«حتى الآن، مازالت تدور!» صرخ غاليليلو في قاعة المحكمة الكاثوليكية في روما عام 1616 مُداناً بعلمه، لتسقط تهمته بلسان مُدينيه بعد قرون من الواقعة لأن لا عقيدة أسمى من الحقيقة، لكن لا عداء أشدّ معها من ذاك الذي تضمره الأيديولوجيا، لما تشكله من تهديد للبنية الأساسية في الأنظمة الاستبدادية، التي تقوم بتقديم فكرها المعمول به على أنه هو الحقيقة المطلقة.

ولما علم نظام البعث بأن الأدلجة ضرورة حتمية للبقاء، بدأ ترسيخ الأفكار والمصطلحات عُنوةً بادئ الأمر في عقول الناس حتى تتحول مع الوقت إلى ما يشبه الفطرة. هكذا فعلت داعش، والتي قامت في بنيتها الأساسية على الحرب الفكرية قبل الحرب الدموية الواضحة أمامنا.

وكجزء من تجلّيات هذه الأدلجة الداعشية، أتت الدورات الشرعية المفروضة على المعلّمين القاطنين في مناطق سيطرتها، في شكل يؤكد مباشرةً عمل هذا الكيان اللزج بعقلية الدولة، بل يحدّد أكثر في هويتها الشمولية، والتي لا تكترث في ضرورة اعتقاد الناس أو تصديقهم لما يقال لهم، بقدر اكتراثها بدقة تنفيذه وتمريره من جيل إلى آخر.

تعاطت هذه الدورات مع النساء بشكل مختلف عن تعاطيها مع نظيرتها المخصصة للرجال، فالآلة القمعية للتنظيم تمشي بيُسر أكبر في هذا السياق، لما تنطوي عليه مجتمعاتنا من إفراط في أبوّتها وبالتالي من تساهل أكبر مع أي انتهاك يتعلق بحق المرأة بالتعبير.

وبالتأكيد فإن الآلة الأهم المستخدمة لقمع هذه الفئة كانت مجموعة مختارة من نساء ارتهنّ للعقل الذكوري، ففي منبج كانت «أم الشهيد» تقود الدورات الشرعية، وهي امرأة سعودية من الدّمّام لم تُتمّ الخامسة والعشرين من العمر، ورغم ذلك فهي أرملة مرتين (لرجال من داعش ماتوا أثناء القتال)، وزوجة للمرة الثالثة. تتأبّط «أم الشهيد» سلاحها حتى في المسجد مكان إقامة الدورات، كاشفةً جزءاً يسيراً من وجهها أمام طالباتها المعلمات، إلا أنها لا تنسى توبيخهنّ إن سهت إحداهن عن رفع نقابها كاملاً!.. هذه السيدة، وبحسب وصف واحدة من الطالبات: «صاحبة لسان لاذع، تتربّص بأوجه الجميع وتحفظها، دون فتح أي مجال لتواصل ودّي أو تساؤل أكبر حول شخصها».

[quotes]لا تهتم هذه الدورات بإعطاء المعلمين والمعلمات أي تقنيات تتعلق بآليات التعليم، بل تكتفي بالأمور الشرعية.[/quotes]

لا تتوقف هالة الرعب عند لغة الجسد التي تعمل من خلالها «أم الشهيد»، أو المراقِبة المصرية «أم عمار» التي تحمل سلاحاً كاتماً للصوت، بل تمتد إلى المسؤولة الأمنية التي تقوم بعدد من المهام اليومية، منها تفتيش الأحذية المركونة عند الباب في حال كان لأحدها كعب عاليْ، وهي مخالفة يعاقَب عليها بالجلد، أو تَحسّس رائحة النسوة المتلقيات للتأكد من عدم تعطّرهنّ، وهو إثم يعاقَب عليه بمثل عقوبة الزنا، كذلك تتواجد مجموعة أخرى من النسوة الداعشيات، المندمجات بين الجالسات أو المحيطات بهنّ، لكن عدم إتقان معظمهن للعربية خفّف من وطأة التعاطي معهن، في حين ينحصر عدد المتطوعات من منبج في اثنتين تطوعتا في «ديوان التعليم» وكان قد سبق لهما العمل كـ«مستخدَمتين» وظيفة المستخدَم في لغة وزارة التربية السورية تعني الآذن أو الناطور المشرف على مرافق ومنافع المنشأة التعليمية. في إحدى المدارس، وتحصيلهما العلمي لا يتجاوز الشهادة الإعدادية، وبالرغم من ذلك فهما المخولتان بتصليح الأوراق الامتحانية للمعلمات.

