قبل مدة، قام مجرمو داعش بتنفيذ جريمة الرجم بحق فتاتين في مدينة الرقة. إحداهما تدعى شمسة العبدالله، عمرها 26 سنة، من أهالي مدينة الطبقة التابعة للرقة. قبل عشر سنوات، عندما كان عمرها 16 عاماً، تم تعييني مدرّساً في إحدى ثانويات المدينة للبنات، وتدور الآن في ذهني عدة صور لطالبات ممن يحملن هذه الاسم، وهو اسم شائع في تلك المنطقة، ولا أدري إن كانت الشهيدة إحداهنّ.
على ماذا استند المجرمون في تنفيذ جريمتهم؟ هذا ما سيحاول النص هنا التعرّض له، من دون الغوص في تناول هذه الجريمة من زاوية انتهاكها للإنسان وكرامته وحياته، ولا من حيث بشاعتها وفظاعتها، فهي أمور نعتقد بها. يخوض مقالنا هنا بالمنظومة التي يستند إليها أهل الرجم، فالقرآن وكذلك بعض النصوص الفقهية وبعض السير ستكون حاضرة فيه، وإذ سيقتصر على هذا، فهو يهدف إلى بيان كم التناقضات والثغرات والهشاشة المتضمنة في هذه المنظومة. في سياق عرضه للأحكام والنصوص والوقائع، لا يميل أو يتبنى مقالنا أياً منها ولا يفاضل بينها، بل إن امتلاك الإنسان-الفرد لعقله وجسده وقراره هو ما نُقرّ ونؤمن به، بالضد من الشموليات المنحطّة وهواجس الجماعات التي توسوس على الدوام بضرورة تماسكها ووحدتها، مخترعةً لأجل هذا أعداء خارجيين لا تنال منهم بقدر ما تنال من كل فرد مستقلّ بوصفه عدواً داخلياً أخطر، داعمةً كل ما من شأنه أن يعلي من غرائز القطيع، وجاعلةً الخنوع واليأس والعزلة والأنانية من فضائل الحياة، بينما نيل الفرد استقلاله والاعتراف برشده وكرامته من رذائلها.
أولاً: السياق القرآني
في القرآن الذي وصل إلينا، نقع على موضعين ورد فيهما ذكر لعقوبات بخصوص واقعة «الزنا»، أولهما نجده في سورة النساء، الآية 15: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}. هذه الآية التي تخاطب الذكور، ويبدو أنها تحمّل النساء وزر الجنس غير المباح، الزنا، لن تلبث الآية التي تليها أن تذكر الطرفين، مبينةً ما هو السبيل الذي قد يسهّله الله، تقول الآية 16: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا، فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا، إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا}. ويشرح القرطبي في تفسيره معنى الإيذاء الوارد في الآية 16 فيقول: «قال قتادة والسدِّي: معناه التوبيخ والتعيير. وقالت فرقة: هو السبّ والجفاء دون تعيير. ابن عباس: النيل باللسان والضرب بالنعال. (…) وقال ابن النحاس: وقيل وهو أولى: إنه ليس بمنسوخ، وأنه واجب أن يؤذَيا بالتوبيخ، فيقال لهما: فجرتما وفسقتما وخالفتما أمر الله عز وجل» الجامع لأحكام القرآن، محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي، تحقيق: د. عبدالله بن عبد المحسن التركي، وشاركه في تحقيق هذا الجزء: محمد رضوان عرقسوس وماهر حبوش، ج6، دار الرسالة، بيروت، ط1: 2006، ص142 و143.. الموضع الثاني هو ما ورد في سورة النور، التي كرّست آيات طويلة فيها للزنا وأحكامه. تنصّ الآية الثانية من النور: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ}. يذهب القرطبي إلى أن هذه الآية «ناسخة لآية الحبس وآية الأذى، اللتين في سورة النساء باتفاق» الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ج15، ص102.، وسيبدو هذا منطقياً بما أن سورة النور نزلت بعد سورة النساء، إذ ينسخ الجديد القديم. إلا أن القرطبي، وهو لا يتفرد بهذا بكل حال، يشير إلى أن «المائة جلدة» هو حدّ يختص بالزاني الحرّ والبِكر، وبالزانية الحرّة البِكر والبالغة المصدر السابق، ص102.، مع أن منطوق الآية عام ولم يتضمن ما يشير إلى هذا التحديد! أما كيف استدل القرطبي على هذان فكان من خلال الاستعانة بـ«الجمهور»، الذين «استدلوا على أنها غير عامة بخروج العبيد والإماء منها» المصدر السابق، ص105.! إن اللفظ العام للآية يوحي على العكس تماماً، أنها لم تستثنِ أحداً أبداً، ومع ذلك، فليست حجةً تلك التي اعتمدها جمهور القرطبي حول «العبيد والإماء»، إذ إن جميع الآيات التي تذكر هؤلاء والحدّ اللازم عليهم في حال الزنا منفصلة عن الأحكام الأخرى التي تتناول «الأحرار»، وخصّهم القرآن بنصف عقوبة الحرّة والحرّ لأن من الممنوع عليهم أن يتساووا حتى في العقوبة. وفوق هذا، ماذا نفعل بالآيات المتسلسلة في سورة النور، حيث يأتي ذكر «المُحْصَنات» في الآية الرابعة منها (والتي سيأتي ذكرها)؟ ولكن بما أن «الجمهور» قَصَرَ حدّ الجلد على الأبكار من النساء والرجال، فماذا قرّر في موضوع زنا المُحْصَنات؟ الرجم طبعاً! ولكن على ماذا استندوا في ذلك؟ يزعم هذا الجمهور أن لزنا المُحْصَنات حكم قرآني تنصّ عليه آية من سورة الأحزاب، هي «والشيخُ والشيخةُ إذا زَنَيَا فارجموهما البتّةَ نكالاً منَ اللهِ واللهُ عزيزٌ حكيم». ولكن سورة الأحزاب تخلو من هذه الآية! وعلى هذا يجيب الجمهور بأنها تندرج ضمن «المنسوخ تلاوةً الباقي حكماً».
