في مقاله «أخلاق مشتركة لعالم متناثر» هاجم عدي الزعبي النسبوية ناسباً إليها عطباً أخلاقياً جوهرياً لاخلاص لها منه، فهي بارتباطها التلقائي مع الاعتقاد بوجود جواهر ثقافية ثابتة للشعوب تمسي عاجزة عن إدانة الفظاعات التي ترتكب، بل ولحدٍ ما فإنها تبررها باعتبارها نتاج ثقافة تلك الشعوب. النسبوية ليست إلا استشراقاً معكوساً، تتبنى فكرته المركزية حول الثقافات الشرقية، ولكنها تلحقها بحكم قيمة معكوس يفضل الشرق على الغرب هذه المرة. وعليه فإن النسبوية عاجزة وبشكل لامناص منه عن الدفاع عن موقف أخلاقي، أو حتى عن إدانة فظاعة ما.

عدي، وفي سياق هجومه على النسبوية، لا يحيل إلى أي فيلسوف «نسبوي» مهتم بالأخلاق، بل يستند بالتمام على عمل سعيد «الاستشراق». وهو ليس عملاً فلسفياً معنياً بالموضوع من ناحية، وسعيد نفسه ليس حجة على النسبوية أيضاً. الاسم الآخر هو فوكو والإحالة عليه سريعة فيما يتعلق بالموقف النسبوي، وليس الأخلاق. يتعامل عدي مع «النسبوية» بسوء فهم تام للفكرة وينسب لها ما ليس منها. ويمكن للمرء أن يتفهم سوء الفهم هذا باعتبار المصادر التي أحالنا عليها، «استشراق» سعيد وقرَّاؤه العرب والمسلمون أساساً.

إن الإدعاء أن النسبوية تعاني عجزاً أخلاقياً لا يقتصر على عدي، وهو كثيراً ما كُرر بما يخالطه من سوء فهم في أحيان كثيرة. ولنبدأ بأن هذا النعت «النسبوية» يُستخدم في الغالب من قبل الخصوم، وعليه فإنني سأتحدث عوضاً عن النسبوية، عن السياقية (Contextualism) والعدمية (Nihilism)، والأخيرة ذات وقع أسوأ كما يبدو، ولكنها أساسية، وسأستخدمهما تبعاً للسياق.

ما سأحاوله هنا هو القيام بمهمتين: الأولى هي تقديم فكرة عامة عن الاعتراضات الأساسية التي قدمتها التيارات السياقية ضد الفهم المتعالي والكوني للأخلاق، وبالتالي توضيح الفكرة المركزية لها. والثانية هي معالجة عملية لمواقف فيلسوفين «سياقيين» أو «نسبويين» للشأن الأخلاقي، كي لا يبقى حديثنا معلقاً في الهواء.

النقد

إن الادعاءات ذات الطبيعة الكونية للأخلاق قامت عموماً على إحدى الدعامتين، الأولى تقرر امكانية تحويل الأحكام الأخلاقية وبطرائق علمية إلى نوع من القضايا المنطقية التي تقبل قيمة حقيقة «صحيحة أو خاطئة»، مثلاً أن نحكم بأن «الكرم أمر خيّر» هي جملة صحيحة. كي يكون هذا الافتراض شغالاً فعلينا أن نُثَبت معنى «المفاهيم الأخلاقية»؛ مفاهيم من نوع «الخير»، «العدل» أو «الحرية»، أي أن هذه المفاهيم تحيل إلى معان مستقرة باستقلال عن سياق المتكلم، وهو الشرط الأساسي في إدعاء كونيتها.

غير أن تثبيت المعنى غير ممكن في الموضوع الأخلاقي، فهل يمكن لنا أن نفهم الحرية باستقلال عن سياق المتكلمين وخبرتهم التاريخية، أو أن نتحدث عن العدل دون الإحالة إلى ما يعنيه المتكلمون، وهو متغير من زمن إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر، فالمفاهيم الأخلاقية كالخير والعدل ليست موضوعات خارجية ومستقلة عنا لنستطيع أن نتكلم عنها صواباً أو خطأً.

