إذا ذهبنا إلى غوغل وكتبنا، مثلاً: إعادة إعمار site:sana.sy، أو: استثمار site:sana.sy، أو غير ذلك من الكلمات المفتاحية المرفقة بأي موقع من مواقع الدعاية الأسديّة، سنجد الكثير من الموادّ التي تستحق المتابعة والاستقصاء والدراسة. لكن القليل فقط معروف عن خطط النظام السوري، إن وجدت، فيما يتعلق بإعادة إعمار ما خرّبته حربه الأهليّة. ما هي سياسته الحقيقية تجاه هذا الموضوع؟ العقل المدبّر لنظام التطهير السياسي، بماذا يفكّر لما بعد الحرب؟ وإلى أي حدّ يمكننا التنبّؤ بمخطّطاته وسياساته وتحالفاته الاقتصادية والإعمارية؟

مزحة «هاي إصلاحاتك يا بشار!»، التي كانت تحلّق في أجواء سوريا مع كل لحظة قصف، تحوّلت إلى واقع يمشي على قدم وساق، منذ تواتر الكلام عن تدمير ممنهج للمدن كجزء من صفقات إعادة الإعمار، بينما ينوّه الرئيس العدوّ لـ«الفرصة الاستثمارية» و«التنموية» التي تحمل العزاء للمدن المدمّرة. أيّ عزاء بالضبط؟ ومن هم الشركاء الاستثماريون لنظام المخابرات السورية –أو الإيرانية لمزيد من الدقّة– الذين سيتعهّدون خطواته التالية؟ وما صلة إعادة الإعمار بأعمال الإغاثة التي تغصّ بها البلاد هذه الأيام، سواءً تلك التابعة لحيتان النظام أو التابعة للخارج؟

بعض الأخبار تتكلّم عن استعادة المخطّطات القديمة المحفوظة في أرشيف «الدولة»، نفسها المخطّطات البولونية التي لا يملك النظام أدوات هندسة مدنية سواها. بالمقابل عرفنا الكثير عن أدوات هندسته الاجتماعية، سواءً بالمعنى الحداثي الدولتي لهذه الكلمة أو بالمعنى «الطبقي» أو بالمعنى الطوائفي العاري، فهي ماثلة للعيان منذ سنوات طويلة. كمثال على ذلك، يمكن استعادة أدبيّات «حلم حمص» الذي راج قُبيل الثورة، وهو مشروع «تحديث وتطوير» اختلطت فيه النيوليبرالية مع النيوديموغرافيا، واختلطت حوله المخاوف الاشتراكية، من اقتصاد الريع والبنوك والخدمات والسياحة وسائر الأمور التي لا يعرف الأسد الابن سواها، مع المخاوف الأهلية، التي وصلت ذروتها مع انطلاق الثورة حين طالب الحماصنة بإقالة المحافظ إياد غزال واتّهموه بالتلاعب بالتوزّع الطائفي في المدينة. الأخير غادر منصبه وسافر بمشاريعه وأوراقه إلى دبي، ليعود بعد سنوات مع شركاء جدد يستأنفون له بعد الحرب مشروعه العمراني! لكن تبقى هذه المعلومات بحاجة لاستقصاء أوفى. بين كل ما هو موجود على الإنترنت وفي الصحف والمجلّات المتخصّصة، ليس هناك الكثير الوافي حول هذه القضية كما يراها النظام وشركاؤه، وهي حلقة بين حلقات كثيرة مفقودة تتعلق بإعادة إعمار سوريا بشكل عام.

النظام ليس وحده في سوريا، وهناك قوى أخرى، مستقلّة نسبياً عن نواة النظام، تبحث عن موطئ قدم لها في سوريا المستقبل. يمكن الإشارة العابرة، العابرة بسبب غياب البحث الجدّي في الأمر، إلى ثلاث قوى أساسية: النظام الإيراني أولاً، والذي بذل كل ما بإمكانه لإحكام القبضة على ملعبه السوري، ولعلّه يبحث اليوم عن حزب الله دمشقي يساعده في ذلك غداً؛ وثانياً هناك برجوازية الحرب الصاعدة، والملايين التي جناها أمراء الحرب السورية، بدءاً من كبار الشبّيحة وحتى المجاهدين اللصوص في كفاحنا المسلّح المنخور؛ وأخيراً لدينا المدن التي لم تتعرّض لتدمير واسع، كدمشق وحماه واللاذقية وطرطوس، والتي سيكون لأغنيائها وأقويائها كلمة ما في تعمير المدن المحطّمة.

على الضفّة الأخرى من العالم، ماذا تقول المعاهد والشركات الأميركية والغربية حول إعادة إعمار سوريا بعد الحرب؟ هناك «أصدقاء الشعب السوري»، وهم كالنظام (في الحلف الوحيد الذي يجمعهما) يريدون من النار سوريا تعجبهم، وهناك معارضونا الأشاوس الذين ما يزالون على ما هم عليه من بعثرة وأداء رثّ، بينما هناك مسابقات دولية بدأت تقرّر عن السوريين شكل بلادهم غداً… سفراؤنا إلى المجتمع الدولي لم يقدّموا الكثير في هذا الشأن الشائك، وأن نطلب منهم نقل صوتنا بخصوص المستقبل أمر أشبه بالمزحة. إن بحثنا سنجد بين المعارضين من اشتغل على الموضوع، لكن ضمن منطق ليبرالوي نتساءل مبدئياً جداً اليوم إن كان بديلاً حقاً لمنطق «التطوير والتحديث» الرسمي. لكن السؤال الأساس يبقى هو هو: إلى أي حدّ يمكننا التفاؤل مع هؤلاء بأن سوريا، إذا خرجت قريباً من سلطة النظام الإفقاري الأسدي، ستتمكّن من الخروج نهائياً من جميع سلطات الإفقار التي تسعى لحكمها والتحكّم بها؟ الاتجاه الإنجيؤوزي الذي تنحدر إليه المعارضة السورية، وشبكات أموال المانحين القادمة من الغرب، ليس هذا أفضل مصير للسوريين بكل تأكيد، وهو مصير لا علاقة له بما ينبغي فعله لتعزيز معاش الناس وتنظيم جهودهم ورفع صوتهم، وتطوير تجارب التنسيقيات والمجالس المحلية التي مثّلت المعارضة الحقيقية لمنظومة الحرب على مهمّشي سوريا. يمكن لنا مشاهدة نموذج للإعمار الذي قد «نتعرّض» له عبر متابعة أخبار الضفّة الغربية المحتلّة.