سور الأحزاب والنساء والنور تصنَّف ضمن السور المدنية، ويذكر الفقهاء أن ترتيبها في «النزول» يختلف عن ترتيب السور في القرآن، فحسب هذا الأخير تأتي سورة النساء 4، وسورة النور 24، بينما سورة الأحزاب 33. أما بحسب النزول فالترتيب هو كالتالي: الأحزاب 90، النساء 92، النور 102. إذاً فسورة الأحزاب سابقة على النساء والنور، فمن إذاً ينسخ من؟ كيف للسابق أن ينسخ اللاحق، حتى في حال التسليم بوجود هذه الآية؟ لماذا يقول الله أشياء عن موضوع ما، إذا كان ما قاله سابقاً هو الذي سيبقى جارياً بأحكامه؟ ما معنى هذا؟ في حال التسليم بوجود آية الرجم هذه، فإنه جرى عليها نسخان اثنان، في سورة النساء ثم النور. أما عن ترتيب السور المغاير لترتيب نزولها، فهو كما تذهب بعض الروايات من صنيع الصحابة، وهناك مصاحف أخرى رتبت بحسب نزولها كمصحف علي، ومصاحف أخرى بترتيب مختلف كما في مصحف ابن مسعود ومصحف أُبيّ. والأنكى هي تلك الروايات التي يذكرها القرطبي في مقدمته لتفسير سورة الأحزاب، فهي تقرر أن آية الرجم وردت فيها، لكنها في نفس الوقت تذكر أن هذه السورة كانت تعادل في حجمها وعدد آياتها سورة البقرة، وبقي منها ثلاث وسبعون آية! وفي رواية عن عائشة أن هذا كان من فعل الله الذي «رفع إليه من سورة الأحزاب ما يزيد على ما عندنا» الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ج17، ص48.. وبما أن آية الرجم ليست موجودة بما هو موجود «عندنا»، إذاً لماذا لا تكون مرفوعة مثلها مثل أخواتها؟ لماذا هي دوناً عن غيرها رُفعت من النص ولكن بقي حكمها جارياً؟ ماذا عن تلك الآيات المرفوعة، عن ماذا كانت تتكلم ولماذا لا يوجد خبر عنها؟ ولا سيما أنها من الآيات المنسوخة حكماً وتلاوةً، بينما لا يتذكر أُبيّ بن كعب منها سوى آية الرجم المصدر السابق، ص48 و49.!
