أدناه نص بحثي طويل يقارب ما بات يشار إليه بـ«المسألة العلوية» في سوريا، أملاً أن يندرج كمحاولة من المحاولات القليلة –حتى الآن– التي تخوض في هذا الشأن، الحسّاس سياسياً وثقافياً واجتماعياً. يمكن قراءة النص في الأسفل أو تحميله وقراءته كملف pdf من الرابط التالي: العلويون: رحلتهم إلى سوريا ورحلتهم منها!
نعترف في البداية بصعوبات عديدة تقف أمام بحثنا في موضوع العلويين. ربما يتعلق بعضها بقلة الدراسات التي حظيت بها هذه «الجماعة». إن أغلب ما أنتج من مقاربات حول العلويين كان من خارجهم، ولعل مستشرقي القرن التاسع عشر، هم أول من أفرد لهم بعض المساحات من خلال تناول أحوالهم وأوضاعهم وأصولهم وعقائدهم. ثمة كتابات أحدث حول العلويين جاءت، غالباً، من قبل إسلاميين مناهضين لهم، تضعهم في فئة الفرق الباطنية، التي اتفقت أدبيات، سُنية وشيعية، على إخراجها من الإسلام. الاعتراف بكون العلويين مسلمين، لم يحصل إلا في القرن العشرين، وهو أمر لم ينل إجماعاً بكل حال.
العلويون لم يكتبوا تاريخهم. ما هو موجود على هذا الصعيد حديث ذو طابع سجالي في غالبيته، يهدف إلى التأكيد على أصالة إسلامهم وعروبتهم، والرد على التصورات التي تنال منهم من خارجهم. بينما يلجأ العلويون إلى التاريخ الذي ينتسب إلى الشيعة الإمامية في ما يخص الإسلام والتحولات التي ستطرأ عليه وعلى المسلمين، وهو في معظمه، تاريخ سجالي أيضاً، ينافح لأجل تثبيت شرعية عقائده وأحقيته في أن يكون الممثل الأصيل للإسلام. وبالنسبة للعلويين، لا يأخذ حضورهم التاريخي بالتكثف والازدياد إلا مع نهايات الحقبة العثمانية، وما قبل ذلك عبارة عن أخبار متناثرة في بطون كتب التاريخ، وبعض الفتاوى الدينية حولهم.
بقي قبل أن نخوض في موضوعنا، أن نؤكد أن مقاربتنا للعلويين، قد تبدو وكأنها تورطت في تناولهم كمجموعة بشرية منسجمة في أهوائها وطبائعها وسلوكياتها، وهذا مما لا يعتقد البحث به، بل ويقر بامتناعه في حياة المجموعات البشرية سواء صنفت على أساس الدين أو السياسة أو وجدت في حيز جغرافي ما. ولكننا مع ذلك لا نقف مع تلك النظرة التذريرية التي تغالي في إعلاء وقائع الاختلاف وطمس ما عداها، إذ ثمة مشتركات يتداخل فيما بينها ما هو متوارث بحكم المنطقة الجغرافية أو الانتماء الديني أو غير ذلك، يتيح لنا الكلام عن نظام عام يكاد يميز مجموعة بشرية عن غيرها، ويجعلها مشتركة في بعض السلوكيات أو المشاعر أو التعبيرات. ينطبق هذا الكلام على الطوائف الدينية وعلى الأمم والشعوب المختلفة، ويغدو أكثر بروزاً في المجموعات البشرية الصغيرة.
فتاوى وتواريخ
1
لم يكن العلويون فاعلين في التاريخ الإسلامي. لم تنشأ دول وممالك باسمهم أسوة بغيرهم من المذاهب الأخرى، حتى الباطنية منها، كالإسماعيلية والدروز الذين يربط بعض المؤرخين بين ظهورهم وبين دولة الفاطميين في مصر. يرغب بعض العلويين في تقرير أن سيف الدولة الحمداني كان علوياً، وخصوصاً وأن أحد شيوخ العلويين المؤسسين، الحسين بن حمدان الخصيبي، كان من المقربين لسيف الدولة، وتغالي بعض الروايات لتجعل من هذا الأخير أحد الدعاة السريين عند الخصيبي. إلا أن هذه الرواية لا تجد لها سنداً قوياً، فثمة روايات أخرى تذهب إلى غير ذلك. ومن ناحية أخرى لم يشتهر عنهم مساهمتهم في الكلام الإسلامي، والسجال الذي حفلت به كتب التاريخ بين المذاهب. وعلى الرغم من هذا، فإنهم، مع باقي الطوائف الباطنية، كانوا في مرمى الفتاوى الدينية التي كان يطلقها علماء دين، سنيون وشيعيون.
