مساوئ الحروب وأنظمة الديكتاتورية والقمع أكثر من أن تُعدّ أو تُحصى، ومن أكثرها إيلاماً أنّ أذيّتها على البشر، أفراداً وجماعات، لا تنتهي بزوال الطاغية أو بنهاية الحرب. بعض الأذى قد يمتد لسنوات أو عقود، وثمة جراح لن تندمل، بل لن تتوقف عن النزيف، وربما تتقيّح وتلتهب.. غرغرينا الذاكرة!
من الهذيانات التي يسكبها الطغاة علينا أن الموت قد يكون، في حالات عديدة، رحمة أو أكثر. من مات له قريب أو حبيب سيحزن، وسيحاول أن يُدير حداده كما يستطيع. الوقت، ولا سيما إن تزامن مع محاسبة القاتل، كفيل بأن يساعد باستمرار الحياة بشكل من الأشكال. لكن ماذا عن الذين لا يعلمون عن أحبابهم شيئاً؟ «خرج ولم يعد»؟ بل: غُيّب ولم يُعَد؟ أين هو؟ حيّ أم ميّت؟ كيف حاله إن كان حياً؟ وأين تركوا جسده إن كان ميتاً؟
القبر حق. أن يُزار أو لا فهذه حرية.
مبادئ إنتاج الوحشية لم تتغيّر كثيراً عبر القرون، بل تطورت الأساليب والأدوات. أصبحت أكثر فتكاً وأوسع مدىً. لكن أيضاً تطورت القدرات على المواجهة، إن لم يكن بمعركة مباشرة فعلى الأقل بالمقدرة على معالجة الويلات. العلم، هنا، إحدى هذه الأبواب المفتوحة. العلم نتيجة تراكم مديد في الجهد والإنتاج، لكن التاريخ يضع بعض الأشخاص في طريقه كي يضعوا حجر أساس هنا، أو يدعموا السقف هناك.
كلايد سنو كان أحد هؤلاء الأشخاص…
* * * * *
ولد كلايد سنو في الولايات المتحدة عام 1928، ودرس علم الحيوان في جامعة نيوميكسيكو، وحاز على الدكتوراه في الحيوانيات من جامعة تكساس، ثم الدكتوراه في الأنثروبولوجيا من جامعة أريزونا. بدأ سنو بالبحث والعمل في مجال الأنثروبولوجيا الجنائية في الستينات، أي قبل أن تتطور تقنيات البحث باستخدام الحموض النووية، كما عمل مع إدارة الطيران الفيدرالية وسلاح الطيران الأميركي في التحقيق في حوادث الطيران واستخلاص النتائج اللازمة لتحسين شروط الأمان في طائرات الركاب.
اشتهر كلايد سنو في المحافل العلمية بإنجازات مبهرة علمياً ولافتة للانتباه إعلامياً وسياسياً، مثل تعرّفه على جثة جوزف منغيلي
لكن، لو وضعنا هذه العناوين البرّاقة جانباً، وجب القول إن الإسهام العلمي الأكبر لكلايد سنو كان في عمله الريادي من أجل تطبيق المبادئ العلمية للأنثروبولوجيا الجنائية في التحقيقات في انتهاكات حقوق الإنسان، ولا سيما فتح المقابر الجماعية والتعرّف على الجثث. عمل سنو بشكل أساسي في أميركا اللاتينية، ففي السلفادور عمل في حقق في مذابح «إل موثوتي» في السلفادور، والتي اقترفتها القوات المسلحة في سياق الحرب الأهلية السلفادورية (1992-1980) وراح ضحيتها أكثر من 900 شخص حسب تقدير لجنة الحقيقة التابعة للأمم المتحدة، وتمكن من إيجاد وفتح مقبرة جماعية لأكثر من 130 طفل قُتلوا في على يد الميليشيات الموالية للجيش السلفادوري. في غواتيمالا شارك في تأسيس فريق أنثروبولوجيا جنائية محلي ما زال يعمل حتى اليوم في التحقيق في الفظاعات التي ارتُكبت خلال الحرب الأهلية في غواتيمالا (1996-1960).
شارك سنو أيضاً في فتح المقابر الجماعية التي وُجدت في دول «خطة كوندور»
خارج أميركا اللاتينية، عمل سنو مع محكمة الجنايات الدولية في يوغسلافيا السابقة، حيث حقق في مذابح ارتُكبت في كرواتيا وكوسوفو، كما عمل مع الأمم المتحدة في إثيوبيا. في العراق، قدّم شهادة في محاكمة صدام حسين عام 2006 بناءً على التحرّيات التي أجراها في كردستان العراق عام 1992.
