منذ اللحظة الأولى لوصول العسكر الأرجنتينيين إلى الحكم في آذار عام 1976، حين انقلب الجيش الأرجنتيني على النظام البرلماني وعزل ماريا استيلا مارتينيث دي بيرون
لا اتفاق حول عدد المُغيّبين قسراً في الأرجنتين خلال فترة الحكم العسكري (1976-1983)، إذ قدّرت أمانة حقوق الإنسان الأرجنتينية −التابعة للحكومة− عددهم بنحو 15 ألفاً، مستندة على عدد الدعاوي القضائية التي رفعتها عائلات المُغيّبين، فيما تذهب منظمات أخرى مستقلة إلى ضعف هذا العدد، مُعتبرة أن قسماً كبيراً من حالات التغييب لم تُقيّد عند القضاء واللجان الحقوقية التي شكلتها الحكومة الأرجنتينية بعد رحيل الحكم العسكري. قد تستحيل معرفة العدد الحقيقي للذين غيّبهم العسكر الأرجنتيني قسراً، لكن المؤكد هو أن فترة الحكم العسكري الأرجنتيني كانت المحطة الرئيسية في تحويل التغييب القسري إلى آلية ممنهجة للقمع السلطوي في التاريخ الحديث. لم يخترع العسكر الأرجنتينيون التغييب القسري، لكن الريادة في بناء ماكينة ضخمة تعمل على جعل معارضيهم يختفون، وكأنهم تبخروا، مُعلّقة كوسام إلى جانب نجوم رُتب ضباطهم الكبار، وعلى رأسهم خورخي بيديلا
للمفارقة، يعود لخورخي بيديلا الفضل في وضع الحجر الأول في بناء تعريف المُغيّب قسراً في خطاب المنظمات العاملة في هذا الشأن في أميركا اللاتينية. في خريف عام 1979، زار وفد من اللجنة الأميركية لحقوق الإنسان الأرجنتين تحت ضغط الاتهامات التي كانت الأوساط الأرجنتينية المعارضة قد أوصلتها إلى المجتمع الدولي، وبعد هذه الزيارة بأيام، ذكر يوحنا بولس الثاني، بابا الفاتيكان آنذاك، الأرجنتين في عظته الأسبوعية، مُشيراً بشكل خاص لقضية المُغيّبين القسريين. دعا خورخي بيديلا إلى مؤتمر صحفي أمام هذه الوقائع، لا سيما وأن كلام الحبر الأعظم كان محرجاً للمجلس العسكري، باعتبار أن العقيدة الكاثوليكية جزء جوهري من الخطاب الذي قُدّم كأساس لإعادة بناء للوطنية الأرجنتينية. عمل بيديلا خلال هذا المؤتمر الصحفي الشهير على تحويل كلام يوحنا بولس الثاني لصالحه برياء شديد، ولو اكتفى المستمع بمتابعة خطاب بيديلا دون الاطلاع على عظة يوحنا بولس الثاني لربما انتهى إلى الاعتقاد بأن الفاتيكان كان يمدح المجلس العسكري ودفاعه عن حقوق الإنسان والقيم الكاثوليكية في الأرجنتين. أسهب بيديلا في شرح التزام الأرجنتين بحقوق الإنسان كقيمة عالمية، وتعمّق في شرح منطلقاته الكاثوليكية في الالتزام بالحفاظ على حرية الإنسان وكرامته، شارحاً أن الانقلاب العسكري (عملية إعادة التنظيم الوطني، حسب لغة العسكر الأرجنتينيين) جاء بالذات من أجل الدفاع عن حقوق الإنسان ضد انتهاكات المخربين والإرهابيين، الذين يستهدفون حرية وكرامة الإنسان، ويحاولون تدمير القيم الأخلاقية والدينية للمجتمع الأرجنتيني. أمام سؤال للصحفي خوسي إغناثيو لوبيث حول إن كانت الحكومة العسكرية بصدد الإعلان عن إجراءات خاصة بموضوع المُغيّبين القسريين، خصوصاً بعد إشارة يوحنا بولس الثاني لمحنتهم، ردّ بيديلا ببرود:«ليس بإمكاننا القيام بأي إجراءات خاصة طالما هم مختفون. هم إشارة استفهام. غير موجودين. لا هويّة لهم. لا وجود لهم. لا هم أحياء ولا أموات. هم، ببساطة، مختفون».