في سورة النور اللاحقة على الأحزاب، ثمة عملياً نسخ لأية عقوبة على زنا المُحْصَنات، ففي الآية الرابعة من النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا، وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. نزلت هذه الآية، كما في الروايات المتعلقة بها، نزولَ الصاعقة على المجتمع الذكوري، وهو ما عبّر عنه سعد بن عبادة، أحد زعماء يثرب، الذي أخذ يلطم قائلاً: «لهكذا نزلت يا رسول الله؟ لو أتيت لكاع قد تفخذها رجل، لم يكن لي أن أهيّجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته» المصدر: http://library.islamweb.net/hadith/display_hbook.php?bk_no=338&hid=23614&pid=571447 وانظر أيضاً الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ج15، ص139 و140.، فإن تكلم بما رآه، فإن هناك ثمانين جلدة تنتظره، عدا عن تكسيره اجتماعياً، فلا شهادة تُقبل منه، ويغدو من الفاسقين! من الأجواء التي أحاطت بهذه الآية إثر نزولها، يظهر استثقال الذكور المحيطين بالرسول لها، وكان من المحتمل أن تتصاعد حدّة الاحتجاج عليها، إلا أن الوحي سيتدخّل ويتعامل مع هذا الأمر. وفي الرواية أن هلال بن أمية جاء الرسول وقذف امرأته أمامه «فكَرِهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أتاه به وثقُل عليه جداً حتى عُرف ذلك في وجهه» المصدر: http://library.islamweb.net/hadith/display_hbook.php?bk_no=338&hid=23614&pid=571447.. وفي رواية القرطبي أن محمداً طالبَ هلالاً بالبيّنة وإلا فحدّ القذف بانتظاره، ورغم جواب هلال واستغرابه: «يا رسول الله، إذا رأى أحدنا رجلاً على امرأته يلتمس البينة!»، إلا أن النبي كرر مطالبته: «البينة، وإلا حد في ظهرك»، فقال هلال بن أمية: «والذي بعثك بالحق إني لصادق، وليُنزلنّ الله في أمري ما يُبرئ ظهري من الحدّ» الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ج15، ص139.. وبالفعل، سيبشر النبي هلالاً بنزول براءته من الحد، وبأربع آيات من سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ}. ثم يروي القرطبي، كما غيره، ما حصل إثر نزول براءة هلال، إذ جمعه مع زوجته «في المسجد وتلاعنّا، فتلكأت المرأة عند الخامسة لما وعظت قيل أنها موجبة، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فالتَعَنَت، وفرّق رسول الله بينهما» الجامع لأحكام القرآن، المصدر السابق، ص140.. إذاً، فالنبي لم يرجم زوجة هلال بعد أن نزلت سورة براءته من الحد، بل وحتى بعد أن تلكّأت وصرّحت بأنها ستلاعن كاذبةً خوفاً على قومها من الفضيحة! ألا يجعل كل هذا من آيات اللِعان ناسخة لجميع العقوبات المقرّرة حول الزنا، ولا سيما أنها آخر الآيات المنزلة التي تطرّقت لحدود الزنا؟ هذا ما ينبغي أن يقوله المنطق والعقل، لا غرائز الفقهاء ورغباتهم.
يحمل القرآن في جعبته المزيد من النقض لآية الرجم المزعومة، فعلى سبيل المثال، الآية 25 من سورة النساء تقول: { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذَابِ…}. ونستعين هنا بمقاربة الشيخ عبد الله العلايلي الذي أعلن أن لا رجم في الإسلام، وأن الحدود الجزائية بغاياتها وليست بأعيانها. يقول العلايلي: «فلو كان عقاب المُحْصَنة من الحرائر الرجم حتى الموت، كان أحرى أن ينصّ عليه تعييناً لهوله [أي في القرآن] (…) على أننا لو تنزّلنا وسلّمنا بما ادّعَوا، فكيف يُفعَل بالإماء المُحْصَنات، وعليهن ’نصف ما على المُحْصَنات‘ من الحرائر؟ فهل ينصَّف الرجم المدّعى؟ وكيف؟ ولذا اضطر المفسرون إلى القول، في جانب الإماء، بنصف الجلد، أي الرجوع إلى العقوبة الأصلية الثابتة. وهذا وحده منهم هدم لادعاء الرجم من حيث لا يشعرون» أين الخطأ، عبد الله العلايلي، دار الجديد، بيروت، ط2: 1992، ص80 و81.. ويبقى غريباً ذلك التفسير الذي أقرّه ابن حزم الأندلسي لهذه الآية، هو أولاً ممن لا يكتفي بالرجم للمُحْصَنات الزانيات، بل من هؤلاء الذين يذهبون إلى أن الحدّ الواجب لهم هو الجلد أولاً ثم الرجم، استناداً لحديث منسوب للنبي، ويُروى أن علي بن أبي طالب فعل ذلك. يفسّر ابن حزم حدّ الأَمَة المُحْصَنة بالتالي: «والحرّة المُحْصَنة فإنّ عليها جلدَ مائة والرجم، وبالضرورة ندري أن الرجم لا نصفَ له فبقي عليهنّ نصف المائة، فوجب على الأمة المُحْصَنة جلد خمسين فقط» المحلى، ابن حزم الأندلسي، تحقيق: محمد منير الدمشقي، ج11، إدارة الطباعة المنيرية، مصر، ط1: 1352 هـ، ص237.! فكيف توصّل ابن حزم إلى أن الخمسين جلدة هي نصف الجلد والرجم حتى الموت، فهذا مما يثير الاستغراب، وبنفس الوقت يظهر كمّ الهوى وراء ذلك.
