في ربيع عام 2011 نزل السوريون إلى الشوارع في مختلف المدن والقرى، وهتفوا بصوت واحد «الشعب يريد إسقاط النظام». أعلن ذلك الشعار البسيط والواضح للعالم أن ثورة شعبية كبرى قد قامت في سوريا. لقد بدا كل شيء وقتها، بسيطاً وواضحاً وجميلاً، فما الذي حوّل إذن تلك البساطة والوضوح، إلى كل هذا التعقيد والتشوّش والبشاعة التي نشهدها الآن بعد مرور أربع سنوات على اندلاع هذه الثورة؟

هناك كثير من الأجوبة الشائعة المتداولة كثيراً على هذا السؤال الذي يسأله الجميع: أخطاء الثوار وقلة تنظيمهم، تحريض الإعلام، التدخلات الخارجية، فقدان القرار الوطني، ضعف المعارضة السياسية وتشتتها، دخول الأيديولوجيات المتنافرة إلى ساحة العمل الثوري، عسكرة الثورة، الوقوع في الفخ الطائفي، تردد المجتمع الدولي في دعم الثورة السورية، تآمر الدول العدوة والصديقة على الثورة السورية، إلخ.

هذه الأجوبة جميعها كما نرى تحيل إلى عوامل أتت إلى الظاهرة من خارجها، وأدت، كما يقال، إلى «انحراف الثورة» عن مسارها الأصلي والطبيعي. ولكن ما هو فعلاً هذا المسار الأصلي والطبيعي الذي يتم الحديث عنه؟ لدينا هنا أيضاً جواب شائع ومتداول كثيراً: إن المسار الأصلي والطبيعي للثورة السورية هو ذلك الذي يعبر عنه شعارها الأساسي «الشعب يريد إسقاط النظام» من أجل التخلص من حكم الاستبداد والانتقال إلى نظام ديمقراطي. ولكن هل يمكن أن يكون هناك شيء ما ملتبس في داخل هذا الشعار – وليس خارجه – وهو الذي أدى إلى تفخيخ الثورة وانحراف مسارها وأوصلنا إلى هذه المأساة المحيرة التي نحن فيها الآن؟ وبعبارة أخرى هل يمكن أن نفهم هذه المأساة بوصفها نتيجة طبيعية للمنطق الداخلي للشعب وللثورة الشعبية، دون الحاجة إلى استجلاب أسباب من خارجها؟

لقد قلنا أن شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» هو شيء بسيط وواضح، ولكن هل هو كذلك فعلاً؟ ألا يوجد فيه فعلاً أي التباس يمكن أن يكون هو السبب في اختلاط الأمور والوقوع في المحظور؟ لنتفحص بشيء من الإمعان المفاهيم الواردة في هذا الشعار، ولنضعها كلها موضع الاتهام بشبهة الالتباس، ولنبدأ أولاً بأكثرها شبهة.

المفهوم الأول هو مفهوم النظام. المقصود هنا هو النظام السياسي الأسدي الذي يحكم سوريا منذ أربعة عقود ونيف، والذي يملكه بشار الأسد ملك عين بعدما ورثه عن أبيه المؤسس حافظ. هذا نظام بوليسي شديد القسوة والصرامة، يمسك بكافة تفاصيل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلاد، وقد حول البلاد عبر خمسين سنة من الحكم إلى سجن كبير أسماه باسمه: سورية الأسد! بهذا المفهوم رأى غالبية السوريين نظامهم الحاكم، وبناء عليه قاموا بثورتهم للتحرر من هذا السجن البغيض.هذا شيء واضح تماماً وبسيط ولا يمكن أن يكون فيه أي التباس.

المفهوم الثاني هو مفهوم إسقاط النظام. هذا مفهوم شعبي وليس مفهوماً أكاديمياً، ولكن هذا لا يجعله مع ذلك أقل وضوحاً، بل على العكس تماماً. مرة أخرى، بالنسبة لغالبية السوريين المشاركين فعلاً في الثورة، إسقاط النظام يعني بشكل بسيط وواضح ومحدد تماماً رحيل بشار الأسد وعائلته التي تعاونه وتشاركه في الحكم، وتفكيك الأجهزة الأمنية-العسكرية التي هي أدوات حكمه، ولا تستطيع حذلقات بعض الجهات السياسية المعارضة، التي تدعي أن المطلوب تغيير النظام وليس اسقاطه، أن تشوّش على هذا الوضوح.