يوم قدّم بيديلا ردّه البارد على سؤال المُغيّبين القسريين هذا، كانت ثلاث سنوات ونصف قد مضت على بدء ماكينة التغييب والإخفاء بالعمل. أيضاً، كانت ثلاث سنوات ونصف قد مضت على بدء حركة اجتماعية للمطالبة بحقوق وحرية المغيّبين القسريين، قوامها الأساس أمهات المُغيّبين القسريين.
أمهات ساحة مايو
ولدت ظاهرة «الأمهات» في نهاية نيسان 1976، أي بعد الانقلاب العسكري بشهر ونيف، حين التقت مجموعة صغيرة من أمهات مُغيّبي الأيام الأولى للانقلاب العسكري على باب مكتب سكرتاريا الكاهن العسكري الأرجنتيني، في محاولة للاجتماع به ومعرفة مصير أبنائهن. أمام فشل المحاولة، اتفقت مجموعة الأمهات هذه على أن جهودهنّ متفرقات لن تُجدي نفعاً، وأن تنسيق العمل وتجميعه أفضل، كما قررن التوجه لساحة مايو المقابلة للقصر الوردي، مقر الرئاسة الأرجنتينية. كانت الأحكام العُرفيّة السارية في الأرجنتين تمنع الاجتماع في الساحات والشوارع لأكثر من ثلاثة أشخاص بالغين. لذلك، مشت الأمهات بصمت، اثنتين اثنتين، في دائرة محيطة بالنصب الهرمي الموجود في وسط الساحة الشهيرة لمدة ساعة، ثم تفرقن على اتفاق الالتقاء بعد أسبوع، في نفس المسيرة الدائرية حول نصب ساحة مايو.
تحولت المظاهرات الدائرية إلى طقس أسبوعي عصر كل خميس، وزادت أعداد الأمهات أسبوعاً بعد أسبوع نتيجة تناقل الخبر بين الناس، وبدأت الأمهات بوضع منديل قطني أبيض على رؤوسهن كرمز تعريفي لهنّ، نفس المنديل الذي أضحى الرمز الأكبر لقضية التغييب القسري في أميركا اللاتينية. اكتفت السلطات العسكرية في الأشهر القليلة الأولى بالتأكد من تطبيق الأحكام العرفية، والإشارة للأمهات، عبر صحفيين موالين للانقلاب العسكري، وبمزيجٍ من الشماتة وادّعاء التفهّم، بأنهن «مجموعة من العجائز المجنونات». لكن هذا التجاهل المُحتقر تحوّل إلى رد فعل عنيف في الشهر الأخير من عام 1976، حين علمت السلطات العسكرية بنيّة الأمهات إصدار بيان جماعي ومحاولة إيصاله للصحافة داخل وخارج الأرجنتين، فقامت بخطف 12 شخصاً مرتبطين بحركة الأمهات، ثلاث مؤسسات، وراهبتين فرنسيتين، وسبعة من ناشطي حقوق الإنسان المتعاونين مع حركة الأمهات. انضم المخطوفون الـ 12 إلى قائمة آلاف المُغيّبين القسريين على يد المجلس العسكري الأرجنتيني، وما زال مصيرهم، كمصير آلاف المُغيبين الآخرين، مجهولاً حتى يومنا هذا.
لم يتوقّف حراك أمهات ساحة مايو بعد الضربة التي وجهها المجلس العسكري لهن، فالمسيرات الأسبوعية الدائرية في ساحة مايو لم تتوقّف، بل بدأت أعداد متزايدة من الأمهات بالمشاركة فيها، إضافة لأقرباء وأصدقاء المُغيّبين، ومتضامنين مع قضيتهم بشكل عام، كما بدأ التشبيك مع منظمات سياسية وثقافية أرجنتينية أخرى بقيادة هيبي دي بونافيني، إحدى مؤسسات «الأمهات». بونافيني «أمّ» مزدوجة، فقد خطف العسكر اثنين من أبنائها، إضافةً لزوجة أحدهما. تبوأت دي بونافيني المنصة القيادية في المنظمة منذ تأسيسها، وما زالت مستمرة، رغم عمرها (87 عاماً)، في عملها كناطقة باسم أمهات ساحة مايو إلى اليوم.