ربما يجادل المرء أن هذا ممكن بالفصل بين التجلي التاريخي للمفهوم في سياقات معينة، والمعنى العام والمشترك له بين هذه السياقات. هذا الادعاء يفترض به أن يبرهن على «وجهة» المسيرة التاريخية للسياقات المتباينة بما يمكّن من استكشاف ماهو عام فيها. غير أن هذا الخيار يستدعي فلسفة للتاريخ لايريدها عدي ويرغب كثر باجتناب إشكالياتها، رغم اعتقادي أن أي فلسفة متعالية للأخلاق لا مناص لها من أن تقوم على نوع ما من فلسفة التاريخ.

الانطلاق من تشابهنا وتماثلنا لا يفيد في هذا المقام، فنحن بيولوجياً متماثلون، ولا خلاف في هذا. لكننا لا نستطيع، انطلاقاً من عبارات علمية، استنتاج أحكام ملزمة أخلاقياً، فالعبارات متباينة على مستوى البنية، وهناك هوة لا يمكن ردمها بين العبارة العلمية «الوصفية» وعبارة «يجب» التي تحيل إلى إلزام أخلاقي.

الدعامة الثانية هي فلسفة الذات كما تجلت عند كانط، والتي تحيل إلى ذات متعالية ومعزولة عن أي سياق واشتراطاته، وقادرة اعتماداً على معايير عقلانية وشكلانية على استنتاج أحكام أخلاقية صالحة وعامة. هذا التصور للذات هو ما سيكون هدفاً للنقد، فلا وجود لمثل هذه الذات المنفصلة عن سياقها التاريخي والاجتماعي، وما أحكامها العامة إلا صياغة لخبرات عصرها ومجتمعها وقد لبست لبوس التعميم والإطلاق القيمي والعقلي، بما فيه تصورها عن الحقيقة.

يتوجب على من يدعي وجود أخلاق كونية البرهنة على قيم أخلاقية كونية (عبر تثبيت معناها)، وقواعد شكلانية عامة لاستخلاص الأحكام الأخلاقية. كلتا المهمتين تستدعيان ذاتاً متعالية معزولة عن سياقها التاريخي، وهو تماماً مايحتج عليه السياقيون. لاوجود لما هو خارج السياق، ولا امكانية لاستخلاص المعنى إلا بالاحالة على السياق.

ربما يبدو الآن واضحاً أن ما نعنيه بالسياقية «النسبوية» هو التأكيد على أن جميع أحكامنا الأخلاقية (وحتى غيرها)، مؤسسة في سياق تاريخي لا يمكن لها أن تُفهم بدونه، ولا وجود لأي إدعاء (بما فيه ادعاءاتي الخاصة التي أكتبها الآن) خارج هذا السياق، وشروط المحاججة التي نقبلها داخله ونحيل إليها.

السياق هو تاريخي ولا يقبل التثبيت، وعليه فلا معنى للحديث عن جواهر ثقافية ثابتة للشعوب، فهي ستبدو كنوع من الانتحار الذاتي. لنأخذ مثلاً الثقافة الإسلامية، إن التأكيد على فهم سياق الثقافة الإسلامية لدى أي نقاش بصدد القيم الأخلاقية الخاصة بها لا يعني أن هذه الثقافة ذات جوهر ثابت نحيل إليه، إنما على العكس. الهدف هو إظهار الطبيعة السياقية للثقافة الإسلامية نفسها. هناك تأويل أشعري انتصرت له في السلطة مقابل تأويل معتزلي، وآخر صوفي ورابع شيعي وهلم جرا. هذه التأويلات المتباينة لها سياقاتها وقد انتصرت أو اندثرت بتأثير نزاعات السلطة التي تحيل هي الأخرى على سياقات اجتماعية واقتصادية، تماما كما أن للدارس التاريخي سياقه الخاص لدى إعادة قراءته لهذا التاريخ. كل القيم الأخلاقية «الإسلامية» تحيل إلى تأويل معين للإسلام.

لا وجود لشيء اسمه «الإسلام الحقيقي»، أي المعنى الثابت والأصيل له، بل إننا لا نملك امكانية الوصول إلى فهم الرسول والصحابة أنفسهم، وإنما هناك فقط تأويلاته المتباينة والمتنوعة. لاوجود لمعنى نهائي وبرهان نهائي نستند إليه في تبيان الحقيقة، وهذا هو معنى العدمية. كل مانملكه هو تأويلات وليس هناك جواهر ثابتة.