على منوال الشيخ العلايلي، سنناقش الآية 30 من سورة الأحزاب، وهي تنصّ: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}. وقبل أن نغوص في الآية وما فيها من مفارقات، نُثبت رأي القرطبي حول مضاعفة الحدّ المذكور في الآية، فمن ارتكب من نساء النبي الفاحشة «يضاعف لها العذاب ضعفين، لشرف منزلتهنّ وفضل درجتهنّ وتقدمهنّ على سائر النساء أجمع. وكذلك بيّنت الشريعة في غيرما موضع (…) أنه كلما تضاعفت الحُرُمات فهُتكت، تضاعفت العقوبات، ولذلك ضوعف حدّ الحرّ على العبد، والثيّب على البِكر» الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ج17، مصدر سابق، ص133.. والآن، ما هو الحد الذي ينبغي أن يضاعَف لنساء النبي في حال وقعنَ في الزنا، ولا سيما أنه حتى وقت ظهور هذه الآية في الأحزاب لا يوجد حدّ له مقدار يمكن القياس عليه ومضاعفته؟ حتى الرجم المزعوم أنه في سورة الأحزاب، ليس له مقدار حتى يضاعَف على أساسه، فكيف للرجم أن يضاعَف أصلاً؟! فبحسب فقهاء الرجم، نساء الرسول هنّ مُحْصَنات وحرائر، وبالتالي فالحدّ الذي ينبغي أن يضاعف هو حد الرجم، فكيف ذلك؟؟
ثانياً: في الناسخ والمنسوخ
في حديث منسوب إلى عائشة زوجة النبي، تقول فيه: «لقد نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشراً، ولقد كان في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشاغلنا بموته، دخل داجن فأكلها» سنن ابن ماجه، محمد بن يزيد القزويني الشهير بـ«ابن ماجه»، حكم على أحاديثه وآثاره وعلق عليه: محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، ط1: د.ت، ص337.. هذه الرواية مختلف عليها. ففي الوقت الذي حسّنها الألباني، ورواه ابن حزم الأندلسي وقال أنه «حديث صحيح» المحلى، ابن حزم، ج11، مصدر سابق، ص235 و236، ورواه الطبراني في المعجم الأوسط المعجم الأوسط، سليمان بن أحمد الطبراني، حققه: طارق بن عوض بن محمد وعبد المحسن الحسيني، ج8، دار الحرمين، القاهرة، 1995، ص12، فإن هناك من نال منه، كالقرطبي الذي قال أنها من «تأليف الملاحدة والروافض» الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ج17، مصدر سابق، ص49..
وفي روايات ثلاث أوردها السيوطي في كتبه الإتقان، الأولى: أن زيد بن ثابت وسعيد بن العاص كانا يكتبان المصحف فمرّا على آية الرجم «فقال زيد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ’الشيخ والشيخة [إن زنيا] فارجموهما البتة‘. فقال عمر: لما نزلت أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت أكتبها؟ فكأنه كره ذلك، فقال عمر: ’ألا ترى أن الشيخ إذا زنى ولم يُحصن جُلد، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رُجم؟‘» الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي، تحقيق: مركز الدراسات القرآنية، ج1، طبع بإشراف وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية، ص1467 و1468.. وفي الثانية: أن «مروان بن الحكم قال لزيد بن ثابت: ألا تكتبها في المصحف؟ قال: لا، ألا ترى أن الشابين الثَّيبين يُرجمان، ولقد ذكرنا ذلك فقال عمر: أنا أكفيكم. فقال: يا رسول الله أكْتِبْني آية الرجم؟ قال: لا أستطيع» الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، المصدر السابق، ص1468.. أما الثالثة عن عمر، أنه في خطبة قال: «لا تشُكُّوا في الرجم فإنه حق، ولقد هممْتُ أن أكتبه في المصحف، فسألت أُبيّ بن كعب فقال: أليس أتيتني وأنا أستقرئها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعت في صدري وقلت: أتُقرئه آية الرجم وهم يتسافدون تسافد الحمر؟» الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، ج1، المصدر السابق، ص1469.. والرواية الأخيرة من عند ابن الجوزي، عن عمر يقول إن الله أنزل على النبي «آية الرجم فقرأناها ووعيناها وعقلناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: لا نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلّوا بترك فريضة قد أنزلها الله، فالرجم في كتاب الله حق، على من زنى إذا أُحصن من الرجال والنساء…»، ويكمل ابن الجوزي: «وفي رواية ابن عُيَيْنة عن الزهري: [وأيم الله] لولا أن يقول قائل: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها في القرآن» نواسخ القرآن، ابن الجوزي، تحقيق: محمد أشرف علي الملباري، رسالة ماجستير، ط1: 1984، ص114 و115..