ربما أول ما نستذكره في هذا الشأن، حجة الإسلام أبو حامد الغزالي (توفي 1111م)، في كتابه «فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية». وهو كتاب هدف من ورائه الغزالي الانتصار للخليفة العباسي المستظهر بالله بعد أن قويت شوكة الفاطميين في مصر وأخذوا يشكلون تهديداً جدياً لسلطة العباسيين. وما يلفت الانتباه في هذا الشأن أن الغزالي عاصر اقتحام الصليبيين لبلاد المسلمين، وكذلك سقوط القدس على أيديهم 1099م، ومع ذلك لم يحرك ساكناً إزاء هذا الأمر، وخصوصاً وأنه عاش بعد سقوط القدس ما يقارب ثلاثة عشر عاماً. لن نخوض في تفاصيل كتاب الغزالي، وسنقف فقط إزاء بعض الأحكام التي يوردها بحقهم.
الباطنية عند الغزالي لا تعامل معاملة الكافر الأصلي، بل الكافر المرتد. إن كل من هو على غير دين الإسلام يعتبر كافراً، لكن الأصلي هو من لم يسبق له أن أسلم، أما المرتد فهو من ترك الإسلام إلى الكفر. هذا الأخير هو أشد كفراً من الأصلي، جزاؤه القتل، بينما يسمح للكافر الأصلي أن يبقى حيث هو، إن خضع للإسلام ودفع الجزية. ولهذا يقول الغزالي: «يتخير الإمام في الكافر الأصلي بين أربع خصال: بين المنّ والفداء والاسترقاق والقتل. ولا يتخير في حق المرتد، بل لا سبيل إلى استرقاقهم، ولا إلى قبول الجزية منهم ولا إلى المن والفداء. وإنما الواجب قتلهم وتطهير وجه الأرض منهم ـ هذا حكم الذين يحكم بكفرهم من الباطنية»
وتعتبر فتوى ابن تيمية هي الأشهر من بين الفتاوى التي تناولت العلويين بالتكفير، وهي لا تزال حتى الآن المرجع الأول لتكفيريي هذا الزمان، ومنهم أولئك المنخرطين في الوضع السوري مؤخراً. يقرر ابن تيمية أن «هؤلاء المسمون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى، بل وأكفر من كثير من المشركين وضررهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والفرنج وغيرهم»
في أزمنة أحدث، من دمشق هذه المرة، ستصدر فتوى عن مفتي الشام عبد الرحمن بن محمد العمادي (توفي 1641م)، وسيؤكد على ما جاء فيها فيما بعد مفتي الشام علي بن محمد المرادي (توفي 1771م). يتطرق العمادي للدروز، ويرى «أنهم ينتحلون عقائد النصيرية والإسماعيلية كالقرامطة والباطنية» ليقرر بأن «جميع الطوائف المذكورة زنادقة ملاحدة، وهم متقاربون في الاعتقاد، وملتهم في الكفر واحدة». بل، واستناداً إلى رأي من سبقه من علماء وفقهاء، فإن من «شك في كفرهم، فهو كافر مثلهم». وأما دليله بأنهم أكفر من اليهود والنصارى، فهو أنه «لا تحل مناكحتهم، ولا تؤكل ذبائحهم بخلاف أهل الكتاب»
2
مع بداية القرن التاسع عشر ستتفاعل المسألة الشرقية التي تعود جذورها إلى الحساسية الأوروبية من التمدد العثماني-الإسلامي داخل أوروبا. سيكون لاحتلال نابليون لمصر (1798-1801م) دور في تفعيل هذه المسألة ودفعها باتجاهات جديدة. لقد أيقظ احتلال مصر مخاوف الإنكليز والعثمانيين، إلا أنه من ناحية ثانية شكل صدمة للوعي الإسلامي/السنّي، دفعه باتجاه السعي لبلورة ذاتية تعرّف نفسها بالتناقض مع المسيحية/الغرب. فيما بعد، سيكون للحملة التي أطلقها حاكم مصر محمد علي باشا دور في دفع المسألة الشرقية للأمام، وخصوصاً بعد دخول قواته إلى بلاد الشام وتهديده عرش السلطان العثماني محمود الثاني. لقد استدعى هذا مزيداً من التدخل الأوروبي في المنطقة، وخصوصاً من قبل الروس والانكليز، حيث أن انتصارات محمد علي بدت لهما انتصارات لفرنسا الداعمة له. كان أحد نتائج التغلغل الدولي الجديد هو بروز مسألة الأقليات، وخصوصاً في المشرق العربي، حيث ستسعى دول إلى إقامة علاقات مع بعض المكونات المحلية، فرنسا مع المسيحيين (موارنة لبنان خصوصاً) والإنكليز مع الدروز والروس مع الروم الأرثوذكس، بينما سينشد المسلمون السنّة إلى الهوية العثمانية. سيكون لبنان أحد الساحات الساخنة للمسألة الشرقية، التي ستمتد تداعياتها حتى دمشق وحلب. وعناصرها هم المسلمون السنّة والمسيحيون والدروز في كل من سورية ولبنان. أمام هذه المعطيات لن يبدو غريباً أن يحصل تصادم بين المسيحيين والدروز في لبنان بعد عام واحد من انسحاب جيوش محمد علي إلى مصر، 1841، لتتطور إلى حرب أهلية بينهما عام 1845، والتي ستتجدد عام 1860م ويصل أوارها إلى دمشق وحلب. ففي هذه الأخيرة ستعلق ملصقات على أبواب الجوامع تدعو إلى ذبح المسيحيين
