مات السوريون خلال الأربعة وأربعين شهراً الماضية بوفرة، تكفي لجعل الموت موضوعاً للتفكير والنظر. تميّز هذه المقالة بين ثلاثة أنماط للموت متفاوتة التجريد، يُحيل تمايزها إلى تمايز ثلاثة فاعلين سياسيين، أو ثلاثة مُميتين في هذا السياق المخصوص، ويتّصل بأنماط مختلفة للحياة، للحكم والسياسة، وللتكنولوجيا. ومن تمايز المُميتين ننطلق لتعريف أنماط الموت المزدهرة في بلدنا.

نمط الموت الداعشي

داعش هي الفاعل الذي يمكن تعريفه بنمط الموت الأكثر ملموسيةً والأقل تجريداً. تُقاتل داعش وتقتل بأسلحة حديثة، لكن نمط الموت المعرِّف لهويتها، «الموت الداعشي» إن جاز التعبير، هو القتل الشخصي المباشر الذي تنمحي فيه المسافة بين القاتل والمقتول: الذبح، حيث يسيل دم القتيل على يد القاتل ويصيب رشاشُه ثيابَه. الصلب، وهو أيضا حرفة موت يدوية، يتماس فيها جسدا القاتل والقتيل، وتختلط أنفاسهما وتتلاقى عيونهما. الرجم، والمسافة هنا تقارب التماس الجسدي أيضا. 

الفرق بين تقنيات الموت الثلاثة هذه أن الأولى، أي الذبح، فعل فردي يظهرُ فيه قاتل فرد ومقتول فرد وتماس جسدي، فيما يقتضي الصلب جهدا جماعياً، ورشة، لنصب الصليب وللتمكّن من المصلوب، فيما الثالثة، أي الرجم، هي فعل جماعي صريح، ويجب أن يكون مشهوداً. المشهودية ركن مكوِّن لنمط الموت الداعشي، وهي تحيل من جهة للبعد الإشهاري والشهودي القوي في السلوكيات الإسلامية، ومن جهة ثانية إلى مزيج من الاحتفال والتأديب.  

ويميز داعش أيضا نمط موت خاص: رمي الضحايا في «الهوته»، وهي انهدام أرضي سحيق العمق في منطقة الحمّام شمال الرقة. ليس معلوما إن كان الضحايا يُرمَوْن أحياء في الهوة الفاغرة أم بعد قتلهم، لكن ليس في طبائع داعش ما يتناقض مع رميهم أحياء فيها.   

وهناك نمط موت مستحدث، يخصّ داعش والقاعدة وما شابه، وهو تفجير النفس بين الأعداء بأحزمة ناسفة. هنا القاتل يَقتُل بأن يُقتَل هو أيضاً. هذا الموت تميزه أيضا درجة متقدمة من الاختلاط الجسدي إلى درجة تعذّر التمييز بين الأجساد. 

وعلى الخط نفسه، لكن مع توسط تكنولوجي أكبر، القتل بتفجير سيارات مفخخة، سواء كانت مأهولة بالقاتلين أم خالية منهم. على أن النمطين الأخيرين ليسا داعشيين حصرا، إذْ أنَّ السيارة المفخخة تعتمدها أجهزة مخابرات متنوعة (اغتيال الحريري مثلا، ووسام الحسن)، وسبق لحزب الله أن استخدمها ضد أميركيين وفرنسيين عام 1983. أما الحزام الناسف فاستخدمه فلسطينيون منذ نهاية القرن الماضي. 

لكن ذروة نمط الاغتيال الجماعي هي هجمات 11 أيلول الإرهابية في الولايات المتحدة في أيلول2001. 

وتمارس داعش أيضاً إعداماً بالرصاص من مسافة قريبة جداً، إعداماً غيرَ مسبوق بإجراءات قضائية من أي نوع.

داعش تفضل أنماط الموت المباشرة، وتجعل منها علامة على هويتها. وهي لا تفعل ذلك لأسباب تكنولوجية، ولكن لأن نمط الموت هذا متأصل أكثر في نمط الحياة الداعشي. ونمط الحكم والسياسة أيضا. 