في بلاده، أدار سنو عملية التعرّف على جثث ضحايا تفجيرات أوكلاهوما عام 1995.
في رحلة كلايد سنو الطويلة لوضع التقنيات العلمية في خدمة حقوق الإنسان، والتي دامت أكثر من ثلاثين عاماً وانقطعت بوفاته في 16 أيار الماضي، كانت البداية صعبة وخطرة: الأرجنتين.
* * * * *
وصل العسكر إلى الحكم في الأرجنتين في 24 آذار 1976، حين أطاح الجيش الأرجنتيني، بقيادة مجموعة من كبار ضباط البحرية والجوّ والمشاة، بالنظام البرلماني السائد حينه، وعزل رئيسة البلاد ماريا استيلا مارتينيث دي بيرون
فور وصولهم إلى الحكم، حلّ الجيش البرلمان، وألغى صلاحيات الإدارات المحلية، واستبدل أعضاء مجلس القضاء الأعلى بقضاة ومؤيدين للانقلاب، كما شكّل حكومة مدنية-عسكرية مدعومة بـ«لجنة استشارية تشريعية» مكوّنة من عسكريين من أسلحة الجيش الأرجنتيني الثلاثة، كما عُيّن عسكريون على رأس هيكلية الإدارة المحلية الجديدة، واعتُمد على تقسيم البلاد إلى خمسة مناطق أسوةً بتقسيم المناطق العسكرية التي يتوزّع وفقها الجيش. على رأس الدول، عُيّن مجلس عسكري ثلاثي مكوّن ثلاثة ضباط ممثلين لأسلحة الجيش الثلاث: خورخي بيديلا
أيديولوجياً، اتخذ المجلس العسكري موقعاً يمينياً محافظاً، مرافعاً عن ضرب من الوطنية الكاثوليكيّة الأرجنتينية. في أدبيات الانقلابيين، دُعي الانقلاب العسكري عملية «إعادة التنظيم الوطنية»، ولُخّصت خطوطه العامة وفق مبدأين اثنين:
الأول، أن الحكم العسكري هو عملية غير محدودة زمنياً بفترات أو مُهَل، وهي عملية مستمرة حتى تحقيق كامل أهدافها.
الثاني، أن هناك حاجة لإعادة تنظيم البلاد وشؤونها جذرياً، عن طريق إدخال إصلاحات عميقة في الاقتصاد وعلاقات العمل والنظام السياسي والثقافة الوطنية.
على هذا الأساس، أعاد المجلس العسكري تنظيم المناهج الدراسية بما يتناسب مع رؤاه المحافظة، وفرض نظاماً رقابياً صارماً على الانتاج الثقافي والإبداعي. كما عُسكرت الجامعات ورُوقبت بدقة وشراسة لمنع أي شكل من أشكال التفكير النقدي.
مع وصول المجلس العسكري إلى الحكم، التحقت الأرجنتين بسياق الديكتاتوريات العسكرية في أميركا الجنوبية: أوغستو بينوتشيه
في المجال الاقتصادي، تحالف العسكريون الأرجنتينيون منذ مرحلة الإعداد للانقلاب مع قطاع مؤثر من رجال الأعمال الأرجنتينيين، أبرزهم خوسيه ألفريدو مارتينيث لاهوث، رئيس مجلس رجال الأعمال الأرجنتيني. تجلّى هذا التحالف في تولي مارتينيث لاهوث وزارة الاقتصاد بعد الانقلاب، وبقي في المنصب طوال حكم المجلس العسكري الأول بقيادة بيديلا، راحلاً معه عام 1981.
التحاقاً بما ابتدأ بتطبيقه في تشيلي مع وصول بينوتشيه إلى الحكم عام 1973، طبّق مارتينيث لاهوث تعاليم مدرسة شيكاغو الاقتصادية حرفياً
بفضل القبضة الحديدية للحكم العسكري، قُمعت الإضرابات العمّالية، وخُنقت النقابات وتحولت إلى ما يشبه الثكنات العسكرية. جُمّدت الرواتب، وانخفضت القدرة الشرائية للأرجنتينيين إلى مستويات ثلاثينيات القرن العشرين، كما ارتفعت نسبة الفقر من 5.8% عام 1974 إلى 37% عام 1982.