لم يلفت العلويون انتباه الدول الغربية، ولم يكونوا حتى على هامش المسألة الشرقية، وخارج الأقليات التي أخذت تبرز على الساحة في المنطقة، والتي كانت محط اهتمام الدول الغربية. وجميع الأخبار عنهم في تلك الحقبة تفيد عن انقطاعهم عما يحصل في المنطقة. يروي يوسف الحكيم (ولد في اللاذقية 1879) عن عزلة العلويين في الجبال، مُرجعاً هذا الأمر إلى الاضطهاد الذي تعرضوا له «في العراق وغيره»، فكان هذا في «مقدمة أسباب هجرتهم غرباً واعتصامهم في الجبال التي استوطنوها وسميت باسمهم (…) ورغم انتشار العلويين في القرى الجبلية والساحلية، لم يسكن أحد منهم في المدن آنذاك، لا في بلدة جبلة، مركز القضاء العلوي بأكثريته البارزة، المأهولة بالسنيين دون سواهم، ولا في اللاذقية، المأهولة بالسنيين والمسيحيين»
حاول العثمانيون في نهايات القرن التاسع عشر القيام ببعض الإصلاحات التي من شأنها تحسين أحوال العلويين، ولعل أهمها ما قام به متصرف اللاذقية ضيا باشا، الذي كانت فترة ولايته مرحلة نعيم بالنسبة للعلويين، شعر العلويون بأنهم «بشر كسائر مواطنيهم»
مع بدايات القرن العشرين، ستُكتب للدولة العثمانية نهايتُها، وستتراجع الفكرة الإسلامية التي كانت تمثلها، لصالح صعود العروبة كهوية بديلة. وستكون «مسألة الأقليات» إحدى الأمور التي سترثها المنطقة وترافقها في تطوراتها، بعد انهيار العثمانية. ونختم هذا القسم من بحثنا، باستشهاد طويل لصبحي العمري، أحد الضباط الذين خاضوا غمار الثورة ضد العثمانيين وشهد معركة ميسلون ضد الفرنسيين، يعكس فيه هذه المسألة ومآلاتها مع رحيل العثمانيين. يقول: «خرجنا من الحكم التركي ونحن متفرقون مفكّكون إلى مسلم، مسيحي، شيعي، سني، إسماعيلي، نصيري، ودرزي… ومن القوميات الأخرى: تركي، تركماني، شركسي، كردي، ألباني، أرمني… وجميع هذه الديانات والمذاهب والقوميات مختلفة مع بعضها، كل منها تعتبر نفسها غريبة عن الآخرين وتعتقد أنها مغبونة مهضومة الحقوق. لقد كان المسيحيون بصورة عامة لا يزالون تحت تأثير الماضي. لقد كان المسيحي في العهد العثماني مواطناً من الدرجة الثالثة، لا يشعر أنه مواطن له حقوق وعليه واجبات، فلا يعقل أن ينقلبوا بمجرد خروج الأتراك قوميين عرباً وينسوا كل ما مرّ بهم من مظالم وإهانات خلال تلك القرون الطويلة، وهكذا كانت أكثرية المسيحيين، غير مرتاحة للحكم الوطني، فبقوا أصدقاء لفرنسا؛ أما اليهود فهم شعب عدوّ لكل ما هو غير يهودي، يفضلون أن يكونوا تابعين لأي حكم أجنبي؛ والشيعة في حيّهم منكمشون يشعرون بغربتهم عن الأكثرية السنية وقد لجأ عدد غير قليل منهم للحصول على الجنسية الإيرانية لتحميه من ظلم الدولة؛ والنصيرية في جبالهم، منعزلين تحت وطأة الفقر والجهل والإهمال، لا يعرفون عن الحكم سوى أنه ضريبة إلى الجابي في يد الجاندرمه (الدرَك)؛ وهكذا الإسماعيليون المرتبطون مذهبياً واجتماعياً بآغا خان؛ والدروز في مناطقهم الجبلية يشعرون بغربتهم عن جميع من يحيط بهم، وهم دائماً في ريبة وعدم اطمئنان، والحكومة في نظرهم عدو متربص بهم. أما الأقليات العنصرية، كالأتراك والشراكسة والتركمان وغيرهم، فبقي ولاؤهم للأتراك، يعتبرون أن هذه الحركة العربية، التي فصلتهم عن الأتراك المسلمين بالتعاون مع الإنكليز الكفار، حركة خائنة، ويتفق معهم بهذه الفكرة أكثرية رجال الدين المسلمين، والكثير من العامة»
العلويون… رحلتهم إلى سورية!