بدأت الدورات قُبيل دخول العام الدراسي الأخير، وتراوحت مدّتها في منبج ما بين شهر ونصف إلى شهرين. تقول مها، ومها اسم مستعار لإحدى السيدات اللائي خضعن للدورة: «شملت الدورة الأولى 300 امرأة ما بين معلمة ومتطوعة ووكيلة، ولم يقلّ العدد في أي مرة عن 100، حتى في الدورة الأخيرة المكثفة والتي استمرت مدة 10 أيام فقط».

لا تهتم هذه الدورات بإعطاء المعلمين والمعلمات أي تقنيات تتعلق بآليات التعليم، بل تكتفي بالأمور الشرعية، ما يؤكد الرغبة الحقيقية منها، المتجلية في أدلجة المعلمين والمعلمات، أو على الأقل إدراكهم لهذه الأيديولوجيا، لما يحمله عملهم من حساسية بالنسبة لداعش، تكمن في تواصلهم مع الجيل الذين يطمحون لكسب عقله. يتكون منهاج النساء من: الفقه – العقيدة – التفسير – سورة الأحزاب – منهج السالكين الفقه هو أحد العلوم الدينية الأساسية ومحوره العبادات والمعاملات حسب الشريعة، والعقيدة هي الفكر الديني الأصيل كما يزعمه كل مذهب من المذاهب الإسلامية، أما التفسير فهو شرح القرآن ومعاني آياته، وسورة الأحزاب (ترتيبها المصحفي 33 والتاريخي 90) سورة مدنية تتكلم بشكل أساسي عن معركة الخندق (5هـ) وأحكام النساء الشرعية، أما منهج السالكين فمنهاج دراسي داعشي لعلّه مستوحى من كتاب منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين وهو من تأليف العالم السلفي القصيمي عبد الرحمن السعدي (1989-1956).، في حين يتم الاكتفاء مع الرجال بالعقيدة فقط. تقول هدى وهو اسم مستعار لإحدى معلمات منبج: «كان مطلوباً منا حفظ سورة الأحزاب، والسبب بحسب ما تم شرحه، يتعلق بتناولها العديد من الأمور الشرعية المتعلقة بحياة الرسول (ص) مع زوجاته».

وتكرّر «أم الشهيد» بتأكيد من «أم عمار» الأمور الشرعية المتعلقة بالنساء، ونِقابهن وعلاقتهن بأزواجهن وعملهن وإرثهن وغيرها. تضيف هدى في هذا السياق: «إن التأكيد والتكرار كان يصبّ في جُمَل محددة، من مثل أنهم هم أولياء الأمر الشرعيون، لذلك على المرأة من بيننا ألا تتبع رجلاً من ’الجيش الحر‘ فهو مرتد وعميل للطغاة الأمريكان، بالإضافة إلى ’الائتلاف‘ أو ’المجلس الوطني‘، وهذا يعني أن لا طاعة لهم وإن كانوا أزواجاً أو أشقاء أو أي فرد من العائلة، فالواجب الشرعي يقتضي الوشاية بهم، لأنهم مرتدّون كَفَرة».

يظهر الحديث الأكبر عن الطغاة في فقرة حملت عنوان «الطاغوت» ضمن مقرّر منهج السالكين، حيث تتناول الفقرة الحكم الشرعي لمن يتبع الطغاة، وتُعتبر المملكة العربية السعودية «الطاغوت الأكبر» وذلك «لتمويلها الحرب الأميركية ضد ’الدولة الإسلامية‘»، كما يشرحون خلال الفقرة عينِها لماذا لا تجوز صفة الخوارج على داعش، «لأنها من يحاول إعادة الدين إلى فطرته»، وعن هذا تخبرنا مها: «ركّزت هذه المادة على أن الطواغيت الأوروبيين والأميركان وعملاؤهم ممن يتكلمون عن الديمقراطية بغية إضعاف ’الدولة الإسلامية‘، ولذلك كل من يتحدث عنها هو طاغوت وجب قتله، ومن ينادي بهذا الفكر هو كافر لا تُقبل توبته، ويُحكم عليه بقطع الرأس، وإن لم يسمعه أحد فعليه أن يغتسل اغتسال الكافر الذي يدخل في الإسلام».

