خرجت آخر مجموعات المقاتلين المحاصرين داخل مدينة حمص القديمة على دفعات بين يومي7-8 أيار/مايو 2014، وذلك إثر اتفاق عقد بين ’الجبهة الإسلامية‘ من جهة ووفد تفاوض إيراني من جهة ثانية.

يحمل الاتفاق من حيث الشكل دلالتين هامتين، الأولى هي عقده بشكل مباشر بين المفاوض الإيراني الذي يمثل «دولة» و’الجبهة الإسلامية‘ وهي «فصيل مقاتل»، ما يعني ضمناً أن إيران لا تعتبر ’الجبهة الإسلامية‘ تنظيماً إرهابياً أو عصابة مسلحة، على نحو ما درج إعلام النظام على تسمية كافّة المسلحين الذين يقاتلون ضدّه، بل تعتبرها كياناً موجوداً له وزن شرعي يمكن التفاوض معه، أي أنه يمثّل طرفاً مقابلاً له أهليّته، وربما هنا لا تفكر إيران بالجبهة كطرف بقدر ما تفكر بمن يدعمها أو يقف وراءها من جهات خليجية، المملكة السعودية على وجه التحديد. الدلالة الثانية للاتفاق هي أن إيران، بتدخّلها المباشر والعلني كطرف في الاتفاق، أرادت أن تقول لمن يدعم ’الجبهة‘، وأولهم السعوديون، أنها الطرف الذي يجب التفاوض معه في الشأن السوري، وأنها تستطيع السيطرة على الأرض واتخاذ القرارات وضمان تنفيذها، وربما بحركتها تلك أرسلت رسالةً تحمل نفس المضمون لصندوق بريد النظام كي تؤكّد له أنها صاحبة الفضل ببقائه حتى اليوم.

’الجبهة الإسلامية‘، بعد الاتفاق الذي عزّز مكانتها كطرف صاحب قرار في الساحة السورية، وبالتشارك مع مجموعة من الفصائل الإسلامية المقاتلة، أصدرت بدورها ما سمّته «ميثاق شرف ثوري». في الميثاق الذي وقّعت عليه إلى جانب ’الجبهة‘ كل من ’ألوية الفرقان‘ و’فيلق الشام‘ و’الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام‘ و’جيش المجاهدين‘، يظهر تراجع واضح عن مطالبة سابقة بإقامة دولة الخلافة كانت قد تبنّتها بعض هذه التجمّعات، كما فيه إظهار حسن نوايا تجاه باقي الأطراف في المعارضة أو في المجتمع السوري، هذا فضلاً عن مطالبة الميثاق بدولة العدالة والقانون واحترام حقوق الإنسان «التي لا تتنافى مع الدين»، حسب نصّ البيان المفصّل في تسعة بنود.

اللافت أن البيان سرعان ما ظهر بنسختين مترجمتين إلى الإنكليزية والفرنسية، ومن حيث الشكل، في هذا ما يوحي أن تحضيراً مسبقاً للبيان كان يدور في الكواليس، ولا يخلو ظهوره باللغتين الأجنبيتين بهذه السرعة من إشارة موجّهة إلى الدول الأوروبية وأميركا؛ أما من حيث التوقيت، فالبيان أتى بعد زيارة وفد ’الائتلاف الوطني‘ إلى واشنطن وحضوره اجتماع لندن ١١ لمجموعة الدول التي تشكل النواة الأساسية للمجموعة الدولية المسماة ’أصدقاء الشعب السوري‘، والنقطة الثانية من حيث التوقيت هي صدوره بعد دعوة وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل وزيرَ خارجية إيران جواد ظريف لزيارة السعودية ومناقشة القضايا والملفات العالقة بين البلدين، ما يوحي بأن هذا البيان من حيث شكله وتوقيته هو بيان تصدره قوى خارج أولويات وشعارات الثورة وتلبيةً لطلب من هم خارج الثورة أصلاً من دول داعمة معنيّة بما يهمّها، سياسياً وأمنياً، في الملف السوري. فالموضوع إذاً بالكامل «خارجي»، ولا شأن لجمهور الثورة العام به إلا من باب المجاملة التي وردت بتعابير فضفاضة في بعض البنود، وهي قابلة للتغيير والتمييع في أي وقت إذا اقتضت الحاجة، فلا ضوابط تُجبر القوى الموقعة الالتزام بها، ولعدم الالتزام والانضباط هذا سوابق كثيرة عند غير جهة معارضة سياسية وعسكرية خلال السنوات المنقضية من عمر الثورة.