1
الكيان السوري حديث، وجد بعد رحيل العثمانيين، على خلفية التنافس الفرنسي-البريطاني على المنطقة، وتقاسم التركة التي خلفها العثمانيون. وبالتالي فإن الكلام عن هوية سورية، أو انتماء سوري، هو من الأمور التي ستحتاج إلى وقت لا بأس به لكي تظهر معالمه. مثل هذه الهوية وهذا الانتماء في البداية، كانا عبارة عن تصور سياسي في البداية أخذت تنادي به النخب التي جعلت مشروعها بناء الدولة السورية، وخصوصاً بعد أن أخذت تتبين الغايات الغربية الرامية إلى خلافة العثمانيين. لن تحظى الدولة السورية الوليدة (1918) بفرصتها للعمل على تشييد مؤسساتها وبسط هيمنتها وسلطتها على الأراضي السورية، مما كان من شأنه الشروع بتعزيز الانتماء إليها وإشاعته بين السوريين. عام 1920 أنهى الفرنسيون هذه الدولة، وفيما بعد عمدوا إلى تقسيم سورية إلى عدة دويلات، ستعيش أضعاف ما عاشته الدولة السورية، وهو ما يعني أنها ستنغرس في نفوس العديد من النخب والأبناء، على حساب الوحدة مع باقي الأنحاء السورية.
بالنسبة للعلويين، حتى أواخر القرن التاسع عشر كانت مناطقهم جزء من ولاية سورية العثمانية التي يشير إليها تقرير مدحت باشا على أنها «أوسع من غيرها من ولايات الدولة، وإن أهلها من العرب والأتراك والتركمان والدروز والنصيرية والروم والموارنة والكاثوليك والبروتستنت والسريان والأرمن، ويتألف من هؤلاء شعب عدده أربع وعشرون نوعاً من الملل والأديان والمذاهب، ينضم إليهم الجزائريون والشراكسة والتتار وغيرهم من المهاجرين (…) وأن إدارة هذه الأجناس المختلفة على قاعدة واحدة وما تولده من مشاكل غني عن التعريف والإيضاح»
ستجد الدولة العلوية من يناصرها من بين العلويين (وغيرهم بالطبع)، فهذه دولتهم الأولى، وهم الخارجون من مرحلة كانت قاسية عليهم من جميع النواحي، مرحلة العثمانيين. سيقوم الفرنسيون، لأجل توطيد أسس بقائهم، باستخدام القوة اتجاه من يعارض وجودهم، كما حصل مع ثورة الشيخ صالح العلي، ولكن أيضاً بإنشاء المؤسسات الخدمية والتعليمية وفتح باب الوظائف أمام أبناء العلويين وتقديم بعض المساعدات لفقرائهم، وهو ما حرك بعض الحساسيات اتجاههم، كدنادشة تلكلخ، السنّة الموالين لدمشق، بسبب «عطف المحتلين على العلويين الذين يؤلفون أكثرية سكان القضاء»
2
طوال قيام الدولة العلوية، ستشهد الأوساط العلوية، على صعيد النخب خصوصاً، سجالاً بين تيارين رئيسيين، أولهما ذلك الداعي إلى استقلال العلويين في دولتهم وعدم الوحدة مع السوريين، والثاني هو تيار الوحدويين. وربما أشهر وثيقة في ما يخص الاستقلاليين، هي تلك التي تم تداولها مؤخراً وأثارت العديد من المواقف. وثيقة أخرى هي عبارة عن برقية وقع عليها بعض الزعماء والقادة في المجلس النيابي في الدولة العلوية، منهم إبراهيم الكنج رئيس المجلس ووديع سعادة نائبه، وكذلك الشاعر المشهور محمد سليمان الأحمد (بدوي الجبل)، وذلك رداً على ما شاع حول المفاوضات بين الوفد السوري والفرنسيين في باريس 1936، من موافقة فرنسا على إلحاق دولة العلويين بالجمهورية السورية. يرفض الموقعون على هذه البرقية، معللين رفضهم بأنه «ليس هناك ما يجمعنا. فطرق التربية في المنزل والمدرسة والعادات القومية والأهداف الاجتماعية مختلفة بيننا وبين السنّة كل الاختلاف. ورغم أنه تجمعنا معاً حضارة القرن العشرين وأن الإدارة في سورية إدارة فرنسية إلا أن تناقضنا الديني والعقائدي متغلغل في كل مجالات الحياة الاجتماعية. (…) لن يضيف ضمنا إلى سورية ثقلاً لوزنها أو نفوذها خاصة إذا تم هذا الضم رغم أنوفنا. كل ما في الأمر أنها تطمع إلى تنمية مواردها التجارية والصناعية والاقتصادية والسياسية على حسابنا»
الوحدة هي ما سيتحقق أخيراً، وسيغدو العلويون سوريين للمرة الأولى في تاريخهم، مثلهم في هذا مثل جميع السوريين. إلا أن «تضحيتهم» في سبيل هذا ستكون أكبر. لقد خسروا أول دولة لهم في تاريخهم، لمت شملهم بعد أن كانوا متفرقين، وفتحت لهم بوابة للأمل بأنهم سيكونون أسياد مصائرهم، وأن أيام الماضي الأليم قد ولت إلى غير رجعة. مقابل هذه «التضحية»، لم تكن مفاعيل الاستقلال ذات مردود يشعر معه العلويون بحسنات الوضعية الجديدة، إذ بدأت سيرة الملاكين السنّة بالعودة، لتعود معها المخاوف القديمة. يذكر فيليب خوري أن العلويين «حين واجههم خطر الوقوع تحت سيطرة طبقة مدينية من الملاكين السنة الغائبين (…) استجابوا كـ’طائفة- طبقة‘»
بالطبع، لا يُفهم من وراء هذا السرد أن أحوال العلويين في الحقبة الوطنية مماثلة لأحوالهم أيام العثمانيين. إننا لا نتبنى مثل هذا. فقد غدا العلويون سوريين، حاملين معهم مخاوفهم. جميع السوريين مستجدون في سوريّتهم، ولهذا كان القلق عنواناً ثابتاً لهذه الهوية، وهكذا كان الأمر بالنسبة للعلويين.