في عمق التكوين الداعشي انجذاب شديد للموت، ينعكس على كل حال في حياة عموم الدواعش وبلاغتهم ورموزهم. الجماعة معادون للفن عداء جذريا، وملتصقون بحياة ترابية تجتهد في أن تضيق المسافة بينها وبين الموت إلى أقصى حد. ولعل المسافة الضيقة بين الداعشي وضحيته هي أيضا المسافة بينه وبين موته الخاص. أعني استعداده الميسور للموت، الأمر الذي ربما يقيس كذل الاعتقاد الداعشي بقرب المسافة بين «الدارين»: «يستشهد» في هذه «الدار»، فلا يلبث أن يحيا هناك منعما في «الدار الأخرى».  

وفي خطاب داعش احتفاء قوي بالموت والقتل ومفرداتهما. حين يقول داعشيون مثلا بأن أنيسهم الأشلاء وشرابهم الدماء، وحين يهزجون للذبح والسيف، فإن في هذا ما يعني أنهم يعيشون في الموت وبه ومن أجله.   

ولعل في إرادة دفن المرأة حية بلباس أسود فضفاض، يخفي كيانها وشخصيتها، ما يشكل أيضا تقربا للموت. المرأة ترمز للحياة، إنْ من خلال بهجة الجنس، أو من خلال الولادة. يقاوم التكوين الداعشي ما تمثله المرأة من مقاومة للموت.  

ومثلما يهيمن الداعشي على مصير ضحيته حين يذبحه، تهيمن داعش على من تحكمهم، فلا مجال للحياة الخاصة في ظلها. حكم داعش هو إخضاع مباشر ومطلق للمحكومين، تعرية مستمرة وذبح للخصوصية، وحربها حرب إبادة، وليس فرضا للإرادة على الخصوم. 

ومن حيث أنه ملموس ومضاد للتجريد فإن حكم داعش طائفي، يعرف نفسه بعقيدته السلفية، ولا يرى الناس إلا منسوبين لعقائدهم. سلوك القوم صريح في ذلك على كل حال. داعش، والسلفية الجهادية عموما، هي القوى التي تجعل من الطائفية مبدأ فكريا وسياسيا وأخلاقيا مقدسا.

نمط الموت الأسدي

نمط الموت الثاني يخص قاتلا ثانيا هو النظام الأسدي. 

لدينا هنا خمسة أنماط فرعية من القتل. أولها القتل الحربي، المتميز بدرجة متقدمة من التجريد، تتناسب مع تقدم سلاح القتل تكنولوجيا. يقتل النظام عن بعد متفاوت، بالرصاص والمدافع والدبابات، وقاذفات الصواريخ، والطائرات المروحية والطائرات الحربية، وصواريخ سكود، والسلاح الكيمياوي. الموت جماعي هنا، إن من حيث منتجيه من جهة النظام (جيش وتشكيلات مسلحة) أو من حيث مستهلكيه وضحاياه (سكان مدنيون وتشكيلات مقاومة للنظام). والمسافة تتفاوت في كل حال بين القاتلين والمقتولين، وقد تبلغ مئات الكليومترات في حالة صواريخ سكود. التماس الجسدي معدوم دوما.

الطيار وطاقم الدبابة ومطلقي الصورايخ والقذائف الكيماوية لا يرون ضحاياهم مباشرة، ولم يعاينوا خوفهم ويشموا رائحة دمائهم.  

لكن طاقة النمط الحربي من الموت الأسدي، أكبر إحداثا للدمار المادي أو للموت العمراني، بما لا يقاس من طاقة نمط الموت الداعشي.

نمط الموت الأسدي الثاني يشابه نمط الموت الداعشي، القتل تحت التعذيب في المقرات الأمنية. في مطلع عام 2014 علمنا أنه قتل في مصانع الجحيم تلك في دمشق وحدها 11 ألفا، وهذا بين بداية الثورة وآب 2013. بالمعدل نفسه يكون قتل حتى اليوم 16 ألفا.

هؤلاء الضحايا قتلوا تحت التعذيب مباشرة، أو بفعل التعذيب، لكن تحت أعين معذبيهم وبإشرافهم، ومع بتر أجسادهم أحيانا (الطفل حمزة الخطيب الذي بُتر قضيبه، والدكتور صخر حلاق من حلب وقد اقتلعت عيناه)، أو بفعل تجويعهم في تلك المصانع، أو بفعل الاختناق والجوع للهواء في زنازين مكتظة جدا. ربما لم ير كل المقتولين قتلتهم (يشيع أن يكون الضحايا مُطمّشين)، لكن كل القتلة رأوا مقتوليهم. 