لدينا ثالثاً مفهوم الإرادة الشعبية الذي يشير إليه تعبير «الشعب يريد». هذا المفهوم يعني بوضوح التصميم الشعبي الحاسم على رحيل هذا النظام بكل الوسائل الممكنة، سلمية كانت أو عسكرية، بشكل مستقل أو بدعم خارجي، ومهما كلف الأمر من خسائر مادية أو بشرية. واضح أن الثورة السورية مضت في هذا الطريق كله معبّرة عن جسارة مذهلة في تجسيد هذه الإرادة، وهذا شيء لا لبس فيه على الإطلاق بغض النظر عما إذا كانت هذه الإرادة عقلانية أم لا، ودون الاهتمام على الإطلاق بتحفظات بعض النخب الثقافية حول العسكرة والتدخل الخارجي وما إلى ذلك. هذه الإرادة هي أوضح ما يميز الثورة السورية ولا يمكن أيضاً أن تكون مصدر لبس.

لم يبق لدينا إذن خارج التمحيص إلا مفهوم الشعب، ذلك المفهوم الذي يفتتح الشعار، ويعبر عن الفاعل الأساسي والوحيد فيه؛ الفاعل صاحب الإرادة المطلقة، والمصدر الشرعي الوحيد لجميع السلطات في البلاد. الذات الكليّة التي يعود إليها وحدها تقرير ما كان وما سوف يكون، والتي عندما تقرر ماذا تريد فإن على القدر أن ينصت ويطيع. هذا المفهوم المطلق للشعب يهيمن تقريباً على كل الفكر السياسي الحديث، على الأقل كما تعبر عنه دساتير جميع الدول الحديثة الموجودة حالياً على الكوكب، فهل يمكن لكائن مطلق كهذا أن يكون ملتبساً مثل هذا الالتباس الخطير الذي يودي بالبلاد إلى الحرب الأهلية وما تجرّه من كوراث ومآسي؟

مفهوم الشعب هو مفهوم حديث، وهو من ضمن المفاهيم التي جاءت بها الحداثة إلينا مع دخول منطقتنا في عملية التحديث الغربي منذ أواخر القرن التاسع عشر. قبل ذلك كان لدينا الناس، السكان، الأهالي، العوام، أو حتى الرعاع والدهماء، هذا على الأقل ما كانت تتحدث عنه الكتابات العربية قبل الحداثة، ولكن مفهوم الشعب لم يكن موجوداً أبداً. علينا إذن أن نتأمل في عملية تكوين مفهوم الشعب في بلاد المنشأ الغربية، وكيف تطور تاريخياً، وما هي الأشكال التي أخذها عند انتقاله في التاريخ وفي الجغرافيا. عند ذلك سوف نرى كيف يمكن لهذا المفهوم أن يلتبس ويختلط معناه ويتسبب بعدها في إحداث المشاكل الخطيرة، من نوع جرائم التطهير العرقي وإبادة النوع.

«نحن، شعب الولايات المتحدة، ومن أجل أن نشكل اتحاداً أكثر كمالاً، وأن ننشئ العدالة، وأن نضمن الهدوء المحلي، ونؤمن مستلزمات الدفاع العام، ونزيد الرفاهية العامة، ونحفظ بركات الحرية لأنفسنا ولذريتنا من بعدنا، فإننا نقضي وننشئ هذا الدستور للولايات المتحدة الأميركية».

هذا هو النموذج الأعلى (البارادايم بلغة المثقفين!) للتعبير عن مفهوم الشعب والإرادة الشعبية، وهو النموذج الذي يسود معظم دساتير العالم اليوم. ولكن هذا النموذج الليبرالي ليس النموذج الوحيد الذي طبق فيه مفهوم الشعب، ومورست من خلاله الإرادة الشعبية.

