فاز شاب سوريّ بتذكرة قطار إلى بروكسل في ذلك المركز للاجئين في بلجيكا لأنه أجاب إجابة صحيحة عن سؤال اللجنة المنظّمة لاحتفاليّة أقيمت بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الانسان.

– جوابك صحيح، 1948، وقد ربحت التذكرة، قال السائل. ثم أضاف: هل تستطيع تحديد اليوم؟ تلعثم الشاب السوريّ الجامعيّ، ولم يجب بالرغم من أن الاحتفالية أقيمت في أمسية 10/12/2012، وهذا اليوم هو ذكرى اليوم الذي أُقرّ به الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فعلّق السائل بغمزة ذكيّة: ولكن هل تعرف لماذا نحن هنا نحيي هذه الذكرى في هذا اليوم بالذات؟

لا بدّ هنا من توضيح تلك «الغمزة» لكي نعرف أنّ السائل أدرك بأنّ الإجابة مسروقة من ورقة لاجئ آخر.

مغزى تلك الحادثة في دلالاتها تشير إلى التربية البعثيّة/الأسديّة التي أصّلت الفساد في نفوس السوريّين لدرجة ضمور كبير في الضمير السوريّ لدى شرائح واسعة منهم، ومعروفة هي مسألة الغشّ والمحسوبيّات في الامتحانات الدراسيّة بكافّة مستوياتها في التعليم التلقينيّ في سورية، ونعلم أنّ ثقافة حقوق الإنسان تكاد تكون مغيّبة تماماً في مناهج التعليم، وكذلك التربية المنزليّة التي تلتزم عادات وتقاليد موروثة، كما أنّ «حقوق الإنسان» في سورية ليست سوى عبارة تخوينيّة لمناهضي النظام السوري.

تلك الحادثة الصغيرة كمقدمة  تشير فقط إلى نموذج من «نوعيّة» اللاجئين السوريين في أوربا، الذين تجاوز عددهم الثلاثين ألفاً منذ اندلاع ثورة الشعب السوري أواسط آذار 2011، ولكن لنبدأ هنا بشيء من البحث في الظروف التي جاءت بهؤلاء الهاربين من جحيم الأحداث الساخنة في سورية.

من المؤسف الإشارة إلى أنّ نسبة كبيرة من الهاربين إلى أوربا هم من الراضين على نظام الأسد و«نعيمه»، ويعود ذلك لعدّة أسباب جذريّة سنحاول تسليط الضوء إلى بعض جوانبها.

في ظلّ العقود القمعيّة المديدة للنظام البعثيّ والأسديّ يكاد لا يوجد يافع سوريّ لا يحلم بالهروب من هذا القاع السحيق من التخلّف والفقر والفساد الذين أرساهما الأب ووريثه، بصرف النظر عن حالة اجتماعيّة واكبت هذا الفساد السياسيّ منعكساً على كلّ تفاصيل الحياة المرهقة في شدّة الكبت بكلّ مناحيه النفسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، هذا إذا لم نُشر إلى الكرامة المعدومة، والتي كانت عنوان الثورة السوريّة، وعلى هذا الحال فإنّ وحشيّة قمع النظام دفعت حوالي المليون ونصف سوريّ للنزوح من بلاد الجحيم، الكثير منهم لم يستطع اختيار البلاد التي يفرّ إليها، فكانت دول الجوار هي الخيار الاجباريّ الذي لا بدّ من تحمّل ضنكه ريثما «يفرجها الله». غير أنّ الذين اختاروا ،أو بالأحرى استطاعوا، الوصول الى أوربا كانوا أكثر النازحين السوريين امتلاكاً لقرار وجهتهم، فعدا عن أنّ حلماً دفيناً جاثماً في صدور معظم السوريين، كما معظم الشعوب المنكوبة و«المهدورة» –على حدّ تعبير مصطفى حجازي– فإنّهم رأوا الفرصة مواتية للجوء إلى بلاد النعيم، التي تمنح الحماية القانونية للنازحين من المناطق المنكوبة بالكوارث. على أنّ المقصودين هنا، أي اللاجئين إلى أوربّا ونعيمها، غالبيّتهم من شريحة الشباب «المغامرين أو المقامرين»، الذين يمتلكون مقداراً من الحلم «الأزليّ» بالهجرة إلى الدرجة التي تهوّن أهوال ومخاطر الطريق الجسيمة. فبعد أن كان معظم السوريين يرقبون في نشرات الأخبار حكايا الموت في «زوارق الموت وغيرها» التي تنتشر بكثافة بين دول الشمال الإفريقي و أوربا، غدوا هم أيضاً ممّن يركبون هذه الطريقة وغيرها من رحلات الموت المتنوعة الأشكال والألوان، ومع ذلك تجدر الإشارة هنا بأنّه لا تجوز المقارنة بأيّ حال من الأحوال بين ظروف النازحين إلى دول الجوار، كشرّ لا بدّ منه، مع ظروف أولئك المغامرين الذين وصلوا بطريقة ما إلى بلاد عريقة في أحوال اللجوء، وكذلك في حقوق الإنسان. ولكن أيضاً علينا ألا نتخيّل بأنّهم وصلوا إلى الجنّة، فما زالت مسألة اللاجئين السوريين في كلّ بقاع الأرض محيّرة في ملابساتها بين بلد وآخر.

