فقد النظام السوري سيطرته تباعاً على أغلب المخافر والنقاط العسكرية الحدودية مع المملكة الأردنية الهاشمية خلال مراحل مختلفة من عمر الثورة السورية، وأحكمت كتائب الثوار سيطرتها على أغلب الشريط الحدودي الفاصل بين سوريا والأردن في سهل حوران. لكن معبر نصيب الحدودي بقي خاضعاً لسيطرة قوات النظام السوري حتى ساعة كتابة هذه السطور، وبقي مفتوحاً في أغلب المراحل أمام السيارات الشاحنة التي تنقل البضائع من سوريا إلى الأردن، ومن لبنان إلى الأردن عبر الأراضي السورية، ومن لبنان إلى دول الخليج العربي عبر الأراضي السورية والأردنية.
لم تكن كتائب «الجيش الحر» وسائر كتائب المعارضة المسلحة في محافظة درعا عاجزة خلال السنتين الماضيتين عن السيطرة على المعبر، أو أقله عن قطع جميع الطرقات التي تؤدي إليه. ولعل هذا ما دفع كثيرين إلى توجيه اتهامات لها بالخضوع للإملاءات الخارجية بخصوص المعبر، إلا أن المسألة لا تتعلق بموازين القوة العسكرية فقط عندما يتعلق الأمر بالمنافذ الحدودية، بل إن الأمر يتعلق أولاً بالاقتصاد والعلاقات الدولية والمصالح المتبادلة.
ربما يكون من الصعب التأكد من صحة التسريبات والتكهنات التي تتحدث عن تهديد الحكومة الأردنية بإغلاق المعبر نهائياً إذا خرج عن سيطرة النظام السوري، وبالتالي إفراغ سيطرة كتائب الثوار عليه من كل مضمون. لكن الوقائع تشير إلى أن ثمة ما يشبه هذا خلف الكواليس، وهو ما يؤكده قطع الطريق الرئيسي المؤدي إلى المعبر عدة مرات على يد كتائب مناوئة للنظام السوري، وإعادة فتحه دون إعلان الأسباب، لتأتي مجريات معركة «أهل العزم» التي تدور رحاها هذه الأيام تأكيداً إضافياً على صحة هذا الاستنتاج.
على بعد بضعة كيلومترات إلى الشمال من بلدة نصيب المجاورة للمعبر، والتي تسيطر عليها كتائب المعارضة المسلحة، تقع بلدة أم المياذن الخاضعة بدورها لسيطرة هذه الكتائب. وهي بلدة صغيرة تشرف على طريق دمشق- عمان الدولي، وتشرف على واحد من أكبر معاقل النظام في درعا حيث مربع أم المياذن الأمني- العسكري الذي يشكل خط الدفاع الرئيسي عن معبر نصيب، ويفصل بين ريف درعا الشرقي وريف درعا الغربي في أقصى جنوب المحافظة. وانطلاقاً من مواقعها في تلك المنطقة الحساسة أعلنت كتائب في الجيش السوري الحر، وكتائب مسلحة أخرى، في السابع عشر من الشهر الجاري بدء معركة «أهل العزم» بهدف السيطرة على «حاجز جسر أم المياذن- الطيبة، وحاجز المعصرة، وحاجز الكازيات» كما جاء في بيان إطلاق المعركة. وتمكنت الكتائب المشاركة في غضون أيام من إحكام سيطرتها على أغلب الحواجز والثكنات العسكرية في المنطقة المحاذية لبلدتي أم المياذن ونصيب، وكبدت قوات النظام خسائر فادحة، وأحكمت حصارها على المنفذ الحدودي دون أن تتقدم للسيطرة عليه حتى اللحظة.
تستمر المعارك الضارية في جميع المناطق المحيطة بالمعبر، وتتعرض بلدتا نصيب وأم المياذن لقصف جوي عنيف وغير مسبوق أدى إلى استشهاد مدنيين. وقد أدت هذه المعارك إلى تسهيل حركة الثوار بين ريف درعا الغربي وريف درعا الشرقي، وهو ما يبدو ضرورياً لتأمين خطوطهم الخلفية في معاركهم باتجاه ريف دمشق الجنوبي والغربي. كما أنها أدت في الوقت نفسه إلى إيقاف الحركة التجارية البرية بين لبنان والأردن، وبين لبنان ودول الخليج العربي عبر الأردن، وتسببت باستنفار أمني كبير للقوات الأردنية على طول الحدود هناك. ولا يمكن التنبؤ الآن بما ستؤول إليه مجريات المعركة، لكن المؤكد أن مصير المعبر ليس رهيناً فقط بموازين القوة العسكرية، بل إن شياطين السياسة والجغرافيا والاقتصاد تحضر في جميع التفاصيل.