الالتباس الأخطر الذي يمكن أن يحدث في مفهوم الشعب، ويسبب الانحرافات القاتلة في مسيرة البشرية في العصر الحديث، ينتج عن اختلاط تصورين مختلفين في أساس هذا المفهوم. الأول هو التصور الذي يشير إلىعامّة الناس الذين يعيشون معاً في مدينة واحدة أو كيان سياسي واحد، هذا التصور تشير إليه الكلمة اللاتينية (ديموس). والتصور الثاني يعبر عن جميع الناس الذين ينتمون إلى جماعة واحدة، والذي تشير إليه بدورها الكلمة (إثنوس).

عند دخول الشعب في الديمقراطية، أي عندما يريد أن يحكم نفسه بنفسه كما تقتضي الحداثة، يمكن أن يختلط هذان التصوران لمفهوم الشعب بحيث يؤدي هذا إلى أن تعتقد الجماعة الأكبر والأقوى أن من حقها أن تحكم وحدها، وأن تستبعد الجماعات الأخرى التي يمكن أن تكون موجودة في نفس المنطقة، وتخضعها للاضطهاد والتهميش، وفي الحالات القصوى يمكنها أن تشرع في طردها من المنطقة، أو حتى بإبادتها تماماً.

القصة هنا، الأمر ليس مجرد قصة التباس نظري في تعريف المفاهيم. هناك فعلاً أساس اجتماعي فعلي لإنتاج نموذجين مختلفين من الشعوب بحسب اختلاف تطورهما التاريخي، وبحسب اختلاف تنظيم شبكات القوة السياسية والاقتصادية والثقافية في كل منهما. هناك نموذج الشعوب المنظمة بطريقة طبقية من جهة، ونموذج الشعوب المنظمة بطريقة عضوية من جهة أخرى.

 عندما ينظر إلى الشعب على أنه مجموع متنوع، ولكنه مرتب طبقياً، يكون الدور الرئيسي للدولة أن تتوسط بين مختلف جماعات المصالح. هذا سيسمح بتسوية الخلافات بين الجماعات وليس بإلغائها أو تطهيرها. هذا الشكل من الشعب المرتب طبقياً هو ما ساد في منطقة شمال-غرب أوروبا. ولكن عندما ينظر إلى الشعب على أنه جسم عضوي، على أنه جسم واحد غير قابل للقسمة، على أنه إثنية، فإن نقاء هذا الجسم يمكن أن يحصل عن طريق قمع الأقليات المنحرفة، وهذا ما يمكن أن يؤدي إلى التطهير الإثني. النموذج العضوي ساد في القرن الماضي شعوب مناطق وسط وشرق أوربا، وأنتج أسوء حالات الإبادة الجماعية في القرن العشرين. يمكن من الآن القول ان منطقتنا في الشرق الأوسط تخضع إلى حد كبير لهذا النموذج مع وجود عناصر مهمة من النموذج الأول أيضاً.