عام 1978، نظّمت الأرجنتين نهائيات كأس العالم لكرة القدم. اعتبر المعارضون للنظام العسكري الأرجنتيني أن منح المجتمع الدولي للأرجنتين فرصةً بحجم تنظيم المونديال ليس إلا دعماً للحكم العسكري، الذي التقط الفرصة بحماس، واستمات في الاستفادة من هكذا مناسبة كبرى لإصلاح وتدعيم صورته في أميركا الجنوبية وفي العالم. للمفارقة، تحول كأس العالم إلى منصة ساهمت بفعالية كبيرة في نشر شهرة أمهات ساحة مايو خارج الحدود الأرجنتينية، حيث لفتت المسيرات الدائرية الأسبوعية انتباه الصحفيين الغربيين الذين قدموا إلى الأرجنتين لتغطية مجريات كأس العالم، وأُجريت مقابلات صحفية عديدة مع «الأمهات»، ونُقلت صور مسيراتهن إلى التلفزيونات الأوروبية، لا سيما التلفزيون الهولندي. استفادت «الأمهات» من هذه الشهرة للوصول إلى منظمات حقوق الإنسان الدولية، وبدأن بالتعاون مع منظمة العفو الدولية لإيصال قضيتهنّ إلى العالم. في عامي 1979 و 1980، جال وفد أمهات ساحة مايو، برعاية منظمة العفو الدولية، في العديد من الدول الغربية لتقديم المحاضرات والندوات حول قضية المُغيّبين القسريين الأرجنتينيين، وحول القمع السياسي وانتهاكات حقوق الإنسان في الأرجنتين بشكل عام، كما أقام هذا الوفد علاقات شراكة وتعاون مع منظمات نسوية في دول أوروبية عديدة، وساهم تجمّع للمنظمات النسوية الهولندية في توفير الدعم المادي اللازم للأمهات لفتح مكتب في الأرجنتين، ولتمويل نشاطاتهن داخل وخارج البلاد.
دخل الحكم العسكري الأرجنتيني في أزمة سياسية واقتصادية ابتداءً من مطلع الثمانينات، وانتهز معارضو الحكم العسكري الفرصة لتصعيد نشاطاتهم الباحثة عن إسقاط الحكم العسكري وإعادة الحياة السياسية الديمقراطية إلى البلاد. بدورها، شاركت منظمة أمهات ساحة مايو في التصعيد المعارض، وساهمت بشكل فاعل في الدعوة لمظاهرات كبرى باسم «مسيرات المقاومة»، وهي مظاهرات جماهيرية حاشدة بدأت في خريف العهد العسكري، واستمرت كطقس سنوي بعد عودة الديمقراطية، وما زالت تُعقد كل عام في العاصمة بوينوس آيرس، وفي العديد من المدن الأرجنتينية الأخرى. ومع هزيمة الأرجنتين أمام المملكة المتحدة في حرب الفوكلاند
مع بداية عقد الثمانينات، وبدء ترنّح الحكم العسكري الأرجنتيني، ظهرت بعض الأصوات المتشائمة بخصوص مصير المغيّبين القسريين، معتبرة أن المنطق الأرجح يشير إلى أنهم قتلوا بعد خطفهم، وأخفيت جثثهم في مقابر جماعية. رفضت «الأمهات» هذه الفرضية رفضاً قاطعاً، ليس فقط من ناحية عاطفية، بل لاعتبارهن أن هذا الخطاب يساهم في خفت أصوات قضيتهن، ويفتح الباب للسلطة للتملص من الملف، وربما يجعل موت المسار القضائي بالتقادم أمراً ممكناً: جريمة القتل حدثت في لحظة ما، ويمكن أن تموت الدعوى القضائية ضدها بالتقادم، فيما التغييب القسري جريمة لم تحدث وتنتهِ في لحظة معيّنة، بل أنها مستمرة. نتيجة لهذا السجال ظهر منطق «المطالبة بعودة المُغيّبين أحياءً»، والذي تحوّل إلى شعار رئيسي في عمل أمهات ساحة مايو. المُغيّب حي طالما لم يتم العثور على جثمانه.