نسجل بعض الملاحظات على هذه الروايات التي تكاد تتكرر في معظم أدبيات الرجم كمرجعية وداعم:
1- بداية نشير إلى أن فقهاء الرجم يضعون آية الرجم من ضمن ما يطلق عليه «المنسوخ تلاوةً والباقي حكماً»، وهو أحد ثلاثة أنواع يتوزع عليها الناسخ والمنسوخ، فهناك إلى جانبه «المنسوخ حكماً والباقي تلاوة» و«المنسوخ تلاوة وحكماً».
2ـ ثمة تَناقُض بين رواية عائشة والروايات عن عمر، فرواية عائشة تُفيد أن آية الرجم كانت مكتوبة، ولولا دخول الداجن وأكْله للصحيفة لكانت ربما موجودة في المصحف الموجود الآن. بينما في روايات عمر جميعها، هذه الآية لم تُكتب.
3ـ لا يوجد في أي من هذه الروايات أي إشارة إلى نسخ تلاوة هذه الآية، مع أن هذا النسخ هو اختصاص إلهي، فلا يَنسخ كلامَ الله إلا كلامُ الله نفسه. بل وحتى بعض الآراء التي أجازت «نسخ القرآن بالسنّة»، لم تذكر في هذا الصدد ما يفيد النسخ عن النبي! بل إننا نجد في رواية عائشة أن الداجن هو سبب هذا النسخ وضياع الآية، فكان من الحريّ إعادة كتابتها وتنزيلها في القرآن عند جمعه. كما أن رواية عائشة تخبرنا أن هذه الصحيفة كانت تحوي آيتي الرجم ورضاع الكبير عشراً، إلا أننا نجد الفقهاء وضعوا آية الرجم ضمن «المنسوخ تلاوة والباقي حكماً» بينما وضعوا رضاع الكبير ضمن «المنسوخ تلاوة وحكماً»! فعلى أي أساس اعتمدوا في الفصل بين هاتين الآيتين، الموجودتين في نفس الصحيفة؟ لماذا إحداهما يبقى حكمها والأخرى تغيب هي وحكمها؟ وما هي الآية التي نسخت حكم آية الرضاع هذه؟
4ـ بينما في الروايات المنسوبة لعمر، ففيها من العجائب الكثير! نرى في بعضها النبيّ كارهاً لأن تكتب هذه الآية، ومرة أخرى يجيب عمر بأنه لا يستطيع! لماذا؟ لماذا يكره النبي تدوين وحي الله، أو لا يستطيع أن يجيب عمر إلى ذلك؟ لم تكتب هذه الآية على رغم أن الناس آنذاك كانوا «يتسافدون تسافد الحمر» بحسب رواية لعمر، وكان من اللازم كتابتها وإقامة الحدّ على هؤلاء الناس لا إخفاؤها عنهم. وفي رواية أخرى يؤكد عمر نزول آية الرجم، وأنهم قرأوها ووعَوها وعمل بها النبي وهم من بعده، إذاً ما معنى خوفه أن يقال أنه زاد في القرآن؟ هل يزيد من يريد أن يثبت آية قرأها ووعاها وعمل بها النبي وصحبه؟! ولا سيما أن المصحف لم يكن قد جُمع آنذاك، فهذا سيحدث على أيام خليفته عثمان. يضاف إلى ذلك عدم وضوح الآية والتباس معناها، فهي تتكلم عن زنا الشيخ والشيخة، ولهذا يراجِع عمر النبي ويسأله: ماذا نفعل بالشيخ البكر والشاب المُحْصَن؟ وكذلك زيد بن ثابت الذي يعلل لمروان بن الحكم عدم كتابتها: «ألا ترى أن الشابين الثيّبين يُرجمان»؟
الاختلاف في الروايات حول الرجم يساويه الاختلاف حول لفظ آية الرجم ذاتها، فقد رواها البعض بروايات مختلفة، نذكر منها:
الأولى: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم»، وهي الأكثر شيوعاً واعتماداً عند فقهاء الرجم؛
الثانية: «إذا أزنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم» نواسخ القرآن، ابن الجوزي، مصدر سابق، ص116، وكذلك الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، مصدر سابق، ص1457.؛
الثالثة: «الشيخ والشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة» الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، مصدر سابق، ص1458.؛
الرابعة: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة» الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، أبي جعفر النحاس، المكتبة العلامية، القاهرة، طبعة 1938، ص9..