لا يتعلق الأمر على الإطلاق بوجود نوعين مختلفين جوهرياً من البشر، بل يتعلّق ببساطة بظروف تاريخية مختلفة أنتجت شكلين من أشكال مفهوم الشعب (وربما أكثر)، وبالتالي شكلين من أشكال الديمقراطية عند دخول شعوب المناطق المختلفة في مشروع الحداثة. لا مكان بالطبع في هذه العجالة لسرد هذه الاختلافات التاريخية وشرح أسبابها، ولكن يكفي القول إن مفهوم الشعب الذي ورد في مقدمة الدستور الأميركي أعلاه لم يكن يعني في وقته أن كل أفراد البلاد هم الشعب، وأن عليهم جميعاً أن يحكموا وأن يقضوا كما ورد في تلك الوثيقة. من كان معنيّاً بذلك فعلاً هم فقط الخمسة وخمسين سيداً أبيض ممن يحتلون أعلى المراتب الاجتماعية، والذين اختلوا في اجتماع خاص لمدة أسبوعين في مدينة فيلادلفيا. كان أولئك ممثلو الشعب في 13 ولاية، ولكن الشعب الذي كانوا يمثلونه لم يكن يضم، حسب تصورهم لمفهوم الشعب، النساء والسود وأبناء البلاد الأصليين، بل إن بعضهم لم يكن يريد أن يضم حتى السكان البيض ممن لا يحوزون على أية ملكية. وفي نفس الفترة كان الساسة في بريطانيا أكثر وضوحاً فيما يتعلق بهذه النقطة، لقد ميزوا بين الشعب الذي يتألف من الأفراد أصحاب المصالح (سادة، تجار، صناعيون، حرفيون الخ) والذين عليهم أن يعملوا معاً في الحقل العام من أجل تسوية مصالحهم المختلفة لتحقيق المصلحة العامة للأمة؛ هؤلاء من يشكلون كيان المواطنية من جهة. والعامة، الرعاع، الدهماء، من جهة أخرى؛ أولئك الذين ليست لديهم ملكيات أو مصالح يفاوضون عليها، ويحصلون بالتالي فقط على صفة المواطن السلبي؛ إن لهؤلاء أيضاً الحقوق المدنية مثل باقي المواطنين ولكن ليست لهم حقوق سياسية، ولا يشاركون في الحكم. وحتى التوسع اللاحق في إعطاء كافة الحقوق للجميع كان محكوماً بالاعتبارات الطبقية؛ كان النقاش حول توسيع حق التصويت يدور حول أسئلة من هذا النوع: ما هي حدود الملكية التي تسمح لصاحبها بالتصويت؟ هل يمكن ضم الخدم والعمال؟ هل يجب أن تحصل بعض الطبقات على أصوات أكثر من غيرها؟ في هذا النموذج يتم توسيع مفهوم الشعب عن طريق ضم جميع الأفراد إليه طبقة بعد طبقة، ولكن مع الاعتراف بالانقسامات الطبقية، بل تكريسها عن طريق تمثيلها في مؤسسات تعبر عنها لكي تكون المصالح الطبقية قابلة للتفاوض فيما بينها. وعلى العكس يتم تذويب الفروقات الثقافية والحضارية عن طريق هضم الأقليات الإثنية باستخدام القهر المؤسساتي للدولة وخلق «شعب» متجانس لغوياً وثقافياً، ولكن ليس عن طريق العنف المباشر بالتطهير أو بالإبادة (ما عدا بالطبع حالات الاستيطان الكولونيالي حيث مورست أبشع أشكال جرائم إبادة النوع في قارة أميركا مثلاً). يمكن القول باختصار أنه في هذا النموذج تتغلب الطبقية على الإثنية وتنسخها.

لم تجر الأمور على نفس النحو في مناطق وسط وشرق أوربا، ولذلك أسباب عديدة. أولاً، لأن المثال الديمقراطي عندما وصل إليها كان قد استقر في الغرب على أن الشعب يمثل كافة أفراد المجتمع الذي يكوّن الدولة بدون استثناء. ثانياً، لأن مفهوم الدولة نفسه كان قد تطور في الغرب لكي تصبح أكثر فعالية تجاه مواطنيها، مسؤولة عن تأمين البنية التحتية والتقدم الاقتصادي والرفاهية الاجتماعية والجيش الوطني. لقد باتت الدولة المشروع الأخلاقي الرئيسي للمجتمع. ثالثاً، لأن هذه المناطق كانت تحكم من خلال إمبراطوريات سلالية متعددة الإثنيات. تلك السلالات الحاكمة لم تكن تسعى إلى تجانس المجتمع عن طريق تطهيره إثنياً، بل على العكس تسمح ببقاء الأقليات الموجودة، بل وتشجع على استجلاب أقليات من الخارج أيضاً، ولكن حكمها لم يكن على أية حال على أساس التعددية الثقافية أيضاَ.

