشعبية للإخوان المسلمين ضمن «القاعدة»، لذا فإن مصر حظيت بأكبر عدد من الخطابات قبل وبعد الإطاحة بمرسي. هذه الفرضية تنقلنا إلى مديحه للدولة العثمانية، حيث يتضح تغليب منظري تنظيم القاعدة الجانب العسكري في الرؤية، فالخطاب الذي يتكشف وراء مديح الظواهري للدولة العثمانية يكمن في مركزية «دار الإسلام»، وحينما يكون الأمر كذلك فإن «القتال تحت راية الأمير الفاجر» مباح شرعاً طالما أن المنهج هو التقسيم الذي يقضي بأن دار الإسلام هي الدار التي يغلب عليها المسلمون عددياً ويحكمها أحدهم، بلا عهد ولا بيعة لإمام، وهو ما يضعه على افتراق مع الوهابية الأولى، ومع تمرد الإخوان ضد الملك عبدالعزيز، وعلى افتراق آخر مع أبي بكر البغدادي الذي لم يسبق أن ثبت أنه ميّز بين مسلم يأبى مبايعته، وبين أسير غربي غير مسلم.
داعش: التجاهل الواعي
أما تنظيم الدولة الإسلامية، فإن خطابات أمرائه كافة تخلُ تماماً من أي إشارة إلى الدولة العثمانية كـ«مجد مفقود» كما يرد مراراً لدى الظواهري، أو نموذجاً لدى أمير قاعدة الهند عاصم عمر. وهذا ما يجعل الفارق بينهما ليس في الأحكام الشرعية، فهي واحدة، بل في أولويات كل منهما حول المنهج: الظواهري يهدف إلى تحرير دار الإسلام المحتلة، سواء من الحكام أو القوى الغربية، ثم تطبيق المنهج. فيما أبو بكر البغدادي يحتل دار الإسلام ليقيم حكمه فيها.
قبل الظواهري والبغدادي
قبل الظواهري وزعيم داعش أبو بكر البغدادي، تطرق منظرون في التيار الجهادي إلى مسألة العثمانية على نحو غير مركّز، ففي «المقاومة الإسلامية العالمية» تناول أبو مصعب السوري الدولة العثمانية، محاولاً قراءتها كمبحث تاريخي، وتقييم النواحي السلبية والإيجابية. إلا أنه يسجل إعجابه بالجانب العسكري رغم انتقاده تطوير الجوانب الأخرى. كما يثني على إجراءات عثمانية محددة تجاه دول الغرب، فيعتبر مثلاً أنه «يكفي العثمانيين أن أحد مفاخرهم أنهم لا يسمحون لسفن النصارى أن تعبر مضيق باب المندب إلى خليج السويس لأنهم سيمرون قرب بحر جدة، وهو من الحرم. فكان البحر الأحمر كله حرم لا يدخله النصارى»
وحتى لو ترك المنظرون الأوائل لـ«القاعدة» تلميحات عامة وغامضة عن الموقف من الدولة العثمانية، بما فيهم الأب الروحي للأفغان العرب، عبدالله عزام، الذي انتقد «الغلو» في تكفير تلك الدولة، لكنه لم يعتبرها نموذجاً صالحاً بكل الأحوال للسير على نهجها، ولا روّج لها ضمن الأمثلة التاريخية التي كان يوردها. حتى في مؤلفه الصغير الذي حمل عنوان «المنارة المفقودة»
الجماعة الإسلامية في مصر
في تجربة أخرى تخص الجماعة الإسلامية في مصر، في كتاب «حتمية المواجهة» الذي نشرته الجماعة في مصر سنة 1988، لا تختلف رؤية الجماعة عن رؤية الظواهري، وجاء تحت عنوان فرعي «الخلافة الإسلامية خلال 14 قرناً»: «وبعد نكبة التتار… وسقوط بغداد على يد هولاكو في منتصف القرن السابع الهجري، انتقلت خلافة العباسيين إلى القاهرة حيث حكم المماليك إلى أن قامت الخلافة العثمانية في تركيا، واستمرت زهاء أربعة قرون ونصف قرن حتى كان إعلان نهايتها وسقوط عملها منذ ستين عاما فقط سنة 1924. وظلت الخلافة عبر القرون الطويلة تمثل الرابطة التي تجمع المسلمين، في شتى بقاع العالم، ترفع راية الإسلام، وتقوم على أمر الدين، تحمي الديار وتذود عن الحمى والمقدسات وتفتح البلاد»
3- خلاصات
– إن «العثمانية» في خطابات الجهاديين تفيد في تقديم مؤشر على درجة اتصالهم بالسياسة، فليس غريباً عن الظواهري الذي يبجّل الدولة العثمانية (دولة الخلافة) أن يتحدث في موقع آخر عن «الثورة المصرية» في خطاباته مراراً، وهو ما يعتبره أنصار داعش خروجاً عن المنهج، ولعل من أبرز كلمات الظواهري المتداولة قوله: «وأنا لم أدع إلى الثورة على محمد مرسي ولكني دعوت لاستكمال الثورة المباركة التي جاءت بمحمد مرسي لتحقيق التغيير المطلوب»
– ليس تباين الموقف من الخلافة العثمانية سقطة أو قراءة معزولة عن المنهج، بل يمتد إلى اختلاف مناطات التكفير لدى كل من القاعدة وداعش، فالغالب في رأي الظواهري هو أن التكفير ينقضه العذر بالجهل، فيما الغالب لدى داعش قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: «من لم يكفّر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم كفر».