رحلتهم من سورية
1
الرحلة هنا هي على الصعيد النفسي، وهي تحتمل أكثر من مستوى للحديث عنها، منها ما يخص العلويين ذاتهم، ومنها ما يخص آخرين لم يعد باستطاعتهم تقبل العلويين، فتم ترحيلهم نفسياً من سوريا، مع أن البعض لا يتوانى عن إعلان نيته بترحيلهم فعلياً إما إلى الرفيق الأعلى، أو إلى أماكن أخرى.
سوريا = السنّة. هذه هي معادلة علويين أيام الانتداب الفرنسي، ومعادلة علويين حالياً إذا زال النظام، كما أنها معادلة سنيين قبل وجود هذا النظام، وسنيين جهاديين الآن. لكن سورية في نظر هؤلاء العلويين ليست علوية بوجود هذا النظام، وإنما هي سورية يستطيعون العيش فيها والتعايش مع الآخرين، ويكونون سوريين. «الحساسية المتشكلة حيال السنّة»
لقد سبق للشيخ سليمان الأحمد، أثناء ردّه على سؤال لمحمد كرد علي، أن ذكر أن المظالم التي وقعت على العلويين، والبؤس الذي عاشوا به أيام العثمانيين، انعكس على شكل نفور من السنّة وليس من الدولة العثمانية
يذكر الحوراني في مذاكراته تقريراً ورد من محافظة اللاذقية ونشرته جريدة البعث (العدد 248، 28/10/1949)، تحت عنوان «الإقطاعية في حماه يجب أن تهزم»؛ يرد في التقرير أن عدداً من المرشحين إلى انتخابات المجلس التأسيسي هم من أصحاب الأملاك الواسعة في ريف «محافظة العلويين»، وأن هذا الأمر أثار مخاوف الفلاحين العلويين الفقراء «حيث السعيد السعيد من يملك حصيرة في بيته أو ينتعل خفاً»، وأن «الجهالة والسذاجة اللتين رانتا على أذهان الفلاحين ألقتا في روعهم أن ما يحل بهم من العذاب والخسف من قبل الملاكين نتيجة لاختلافهم عنهم مذهباً (…) هذا الظن الخاطئ حمل العلويين على الظن بأن كل من في البلاد عدو لهم، وأيأسهم من كل عدل وإنصاف واضطرهم إلى عزلة روحية أليمة وتشاؤم كان من الصعب جداً استئصاله، وربما كان له أثر في سكوتهم على مظالم الانتداب لأنها على شرها كانت أخف عليهم وقعاً من مظالم السادة الملاكين»
الانعطافة الكبرى التي ستصيب العلويين، بل والمجتمع السوري كله، ستكون في ثمانينيات القرن المنصرم. وهي ستأخذ شكل حركتين: الأولى إلى الماضي، حيث ستنبعث المخاوف القديمة، وتنتعش الذاكرة بقصص الماضي الرهيب؛ الثانية إلى المستقبل، قطاعات واسعة من العلويين رأت أن استمرارها مرهون باستمرار هذا النظام. ساعد على هذا الأمر عدة أمور. كان ثمة اغتيالات قد بدأت منذ عام 1976، طالت شخصيات محسوبة على النظام، وكان نصيب العلويين من هذه الاغتيالات هو الأكبر، وسيتم تبنيها في عام 1979 من قبل مجموعة أطلقت على نفسها اسم «المجاهدين» من خلال نشرة سرية تصدر عنها، واسمها «النذير»
2
سورية ما بعد الثمانينيات مختلفة تماماً. لقد غدت سورية الأسد. ومن الجدير ذكره، أن العلويين الذين استفاقت مخاوفهم في أحداث الثمانينيات، لم تستفق معها مطالب الانفصال أو أي وضعية خاصة لهم، وهي مطالب ارتبطت سابقاً بهذه المخاوف كما رأينا، على الرغم أنه آنذاك، كانت لا تزال هناك نخب اجتماعية وأهلية معتبرة، وهي ما سيجري العمل على إنهائه فيما بعد. ربما ساعد على هذا الأمر –عدم انتعاش الانفصالية– أمور عدة، منها قوة النظام، وأيضاً فشل الأخوان المسلمين في حشد السنّة السوريين وراءهم وتحويلهم إلى طائفة تتبنى مشروع الجماعة.