لقد كانت السلالة الحاكمة تعتمد بشكل كبير على نخبة من لبّ جماعة قوية، إثنية أو دينية واحدة بعينها، حيث تقوم هذه النخبة بالتحكم بباقي الجماعات وإخضاعها للحكم عن طريق إقامة علاقات زبائنية مع النخب في تلك الجماعات. عندما تحل الحداثة أخيراً، ويدخل الناس في عصر الديمقراطية، ويطالب الشعب بحقه في الحكم، تكون صورة الصراع هنا على شكل صراع بين إثنية بروليتارية مضطهدة في مواجهة إثنية امبراطورية مستبدة، مواجهة أشبه بنضال تحرري للتخلص من نير حكم أجنبي، وتحقيق الاستقلال للأمة المظلومة. في هذه الحالة يصبح كل أفراد الإثنية الواحدة، بغض النظر عن انقساماتهم الطبقية، جسماً عضوياً واحداً هو الشعب الذي من حقه أن يحكم مستقلاً عن الإثنيات الأخرى. مما يعني أنه يجب العمل على تطهير الدولة من الإثنيات الغريبة أو إجبارها على التخلي عن هويتها تماماً حتى لو كان ذلك عن طريق استعمال أشد أشكال العنف قسوة، أي التطهير الإثني.

نرى هنا إذن كيف أنه على عكس النموذج السابق يختلط الإثني بالطبقي وتتغلّب الإثنية على الطبقية وتنسخها. وعلى نقيض النموذج السابق، فإن هذا لا يؤدي إلى توسيع المفهوم بحيث يضم أفراداً جدداً إلى الشعب بشكل مستمر ودائم، بل على العكس يعمل على الإقصاء والاستبعاد والإلغاء.

لقد تقدمت بكل السرد التاريخي السابق (وأرجو أنه لم يكن مملّاً كثيراً!) من أجل الوصول إلى هذه النقطة بالتحديد، لأن عليّ أن أصل أخيراً إلى معالجة كيفية تكوين مفهوم الشعب عندنا هنا حسبما كشفت عنه الثورة السورية.

أزعم بأن الحالة في سوريا تنتمي في كثير من جوانبها البنيوية إلى النموذج الثاني العضوي الذي سبق ذكره في مناطق وسط وشرق أوربا، مع وجود عناصر مهمة أيضاً من النموذج الأول. وأعتقد أن لدي ما يبرر هذا الزعم ويؤكده.

أولاً، من ناحية الظروف التاريخية نجد أنها تشابه ما قلناه سابقاً عن مناطق شرق ووسط أوروبا: لقد تأخر وصول المثال الديمقراطي إلى سوريا بعدما كان قد استقر تماماً في معظم دول العالم، وبات من البديهي أن الشعب كله يجب أن يحكم. ثانياً، مثلما كان الحال هناك، كان مشروع الدولة أيضاً هو المشروع الأخلاقي الرئيسي للمجتمع السوري منذ تفكك الإمبراطورية العثمانية وانشاء الكيان السوري، وكان المطلوب دائماً من هذه الدولة الناشئة أن تحل جميع المشاكل الاقتصادية والاجتماعية وأن تؤمن الرفاهية والحماية لمواطنيها. وأخيراً، إن سوريا بمجتمعها شديد التنوع الإثني والديني والعرقي لديها تاريخ طويل جداً من الوقوع تحت الحكم الإمبراطوري، تحت الحكم العثماني في البداية، ثم تحت وصاية الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية. إن التجربة شبه الليبرالية التي عاشتها بعد الاستقلال لم تكن طويلة ولا عميقة بما يكفي لكي تترك أثراً سياسياً أو اجتماعياً كافياً لتغيير طبيعة المجتمع السوري، وسرعان ما عادت تحت حكم يشبه في كثير من الأوجه طبيعة الحكم الإمبراطوري القديم مع استيلاء عائلة الأسد على السلطة. وإن كان حكم آل الأسد يخلو تماماً بطبيعة الحال من فخامة وعظمة حكم آل البوربون أو الهابسبورغ أو الرومانوف أو حتى آل عثمان الإمبراطوري! ما نقصده هنا أن نشير إلى البنية السياسية المتشابهة في كلتا الحالتين؛ لدينا هنا عائلة تحكم منذ نصف قرن بالاعتماد على نخبة تنتمي إلى لبّ إثنية قوية هي جماعة العلويين. هذه النخبة التي تسيطر على أهم أداة في يد الدولة وهي الجهاز الأمني-العسكري الضخم، لا تحكم فقط عن طريق القمع والإرهاب والرعب والجريمة كما يشتهر عن النظام الأسدي، ولكنها أيضاً تهيمن على باقي الجماعات السورية عن طريق إقامة علاقات مصالح زبائنية مع نخب هذه الجماعات تجعلها دائماً مرتبطة بها وخاضعة لها. وهنا أيضاً تصبح الإثنية المرتبطة بالنظام إمبراطورية ومسؤولة عن حماية هذه الإمبراطورية، فيما تشعر الجماعة المحكومة بأنها أمة مقهورة تحكم من قبل طرف غريب. كل هذا بالطبع ناتج عن طبيعة الحكم الإمبراطوري نفسه، ولكن الأمر يزداد حدة في سوريا بسبب الإختلاف الثقافي الكبير بين النخبة العلوية الحاكمة والأغلبية السنية المحكومة، مما يزيد من شراسة النظام في ممارسة الحكم، ويزيد في المقابل من شعور المحكومين بالذل والمهانة. هناك إمكانية كبيرة إذن لأن يهيمن تصور الإثنية على مفهوم الشعب عند حدوث الإنفجار الديمقراطي.