وبقدر ما إن أشكال الموت الملموسة هي نمط الموت الداعشي الخاص، نرى أن القتل تحت التعذيب هو نمط الموت الأسدي المميز، وله فيه تراث عريق. جوهر داعش هو الذبح، وجوهر النظام الأسدي هو القتل تحت التعذيب. 

هناك شكل ثالث من أشكال نمط الموت الأسدي: المذابح، يقوم بها الشبيحة أو متماهون أهليون بالنظام، محليون كما في الحولة والتريمسة والقبير وكرم الزيتون وبانياس وغيرها، أو وافدون كما في النبك (كان القتلة من شيعة العراق). وفي عام 2012 تواردت أنباء وصور عن حرق بشر أحياء من درعا في الجنوب ومن بانياس.  

ومن نمط الموت هذا أيضا قتل شخص واحد على الأقل بعد طعن بالسكاكين، ثم هرس رأسه بكتلة إسمنتية على يد عناصر النظام. هذه مذبحة، وإن يكن ضحيتها فرد واحد.  

في المذبحة مزيج من التجريد الأدنى والتماس الجسدي، ومن الجماعية. العنف هنا تمييزي جدا، وفي كل هذه الحالات اقترنت المذابح بنهب الممتلكات، وفي بعضها باغتصاب نساء.

عموما تقترن أشكال القتل الأكثر ملموسية بالطائفية، أي بنمط الحكم الأقل تجريدا أيضا. الصفة الطائفية البارزة للأجهزة الأمنية السورية معلومة، وفيها تجري ممارسات القتل الملموس، وتقترن دوما بكراهية وبذاءة مفرطتين. 

هناك نمط موت رابع يمارسه النظام، هو الإعدام. يرجح مثلا أن المقدم حسين الهرموش، أحد أقدم المنشقين عن جيش النظام، قد أعدم. لكن المسافة بين الإعدام وبين القتل تحت التعذيب وصلت لحد  الانمحاء على يد النظام الأسدي، بدرجة تتناسب مع تراجع الدولة العامة لمصلحة المملكة الخاصة، ونمو الطائفية والملموسية على حساب الوطنية والتجريد في تكون النظام وسياساته. أعني معاقبة الناس وقتلهم لما يكونون وليس لما يفعلون. من ذلك مثلا القانون 49 لعام 1980، وهو يقضي بإعدام المتهم بالعضوية في تنظيم الإخوان المسلمين، أيا يكن ما فعله أو لم يفعله. 

ولعل التعارض بين هذا النمط الملموس والطائفي من الموت، وبين منطق الدولة العام، هو مصدر السرية والتكتم الشديد على عمليات القتل (والتعذيب والاعتقال) في سوريا. وهذا هو الفرق بين نمطي القتل الطائفيين عند النظام وداعش، إذْ أنَّ الأخيرة تقتل الناس لما يكونون أيضا وليس لما يفعلون (سائقو الشاحنات الذين قتلوا لأنهم علويون، ولا يعرفون عدد ركعات الصلاة…)، ولكن نمط الموت الأثير عند الأخيرة مشهدي لأنها فخورة بطائفيتها، بينما نمط الموت عند النظام سري لأن طائفيته تتعارض مع موقعه المسيطر على الدولة العامة.    

نمط الموت الأسدي الخامس هو الموت جوعا تحت الحصار، هذا حصل في مخيم اليرموك (فوق 150 شهيدا ماتوا جوعا) وفي المعضمية وداريا والغوطة الشرقية. وابتكر له النظام شعارا خاصا: الجوع أو الركوع!، ولا شيء أكثر من هذا الشعار يكشف الارتباط بين أنماط الموت وبين السياسة، أو بالأحرى الصفة السياسية جدا للموت السوري. وللحياة أيضا، ولمجرد الحصول على الطعام. الركوع هو الخضوع للنظام، وإلا فالموت.    