بعد انتهاء فترة بيديلا ومجلسه العسكري، تعاقبت ثلاثة مجالس عسكرية بين عامي 1981 و1983. بقيت المبادئ العامة للحكم العسكري راسخة، إلا أن الهزيمة العسكرية التي لقيتها الأرجنتين على يد المملكة المتحدة في حرب المالبيناس
انتهاكات حقوق الإنسان خلال الحكم العسكري في الأرجنتين
اتخذ العسكر سلوكيات إرهاب الدولة منذ اللحظة الأولى لاستلامهم الحكم، حيث وظّفوا كل قدراتهم لإلغاء خصومهم السياسيين بشكل كامل. خلال سنوات حكم المجلس العسكري السبع، اعتقل عشرات الآلاف من الأرجنتينيين، قسم كبير منهم ما زال مفقوداً حتى اليوم، وصُفّي المعارضون السياسيون من طلاب ومثقفين وناشطين نقابيين بإعدامات ميدانية أو باغتيالات كانت تتم أحياناً وسط الزحام في وضح النهار، كما أُجبر عدد كبير من المثقفين والأكاديميين والفنانين على الهرب خارج البلاد. عدا إلغاء الخصوم السياسيين، مارس الحكم العسكري سياسات إقصائية عنيفة ضد كل أنواع الأقليات، أكانت عرقية (السكان الأصليين) أو دينية (يهود، شهود يهوه)، أو –طبعاً– جنسية (المثليين ومتحوّلي الجنس).
تقدّر منظمات حقوق الإنسان الأرجنتينية عدد المفقودين بـ30 ألفاً، في حين وثّقت الأمانة العامة لحقوق الإنسان الأرجنتينية حوالي خمسة عشر ألف مفقود، بينهم على الأقل 300 طفل. خلال ديكتاتورية بيديلا، شكّلت أمهات المفقودين جمعية «أمهات ساحة مايو»، وهي اليوم أبرز الجمعيات الأرجنتينية الفاعلة في مجال حقوق الإنسان.
انتهج الحكم العسكري أيضاً أسلوب انتزاع أبناء المعتقلات الحوامل من أمهاتم فور ولادتهم ومنحهم بالتبني لعائلات عسكريين أو مدنيين موالين للحكم العسكري
بعد انتخابه رئيساً للأرجنتين أواخر 1983، شكّل راؤول ألفونسين لجان تحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان خلال الحكم العسكري، وقُدّمت النتائج إلى الحكومة والرأي العام، ما أدى لمثول المجالس العسكرية أمام المحاكم عام 1984، ولصدور أحكام قاسية بحق الضباط المسؤولين عن هذه الانتهاكات، بما فيهم خورخي بيديلا وإدواردو ماسيرا. لكن الضغوط التي مورست على ألفونسين، بالإضافة للتخوف العام من انقلاب عسكري جديد، أدت لسنّ قانونَي عفو عن ضباط الرتب الوسطى (عُرف هذان القانونان باسم «نقطة النهاية» و«الطاعة الواجبة»)، ما أدى لغضب شعبي متصاعد، ولا سيما في القطاعات الأكثر تضرراً من الحكم العسكري، وحُرّكت قضايا في محاكم دول أخرى وأمام المحاكم الدولية ضد المنتفعين من قانوني العفو.
عام 1990، أصدر الرئيس كارلوس منعم
تُعتبر تجربة الأرجنتين في مجال تصفية الحسابات مع الحكم العسكري، رغم نواقصها وعيوبها وانتكاساتها، نموذجية على المستوى الدولي، حيث لوحق مرتكبو الانتهاكات ضمن النظام القضائي الأرجنتيني، وسنّت الحكومة الأرجنتينية قوانين عديدة لعزل القطاعات السياسية الفاعلة أثناء الحكم العسكري ودعم المنظمات والهيئات الشعبية الفاعلة في مجال المحاسبة واستعادة الحقوق، مثل «أمهات ساحة مايو» وغيرها من المنظمات.
* * * * *
وصل كلايد سنو إلى الأرجنتين عام 1984 تلبيةً لدعوة من «اللجنة الوطنية للمفقودين» ومن منظمة «أمهات ساحة مايو» للوقوف على واقع ملف المفقودين في الأرجنتين وتقديم الاستشارات الممكنة للعمل. كان الحكم العسكري قد رحل قبل شهور قليلة، ولم تكن الأوضاع السياسية قد استقرّت بعد، إذ كانت المخاوف من تحرّك جديد للعسكريين تخنق بثقلها آمال قطاعات واسعة من الأرجنتينيين. اكتشف كلايد سنو عدم وجود أي خبرة أو تجربة سابقة في مجال الأنثروبولوجيا الجنائية في الأرجنتين، ورأى أيضاً أن عليه أن يبدأ العمل من الصفر، دون دعم يتجاوز بعض المنح التي كان يحصل عليها من هيئات أكاديمية ومؤسسات مانحة.