يشكل معبر نصيب الحدودي المنفذ البري الوحيد الذي تعبر منه البضائع التي يتم تصديرها برياً من لبنان وسوريا إلى الأردن والسعودية وسائر دول الخليج العربي، وهو يحتل أهمية كبرى خاصة فيما يتعلق بتصدير الخضراوات والفاكهة. ويتسبب إغلاقه بكساد كميات كبيرة منها في لبنان وسوريا، ويجعل تأمينها أصعب وأعلى كلفة بالنسبة للأردن الذي تنقصه الأراضي الزراعية الخصبة، وكذلك -وإن بدرجة أقل- بالنسبة لدول الخليج العربي التي تؤمن كثيراً من احتياجاتها من مصادر أخرى. ويتسبب إغلاقه بخسائر اقتصادية كبيرة للبنان والأردن، وكذلك بالنسبة للنظام السوري، الذي يستثمر في المعبر سياسياً واقتصادياً. وتحتل الأهمية السياسية للمعبر موقعاً أبرز من الأهمية الاقتصادية بالنسبة للنظام السوري، إذ تشكل سيطرته على المعابر الحدودية مصدراً من مصادر شرعيته الدولية، بعد أن فقد جميع مصادر شرعيته الداخلية.
تتهم شرائح واسعة من أنصار الثورة السورية حكومة المملكة الأردنية بالتعاطف مع النظام السوري، وتتهمها بالتضييق على السوريين، وعدم التعاون مع فصائل الثورة المسلحة. وهذا يبدو حقيقياً إلى حد بعيد إذا ما تمت مقارنة مواقفها وسلوكها بمواقف وسلوك الحكومة التركية. لكن لمعبر نصيب قصة ذات صلة بالمصالح الاقتصادية بالدرجة الأولى، إذ لا يمكن أن تمر عبره القوافل التجارية سواء كان مصدرها لبنان أو سوريا دون المرور عبر مناطق واسعة يسيطر عليها النظام السوري بشكل محكم. هذا حكم الجغرافيا التي يلعب فيها «حزب الله» وقوته الضاربة على جانبي الحدود السورية- اللبنانية دوراً محورياً، وهذا حكم السياسة على فشل المشتغلين بها ممن تصدوا لمهمة تمثيل الثورة السورية، وهذا حكم الاقتصاد ودورة رأس المال التي يهم أصحابها أن تستمر على نحوٍ مربح قبل أي شيء آخر.
لن تتسامح المملكة الأردنية مع سيطرة كتائب الثوار على المعبر، أو على الطرقات المؤدية إليه، ما لم يكن هناك تفاهمات تؤمن استمرار الحركة التجارية، وهي التفاهمات التي لا بد أن يكون النظام السوري طرفاً فيها بشكل مباشر أو غير مباشر. أما ما تملكه الحكومة الأردنية من أوراق ضغط على الثوار وقيادة فصائلهم المسلحة، فهو كثير إلى درجة أن الاتهامات السابقة لهم بالتخاذل والخضوع للإملاءات الخارجية فيما يتعلق بالمعبر تبدو سخيفة وعدمية تماماً. تملك الحكومة الأردنية أوراقاً كثيرة تبدأ بالضغط من خلال قضية اللاجئين، ولا تنتهي عند حدود المساومة على عرقلة كل أشكال المعونة بما فيها الإنسانية عن الثوار وحاضنتهم الشعبية عبر الحدود الأردنية السورية، بل ربما تصل إلى حد المساومة على تقديم مساعدات لوجستية ومخابراتية للنظام السوري.
يستمر ثوار حوارن في كتابة فصول ملحمتهم التراجيدية في مواجهة قوات النظام السوري، وفي مواجهة مجمل الظروف السياسية والاقتصادية المعقدة، وفي مواجهة خلو لعبة الأمم من أي بعد أخلاقي. وهم إذ يخوضون اليوم معركة تأمين طرقات التواصل بين شرق ريف درعا وغربه في ذلك الجيب الاستراتيجي بين أم المياذن ونصيب، فإنهم يخوضونها وعيونهم على المعبر الحدودي الأخير الذي قد تشكل سيطرتهم عليه بموجب تفاهمات معلنة أو غير معلنة فاتحة لمرحلة حاسمة من عمر الثورة في جنوب سوريا، في حين قد تشكل سيطرتهم عليه بالقوة دون تفاهمات كهذه عبئاً إضافياً على مجمل الثورة وحاضنتها الشعبية في سهل حوران والقنيطرة وصولاً إلى أطراف ريف دمشق.