مقاربات

سأعرض هنا على سبيل المثال عملي فيلسوفين معاصرين قدما مساهمتهما في موضوع الأخلاق من وجهتي نظر مختلفتين، وقد اتُهم كلاهما بالنسبوية.

الأول هو ريتشارد رورتي (1931 – 2007) Richard Rorty, Philosophy and Social Hope. 1999. Penguin Books. والذي استند إلى مقاربة براغماتية مؤسسة على عمل جون ديوي. فهو يرى -تأسيساً على ديوي- أن الأخلاق والقانون يتشابهان من حيث الطبيعة، باعتبارهما أحكاماً عملية تتصل بمواضيع شائكة اجتماعياً. وتحدد قيمة الأخلاق بالقياس إلى منفعتها. وهنا يميز بين المتعة والسعادة، باعتبار أن الأولى تحيل إلى المنفعة الأنانية بينما تحيل الثانية إلى المنفعة العامة، المنفعة لعدد متزايد من البشر. الأخلاق هي توافقات لأجل فائدة عدد متزايد من البشر أمام مشاكل اجتماعية تواجههم.

التقدم الأخلاقي يُفهم -لديه- باعتباره تزايداً في الحساسية/التعاطف بين أعداد متزايدة ومتنوعة من البشر. فالأهل سيهتمون بإطعام أطفالهم الذين تربطهم بهم رابطة عاطفية للقرابة العائلية، ولكن لاحقاً سيهتمون بأطفال أقاربهم وأطفال الحي الذين يرتبطون بهم، والتقدم الأخلاقي هو تكبير هذه الدائرة من التعاطف تجاه الآخرين حتى تشمل عدداً متزايداً من الأطفال، حتى الذين لا تجمعنا بهم صلة أو قد لا نراهم. بالتأكيد لن يكونوا كأطفالي، ولكن التعاطف والاهتمام بما يحقق المنفعة لعدد أكبر من الناس هو صلب التقدم الأخلاقي.

لا يسلِّم رورتي بمعايير كونية وعامة كأساس للأخلاق ولحقوق الإنسان، غير أنه يدافع عن حقوق الإنسان على أساس براغماتي يتمثل في فائدتها وليس انطلاقاً من معايير من نوع «الحقوق الطبيعية». بل إنه يدفع النقد قليلاً للأمام، ليؤكد أن من يدافع عن «حقوق الإنسان» انطلاقاً من معياريتها فإنه سيتوقف عندها ولا يستطيع تجاوزها، بينما الدفاع عنها انطلاقاً من البراغماتية يجعلها ممكنة التجاوز باتجاه ماهو أفضل لاحقاً، فهي ليست إلا لحظة في سياق التطور التاريخي. ربما كانت الحقوق الاجتماعية والاقتصادية مثل جيد عن فكرته حول الموضوع، فهي لم تكن جزءاً من حقوق الإنسان المعيارية ذات الأصل الليبرالي، ولكنها اُدرجت لاحقاً كنتيجة لنضالات الشعوب والتأثير اليساري، وهاي هي اليوم تعود لتذبل وتختفي. إن توسيع فكرة حقوق الإنسان وتقليصها لاحقاً ارتبطتا بالسياق التاريخي ونزاعاته (وإن أحالتا على معيارية ما، ولكن ماهو المعيار؟)، ولكن رورتي كبراغماتي سيدافع عن مفهوم متسع لحقوق الإنسان انطلاقاً من فهمه البراغماتي، بحيث تؤدي إلى فائدة عدد أكبر من البشر وليس اعتماداً على معيارية متمثلة بحقوق طبيعية.

