فراس المدرّس وبسّام الصيدلي ومحمود فنّي التدفئة المركزية، ثلاثة شبّان من الرقة، جمعتهم ثورة رأوا فيها انعتاقاً شخصياً وحرية شعب، لكن سرعان ما سُدّ الأفق بأقفال كثيرة وألقي بهم في أتون هجرة لا ترحم.
المدرّس الشابّ فراس من أوائل المشاركين بمظاهرات الحرية. تحرّرت مدينته في 4/3/2013، وكان من السبّاقين مع مجموعة من نشطاء وناشطات الرقة المدنيين إلى تشكيل ’تجمع شباب الرقة الحر‘، والذي أخذ على عاتقه المشاركة في كل فعاليات النشاط المدني في المدينة. لكن ذلك لم يدم طويلاً.
انتهى شهر العسل حين بدأت المظاهرات ضدّ ’حركة أحرار الشام الإسلامية‘ بعد أن اكتشف النشطاء ماقامت به من نهب لكل مقدّرات البلد ومصادرة الحياة العامة، وكان الهتاف الشهير: «يا حرام يا حرام / باكونا
تتوالى الاحتجاجات والمظاهرات، وأيضاً على الجانب الاخر ابتلاع الحياة المدنية والتضييق على الناشطين والتجمعات الناشئة – ثم ليأتي بعد ذلك تنظيم ’الدولة الإسلامية‘ في 16/1/2014 مهشماً ما تبقى من حياة مدنية.
يهاجر فراس للمرة الأولى باتجاه تركيا، ليشارك مع مجموعة من الناشطين بتأسيس ’بيت الرقة لكل السوريين‘، كمنبر ثقافي اجتماعي، وكمأوى لمن لا مأوى لهم.
ولكن بقيت قِبلته وعشقه في مكان ما إلى الجنوب. من مدينة أورفه التركية يعود فراس إلى الرقة، ولكن قلمه وأفكاره تأبى أن تتلون بالأسود، فتنضح حروفاً جديدة للحرية والحب في مدينة صارت تعتبر هاتان المفردتان فيها من الكبائر، ليقوم المكتب الأمني لتنظيم ’الدولة‘ بمداهمة منزله، وتشاء الأقدار أن يستطيع الفرار والوصول إلى تركيا، مفكّراً بهجرة أبعد من ذلك.
* * * * *
كان محمود، أو «قهوجي الثوار»، كما يحب أن يسمي نفسه متندّراً، غامزاً من جهة المتقاتلين على المناصب: «لن ينافسني أحد على منصب القهوجي»! محمود من مواليد 1975، ومن ريف الرقة الشرقي، الذي يعتبر من أكبر الخزانات البشرية لتنظيم ’الدولة الإسلامية، وهو أب لثلاثة أولاد وبنت. لم يكمل تعليمه، وعمل باكراً كفنّي تدفئة وتكييف. شارك في الثورة منذ بداياتها، وأسّس ’تنسيقية الرقة‘، ومن ثم ’تنسيقية الكرامة‘ (مدينته)، كما ساهم بتأمين انشقاق عدد كبير من عناصر جيش النظام. هذا الكلام بعد عودته في بدايات الثورة، في الشهر 7 من 2011، من رحلة عمل طويلة، أوصلته إلى السعودية والإمارات وجنوب أفريقيا.
بعد عودته بأيام قليلة، تم اعتقال محمود من قبل ’الأمن العسكري‘ لمدة شهر، ليُعاد اعتقاله على خلفية تنسيقه لمظاهرة 15/3/2012 التي استُشهد بها علي البابنسي
يشارك في حراك مدينته المحررة من جديد. ثم كعضو في ’المجلس المحلي‘، تم استدعاؤه من قبل تنظيم ’الدولة‘ لـ«شرب فنجان قهوة» لدى مكتبهم الأمني، وهذه جملة يعرفها السوريين جيداً، وتعني الاعتقال. تخفّى الرجل ووصلته الرسالة التالية عن طريق أحد أقربائه المنتمين للتنظيم: لم نخسرك برصاص النظام، ولا نريد أن نخسرك بسكين أحد المهاجرين! وصلته الرسالة واضحة وحادّة كنصل سكين ذاك المهاجر، وغادر إلى محطته الأولى للهجرة: تركيا.
* * * * *
لم يكن بسام بعيداً في نشأته عن رفيقيه، وهو أيضاً ابن تلك المدينة التي أرادها ’البعث‘ حقلاً لكل تجاربه الاجتماعية والتعليمية و«التخريبية» – بسبب هشاشة مجتمعها نتيجة تهميشه لسنوات طويلة خرّبت نسيجها العمراني وريّفت ما تبقى من مدنيّتها… وكما سابقيه، نزحت عائلة بسام من الريف الغربي الجنوبي الى المدينة.
بسام من مواليد 1975 أيضاً، حصل على شهادة الثانوية العامة من الرقة ثم سافر إلى أوكرانيا لاتمام دراسته الجامعية، وتخصص بالصيدلة. متزوج ولديه ولدان وبنت.