بين اتفاق حمص وبيان «ميثاق الشرف» نقطة تستحق التوقّف عندها، وهي الوزن الذي يُعطى لكتائب وقوى لم تحمل أو حتى تُظهر عميق التزام بأجندة وطنية، أو حتى بمبادئ الثورة على عمومية هذه الأخيرة، بل استطاعت خلال الفترة السابقة، على العكس، أن تشوّه بحماس المُنجَز الذي حقّقه مجتمع الثائرين، سواءً عبر إلغائها المحاكم المدنية وفرض المحاكم الشرعية في مختلف المناطق المحرّرة الخاضعة لسيطرتها؛ أو عبر محاربتها الواضحة ومحاولات تشويشها على عمل ’المجالس المحلية‘؛ بالإضافة لفرضها جوّاً من التخويف والإرهاب ضدّ كل من يخالفها الرأي. وتشهد بهذا عمليات اغتيال واختطاف لنشطاء سياسيين وحقوقيين حدثت في مناطق سيطرة هذه القوى، ولا يبدو أنها كانت بعيدة عنها أو عن أجوائها؛ كذلك ما يشاع من اتهامات لهذه القوى من تقصير في العمل العسكري، وظهور اختراقات وتخاذلات لديها شهدتها جبهات القصير والقلمون سواء في بلدة قارة أو يبرود؛ هذا فضلاً عن فضيحة تخزينها المؤونة والمواد الغذائية، وهو ما احتجّ عليه الأهالي أكثر من مرة في الغوطة الشرقية بعد أن حُرموا من الطعام وتُركوا للحصار والجوع والمرض؛ وأخيراً، ما تردّد من شهادات مقاتلين عن عمليات تخزين سلاح وحرمان من الدعم لمن لا يتّفق مع هذه التجمعات ورؤيتها.

من الاتفاق الذي ساهم في إخراج المقاتلين المحاصرين من مدينة حمص ‒ ومعه يحضر تساؤل هام: لماذا لم تساهم هذه المجموعات، وهي الأكثر عدداً والأوفر سلاحاً، في فكّ حصار المدينة الذي دام سنتين؟ ‒ إلى «ميثاق الشرف الثوري» الذي يأتي من حيث شكله وتوقيته كعرض مقدّم بناءً على الطلب الخارجي، تبدو القوى الإسلامية على استعداد «للبذل السخي» كي ترضي رغبتها في مشروع السلطة، كما أنها تبدو سهلة الانقلاب على مواقف سابقة اتخذتها. فهل يمكن ضمان بقائها على ميثاق الشرف هذا لو تعدّلت موازين القوى الإقليمية والدولية تحديداً، الموقف الذي يبدو أنه يشغل بال المجموعات الموقّعة على «الميثاق» أكثر من موازين القوى السورية في مواجهة النظام؟ إذ رغم الإيجابية التي يمكن أن تنطوي في المراجعة المقدّمة قياساً بالوقائع، إلا أن التشكك حيالها يبقى محقّاً بناء على خبرات سابقة وحوادث ملموسة.

النقطة الثانية هي وجوب التنبّه أمام ظلامية بات الوقوف بوجهها جزءاً أساسياً لمن يريد التغيير الجذري في سوريا، هذه الظلامية لن تتوانى على ما يبدو عن إيجاد «أرضية عمل مشتركة» مع النظام أو بقاياه لو تهيّأت الظروف الملائمة لهذا، وبنظرة إلى طبيعة تحالفات قوى مشابهة في دول الجوار السوري، نرى أن هذه القوى لم تتردّد في الانقلاب على «ثوابتها»، متّبعةً براغماتية تحالفاتها التي تحقّق لها وجودها كمشروع سلطة قروسطي بديل، أو داعم ومشارك لقروسطية النظام، بحيث لا يقلّ هو عنها فاشيةً وغطرسةً تجاه المحكومين.