ما فشل به الأخوان، نجح به النظام إلى حد كبير على صعيد العلويين. رحلة العلويين من سورية ستكون من خلال سوريتهم المشروطة ببقاء نظام منفصل عن سورية، حيث سعى إلى أن يكون الاستحواذ المطلق عليها، شكل علاقته الأبرز معها. الأمر متشابك إلى حدّ ما، ففي الوقت الذي نتكلم فيه عن رحيل نفسي للعلويين عن سورية عبر هذا الشرط، إلا أنهم سيغدون أكثر سوريةً، وأكثر تماهياً مع «الهوية السورية» بعد مرحلة الثمانينيات. لقد حقق النظام لهم الطمأنينة، ومعه غدَوا أكثر إقداماً واندفاعاً وتعاملاً مع الأفراد والجماعات من خارج بيئتهم، ومن موقعهم كعلويين. إزاء التماهي مع «الوطنية» التي سيشيعها النظام، لن يشعر علويون بأي تبعثر هوياتي أو تشتت بسبب الانتماء المزدوج المعلن والمعاشة أبعاده من قبل الكثير منهم، فلقد وجدت «العلوية» مستقرها وحدودها أخيراً في سورية، فالعلوي هو علوي أولاً، وهو سوري أولاً أيضاً، ثمة استقرار هوياتي وتماهٍ مع الجغرافية السورية جميعها. وفي السياق العلوي السوري، في مرحلة الطمأنينة التي ذكرناها، تتغنى الذاكرة الأهلية بالرموز التي هي كانت بوابة العبور إلى هذه السورية، كالشيخ صالح العلي، الذي يحضر إلى جانب حافظ الأسد في هذا الشأن، بينما تغيب تماماً الدولة العلوية أيام الفرنسيين، ولا تحضر لا بشخوصها ولا بتاريخها ولا يعرف عنها أغلبهم. العلوي التركي ليس حاضراً في حساباتهم، ولا يشعرون اتجاهه بأي انشداد، فإذا ما تم ذكر أن ما وراء الحدود يوجد ملايين العلويين، قد يقابل هذا الأمر بابتسامة ارتياح، لكن الأمر ينتهي هنا، فهؤلاء أتراك ونحن سوريون. مع أنهم يلعنون الأتراك الذين سلبوا لواء اسكندرون، الذي يسكنه علويون لا بأس بعددهم. هم يذكرون فلسطين وإسرائيل، ولا يخطر ببالهم إلا ما ندر اللواء والأتراك. بل إن هؤلاء الأخيرين غدوا أحباباً أيام السمن والعسل مع النظام. يحضر النظام وفق هذا وكأنه الأسطورة المؤسسة للعلويين، لقد أخرجهم من سياق الجماعة المحدودة والقلقة، ومنحهم شعوراً بالامتلاء والطمأنينة.
إزاء هذه الحالة، ومع مرور الأيام، سينعكس هذا حتى على حالة التجانس بين العلويين أنفسهم، لقد بدأت هذه الحالة بالتراجع، أمام الانخراط الذي أقدم عليه العلويون بالمجتمع، وربما تكون حالات الزواج من خارج الطائفة مؤشراً مهماً على هذا الأمر، وقد يكون العلويون هم الأكثر إقداماً على هذا الأمر من غيرهم. وليس هناك أية مطالب تخصهم كعلويين، لقد كانوا يدرسون في المدارس مادة التربية الإسلامية (السنية)، ويتزوجون وفق في المحاكم وفق القوانين الشرعية المعتمدة عند الدولة. لم يكن الانتقال إلى هذه الوضعية السيكولوجية والاجتماعية الجديدة للعلويين، انتقالاً ذاتياً، رغم أنهم يملكون الاستعداد له. فمن ناحية أخرى، تعرض العلويون لنوع من الإبادة الثقافية، لقد تم النيل من مجمل ثقافتهم وتراثهم الأهلي بقصد تحشيدهم في الوضعية السلطوية الجديدة، هذا الفعل السلطوي لم يكن خاصاً بالعلويين وحدهم، لقد فعل النظام فعله هذا مع جميع السوريين. ولكنه على صعيد العلويين كان له وقعه الخاص، إذ أخذ يتكرس في وعي سوريين كثر بأن ثمة علاقة وطيدة بين النظام والعلويين، وباستعارة من كارل ماركس حول هيمنة ثقافة الطبقة المسيطرة، بدا وكأن «ثقافة» العلويين هي تلك الثقافة المهيمنة. انتشرت أغانيهم الشعبية، وصعد مغنّوها ليصبحوا نجوماً، بالإضافة إلى ذلك غدت لهجة ما تخصهم تشير إلى القوة والسلطة، يوازي هذه الأمور تواجد الكثير منهم في مراكز القوة كالأمن والجيش. وبكلمة، لقد تم الذهاب إلى أن المرجعية الثقافية السلطوية في تطابق تقريباً مع تلك الخاصة بالعلويين.