لم تنخفض وتيرة عمل «الأمهات» مع نهاية الحكم العسكري، وبدأ الشقاق ضمن صفوف المنظمة في العام الأول لحكم راؤول ألفونسين، ليتحوّل إلى انشقاق بعدها بعامين، أي عام 1986، حين انفصل قطاع من «الأمهات» عن المنظمة الأمم وأسسن جمعية أخرى. أسباب الشقاق عديدة ومركبة، منها ما هو تنظيمي يخص الاعتراضات على الحياة الداخلية للمنظمة والرفض لنهج هيبي دي بونافيني على رأسها، منها أيضاً ما هو إيديولوجي يرتبط بالتحفّظ على النزعة اليسارية الطاغية على خطاب المنظمة وعلى علاقاتها الداخلية والخارجية، لكن الموقف من المسار القانوني الذي سارت عليه حكومة ألفونسين في مجال محاسبة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان كان نقطة الافتراق الأبرز. رفض قطاع هيبي دي بونافيني، وهو الأكبر عدداً، التعاون مع الهيئات واللجان التي شكّلها ألفونسين للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان عموماً، والتغييب القسري لآلاف المعارضين للعسكر خصوصاً، معتبراً أن الإجراءات الحكومية غير كافية، ولا تصل إلى عمق المسائل. لذلك، رفضت المنظمة الأم المشاركة في مسار التحقيق الحكومي، واعترضت بشدة على النصوص القانونية التي عرّفت حالة التغييب القسري، لأنها رأت فيها مناورة حكومية تبحث عن تعريف المُغيّبين على أنهم قتلى تمهيداً لإغلاق القضية، كما حاربت المنظمة بالذات الفقرة القانونية المشيرة إلى التعويضات المالية لذوي المغيّبين، باعتبار أن قبول التعويض يعني التخلي عن المزيد من المطالبات، ويسهّل مسعى الحكومة لإغلاق الملف دون ظهور الحقيقة كاملة، أي دون الكشف الكامل مع مصير كافة المُغيّبين ومحاسبة كافة المتورطين في إرهاب الدولة الذي مورس ضدهم.
تصاعد نشاط «الأمهات» المعارض في النصف الثاني من عهد ألفونسين وعهد كارلوس منعم
مع وصول نستور كيرتشنر
دعمت الحكومة الأرجنتينية في عهد نستور كيرتشنر، ثم في عهد كريستينا فرنانديث دي كيرتشنر
العناوين البارزة في فكر أمهات ساحة مايو
تقدّم أمهات ساحة مايو نفسها كمنظمة سياسية. ليست جمعية ضحايا، ولا منظمة غير حكومية. لا تتقلد عضواتها مناصب حكومية بصفتهن «أمهات»، ولا يُشاركن في الانتخابات كحزب، لكنهن يشددن على أن عملهن سياسي بقدر ما هو حقوقي.
