«امتازت» حياة الفرد الفلسطيني بمأساة شعبه الجمعية، إضافة لما جرّته من مآسي خاصة لكل منها ما «يميّزها»، وكردّ فعل أيّ شعب على مسبّب مآسيه (وهو هنا الاحتلال) شهدت هذه الحياة انتفاضات وثورات وأفعال مقاومة شتّى، فتشكّلت (من هذه وتلك) هويّة أمميّة له هي أقرب لمفاهيم الحرية والتحرير والتضامن الأُمَمي وغيرها، جعل هذا للفلسطيني امتيازاً، واحتفاءً مسبقاً به، ضمن المجتمعات المتضامنة، وصار الفلسطينيون أحد الممثِّلين لهذه المفاهيم أينما حلّوا.
التمثيل الرمزي والمعنوي لنضالات الشعوب امتياز وتشريف، إلا أن ذلك تحديداً هو ما انقلب على الفلسطيني ذاتِه، الذي تعوّد (واستمرأ في حالات كثيرة) احتكار «مآسي» شعوب عربية عبر «قضيته المركزية»، كونه فعلاً عانى من قضيته أكثر مما عاناه العرب بما لا يُقاس، نضيف لذلك معاناته من اضطهاد عربي له يتجاوز في نقاط زمانية ومكانية عدّة الاضطهادَ الإسرائيلي، ليتخطّى (أي الفلسطيني) حقيقة ابتلاع «القضية المركزية» لـ«مآسي» العربي، ابتلاع افتعله وتبارز به الطغاة، بجرائمهم بحقّ شعوبهم كما بحق اللاجئين الفلسطينيين عندهم، ودائماً باسم الانشغال بتحرير فلسطين.
اليوم، يُضاف إلى القضية الفلسطينية ثورات تستهلّ مرحلة تاريخية جديدة عربياً، أعظمها الثورة السورية، لما تقدّمه من تضحيات من جهة ولما تواجهه من وحشية استثنائية من جهة ثانية، ولتكالُب العالم عليها، من دول وتنظيمات، وكل من لا يجد من مصلحته دولة سورية ديمقراطية حرة وقوية.
لم يتقبّل الكثير من الفلسطينيين فكرة أن يُنجز غيرهم من العرب (إخوتهم حيث تُجرى المقارنة بهم) ثورات قدّمت من التضحيات في ثلاث سنوات ما يمكن مقارنته بما قدّمه الفلسطينيون منذ نكبتهم، مواجهين منذ 2011 إجراماً يمكن مقارنته بما واجهه الفلسطينيون منذ 1948، كما لم يكن سهلاً تقبّل أن السوريين أنفسهم (والفلسطينيين هناك) قدّموا شهداء ولاجئين ومعتقلين وعذابات بما يزيد أو ينقص عمّا قدّمه فلسطينيون تماثلوا مع دور الضحية تارةً والثائر طوراً، الدور الذي يعزّ عليهم تشاركه مع آخرين بعد استئثاره لسنين طويلة، ولم يعرفوا غيره. وليست المأساة امتيازاً مبتغى بكل الأحوال.
الامتياز ينقلب على الفلسطيني، الذي استصعب تالياً أن يجد نفسه متضامناً مع السوريين بعدما احتكر طويلاً تضامن الآخرين، بدءاً من السوريين ومروراً بالعالم أجمع. استصعب تبادل الأدوار، ففي ذلك تهديد للامتياز الذي طبع فردانية الفلسطيني عربياً في وجدان المجتمعات المتضامنة مع كل مضطهَد وثائر. هذه حال الكثير من الفلسطينيين، وليس جميعهم لحسن حظّ «مصداقية قضيتنا المتمثّلة بشعبنا».
الحرية مطلب جامع لكافة الشعوب المضطهدة، كما التحرير مطلب جامع لكافة الشعوب المحتلة، والعودة مطلب جامع لكافة الشعوب المهجّرة، وهي المطالب الأساسية للشعب السوري في ثورته على نظام احتلّ الدولة وأفسدها واضطهد الشعب واعتقله والآن يقتله ويهجّره، وهذه معالم نكبة عربية جديدة تحلّ بالسوريين أشبه بالنكبة الفلسطينية من حيث ما يتعرّض له الشعب ثم ما يطالب به هذا الشعب وما ثار من أجله، وأي تضامن مع هذا دون ذاك لا يمكن فهمه ضمن مسألة التضامن المطلقة والمبدئيّة مع أي شعب يتعرّض لما تعرّض ويتعرّض له الشعبان.
أما الفلسطيني الذي حالت مزاحمة مآسي آخرين لمآسيه (ما قد تهدّد امتيازاته التاريخية) دون تضامنه معهم، وأحكي عن السوريين، الشعب الأقرب إليه، فسيهزّ ذلك في مصداقية ما ينادي به، وتالياً في تضامن آخرين معه ومع قضيته. آخرون اتخذوا لمسألة حريات الشعوب قيمة أخلاقية مطلقة ينسجمون معها بتضامنهم مع كلا الشعبين.
ما ذكرته شكّل خسارة، إضافة لكونها معنوية ورمزية للقضية الفلسطينية هي خسارة ثقافية بالمعنى الشامل، وهذه هزّة قد تُسقِط بعض المفاهيم. فالسيرة الفلسطينية التي كتبها أدبياً غسان كنفاني وإميل حبيبي ومحمود درويش وآخرون، إضافة للوحات إسماعيل شموط وناجي العلي، وغيرها من نتاجات الفلسطينيين الثقافية «الكلاسيكية»، شكّلت لاحقاً معياراً للمفاهيم التي بنى عليها الشعب الفلسطيني ثورته، وقدّمها أممياً. قبل تشكيل المفاهيم تشكّل واقع مجسّد لها هي الثورة الفلسطينية، مستبقاً الأدب ومنعكساً عليه، ثم أتى تشكيل هذه المفاهيم كعاكس لهذه الثورة أدبياً ومستمداً مصداقيته من الثورة ذاتها ضمن علاقة جدلية.
الثقافة التي ميّزت الهوية الفلسطينية عالمياً، والتي ساهمت في منح الفلسطيني هذا الامتياز كابن شعب ثار على محتله، ستطالها بعض الرضوض والخسائر المعنوية حين يعرف العالم أن نسبة كبيرة من هذا الشعب القابع تحت الاحتلال لم يجد سبباً للتضامن مع السوريين وثورتهم.
أقول ذلك مستثنياً (دون تعميم في جميع الحالات) فلسطينيي سوريا (ولبنان نسبياً)، فهم والسوريون أصحاب المآسي والآمال ذاتها. والآن في الثورة، التضحيات ذاتها.
هذه هزّة ثقافية للقضية تضربها في عصبها، هزة في متن الثقافة الفلسطينية الحاضرة الدائمة في وعي وثقافة المقاومة في العالم. وما نحن بحاجة ملحّة إليه اليوم هو انسجام بين الموقفَين السياسي والأخلاقي للفلسطينيين وبين المكسب المعنوي والرمزي لقضيتهم ونتاجهم الثقافي، إضافة لتصالح وتصارح مع هذه القضية ومع إدراك الآخرين لها منطلقين من ذلك إلى قضايا هؤلاء الآخرين أصحاب «الحق» في أن يكونوا مضطهَدين، وهو «حق» يُفرَض فرضاً من قبل المضطهِد ولا تختاره الشعوب، وأصحاب الحق كذلك في أن يكونوا ثائرين، وهو حق مفروض بقدر ما هو اختيار لدى هذه الشعوب. فكيف بالحديث عن السوريين، شركاء الفلسطينيين في تاريخهم؟