– في أساس الموقف من الخلافة العثمانية هو الحكم على الجيش العثماني وليس مؤسسة الخلافة التي كانت قائمة، فالظواهري الذي أشاد بالجيوش العثمانية لا يستقيم مثلاً أن يكون تكفيره للجيوش العربية – حتى لو كانت أنظمة علمانية- أن يكفرها عينياً (تكفير شامل) بل تفصيلاً، واقتصر لديه التكفير بالتعيين على «ضباط مباحث أمن الدولة فرع مكافحة النشاط الديني وأمثالهم الذين يحققون مع المسلمين ويعذبونهم»
– يكشف التباين حول الدولة العثمانية منهج البيعة المختلف بين القاعدة وداعش، فالأولى تبايع الملا عمر وهو أفغاني من الأحناف، فيما تشترط الثانية أن يكون الإمام قرشياً، ولا يستقيم لها أن تبايع الملا عمر. ويتوضح التباين في خطاب الظواهري: «وقد دان المسلمون بالولاء للدولة العثمانية وكانوا أتراكًا, ومن قبلهم دانوا بالولاء لصلاح الدين الأيوبي وكان كردياً, ومن قبله لنور الدين بن زنكي وكان تركيًا, ودان المسلمون في المغرب بالولاء ليوسف ابن تاشفين وكان بربريًا, ونحن بفضل الله وتوفيقه بايعنا أمير المؤمنين الملا محمد عمر وهو أفغاني»
– لدى «القاعدة» خطاب حماسي لا يقتصر فقط على أمجاد «أمة الإسلام» في طور تأسيس الإسلام الأول زمن النبي والأحداث القريبة من تلك الحقبة التأسيسية، فالتذكير بمعركة بنيبات في الهند، وأمجاد العثمانيين العسكرية في أوروبا والبحر الأحمر خطاب يفتح ثغرة نقاشية ونقطة تلاقي بين «القاعدة» والعديد من التيارات التي قد لا تكون متطابقة معها في المنهج.
– يمكن القول إن تبني تنظيم داعش ضمنياً لموقف محمد بن عبد الوهاب وتلامذته تجاه الدولة العثمانية، مقابل خطاب المجد الإسلامي والأخوة الإسلامية ضد العدو غير المسلم في خطاب القاعدة، قد انعكس على مبادرة شهيرة سمّيت بـ«مبادرة الأمة»
– أثبتت الأحداث اللاحقة لفشل مبادرة الأمة، اعتماد جبهة النصرة على مبدأ التدرج في آليتها التنفيذية للمنهج، وهو ما يعني افتراقها عن داعش في ما يسمى «فقه التمكين»، فما كانت تطلبه داعش بشرطيها السابقين حققت جبهة النصرة الأول منه عندما طردت جبهة ثوار سوريا وحركة حزم وفصائل أخرى من ريفي حلب وإدلب، فيما من المستبعد أن يدخل الشرط الثاني طور التنفيذ طالما أن بعض هذه الدول تساهم في تمكين «المسلمين» في سوريا من العدو «الرافضي والنصيري»، وهو الأمر الذي نلمسه في موقف «القاعدة» من الخلافة العثمانية التي على الرغم من شيوع مظاهر فسادها المنهجي إلا أن الوظائف العسكرية ضد الدول الغربية في ذلك الحين يجعل من المجحف وضعها في خانة واحدة مع «الكفّار».
– النظرة الإيجابية للظواهري تجاه العثمانيين، خصوصاً في المرحلة المتأخرة من عمر الدولة، تنسحب على منهجه في سلسلة الأعداء، ففي سوريا على سبيل المثال، الأولوية لقتال قوات النظام رغم اتساع دائرة النزاعات المحلية بين الفصائل، فيما لا تفرق الدولة الإسلامية بين قوات النظام والفصائل التي ترفض مبايعتها. فالأخيرة لا تترك أي نزاع إلى فترة لاحقة، أي تأجيل المواجهة إلى ما بعد ضرب العدو الأوضح ميدانياً.
في النهاية، وبتعبير موجز، لو كان الظواهري في زمن نهاية الدولة العثمانية، لقاتل إلى جانبها. ولو كان البغدادي هناك لقاتلها لإسقاطها دون الاكتراث إلى أنها تحارب «عدواً كافراً» لكليْهما.