لم يقم حزب الله اللبناني بتغيير قواعد اللعبة، بل لعلّه قام بتثبيتها تماماً عندما ردّ في مزارع شبعا اللبنانية المحتلة. لم يتم فتح جبهة في الجولان، ولم تندلع حرب شاملة، بل إن ما حدث كان رسالة لإسرائيل مفادها «أننا لا نزال قادرين على إيلامكم وإلحاق بعض الأذى بجنودكم وضباطكم، لكننا موجودون في جنوب سوريا فقط لقتال المسلحين المناوئين للأسد ومنعهم من التقدم صوب دمشق، فكفوا عن غاراتكم على مقاتلينا هناك».

لندع ما حدث جانباً، ولنتخيل ما لم يحدث. دعونا نتجاوز الاستحالة الميدانية لقيام حزب الله بتنفيذ عمليات عسكرية أو خوض قتال عبر جبهة الجولان التي خسرت قوات النظام السوري معظمها أصلاً، ونذهب إلى تخيل عملية عسكرية لحزب الله في مستوطنة «كاتسرين» في الجولان السوري المحتل، أو ضد مواقع «جيش الدفاع الإٍسرائيلي» في جبل الشيخ. ترى ما الذي كان سيحدث لو أن رداً كهذا حصل على «حدود إسرائيل الشمالية»؟

[quotes]لكل حرب مفرداتها ومساراتها التي تؤثر في أنماط الخطاب السائدة، وتتأثر بها في الوقت نفسه.[/quotes]

سيناريوهات سياسية وعسكرية عديدة يمكن أن تحدث في إعقاب عملية كهذه، سيكون محورها انهيار القواعد التي احترمها النظام السوري وحلفاؤه في جبهة الجولان منذ عام 1974، وهو ما سيترتب عليه إعادة خلط الأوراق في المنطقة، وربما إعادة صياغة التحالفات فيها. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى استعادة النظام السوري بعضاً من تماسكه وهيبته و«شرعيته»، كما أنه قد يؤدي إلى نقيض ذلك من قبيل انهيار شاملٍ لقواته في جنوب سوريا إذا ما استهدف الطيران الإسرائيلي مواقعه العسكرية على نحو مُركَّزٍ وحاسم.

لا يستطيع أحد على أي حال الجزم بنتائج معينة لمعركة متخيلة كهذه، لكن مآلاتها ستكون رهينةً بصراع المصالح الإقليمي والدولي في المقام الأول، كما أنها ستتأثر إلى حد بعيد بمسارات الصراع العسكري والسياسي بين القوى المختلفة في داخل سوريا. على أن ما يسترعي الوقوف عنده هو التغيرات التي يمكن أن تلحق بأنماط الخطاب السائدة، ذلك أن لكل حرب مفرداتها ومساراتها التي تؤثر في هذه الأنماط، وتتأثر بها في الوقت نفسه.

لن يواجه خطاب أنصار النظام السوري ومحوره الممانع مأزقاً حاسماً ما لم يتعرض محورهم لهزيمة كبرى جراء هذه الحرب المفترضة، بل إن انتهاء صراع المصالح الإقليمي والدولي إلى نجاة الطغمة الحاكمة في دمشق، سيؤدي بأنصارها إلى المزيد من التصلب والتصعيد في خطابهم، وسيعني قناعة راسخة لديهم بأنهم كانوا محقين في مجمل مواقفهم إزاء الثورات العربية.

لكن ما سيكون في مواجهة مأزقه الكبير، هو مجمل خطاب الثورات العربية، أو لنقل خطاباتها المتعددة بتعدد المنطلقات الأيديولوجية لأصحابها. تلك الخطابات التي عجزت حتى اللحظة عن صياغة إجماعٍ على أسس راسخةٍ مركزها الدفاع غير المشروط عن حق عموم البشر في الحرية والكرامة، بصرف النظر عن أية صراعات إقليمية تخوضها الأنظمة التي تحكم هؤلاء البشر مع الخصوم الخارجيين.

[quotes]الطغيان هو الطغيان، سواء كان طغيان إسرائيل على حقوق الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين في أرضهم ومقدراتهم، أو طغيان «محور الممانعة» أو غيره على حقوق الأشخاص أنفسهم في صياغة أنظمتهم السياسية وحياتهم ومستقبلهم.[/quotes]

الأرجح أنه كما كانت ثورة السوريين على نظام الأسد امتحاناً كبيراً لمنظري التغيير السياسي ودعاته في العالم العربي، عندما أوقعهم موقف نظام الأسد المناهض لإسرائيل في ارتباك كبير طيلة أعوام الثورة السورية الأربعة، فإن حرباً شاملة بين «محور الممانعة» وإسرائيل اليوم، ستقود الأشخاص أنفسهم إلى ارتباك أمر وأدهى، وستؤدي إلى فتح سجالات مشابهة لتلك التي نعرفها على نحو أعنف وأكثر توتراً.

على الرغم من النكبة التي ألحقها «محور الممانعة» بسوريا وأبنائها، فإن كثيراً من خصوم أنظمة الاستبداد العربية لم يصلوا بعد إلى قناعةٍ بأن الطغيان هو الطغيان، سواء كان طغيان إسرائيل على حقوق الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين في أرضهم ومقدراتهم، أو طغيان «محور الممانعة» أو غيره على حقوق الأشخاص أنفسهم في صياغة أنظمتهم السياسية وحياتهم ومستقبلهم. أما دليل ذلك فهو الإصرار الدائم على أن يوضع موقف النظام السوري من إسرائيل في الحسبان عند اتخاذ المواقف منه، وكأن تدمير حواضر بلاد الشام وقتل وتهجير أهلها ليس كافياً في ذاته لاتخاذ مواقف حاسمة لا رجعة عنها من النظام السوري وحلفائه.

على أي حال فإن رد حزب الله الذي لم يحدث، لن يحدث في المدى المنظور، بل إن توقع حدوثه الآن على نحو يقود إلى حرب شاملة فيه من الخفة السياسية وسوء الفهم الكثير. إلا إنه يحق لنا أن نسأل في سياق تخيلنا لرد حزب الله المفترض: ترى هل ثمة خارج «محور الممانعة» من يتوقع أو يتمنى أن يقاتل الثوار السوريون، أو من تبقى منهم، ضد إسرائيل تحت قيادة النظام السوري وحلفائه في نهاية المطاف؟ وهل إن استعادة النظام السوري لبعض من «شرعيته» التي سبقت الإشارة إليها، ستكون عبر انحياز كثيرٍ من خصومه الحاليين له في حرب جديدة قد يخوضها مع إسرائيل؟

لا شك أن هناك كثيراً من الأصوات الحاسمة في موقفها من الأنظمة الفاشية العربية، أصواتٌ يرى أصحابها أن الانتقال إلى أوضاع أكثر عدالةً وتحرراً حقٌ مطلقٌ لا صلة له بموقف مغتصبي هذا الحق من الصراعات الخارجية. لكنها أصواتٌ تبدو معزولةً وغير قادرةٍ على انتزاع مكانٍ لها تحت الشمس، ومن ثم الانتقال إلى ميدان الفعل السياسي المؤثر. وهو ما يعني أشياء كثيرة، من بينها أننا لم نبتعد كثيراً عن أنماط التفكير الشمولية التي أنتجت قبل نحو نصف قرنٍ جملةً رهيبةً عرفتها أجيالٌ من طلاب المدارس طيلة أربعين عاماً «إسرائيل لم تحقق أهدافها في عدوان عام 67، لأنها فشلت في إسقاط الأنظمة التقدمية في مصر وسوريا».