هو يقبل ملاحظة نيتشه حول أخلاق الضعفاء، ولكنه لا يرى أن هذا القبول يستدعي رفض حقوق الإنسان، إنما هو موافقة تتعلق بكيفية تحققها التاريخي ولا يؤثر على قبولنا أو رفضنا لها من حيث المبدأ. نيتشه قد يكون مصيباً فيما يتعلق بدوافعها، غير أن قبولنا أو رفضنا لها متعلق بفائدتها لعدد متزايد من البشر. بل أنه لا يدين المجتمعات التي تتبنى معايير أخلاقية مناهضة لحقوق الإنسان وحتى أشكالاً للاستبداد انطلاقاً من موقف معياري، إنه أمر مؤسف ومرفوض وعلينا النضال ضده، ولكن أيضا على أساس من محاججة براغماتية، هي أخلاق سيئة ليس لعلة تعارضها مع معايير عامة، إنما لأنها مضرة ولا تأتي بالفائدة على الناس، والدليل أننا لا نريد أن نحيا في مثل تلك المجتمعات، بل وإن توفرت الفرصة لأبناءها فإنهم سيغادرونها، هذا هو المعيار ولا حاجة بنا لما هو متعالٍ.

مقاربة جياني فاتيمو (1936)Gianni Vattimo, Nihilism and Emancipation.  2004. Columbia University press. التأويلية/العدمية تستند أساساً على تجاوز الميتافيزيقيا (Verwindung der Metaphysik)، لدى هايدغر، فنقطة انطلاقه تتمثل برفض الحقيقة وادعاءاتها والاستعاضة عنها بتأويلات الحقيقة، فكل مانقوله عن الحقيقة ليس إلا تأويلاً لها، تأويل منغرس بشكل لا فكاك منه في سياقه التاريخي، فلا وجود بالتالي لما هو خارج اللغة التاريخية، وهذا ينطبق على فكرة الحقيقة نفسها، فهي كفكرة لها أيضاً سياقها وتاريخها. إننا نتحدث دوماً انطلاقاً من رؤية العالم (Weltanschauung) الخاصة بنا. هذا ما يسميه فاتيمو بالعدمية، وهي تمثل خبرة عصرنا الراهن وقدره، وهو يربطها بالتطور التقني الحاصل بوسائل الاتصال وخاصة الانترنت، فلكل منا دوران أو بعدان للخبرة، يتمثل الأول بدورنا كفاعلين ومنتجين لتأويلاتنا الخاصة بصدد الحقيقة، التي نعرضها ونحاجج الآخرين بغرض اقناعهم بها والوصول معهم إلى تسويات وتوافقات بصددها، والثاني -وهو الأهم- دورنا كسواحٍ في متحف التاريخ. كسواح فإننا ندرك الطبيعة التاريخية لإداعاءات الحقيقة المتنوعة العائدة لحضارات مختلفة بعضها قد زال وبعضها مايزال حياً، ولكن الأهم هو إدراكنا لتاريخية ادعاءاتنا الخاصة بالحقيقة. هذه اللحظة هي ما يعتبره فاتيمو تحقق ملاحظة نيتشه بصدد «الإنسان الأعلى»، فهذا الإنسان لا يكتفي بإنتاج المعنى لعالم زال منه الله، إن ما يميزه تحديداً هو إدراكه لنسبية وتاريخية المعنى الذي ينتجه.

اعتماداً على مقاربة فاتيمو التأويلية/العدمية فما هي الأخلاق التي يمكن لنا أن ننتظرها منه؟ فاتيمو يقدم لنا الليبرالية والتحرر، ولكن على أساس عدمي هذه المرة دونما الحاجة لتصورات متعالية عن الأخلاق. إن كان كل منا مدرك لنسبية ادعائه الخاص عن الحقيقة، وأن لا حقيقة منتظرة في الخارج لنكتشفها، ولهذا لا يحق لأحد منا أن يتحدث باسمها، فإنه لا يبقى لنا عندها إلا أن نتفاهم ونتحاور بصدد اداعاءاتنا للوصول إلى معايير مشتركة ومتوافق عليها وتقوم على احترام تنوعاتنا واختلافاتنا. إن شرعية هذه المعايير لا تقوم على «معياريتها» إنما على قابليتها للتواصل والنقاش بصددها ولاحقاً تجاوزها.