أيضا كسابقيه، شارك بسام في الثورة منذ بداياتها، واعتُقل إثر خروجه بمظاهرة استنكاراً لصلاة بشار الأسد في الرقة يوم 20/8/2012، وفور خروجه من السجن قَصَد تل أبيض في الريف الشمالي، وكانت محرّرة، ليعود إلى مدينته التي تحررت، وليشكل في 5/3/2013 مع مجموعة من النشطاء وشباب ’الجيش الحر‘ ’مكتب أمن الثورة‘ الذي يهدف الى حماية المنشآت العامة ودوائر الدولة، الأمر الذي لم يعجب ’جبهة النصرة‘ و’حركة أحرار الشام‘ اللتين قامتا بـ«تشويل»
ولكن تنظيم ’الدولة‘ الذي غضّ البصر قليلاً عن هذه عن الشمعة المدنية الأخيرة، على أمل أن يستولي على ما تجنيه من مساعدات من ’الائتلاف‘ «الكافر»، خاب ظنّه عندما أدار ’الائتلاف‘ ظهره لهذا ’المجلس المحلي‘ الوليد بحجة أنتنظيم ’الدولة‘ يسيطر على المدينة، فقام التنظيم باستدعاء رئيس ’المجلس‘ لشرب «فنجان القهوة»، ولكن الضيف كان وقتها في تركيا يطرق أبواب المظمات الداعمة والحكومة المؤقتة بغية الحصول على حليب لأطفال المدينة التي تنكّر لها الجميع. وفي 15/7/2014 يقوم تنظيم ’الدولة‘ باستدعاء جميع أعضاء ’المجلس‘ ويقوم باستتابتهم بعد أن اتهمهم بأنهم مرتدّون «رِدّة صغرى» وتصوير هذه الاستتابة بعدم التعامل مع «الكفار» ومساعدتهم «ولو ببرية قلم»!
وبقي بسام في تركيا ليساوي رفيقيه بكمية الألم والغربة وانسداد الأفق، وبدأت البوصلة تتذبذب نحو أكثر من اتجاه.
كان بسام البادئ في محاولة الهجرة. وبعد أربع محاولات فاشلة من الهجرة عبر البحر نحو اليونان أولاً، نجح في الوصول إلى إحدى الجزر ليلاً، ليقوم هو ومن معه ممن ركبوا قارب الموت والاحتيال بتمزيق القارب المطاطي الذي يستغلونه عسى أن يقوم خَفَر السواحل اليوناني –المفترض أنهم في مياهه الاقليمية- بإنقاذهم، ولكنهم يكتشفون خديعة أنهم فوق إحدى الجزر التركية القريبة جداً من الشاطئ، بعد أن قام المهرّب بالسير بهم مسافة طويلة موهماً إياهم بالوصول إلى المياه الإقليمية لليونان.
يزداد انسداد الأفق أكثر، ويقف بسام غريباً وحيداً دون مأوى أو مآل.
«لا أريد أن يلهو أطفالي بالرؤوس المقطوعة عند دوار النعيم!»، يقول بسام، «سأبقى أحاول إلى أن أنجح».
يبدأ التنسيق مع رفيقيه، والتواصل مع سماسرة الموت الذين يخترعون كل يوم طريقة جديدة لابتزاز البشر عبر رغبتهم بالهجرة، هذه المرة عن طريق المطارات، وكون الثلاثة لا يملكون وثائق سفر لأنهم مطلوبون لنظام الأسد الذي لا يزال يتحكم بالشكل الرسمي لوثائق السفر السورية، لجأ الثلاثة عن طريق السمسار إلى جوازات سفر مزوّرة، ليصلو بها جواً إلى الجزائر، ومنها تهريباً إلى تونس، تحديداً مدينة بن غردان المنفذة إلى مدينة زوارة الليبية، التي تعتبر المدينة الأكثر تصديراً للموت البحري.
في بن غردان تداهم الشرطة المحلية المنزل الذي يؤوي الثلاثة مع كثيرين غيرهم، بحثاً عن المهاجرين غير الشرعيين والمهربين، ليفرّ الجميع… وأثناء ركضه في الشارع، تصدم سيارة الشرطة التونسية بسام!.. ليموت وحيداً غريباً، وتبدأ رحلة موت الموت لنقل جثمانه من تونس إلى تركيا، ومن ثم إلى الرقة. ولكن التكلفة المادية المرتفعة لم تتوفر، ليُدفن بسام في بلد البوعزيزي، مدينة سيدي بوزيد جنوب تونس
وتكتمل سوداوية الصورة في اليوم الثالث لوفاته عندما تقوم طائرات نظام الأسد بقصف منزله المستأجر في الرقة وتدمّره، وتستلم العائلة التي كانت في منزل أهله المشاركة بالعزاء.
يتابع رفيقا بسام المحبطان والمنهاران رحلتهما، ويستطيعان ركوب البحر في أحد قوارب الموت إلى إيطاليا، وأيضاً يعاند القدر الركاب، ويغرق المركب قبالة السواحل الإيطالية… ينجو البعض ويموت أكثر من مائة شخص.
تسمّرت عيون الأهل والأصدقاء على القوائم التي تتالت من البوليس الإيطالي. كان اسم فراس من الناجين، ولم يجد أحد اسم محمود لا في قوائم الموتى ولا قوائم الأحياء، وبعد أكثر من عشرة أيام يُعثَر على مجموعة من الجثث طافية على ساحل تونس، كان من بينها جثة غير واضحة المعالم، ملفوف على بطن صاحبها حزام من البلاستيك يستخدمه من يركب البحر لحفظ المال والوثائق، لم يجدوا فيه سوى رخصة سوق
يبقى المدرس الشاب فراس مقهوراً محطماً، يرتجف لا برداً وإنما تشتتاً وذهولاً، ولكنه يُصرّ وفاءً لذكرى صاحبَيه بالوصول إلى أمان له، ولروحيهما، ويبدأ رحلة برية متخفياً حيناً في صندوق شاحنة وحيناً في غابة تستره عن أعين تترصد أمثاله.
يعيش فراس الآن في أحد مخيمات اللجوء في أبعد مكان بالكرة الأرضية عن مدينته وأحلامه التي بدأها هناك، في الكثير الكثير جنوباً عن مخيمه.
إنهم يغادروننا، واحداً تلو الآخر، وبعد قليل لن نجد أمامنا سوى من مضى عليه قطار العمر.