بمساعدة موريس تيدبال، وهو طالب أرجنتيني في كلية الطب كان يُتقن الانكليزية، بدأ كلايد سنو البحث عن متطوعين لتشكيل فريق أنثروبولوجيا جنائية بين طلاب فروع الطب والآثار والأنثروبولوجيا في جامعات بوينوس آيرس. لم يكن لديه ما يُغريهم به: لا عائدات مادية مقابل عمل مؤلم ومثير للغثيان وخطير. في النهاية، استطاع كلايد سنو تشكيل هذا الفريق، وبدأ العمل فوراً.
طوال السنوات الخمس التالية، واكب سنو الفريق لحظة بلحظة، شارحاً دقائق العملية الصعبة بدءاً من الحفريات وحتى تقنيات التعرّف على هوية الجثة، مروراً بتشخيص سبب الوفاة بأقصى درجات الدقة الممكنة. حقق فريق الأنثروبولوجيا الأرجنتيني نتائج مبهرة في بلاده، ما رشّحه لتلقي عشرات الدعوات للمساهمة في أعمال مشابهة في دول أخرى في أميركا اللاتينية وأفريقيا، وقفز إلى الأضواء عالمياً عندما نجح في التعرّف على بقايا جثة إرنستو غيفارا في بوليفيا عام 1997.
اليوم، بعد ثلاثين عاماً من خطوتهم الأولى في مجال علمي لم يكن لديهم أي معرفة مسبقة عنه، يتربّع بعض أعضاء فريق الأنثروبولوجيا الأرجنتيني الذي شكّله كلايد سنو، مثل مرثيدس دوريتي وكارلوس سومويغليانو، في درجات مرموقة جداً في الساحة العلمية الدولية. وعادوا لتصدّر العناوين الصحفية هذا العام ليس فقط لوفاة مؤسسهم في أيار الماضي، بل أيضاً بسبب عملهم المميز في المكسيك في الشهور الأخيرة.
* * * * *
ليس التعاطي مع ضحايا الديكتاتوريات والحروب وذويهم حاجة إنسانية أو اجتماعية فحسب، بل أيضاً ضرورة سياسية، فهي الخطوة الأولى نحو إعادة بناء ما تهدّم على أسس سليمة: إعادة الحقوق لأصحابها، وردّ الاعتبار للمظلومين، ومحاسبة الظالمين. لا يمكن إعادة من قُتل إلى الحياة، لكن معرفة مكان دفنه، واستعادة جثمانه كي يُدفن حسب رغبة أهله ومعتقداتهم، هو الحد الأدنى. إنه حقّ المعنيين المباشرين على المستوى الشخصي، وحقّ المجتمع في أن يتعافى من جراحه، وهذا حقّ تأسيسي لا مبرّر من أي نوع، سياسي أو غير ذلك، يسوّغ القفز فوقه.
لا طريق نحو المستقبل دون مواجهة صريحة وعادلة مع الماضي. الذاكرة التاريخية أهم وأقوى من أن يُعتمد على النسيان لمعالجتها. إنها مصنوعة من مواد متفجّرة، كما يقول إينياكي غابيلوندو، الصحفي الإسباني المخضرم.
نعيش في سوريا واقعاً قيامياً عسيراً لم يطحن حياة أكثر من مئتي ألف شهيد فحسب، بل دمّر المكان والذاكرة أيضاً، ممتلكات الناس، بيوتهم ومصالحهم وماضيهم. قد يأتي اليوم الذي نستطيع أن نعمل فيه على محاسبة القتلة والبحث عن كشف الحقائق عن المُغيّبين والقتلى، أو ربما لا يأتي. لكن، حتى قطع الشك باليقين، لا بد من العمل على توثيق وحفظ كل ما يُمكن أن يُفيد في المستقبل لتقصّي الحقائق. هناك تجارب كثيرة يمكن الاستفادة من نجاحاتها وإخفاقاتها حول العالم، وهناك جهود توثيقية يقوم بها ناشطون وحقوقيون سوريون، بإمكانات بسيطة ومخاطر عظيمة. هذا بداية طريق طويل قد لا ينتهي، لكن مُراكمة الخطوات فيه واجب جوهري الأهمية.