لا يبعد النظام عن داعش من جهة أن تصوره للسياسة يعني إبادة المعترضين عليه، سياسيا من كل بد، وفيزيائيا إن تمردوا على شرط الإبادة السياسية. فإن كان من نمط حياة أسدي خاص يمكن تمييزه، فهو الاستئثار بالحياة او الانفراد بالحياة والملك، إرادة حيازة كل شيء وانتزاع كل شيء من يد الغير، وعدم التمييز بين الحكم والملك. المحكومون مملوكون، لذلك يمكن قتلهم بإرادة المالك إن خرجوا عليه.

نمط الموت الأميركي

نمط الموت الثالث خاص بالأميركيين الذي دخلوا المشهد السوري بصورة مباشرة قبل أقل من شهرين، فيما يصلح اصطلاحيا وسياسيا اعتباره نهاية الثورة السورية. 

هنا الموت الأكثر تجريدا، لا تماس جسديا من أي نوع بين صانعي الموت ومستقبليه. صواريخ توماهوك تطلق من مسافة مئات الكلومترات، والطائرات الحربية تطلق صواريخها من مسافات بعيدة. لا تلاقي نظرات ممكن بين الطرفين، ولون الدم ليس مرئيا من طرف القاتلين. 

رهان نمط الموت الأميركي، هو ألا يُقتَل فرد واحد من عمّال هذا النمط. لكن لا نستبعد أن دخول الأميركين للصراع السوري سيطول، ويتجه إلى أن يكون أقل تجريدا. 

في صراعهم مع داعش، يخوض الأميركيون الصراع بمنطق حرب الإبادة، وليس الحرب السياسية التي يتعرف النصر فيها بأنه فرض الإرادة على الخصم وإجباره على التراجع. هذا لا يعني أنه سيبيدون داعش، أو لن يتوقفوا عن حربها دون تحقيق هذا الهدف. نرجح أن يفشلوا لأنه ليس لديهم خطة سياسية معقولة، عادلة أو ربع عادلة، ليس لديهم غير قتل عن بعد، دون المجازفة بقتيل واحد من طرفهم. 

ليس نمط الموت الأميركي، وإن يكن مجردا تكنولوجيا، مجردا بالفعل سياسيا. هو يستهدف قاتلين بالقتل، لكن ليس لكونهم قاتلين، ولا بسبب نمط القتل الخاص بهم، بل لأنهم قتلوا أميركيين، ويهددون نظام المصالح الأميركية في الإقليم. 

ولا يشكل نمط القتل الأميركي قطيعة مع نمطي القتل السابقين إلا بتفوقه التكنولوجي. من الناحية السياسية والأخلاقية، هو موت يلحقه طرف خاص، غير حائز على قضية عامة عادلة في سوريا، بطرف خاص، لا قضية عادلة له، ويستفيد من ذلك طرف خاص ثالث لا قضية عادلة له أيضا. ليس بين القاتلين الثلاثة من هو قوة عامة و«تقدمية» بأي قدر.

على أن نمط الموت الأميركي المميز في منطقتنا هو القتل الجماعي عبر القصف بالأسلحة المتقدمة. ولعله يحيل إلى رغبة في حكم المنطقة عن بعد، دون تورط مباشر، يتسبب لهم بخسائر بشرية. نية الأميركيين في تدريب مقاتلين سوريين «معتدلين»، تشير إلى هذا المقصد نفسه، أن يكون هؤلاء المقاتلون قوات برية بديلة، تخصوص حرب الأميركيين بدلا منهم. ولعل الأميركيين سيوظفون أكثر في إسرائيل، لا أقل، بدرجة تتناسب مع إرادتهم تقليل حضورهم المباشر وقتلاهم هنا.  

لا يزال نمط الموت الأميركي جديدا، وليس في سجله المباشر في سوريا كثير من الجرائم. لكن سوابقه معلومة. في العراق عبر القصف والتجويع والحصار والتعذيب في السجون، وفي أفغانستان ما يشبه ذلك. هذا «برنامج» مستبطن في السياسة الأميركية وفي نظرتها إلى المنطقة، وليس هناك ما يسوغ لنا الاعتقاد بأننا لن نرى مثل ذلك في وقت قريب في سوريا.