أيا يكن تصورنا للسياق ولمتطلبات المصداقية فيه (تأويلي أو براغماتي)، فنحن لسنا عاجزين عن الدفاع عن مواقف أخلاقية ولا عن إدانة فظاعات. هذا العجز ينتج عن فكرة موهومة وهي «الجوهر الثابت» وهي على أية حال ليست إلا نتاج سوء فهم عن النسبوية، ما يحال إليه هو التأكيد على الطبيعة السياقية وبالتالي نزع القناع عن أية ادعاءات أخلاقية متعالية، بما فيها ادعاءات من نوع «ثقافتنا» و«قيمنا الأخلاقية» و«تقاليدنا الأصيلة»، فهي أيضا ليست إلا تستراً من نوع آخر، والسياقية تسعى للكشف عن الطبيعة التعسفية لمثل هذه الادعاءات، وإظهار الرهانات والنزاعات التي شكلت السياقات التي نشأت فيها، وإمكانية وقابلية وجود تأويل مغاير.

ديكتاتور كوريا الشمالية أو آل الأسد أو ملالي طهران أوآل سعود، باعتبارهم أمثلة على الفظائع والجرائم التي ارتكبوها بحق شعوبهم، لم يصدروا عن «فلسفة نسبوية»، بل إنهم يستندون إلى ادعاءات عامة ومطلقة حول الحقيقة؛ معنى التاريخ، التقدم والعلمانية، الإسلام السني أو الشيعي كرسالة الله إلى جميع البشر. يستطيع المنافحون عن معايير أخلاقية كونية أن يدينوهم لانتهاكهم قيماً كونية، وهي ادعاءات من ذات النوع الذي باسمه ارتكبت تلك الجرائم. ولكن يستطيع النسبوين/السياقيون أيضاً أن يدينوهم ليس باسم معايير كونية، إنما لتدميرهم السياق نفسه، السياق الممكن للتواصل والتفاهم بيننا، والكشف عن زيف ادعاءاتهم ولا اتساقها وطبيعتها الكلبية.

طبعاً لا أود أن أقول أن المرء لا يمكن له أن ينتقد الموقف السياقي والعدمي، بل ربما هناك الكثير مما يستحق النقد، وكذلك هو الحال مع الموقف المعياري بصدد الأخلاق، وإن كنت أعتقد أن الأخير سيواجه متاعب أكثر من السياقين. ما أردت قوله أن ما قدمه عدي من نقد هو مما لا يستقيم، وناتج عن سوء فهم للسياقية.

هناك اعتراض دوماً ما يثار تجاه النسبويين وهو الاتساق الذاتي، كيف تبررون موقفكم الخاص؟ لن أعمم الموقف السياقي على جميع أنماط الكلام، ولكن فيما يتعلق بالموقف الأخلاقي فلا أعتقد بوجود مشكلة من هذا النوع أقله على المستوى النظري، باعتبار ملاحظة فاتيمو حول العدمية كقدر وخبرة عالمنا المعاش.

لأختم بمثال بسيط: لنفترض أن أحدهم (من القاعدة مثلاً) يحاول أن يقتلنا لأننا كفار بحسب رؤيته الخاصة للعالم، لن يملك العدميُ القدرة على إدانته باسم معايير عامة، لكنه سيعترض على انتهاكه للسياق، وإعطاء نفسه حقاً – حق انتزاع الحياة – بناءً على تصور غير متسق بصدد الحقيقة، ولكن لا إمكانية له على فرض تصوره الخاص عليه، وفي النهاية عليه أن يتعامل بشكل عملي مع الموقف. أما المعياريُ فإنه سيدين هذا العمل باعتباره جريمة تنتهك المعايير الكونية ومنها حقنا بالحياة، ولكن في هذه اللحظة ليس لديه الوقت الكافي للمحاججة، ولن يستطيع أن يخوض نقاشاً جدياً مع من يوجه السلاح لرأسه. في مواجهة واقع الفظاعات الفعلية فإن المعياري لا يملك أية أفضلية مشتقة من «المعايير الكونية». في كلتي الحالتين سيتوجب على الاثنين أن يبادرا إلى استخدام العنف وتخليص الجاني من سلاحه، والمعايير لن تنفع في هذا الوضع.

لا بأس، إلى هنا تنتهي مهمتنا كعدميين، ولكن الاختبار الجدي للمعياريين يبدأ من هذه اللحظة، عليهم أن لا يكتفوا بإدانة ما حصل، بل عليهم أن يقنعوا المجرم بأنه كذلك!