يُشكّل شعار «المطالبة بعودة المُغيّبين أحياءً» العنوان الأبرز لعمل أمهات ساحة مايو. لا اعتراف بموت المُغيّب حتى ظهور جثمانه، ويشمل رفض الاعتراف بالموت الاعتراض على أي مادة قانونية أو خطاب سياسي يتعامل مع المُغيّبين كقتلى، أكان هذا التعامل صريحاً أم غير مباشر، وأيضاً الاعتراض على إجراءات تضامنية أو رمزية قد تقع في «مطب» اعتبارهم قتلى. اشتُهر موقف حاد أطلقته المنظمة ضد نصب تذكاري أقيم في كلية الهندسة في بوينوس آيرس للمُغيّبين الذين كانون طلاباً في صفوفها، وعددهم أكثر من 150 طالباً، إذ اعتبرت الأمهات أن النصب يبدو وكأنه تذكار لمقتولين وليس تضامناً مع زملاء مُغيبين يُطالب بعودتهم أحياءً. عدا ذلك، أشارت المنظمة بسخرية مريرة إلى أن هؤلاء لم يُغيّبوا لأنهم كانوا طلاباً في كلية الهندسة، بل لأنهم «ثوّار». الشطر الثاني من الاعتراض يأتي من شعارٍ آخر ضمن الشعارات البارزة لأمهات ساحة مايو: العمل على تحويل أمومتهنّ إلى انحياز مجتمعي.
في مقابلة مطولة مع إحدى الصحف اليسارية الأرجنتينية، تبدأ دي بونافيني شرحها لمعنى تحويل أمومة أمهات المُغيّبين إلى انحياز مجتمعي بالقول أنها، رغم تفهّمها الإنساني، ترفض بشكل قاطع خطاب أمّ المُغيّب التي تقول «ابني لم يفعل شيئاً»، أو «ابني بريء»، أو «ابني غُرر به». تقول دي بونافيني:«أبناؤنا غُيبوا لأنهم فعلوا شيئاً. لأنهم ثوار. لأن لهم قضية عنوانها البحث عن حياة أفضل، أكثر عدالة وحرية ومساواة. لذلك، لا تقتصر قضيتنا عن الدفاع عن عودة أبنائنا لأنهم أبناؤنا، بل يجب علينا أن نكمل الطريق الذي خطوا فيه، وغُيبوا لأنهم كانوا فيه». على هذا الأساس، تُبنى أدبيات أمهات ساحة مايو على أنهن لا يبحثن عن التعاطف مع أمهات مفجوعات، بل التضامن معهنّ كمناضلات منحازات لكل القضايا العادلة من وجهة نظرهن، داخل وخارج الأرجنتين.
تحويل الأمومة إلى انحياز مجتمعي هو الأساس في تعريف أمهات ساحة مايو لأنفسهن كمنظمة سياسية لها رأي وموقف في القضايا العامة، اجتماعية كانت أم اقتصادية أم سياسية. هو أيضاً أكثر المبادئ استجلاباً للانتقادات، حيث أن طرح «الأمهات» لموقف إزاء قضية سياسية مُتنازع عليها يضعهن في سياق الصراع السياسي. بعض مُعارضي نهج دي بونافيني يرون فيها استثماراً للذخر الرمزي للأمهات لصالح جهات سياسية، لا سيما بعد وصول كيرتشنر إلى الحكم واتخاذ «الأمهات» مواقف داعمة للجهة الحاكمة.
التغييب القسري كإرهاب دولة وجريمة ضد الإنسانية
ناضلت منظمات حقوق الإنسان في أميركا اللاتينية، وأمهات ساحة مايو على رأسهم، في مجال تخصيص وضع قانوني واضح لقضية المُغيّبين القسريين في القوانين الناظمة في دول أميركا اللاتينية، وفي نصوص الشرائع الدولية في الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية. لم يكن نضالاً سهلاً ولا قصيراً، إذ استمر أكثر من ربع قرن قبل إقرار وثائق خاصة بالتغييب القسري في الجمعية العمومية للأمم المتحدة.