يعلق النحاس الذي ذكر الآية بالصيغة الأخيرة أعلاه: «وإسناد الحديث صحيح إلا أنه ليس حكمه حكم القرآن الذي نقله الجماعة عن الجماعة ولكنه سنّة ثابتة، وقد يقول الإنسان كنت أقرأ كذا لغير القرآن [يقصد عمر بن الخطاب]، والدليل على هذا أنه قال ولولا أني أكره أن يُقال زاد عمر في القرآن لزدته» المصدر السابق.. إذاً فهذا رأي آخر ينفي أن تكون آية الرجم من القرآن أصلاً، ولعله يكون أقرب إلى الواقع أمام هذا التخبّط الذي يُحيط بها، بل إن ثمة هناك ما يدعمه في المرويّات الإسلامية. ومن المفارقات أن ثمة فصائل جهادية في سوريا ترمي داعش على أنها من «الخوارج»، في الوقت الذي تتفق فيه معها حول الرجم، بينما أسقط أزارقة الخوارج «الرجم عن الزاني، إذ ليس في القرآن ذكره» الملل والنحل، الشهرستاني، صححه وعلق عليه: أحمد فهمي محمد، ج1، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2: 1992، ص115.. أليس من المستغرب أن آية مثل آية الرجم، مختصة بتقرير الحياة والموت، وبهذه الطريقة المروّعة، لا تجد لها محلاً في القرآن؟ بماذا علل الفقهاء غياب هذه الآية الخطيرة؟ يبدو أن هؤلاء تطاولوا ودخلوا إلى سرائر الله، فعلموا سبب نسخ تلاوتها، دون توضيح أو تلميح حول دعاواهم من الله ونبيّه، إذ يذهب السيوطي والزركشي إلى أن الحكمة وراء نسخ تلاوتها هي «الابتلاء والاختبار لقوة إيمان هذه الأمة ومسارعتها إلى طاعة ربها» المصدر: http://fatwa.islamweb.net/fatwa/index.php?page=showfatwa&Option=FatwaId&Id=18663! أرى أن تخوّف عمر من نسيان أو ترك الناس آية غير مكتوبة أكثر منطقية من تهويمات فقهاء الرجم.
لقد سبق لعلي ابن أبي طالب أن سأل أحد القضاء: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ فقال القاضي: لا، فأجابه علي: «هلكتَ وأهلكتَ» الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، مصدر سابق، ص1435.. وبالنسبة لآية الرجم المزعومة، فمصيرها التعطيل حتى لو كانت مُثبَتة في القرآن، فالجديد ينسخ القديم كما يُفهم من الآية 106 من سورة البقرة: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، وهذا ما نفهمه مما يرويه البخاري عن الشيباني أنه قال: «سألت عبدالله بن أوفى: هل رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قلت: قبل سورة النور أم بعدها؟ قال: لا أدري» مختصر صحيح البخاري، محمد ناصر الدين الألباني، المجلد الرابع، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى للطبعة الشرعية الأولى: 2002، ص209. وعلي بن أبي طالب الذي ينبّه على ضرورة معرفة الناسخ والمنسوخ حتى لا يهلك الناس، نراه يغضّ الطرف عن هذا بحسب رواية في جامع القرطبي، بأنه في قضية الزنا سار على هدي الخلفاء، فقيل له: «عملت بالمنسوخ وتركت الناسخ الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ج6 مصدر سابق، ص145.، وربما يوضح صحيح البخاري ما الذي أقدم عليه عليّ وما الذي تركه، ففيه، في «كتاب الحدود وباب رجم المُحْصَن» «عن علي رضي الله عنه، حين رجم المرأة يوم الجمعة، وقال: لقد رجمتها بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم» مختصر صحيح البخاري، المجلد الرابع، مصدر سابق، ص208.. وبرواية أخرى عن علي يذكرها القرطبي، حين جلد شراحة الهمدانية ورجمها بعد ذلك، فقال علي: «جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنّة رسول الله» الجامع لأحكام القرآن، ج6، مصدر سابق، ص144.، الرجم وفق قول عليّ ليس من القرآن إذاً، لكن هل هو فعلاً من السنّة؟ لماذا يخالف النبي (وعلي) كلام الله الواضح والوارد في القرآن، حيث آيات اللِعان حفظت حياة الزوجة والزوج واكتفت بالتفريق بينهما؟ وهل فعلاً سنّ محمد هذه السنة؟ ماذا نفعل إذاً بالروايات المخالفة لها؟
ثالثاً: درء الحدود بالشبهات
بالنسبة للديانات السماوية، فإن الرجم وارد في اليهودية وبنصّ صريح، إلا أن بشاعة هذا الحدّ دفعت رجال الدين اليهود إلى التدخل لأجل تقييده أو نسخه، وهذه المبادرة ليست على أيام الحداثة والتنوير، بل كانت «أكثرية الكهنة الذين عاشوا أيام يسوع يستنكرون الرجم وأحكام الإعدام العشوائية» العلمانية على محك الأصوليات، كارولين فوريست وفياميتا فينر، ترجمة: غازي أبو عقل، دار بترا، دمشق، ط1: 2006، ص89.. وفي رسالة لمجلس السنهدرين، الذي يعتبر من الهيئات الحاكمة في المجتمع اليهودي، والمتابعة لشؤونه الدينية، «يعرقل التلمود أيضاً تطبيق عقوبة الإعدام بوضع عدة حواجز أمامها. فلئن أصدرت حكم الإعدام محكمة مؤلفة من واحد وسبعين (حاخاماً) بستة وثلاثين صوتاً مقابل خمسة وثلاثين، يجب وضع هؤلاء الكهنة في معزل فلا يأكلون ولا يشربون إلى أن تظهر أكثرية صريحة [مع الإعدام أو ضده]. إضافة إلى هذا، إذا صدر حكم الإدانة بالإجماع، يُلغى، إذ كيف اتفق واحد وسبعون شخصاً على تنفيذ الإعدام بكائن بشري؟ بشأن الزنى بخاصة…» المرجع السابق، ص89 و90..