لقد فتحت الثورة السورية منذ 18/3/2011 الباب واسعاً أمام انخراط السوريين جميعاً، بكل فئاتهم، في الميدان السياسي العام. وإذن، فقد حلّت الديمقراطية أخيراً، وبات مطلب الحرية على كل لسان، فما الذي حدث بعد ذلك؟

الذي حدث أنه عقب عملية التحشيد السياسي والإعلامي الضخمة التي قام بها كل من النظام وأنصار الثورة، تصرف العلويون ككتلة إثنية واحدة متماسكة، وقفت وراء النظام للدفاع عنه بدون تردد، فيما حاولت باقي الأقليات البقاء على الحياد، وإن كان حيادها إيجابياً في البداية لصالح النظام لتوجسها من طبيعة الحكم السني، ثم سرعان ما انقلب إلى تأييد لبقاء النظام عندما أخذت الثورة طابعاً إسلامياً متزايداً وظهر خطر التطرف الإسلامي. أما الإثنية الكردية فقد تصرفت وفقاً لمصالح مشروعها القومي الخاص الذي كان يتطور منذ وقت سابق. وفي المحصّلة فإن كل واحدة مما يسمى بالأقليات في سوريا تصرفت على أنها جسم إثني واحد بغض النظر عن الفوارق الاجتماعية والطبقية في داخلها، وهنا يهيمن إذن النموذج الإثني حيث تتغلب الإثنية على الطبقية.