وبالرغم من المظاهر التي يمكن أن توحي بذلك، إلا أن البحث هنا لا يعتقد بدقة مثل هذا التوصيف، وأكثر من هذا، نجازف ونقول: أن «ثقافة» العلويين لم تكن مهيمنة حتى على أصحابها، بل إنهم كانوا مجالاً للثقافة السلطوية أكثر من غيرهم. ونشير فوق ذلك، إلى أن هذا الكلام عن الهيمنة لا يعني أن الجهة المقابلة (المجتمع السوري) كانت مشلولة وملحقة بإطلاق، بل إن هذه الهيمنة السلطوية عزّزت أكثر من بناء آليات دفاعية محلية، ثقافية واجتماعية، عند مختلف المكونات، غايتها الحفاظ على «خصوصيتها» ومقاومة أي استلاب. لقد كان حضور السلطة المادي أكثر قوة واختراقاً لحياة الناس من حضور الثقافة التي ارتبطت بها. لم يحظ المجتمع السوري بفسحة حرة أو هامش من التواصل السياسي أو الثقافي يتيح لمكوناته شكلاً من أشكال التثاقف الذي يؤسس لاختراقات وتوافقات إيجابية عند جميع الأطراف تساهم في إيجاد هوية عامة يلتقي عندها السوريين، مما يساهم بإدخال بعض التعديلات على الجوانب الجامدة في الثقافة الأصلية، الدينية والاجتماعية، لكل طرف. وربما من المفارقات هو ذلك التفاعل الذي أظهرته الثقافات الاجتماعية المحلية مع المنظومات السياسية والثقافية التي أتت من الغرب عن طريق الاستعمار أو التبشير وغيرهما، سواء رفضاً أو قبولاً، ولكن كان لها أثر كبير في تغييرات ستصيب المحلي الأصلي لصالح التعايش والتأقلم مع الزمن الحديث. مثل هذا التفاعل مفقود بين المكونات الأصلية. حتى في مدينة أكثر اختلاطاً كمدينة دمشق تتميز بتجمعات سكانية موزعة بحسب الانتماء الجغرافي أو الديني أو الطائفي، لم تستطع عموماً أن توجد مجالاً عاماً يمكن أن يلتقي عنده الجميع. من هاجر إلى دمشق حمل معه ثقافته الأصلية وبقي عليها. هذا يوحي أنه ضمن دمشق ثمة جزر مستقلة تقريباً تتجاور مع غيرها ولكنها تعيش استقلاليتها الثقافية شبه المطلقة. لقد كان الزمان السلطوي زماناً مطلقاً، تسبح البلاد والعباد في فضائه، وفق إيقاع مضبوط مسبقاً.
وفي سياق الكلام عن الهيمنة، ووضعية العلويين المفترضة فيها، نرغب في ذكر بعض ما يخلخل هذه الصورة إلى حد ما، على الصعيد الاجتماعي والثقافي. لا يشعر علويين بالتململ، وبالحاجة إلى إخفاء جزء من هويتهم الاجتماعية والثقافية إلا إزاء السنّي، فهذا الأخير منمّط في صورة تجعل منه كائناً متديناً ومستودعاً لأحكام أخلاقية تملك القدرة على ترحيل بعض السلوكيات خارج دائرة الأخلاق. ربما يجد هذا التنميط مصدره في ذلك التقرير الحاضر في لاوعي المذاهب الإسلامية غير السنيّة، كما هو حاضر في وعي ولاوعي الكثير من السنييّن، من أن السنيّة هي الحامل الأساسي للإسلام، والمعبّر عنه. وفق هذا، غالباً ما يكون علويون في موقع الدفاع أو المداورة أو التبرير أو الإنكار اتجاه بعض السلوكيات المستنكرة، أو التي يُعتقد أنها كذلك، من قبل هذا «السنّي»، مع أنها في الواقع ممارسات أصيلة في الحياة الاجتماعية عند العلويين. بل قد يستعير البعض سلوكيات ليست منهم في شيء، لكي يصبح مقبولاً، وخصوصاً إذا كان في بيئة غير علوية وأغلبيتها سنيّة. مثل ذلك ما يمكن أن نلاحظه من قيام فتيات علويات تم تعيينهن كمدرسات في ريف المنطقة الشرقية أو ريف حلب وإدلب، حيث أن بعضهن يبادرن إلى ارتداء الحجاب، ومن لا تفعل منهن تحافظ على مسافة مع أهل تلك المنطقة لقناعتها بأنها من طينة مخالفة وأن عليها، لكي تكون مقبولة، أن تغيّر ما تعتبره أساسياً في حياتها. لا يوجد مثل هذا الإحساس مع أبناء الأقليات الأخرى، فثمة مشتركات اجتماعية وثقافية معهم، وخصوصاً تلك التي يفترض أنها مُدانة سنيّاً. وأمام هذه الحال، يلجأ علويون، وآخرين من الأقليات، إلى تطوير آليات دفاعية أخلاقية تجعل من «الأخلاقية السنيّة» تعلقاً بالقشور، والكلام على أن الإنسان يقاس بجوهره لا بمظهره وغير ذلك، أو ربط مثل هذه الأخلاقيات بعادات التخلف، بحيث يغدو ابن الأقليات مفطوراً على التقدمية، التي لا يستطيع أن يصل إليها السنّي إلا ببذل الجهد، عن طريق الثقافة. ويحصل أن يكون ما يبدو أنه نزوع عند البعض من أبناء الأقليات إلى التمترس وراء قيم الحداثة والعلمانية، ما هو إلا غطاء لطائفية مقيمة، سرعان ما تظهر عندي أي امتحان.