أصحاب النص التوراتي الصريح فعلوا هذا، فماذا فعل أصحاب النص القرآني المشكوك فيه وأصحاب الروايات المضطربة والمتناقضة من إسلاميي الرجم؟ نسخوا القرآن واتبعوا التوراة! أي ما يدعم استبدادهم وتسلطهم والعقد المرتبطة بالذكورة العمياء، إذ يبدو هذا الحدّ التوراتي مغرياً لفقهاء الرجم وإسلاميي هذا الزمان أكثر مما ورد في القرآن، لما له من قيمة عملية لتأكيد سلطتهم عموماً، وعلى المرأة خصوصاً، ولطالما وجد هؤلاء في المرأة باباً يتسللون منه إلى المجتمع لاختراقه ومصادرته. قبل داعش وطالبان، رجمت كلّ من السعودية وإيران، الدولتان اللتان رفعتا راية الإسلام وتطبيق الشريعة، ولم يتوقفا عن هذا الأمر إلا بعد أن غدا فضيحة في أعين العالم أجمع. تمتلئ بطون الكتب الصادرة عن مشايخ ومؤسسات ترعاها الدولة السعودية، بفتاوى وروايات تشرعن جريمة الرجم وتمتدحها. أما إيران فقد جعلت الرجم في صلب أحكامها، فقد جاء في المادة 102 من قانون العقوبات الإيراني: «عند الرجم يجب طمر الرجال حتى الخصر والنساء إلى الصدر» المرجع السابق، ص91. يذكر المصدر أنها المادة 102 من الدستور الإيراني والصواب أنها من قانون العقوبات.. لماذا؟ لكي يتسنّى للرجل الهرب في حال استطاع ذلك، بينما قدر المرأة هو الموت المحتم، فهي مكبلة تماماً. في الواقع لا يبدو الرجم حكماً بالموت، إنه فنّ للتعذيب والتشفّي أولاً، بحيث يغدو الموت معه خلاصاً، إذ تذهب «المادة 104 على ضرورة استغراق العقاب أطول مدة ممكنة: ’يجب ألا تكون الحجارة كبيرة فيُقتل المنتهك بحجر أو اثنين، كما أنها يجب ألا تكون صغيرة كالحصى‘.» المرجع السابق.. وبالطبع لا يتطلب الأمر وجود شهود أربعة يرون العملية الجنسية بكل دقائقها، بل يكفي ادعاء الزوج الذي يستطيع قتل زوجته أو أي امرأة تخصّه إن أراد تحت ذريعة الزنا، دون مساءلة! وبالطبع تُحرم المرأة من الحق ذاته إذا رأت زوجها يخونها، فهي بلا غيرة ولا كرامة ولا مشاعر.
يقول ابن قيم الجوزية: «وإنما أمر الله سبحانه بالعدد في شهود الزنا؛ لأنه مأمور فيه بالستر، ولهذا غلّظ فيه النصاب، فإنه ليس هناك حقّ يضيع، وإنما حدّ وعقوبة، والعقوبات تدرأ بالشبهات…» إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية، تحقيق: مشهور آل سلمان، ج2، دار ابن الجوزي، السعودية، ط1: 1423 هـ، ص180.. ثمة أحاديث وروايات عن النبي، لم يكتفِ فيها بالعمل بهذا المبدأ الذي دعا إليه وحسب: درء الحدود بالشبهات؛ وإنما نراه يتهرب أو يعفو أو يتوانى عن الحد فيما هو ثابت ومعترف فيه. في قصة رجم ماعز، التي تكاد لا تخلو منها أدبيات الرجم، والتي شكك بها الشيخ عبد الله العلايلي، جاء في سنن ابن ماجه: «جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني زنيت، فأَعرَضَ عنه، ثم قال: إني قد زنيتُ، فأعرضَ [النبي] عنه، ثم قال: إني زنيت، فأعرض عنه، ثم قال: قد زنيت، فأعرض عنه، حتى أقرّ أربع مرات، فأمر به أن يُرجم، فلما أصابته الحجارة أدبر يشتدّ، فلقيه رجل بيده لحي جمل فضربه فصرعه، فذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم فراره حين مسّته الحجارة فقال: هلا تركتموه!» سنن ابن ماجه، مصدر سابق، ص 435.. إذاً، بقي النبي يتهرب من ماعز رغم اعترافه بالزنا، ولو اكتفى ماعز بالثالثة لكان مضى في طريقه بلا حدّ، وحتى بعد أن قرر النبي الحد عليه، استطاع ماعز الهرب بسهولة، وعندما سمع النبي بمحاولته الفرار تمنى لو لم يتم التعرض إليه!