الاعتقال السياسي، أي أن يُحرم شخصٌ ما من حريته بسبب أفكاره ومعتقداته، جريمة كبرى. لكن التغييب القسري خطوة أبعد حتى. في الاعتقال السياسي مسار قضائي، حتى لو كان فاسداً وغير عادل. هناك مُحقق وقاضٍ ووثائق، وهناك إقرار بالمسؤولية عن الاحتجاز من قبل السلطة، بغض النظر عن كون هذا الإقرار يأتي على شكل تبرير من قبل الجهة المُعتقلة، أكان هذا التبرير مستنداً لنصوص قانونية جائرة أو لـ«ضرورات وطنية» مزعومة. لا شيء من هذا موجود في حالة التغييب. لا أحد يتحمل المسؤولية. هناك «ظروف صعبة» يختفي فيها أشخاص. في حالة الأرجنتين، كان الحكم العسكري يتحدث عن أنه في «حرب ضد المخربين والإرهابيين»، حربٌ سيق إليها الأرجنتينيون «مجبرين» للدفاع عن أنفسهم ضد «مؤامرة تخريبية» تستهدف وطنهم. المُغيّبون، حسب عرف الحكم العسكري وأنصاره، هم «إرهابيون»، أي الطرف الشرير في حرب مطلقة مع الأخيار، واختفاؤهم ليس بالأمر الذي يستحق الوقوف عنده، أو حتى بناء سياق قانوني مزيّف له. إنها حرب، وفي الحروب تحدث هكذا أمور.. ببساطة.
شكّل رد خورخي بيديلا على الصحفي الذي سأله عن مسألة المُغيّبين −الرد الذي أشير إليه في بداية هذا النص− نقطة ارتكاز ليس فقط في التفكير الحقوقي بمسألة المُغيّبين، بل أيضاً التفكير الثقافي، بل والفلسفي. لم يكن بيديلا، على الأرجح، يدري، أو حتى يكترث، في أنه يقدم ما سيكون أشهر مؤتمر صحفي في أميركا اللاتينية طوال عقود، فأجوبته أسالت أنهاراً من الحبر، وحفّزت تفكير وتحليل الكثيرين في ميادين الفكر والثقافة والفن.
يقول بيديلا أن المُغيّب «ليس حياً أو ميتاً، هو فقط مختفي»، وفي هذا الرد، الذي أراد فيه أن يُبين استحالة التصرّف تجاه المسألة، بالتالي تبرؤاً من المسؤولية تجاهها، يمكننا قراءة المعنى الأبرز لتغييب المعارضين: مصادرة وجودهم، بكل جوانبه. ليس فقط مصادرةً للحرية أو للحياة، بل للوجود بالكامل. الشخص ليس مُعتقلاً، لم يُغتال، لم يُنفى، بل ببساطة لا وجود له.
مسح الوجود هو مسح الحياة، لكن أيضاً هو مسح للموت.
…
لا إحصائيات دقيقة عن عدد «المفقودين» في سوريا اليوم، لكن من المؤكد أنه يصل إلى عدّة أضعاف عدد المّغيّبين قسراً في الأرجنتين. يضاف إلى ذلك التعقيد الناجم عن أن الجهة المُغيّبة في سوريا لم تكن واحدة فقط كما في الأرجنتين. النظام السوري هو المسؤول الأكبر عن هذه الجريمة ضد الإنسانية، وعن غيرها من الجرائم، ليس فقط لأنه ارتكب النسبة الأكبر عددياً منها، بل لأنه وفّر كل الظروف اللازمة لكي تتوالد جهات أخرى، كالتنظيمات المتشددة، قامت بدورها بهذه وغيرها من الجرائم.
سيكون ملف المخطوفين عنواناً رئيساً للمستقبل في سوريا، أياً تكن مآلات الصراع اليوم. وهناك حاجة ماسة للبدء بالعمل فيه وفي غيره من الملفات، أكان على مستوى التوثيق والإحصاء، أو قراءة التجارب السابقة في مناطق أخرى من العالم للاستفادة من نجاحاتها وإخفاقاتها. نتحدّث هنا عن حق لا يموت بالتقادم، ولا يفنى إن بقي هناك من يدافع عنه. بدأت الديكتاتورية العسكرية في الأرجنتين عام 1976، وانتهت عام 1983 ليبدأ مسار حقوقي طويل لم يحقق نجاحات مهمة وراسخة إلا في منتصف العقد الماضي. مع ذلك، وإلى الآن، ما زال زائر بوينوس آيرس يرى، عصر كل خميس من العام، صيفاً أو شتاءً، مئات من النساء يرتدين مناديلاً بيض على رؤوسهن، ويدرن، اثنتين اثنتين، حول النصب الهرمي في ساحة مايو.
الطريق طويل..