عرّابو هذه الرحلات «غير المضمونة» هم أناس احترفوا مهنة التهريب هذه مع جميع لواحقها، من تزوير لوثائق السفر ورشى تكون بعض الأحيان تكلّف ثروة كبيرة بالنسبة لدخل السوريين المنخفض، ومع ذلك لم يتورّع بعض الأهالي من التخلّي عن مجمل ثروتهم لإرسال أبنائهم الى أوربا، مع أحلام بالتعويض قلّما تنجح في ظلّ ظروف متنوّعة وجديدة.

من الملاحظ أيضاً أنّ السوريين الذين نجحوا في الوصول إلى أوربا، انتماء غالبيّتهم الى الأقليّات. يعود ذلك لسببين اثنين في الغالب، الأول امتلاكهم لمظلوميّة تاريخيّة (مزعومة) في بلاد نشأت على الفساد، وكذلك غياب مفهوم الدولة بالمعنى القانوني؛ والسبب الثاني أنّ لمعظم هؤلاء المهاجرين السوريين الجدد معارف أو أقرباء يشكلون «المثل الأعلى» لهؤلاء المغامرين.

المحيّر في هذا الأمر أننا نجد نسبة لا بأس بها من المُسبّحين بحمد النظام السوريّ، على أنّ هناك فصلاً يجب التنويه إليه في جانبه الانساني، هو أنّ السياسة المغيّبة في سوريا، واستغراق الناس بحيواتهم المعاشية وغيرها من أعباء الشرق المكثّفة، تجعل من هؤلاء الوافدين «غير الشرعيين» بعيدين عن الاهتمام «بالشأن العام» في بلدهم الأصلي، غير أنّ زبدة الفساد السلطويّ في سورية تتلخّص ربّما في ثلاث كلمات: الانتهازيّة التي تأصّلت تدريجيّاً؛ والازدواجيّة في الشخصيّة والمواقف؛ والهويّة الحائرة وطنيّاً… مع الإشارة إلى أنّ كلّ كلمة من تلك الكلمات تحتاج لبحوث مفصّلة.

ومن الملاحظات التي تلفت الانتباه، أنّ السوريين في بلاد المغترب لا يتمتّعون بروح التعاون فيما بينهم، ربّما لسببين رئيسين: أولهما هو المراقبة الأمنيّة المترسّخة في معظم بلدان العالم من خلال السفارات التي احتلّها النظام كاحتلاله للبلد لفترة طويلة، و السبب الآخر والأكثر رسوخاً هو أنّ شعاراً سوريّاً كرّسه نظام الفساد في نفوس معظم السوريّين منذ نعومة أظفارهم حتّى بلوغهم سنّ الرشد –شكليّاً فقط– وهو: «عسكريّة… دبّر راسك!»، ومعناه: أن تهتمّ فقط بأنانيّتك وشؤون خلاصك الشخصيّ فقط، دون الاكتراث للوسيلة مهما بلغت خسّتها.

ختاماً، لا بدّ من التذكير بأنّ ما سلف هو ليس تحقيقاً أو تغطية لأحوال السوريين في أوربا، فهنالك ثمّة مثل آخر باللهجة السوريّة الدارجة: «إذا خليت…خربت».