في رواية أخرى يرويها البخاري عن أنس بن مالك قال: «كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل، فقال: يا رسول الله، إني أصبت حداً، فأقِمه عليّ، قال: ولم يسأله عنه. قال: وحضرت الصلاة، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، قام إليه الرجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حداً، فأقِم فيَّ كتاب الله، قال: أليس قد صليت معنا؟ قال: نعم. قال: فإن الله قد غفر لك ذنبك، أو قال: حدّك» مختصر صحيح البخاري، ج4، مصدر سابق، ص211.. النبي في رواية أنس لم يدرأ بالشبهة، بل جاء الرجل إليه معترفاً بذنب ارتكبه ولم يسأله النبي عنه أصلاً. وفي رواية عائشة حول حادثة الإفك الشهيرة، كما يوردها ابن كثير في سيرته، يتبين أن النبي لم يفاتحها، ولا أهلها، بما يدور على ألسنة الناس، وأنها كانت آخر من يعلم، ثم يأتي النبي بعد مدة ويقول لها: «يا عائشة، إنه قد كان ما بلغك من قول الناس، فاتقي الله، وإن كنتِ قد قارفتِ سوءاً مما يقول الناس فتوبي إلى الله، فإن الله يقبل التوبة عن عباده» السيرة النبوية، ابن كثير، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، ج3، دار المعرفة، بيروت، 1976، ص308..
بالنسبة لعمر بن الخطاب، أحد أهم فرسان الرجم في روايات الفقهاء، يذكر عنه ابن أبي شيبة في مصنفه ما يناقض تشدّده في الحدود ولا سيما الرجم، فهو يقول: «لأن أعطل الحدود بالشبهات أحبُّ إلي من أن أقيمها بالشبهات» الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، عبدالله بن محمد بن أبي شيبة، تقديم وضبط: كمال يوسف الحوت، ج5، دار التاج، بيروت، ط1: 1989، ص511.، وفي أخرى يقول: «اطردوا المعترفين» المصدر السابق، ص512.. بل يكفي أن تنفي المرأة عن نفسها الزنا بإرادتها، رغم حملها، حتى يوقف عمر الحدّ ويوصي فيها خيراً المصدر السابق، ص512.. ويورد ابن أبي شيبة عن عائشة: «ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإذا وجدتم للمسلم مخرجاً فخلّوا سبيله، فإن الإمام إذا أخطأ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة» المصدر السابق، ص512.. أما علي بن أبي طالب فيجلد امرأة زانية وعليها درع حديد ألبسها أهلها إياه المصدر السابق، ص495..
وأخيراً…
وهنا لا بد من طرح بعض التساؤلات، معرفياً: ما هو موقف إسلاميي اليوم من هذا الكم من التناقضات المرعبة في المراجع المعتبرة لديهم؟ وأخلاقياً: لماذا غالباً ما يكون العنف الكامن في بعض النصوص ناسخاً لأخرى تحتمل المودّة والحوار والتفاعل مع الآخرين، فآيات السيف ناسخة للتعايش مع الآخرين، وحديث الردة ناسخ لآيات عدم الإكراه في الدين، وكذلك الرجم المزعوم ناسخ لآيات الحفاظ على الحياة والرحمة؟ ليس هذا النسخ ناتجاً عن طبائع وجِينات تميز المسلمين، بل ونؤكد أن أهل النسخ والرجم ليسوا إلا أقلية في عالم المسلمين، وربما يكون هذا أحد أسباب التسلح بكل هذا الكمّ من العنف والهمجية والتسلط، تماماً كما الأنظمة العربية، والنظام السوري أولها، التي لم يتسنّ لها أن تفرض نفسها على شعوبها الغريبة عنها إلا عبر شرعية العنف بعد إلباسها أثواب التقدم والتحرر والرفاه.
ما نلحظه عند داعش ومن يدور في فلكها من الجهاديين، من فظاعات وتمثيل بالناس، لا يخرج عن كونه سبيلاً نحو التسلّط والبقاء، فالمشروع الذي يحملونه لا يَعِدُنا إلا بنسخة مماثلة للنظام في أحسن الأحوال.