بمتابعة أشقائنا الذين تعرّضوا للكثير من الحروب والدمار، ماذا يخبرنا التاريخ الحربي وما بعد الحربي لكل من لبنان والعراق؟ هل رضي العراقيون عما فعله بول بريمر، الحاكم العسكري المؤقّت ومسؤول ملفّ إعادة الإعمار أميركياً؟ هل سُرّ أم ساء من رأى! وإلى أين تسير بيروت اليوم، بشركاتها وبنوكها ومشاريع عماراتها التي لا تنتهي بين كل شارع وشارع؟ هل بانتظار ريف دمشق مثلاً، الجنّة التي كانت تحيط بالعاصمة وتحولت في عهد البعث إلى غابات إسمنت، مصير قادم يشبه مصير «باريس الشرق»؟ العاصمتان اللتان بناهما الانتداب الفرنسي تحوّلتا في العقد الأخير إلى نموذج للتشوّه العمراني والمواصلاتي والخدماتي الذي لا يتمنّاه لنفسه أيّ شعب، فما العمل اليوم؟ وأيّ استحقاق ينتظر السوريين في الأيام القادمة؟

وفي سياق منفصل بعض الشيء، ماذا جنى فلّاحو العراق من شركات الاستعمار الغذائي التي صارت تغلي في بلاد الرافدين دون أن يدعوها أحد؟ المئات من القوانين، التي أصدرها بول بريمر نفسه، نالت من سيادة العراق وجفّفت زراعته التقليدية المستدامة لتستبدلها بزراعة صناعية قائمة على البذار المعدّلة وراثياً والمستوردة بأثمان باهظة، ويخشى أن تسير سوريا، خزّان القمح الثاني في الهلال الخصيب، على نفس الطريق. البذار المحسّنة التي كانت تؤمّنها وزارة الزراعة وأكساد –على علّاتها– بهدف الاكتفاء الغذائي، آخر الأخبار اليوم تتحدث عن نهبها! وعن تمويلات أجنبية وتنظيمات دولية وشركات كبرى تبيع البذار المعدّلة وتشتري البذور المحفوظة كتمهيد للسيناريو الذي حدث في العراق، والذي وصفه بعض الباحثين بجريمة الحرب. معظم الحكومات والمنظّمات وشبكات الناشطين تجهل ذلك أو لا تبالي به، ولا تكاد توجد اليوم شبكات مقاومة زراعية قادرة على حماية المستقبل الغذائي، مما يزيد الحاجة لنذير خطر عالي الصوت، يدرس التجارب السابقة ويجمع المعلومات المتوافرة وينسّق العمل المقاوم للسيناريوهات المقبلة على جرف البلاد.

هناك حاجة ماسّة لمقاومة سيناريوهات «الاستعمار» تلك على مختلف الصعد، سواءً كان الاستعمار بلدياً أم مستورداً، وسواءً تعلّق بالغذاء والزراعة أو بالعمران والاقتصاد أو بالثقافة والاجتماع (نتكلّم عن الأشياء الوافدة من «خُراسان»، السلفيّة الجهاديّة والشيعيّة الخمينيّة، على سبيل المثال لا الحصر). كذلك هناك حاجة لدراسة تجارب البلدان التي هشّمتها الحرب وهشّمها من بعدها الإعمار، في العراق ولبنان والبوسنة وغيرها، وكذلك لدراسة وتغطية تجارب الاستعمار\المقاومة على مستوى العمران البديل والزراعة المستدامة، في الهند وأميركا اللاتينية بشكل خاصّ.

إعادة الإعمار بؤرة صراع وشيك، بالإضافة لكونها لبّ التغيير المنشود في سوريا بعد زوال أصوات النار والحديد… الكثير من الأحلام والكثير من الخداع والدعاية والإتجار بالأمل. ولا يبدو أن المسألة تشغل بال عموم السوريين، ولا يبدو أنها مطروقة كثيراً على شبكات البحث أو التواصل الاجتماعي، ولا يبدو متى سيستيقظ الرأي العامّ السوري ويتداولها بجدّيّة. ما هو مؤكّد أنه لا يمكن لأي مشروع ديمقراطي حقيقي أن يبني سوريا دون أن يُبنى على التشاركية، ودون أن يأخذ بعين الاعتبار رؤى وحاجات وأحلام جميع السوريين، المواطنين والناشطين والباحثين المستقلّين أولاً، وثانياً وثالثاً ورابعاً ودائماً اللاجئين والمهجّرين والجرحى والمعاقين وسائر دافعي الثمن الأكبر، الذين هم للأسف أصحاب الصوت الأوطأ والسلطة الأضعف والموقع الأكثر هامشيةً في جميع المشاريع المستقبلية المطروحة… حتى الآن.