[quotes]من خلال المعلمين والمعلمات المخضعين للدورات، تحصل داعش على عدة كبيرة من الأوراق الممهورة بالأسماء، والتي تؤكد شرعيتها في قتل من تريد قتله.[/quotes]

أما في مادة الفقه، تُخصَّص 60 درجة للأسئلة التي تتناول حكم النظام و’الجيش الحر‘ و’الائتلاف‘ و’المجلس الوطني‘، ومن يخون الدولة الإسلامية، وتقول سوار (اسم مستعار): «يأتي السؤال في صيغة تفرض الإجابة، على شكل خيارات متعددة، مثل: هل ’الجيش الحر‘ كافر أم مرتد أم مؤمن؟ ولماذا؟ وما حكمه؟، وبالطبع فإن الإجابة تنحصر ما بين الكافر والمرتد، وذلك لأنه يخون ’الدولة الإسلامية‘ وشرع الله، وحكمه تطبيق حد القتل بقطع الرأس».

وتضيف سوار: «بعض النساء خشِينَ من الإجابة، أذكر إحداهن أخبرتني أن زوجها في ’الجيش الحر‘، ماذا لو عاد الآن وسيطر مع المقاتلين على المدينة، فهل سيقرأ أنها وافقت على كونه كافر؟ بل ويجب قطع رأسه؟».

إلا أن عدم الإجابة يعني الرسوب في المادة ، بالتالي عدم الحصول على إذن بممارسة العمل، ما اعتبرته المعلمات فخاً، وآلية تشريعية لإعدامات كثيرة لاحقة، فمن خلال المعلمين والمعلمات المُخضَعين للدورات، تحصل داعش على عدة كبيرة من الأوراق الممهورة بالأسماء، والتي تؤكد شرعيتها في قتل من تريد قتله.

هذه الأمور التي قد لا تكون مقبولة بين هذا الجيل من المستهدفين، ستزداد سهولة دورةً تلو أخرى، بما يحاكي ما فعله النظام إبّان مجزرة حماه عام 1982، عندما صار على أطفال سوريا، ومن بينهم أطفال حماه، ترديد شعار «عهدُنا أن نتصدّى للإمبريالية والصهيونية والرجعية وأن نسحق أداتهم المجرمة عصابة ’الإخوان المسلمين‘ العميلة»، هذه العملية التي بدأت كعملية تبريرية وقهرية، اضطرت عبرها الضحية للنطق ببراءة الجلاد وإدانة نفسه، حتى تحولت لعملية عادية، إذ لم يكن يعرف معظم الأطفال وحتى الكثير من الكبار عن أسبابها شيئاً مع تقدم الزمن، ولم تعد تعني لهم سوى وجود عدو مجهول، يوضع في خانة واحدة مع العدوّ (الاستعماري والصهيوني و… «الرجعي»).

وفي نهاية الدورة تم توزيع استمارات للتقييم، تطلب معلومات كاملة حول الشخص من اسم ومكان إقامة وعمل، بالإضافة إلى نبذة مختصرة عن حياته، وكيف استفاد من الدورة؟ وهل يرغب بإضافة أي شيء. وتنتهي الاستمارة بسؤال «هل تحب العمل معنا ولماذا؟».

ما يحصل مؤخراً في منبج وحاولت السطور السابقة رسم صورة له ليس سوى أنموذج عما شهدته المناطق الأخرى الخاضعة لسيطرة التنظيم، فلا اختلافات فعلية وحقيقية بين منطقة وأخرى، وربما كانت تقتصر بحسب الشهادات التي حصلنا عليها من الرقة ودير الزور على اختلافات في المدة الزمنية للدورة، أو اجتهادات تزيد هنا أو تنقص هناك، فقد استولى الجَهَلَة على العلم كما استولَوا على الأرض من قبل، جاهل يُلغي مادة الكيمياء، وهو نفسه يتعاطى الأدوية الناجمة عن هذا العلم، ولا خاسر من ذلك إلا جيل بدأ نزيفه الجديد، نزيفه الأغزر والأعمق…