ولا يبعد أن يأتي وقت ينزل الأميركيون فيه قواتاً على الأرض، ويمارسون أشكالا من القتل الأقل تجريدا، والأكثر طائفية أو تمييزا. وهذا بالضبط لأنهم مثل داعش، ومثل النظام، يريدون ترويع وكسر عزيمة من قد يقاومهم، والغرض، خلافا لداعش والنظام، التقليل من خسائرهم. الإرهاب الأميركي مصمم لحفظ المسافة الكبيرة بينهم وبين من يقع عليه إرهابهم. ولأن أميركا دولة ديمقراطية في أرضها (وليس في «الشرق الأوسط»)، فإن المسافة المعنية هي بين الأميركيين وبين السوريين أو العراقيين أو الأفغان، وليس مثل الطغمة الأسدية التي لا تقيم وزنا لحياة أتباعها والموالين لها، وتحرص على اتساع المسافة بينها وبينهم بقدر لا يقل كثيرا عما بينها وبين أعدائها.

سياسة القتل

ليس أي من أنماط الموت هذه حديثا.

للأميركيين سجل عالمي معروف، ذكرنا سوابق قريبة له، لهم سوابق من الصنف نفسه في أميركا اللاتينية، وفي فيتنام وجنوب شرق آسيا، ولهم حتى اليوم الرقم القياسي العالمي في قتل أكبر عدد من الناس في وقعة واحدة، ذلك في اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية.  

وسبق للنظام أن قتل سوريين بالجملة والمفرق. بخاص في الحرب الأسدية الأولى بين 1979 و1982. لكن كان نمط الموت الحربي أقل وقتها، والأشيع هو نمط الموت تحت التعذيب، أو الإعدام في سجن تدمر، هذا عدا المجازر الكبيرة، مثل مجزرة سجن تدمر 1980، ثم أم المجازر كلها، حماه 1982. وفي كلها قليل من التجريد الوطني وكثير من المحسوس الطائفي. 

وبالمثل لنمط القتل الداعشي عمق استراتيجي وتاريخي يحيل إلى ماض قريب من الذبح المشهدي والمفخخات في العراق، والموت الإسلامي في السعودية وإيران وأفغانستان، ومجزرة المدفعية في حلب 1979. 

والعلاقة بين الفاعلين الثلاث والقتل جوهرية في الحالات الثلاث ليس بوصف الفاعلين «دول»، والقتل هو العقوبة السيدة التي تستأثر بها الدول، بل بفعل التكوين الامتيازي المضاد تأسيسيا للمساواة لهذه «الدول» الثلاث. النظام الأسدي المتطلع إلى حكم أبدي لا يقبل المساواة مع محكوميه، أو بالأحرى مملوكيه، ومعلوم أن أول فعل له كان فعل الاعتقال، ولم يخرج المعتقليْن الأساسيين من السجن حتى موتهما. أعني أنه ولد في العنف، وخاض حربين كبيرتين ضد محكوميه ليبقى. 

ولا تقبل داعش المساواة ليس فقط بين المسلمين وغير المسلمين والذكور والإناث، بل هي قوة تمييز وعنف حتى في الوسط السلفي الجهادي. ولعلها تنفرد على مستوى العالم بالنضال من أجل عودة الرق. وفي تجربتها المكونة في العراق كثير من العنف والقتل والدم، وفي سجل أنسابها تنظيم القاعدة، وولادته في شروط مماثلة.     

ومثل ذلك بخصوص أميركا الشرق أوسطية، فهي قوة امتياز وعنف، وليست قوة مساواة وتفاهم وسياسة، وسجلها في دعم الطغيان في منطقتنا مشين، وسجلها العراقي رهيب، وفضلها في السجل الإسرائيلي لا يقبل النسيان والتخفيف، وليس هناك أي سبب لتوقع أن يكون سجلها السوري أنظف. 

والعبرة البسيطة التي نستخلصها من هذا البسط المجمل ليس أن القتل فعل سياسي، فهذا ظاهر جدا، بل إن السياسة فعل قتل. سيلزم القيام بتقص أوسع لهذا الشرط يوما. لكن ظاهر اليوم أن القتل هو السياسة المفضلة عند الثلاثة. أوّله قتل الناس جميعا، وآخره قتل السياسة ذاتها.