ولكن ماذا عن الأكثرية السنية؟لم تستطع الأكثرية السنية أن تتماسك كإثنية واحدة، ولهذا عدة أسباب بنيوية هذه بعضها: أولا لأن السنة ليسوا جماعة منظمة على أساس طائفي مغلق، وليست لديهم هرمية دينية تقودهم كطائفة محددة، وإنما هم بغالبيتهم مسلمون عاديون يتبعون الإسلام الشعبي الشائع. ثانياً لأن السنة في سوريا ينتمون إلى أكثر من عرق وقومية، فمنهم العرب والكرد والشركس والتركمان. وثالثاً، وهو الأهم بالطبع، إن المجتمع السني مرتب منذ زمن طويل وبصورة عميقة للغاية على أساس طبقي واضح. هناك سنة المدن في مقابل سنة الريف، وهناك البورجوازية السنية في مقابل الطبقات الشعبية من فقراء السنة، هناك الطبقة المتوسطة الحديثة من أبناء السنة في مقابل أبناء الحمولات والأفخاذ والعشائر، الخ. إن هذا لا يتيح للسنة أن يتصرفوا كإثنية واحدة، أي كجسم عضوي واحد لا مكان للانقسام فيه، ولا كشعب له مصلحة عامة مشتركة بحيث يمكن للطبقات الاجتماعية فيه، مهما كانت مصالحها مختلفة، أن تتفاوض فيما بينها من أجل تسوية هذه المصالح وتحقيق المصلحة العامة. نرى هنا كيف يعمل النموذج الطبقي بحيث يهيمن الترتيب الاجتماعي على الفرز الإثني، ولكن طبعاً بدون أن يكون لهذا العمل أية نتائج سياسية تؤدي لأن يعمل السنة جميعاً من أجل مشروع سياسي واحد، ذلك أنهم يفتقدون بالأساس السلطة السياسية التي يمكنها أن تدير عملية التفاوض، ويفتقدون قبل ذلك المؤسسات التي تمثلهم والتي يمكنهم التفاوض من خلالها. هذا الأمر جعل كل طبقة من السنة تقف من الصراع الجاري الموقف الذي تعتقد أنه يتوافق مع مصلحتها الطبقية أكثر، ووجدنا أن البورجوازية السنية والشرائح العليا من الطبقة الوسطى اصطفت مع النظام، فيما حمل أبناء الريف والطبقات الفقيرة من السنة عبء الثورة وحدهم. وقد كان هذا العبء كبيراً جداً لدرجة المأساة الإنسانية، لأن النظام الأسدي والشعب الذي يؤيده تعامل مع هذه الشرائح السنية الثائرة ضده كإثنية غريبة، وشن ضدها حرب تهجير وإبادة جماعية بالسلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة والحصار والتجويع بهدف تهجيرها أو إبادتها في أول عملية تطهير إثني على أساس طبقي تجري في التاريخ، ولا يشبهها –بشكل مقلوب ربما- إلا عملية التطهير لطبقة الكولاك الروسية التي قام بها نظام ستالين الشيوعي.

في النهاية أصبح لدينا في سوريا مجموعة من الشعوب، وليس فقط الشعب الأول الذي «يريد إسقاط النظام». هناك الشعب الذي يريد بقاء النظام أيضاً، إضافة إلى الشعب الذي لا يريد إلا السلامة والاستقرار في منطقته بغض النظر عن أي شعار، وأخيراً الشعب الذي لا يريد إلا أن يحصل على ملجأ يأويه في دول النزوح والهجرة. يتوضح أخيراً أن مفهوم الشعب الذي بدا لنا في البداية بسيطا بساطة مطلقة وواضحاً إلى حد البداهة ليس في حقيقة الأمر كذلك، وخاصة في مجتمع معقد مثل المجتمع السوري. وأكثر من ذلك وجدنا أن هذا المفهوم ملتبس في الحالة السورية التباساً مضاعفاً؛ مرة بشكل إثني من جهة جماعة العلويين والأقليات المتحالفة معها، ومرة أخرى بشكل طبقي من جهة المجتمع السني. وإذا أضفنا إلى هذا الالتباس المضاعف الالتباس الكبير الذي جاء مع الإسلام الجهادي، والطائفية الشيعية، حيث أن كليهما عابران للشعوب والإثنيات والطبقات ويفدان إلى سوريا من كافة بقاع الأرض، بات الاختلاط في مفهوم الشعب شديداً إلى درجة أنه تقريباً لم يعد له أي معنى واضح على الإطلاق.

الالتباس في مفهوم الشعب بين تعريف الشعب على أنه «العامّة»، وتعريفه على أنه «الجماعة»، قابلية أصلية كامنة فيه دائماً إذن. وهي تحدث دائماً في كل مرة تحلّ فيها الديمقراطية في منطقة متعددة الإثنيات، عندما تحين ساعة موت النظام الاستبدادي الإمبراطوري القديم، ويطلب الناس فيها الحرية. ومأساة الحرب الأهلية التي تنتج عن هذا الالتباس هي الانحراف الخطير الذي يصيب ظاهرة الديمقراطية نفسها، وعندها لا يظهر من الديمقراطية –للأسف- إلا جانبها الأسود فقط.