ولكن، على الرغم من هذا الشعور بالتمايز إلى هذه الدرجة أو تلك، إلا أنه لا وجود لأسطورة النقاء والانسجام والاكتفاء العلويين. وفي أقل الأحوال هي أسطورة غير أصيلة فيهم، تستعاد أو ترتفع أسهمها في حالات الحرب والخطر وعند متطرفين منهم، ليصبح منطوقها بأننا لا يمكن لنا أن نعيش مع من يريد إبادتنا أو النيل منا، نستطيع أن نستمر بدونهم، ولطالما كنا كذلك في أزمنة سابقة. يحضر استمرار النظام وكأنه تغليب للنسيان، نسيان ماض حافل بالألم، وحين يتم تهديده تنتعش الذاكرة. بمعنى، حتى نبقى سوريين يجب أن ننسى، تذكرنا يعني أن نسعى للعيش منعزلين. نحن سوريون مع النسيان، وإلا فإننا سرعان ما نحيي موتانا وقصصهم. إلا أن المفارقة على هذا الصعيد، أن مثل هذا القلق لم يظهر عند الهزة التي حصلت سابقاً للنظام على إثر احتلال العراق واغتيال الحريري، بل إنهم كانوا مع سوريين كثر متوحدين في مواقفهم إزاء ما يحصل في المنطقة من تغيرات. عندما ثار سوريون، أصبح الأمر مختلفاً. بل إن العلويين قبل الثورة كانت تجمعهم وحدة حال مع معظم السوريين، فيما يبدونه من امتعاض واستياء ونقد اتجاه السياسات الاقتصادية للدولة. إن العلويين الذين أعطاهم النظام شعوراً بالاستقرار والأمان، لم يكن لهم امتيازات اقتصادية، فما يزال الفقر سمة حاضرة في معظم قراهم. باب التوظيف مفتوح لهم ولغيرهم، وربما يتاح لبعض العلويين تحصيل وظيفة عبر علاقات قرابية مع متنفذين بالسلطة، ولكن هذا الأمر مرتبط بالفساد وهو مفتوح لغيرهم أيضاً، وربما التسهيل الوحيد لهم كان على صعيد الجيش والأجهزة الأمنية، وهذا الأمر هو أحد السنن المتبعة والمرغوبة من قبل النظام. إلا أن نقد النظام نتيجة هذه الأوضاع المعيشية، لا يعني بالضرورة الرغبة بتبديله، فقد أعطاهم ما هو أهم، الأمان والاستقرار والتماهي بالهوية السورية، بل إن زواله لن يعني إلا أوضاعاً معيشية أكثر سوءاً، بالإضافة لما ينطوي عليه ذلك من تهديد وجودهم ذاته. عدا عن النفسية المستجدة التي تكلمنا عنها، ثمة جانب حياتي خبره العلويون وغدا جزءاً من تفكيرهم في تخطيط حياتهم. العلويون قوم لا تجارة عندهم ولا زراعة، الطريق الوحيد المفتوح أمامهم هو الدولة لتدبير أمور حياتهم. من ابتعد عنها منهم لم يكن نصيبه إلا التهميش والبطالة ومغادرة البلاد بحثاً عن العيش في ظروف بائسة كما يحصل عند الذهاب للعمل في لبنان مثلاً. وهو ما جعل الولاء للدولة = النظام عندهم مضاعفاً، فهذا الأخير يشترط الولاء، وهم بادلوه الولاء لأنه يشكل في أحد جوانبه مصدر العيش لهم. كثير من العلويين يتركون قراهم ومدنهم ويذهبون لآخر سورية مقابل هذا الراتب الذي لا يملكون غيره. أو يسكنون في عشوائيات تساهَل النظام في خصوصها كرشوة، حيث يشعر العلوي الذي يستطيع أن يؤمن مكاناً في إحدى هذه العشوائيات، أن بيته في رأس القلعة.
3
بهذه الأبجديات السيكولوجية والحياتية استقبل علويون الثورة السورية. وبالتالي سيكون أمر اصطفاف قطاعات منهم مع النظام، سيكون أمراً شبه محسوم. إلا أن الأمر لن يتوقف هنا، فثمة وقائع ستحدث خلال الشهر الأول من الثورة، ستكون بمثابة الحافز على المضي في هذا الخيار، بالإضافة إلى ما ستشيعه بين أوساطهم من أنهم المستهدفون بالدرجة الأولى. إذاً لقد استيقظت المخاوف القديمة من جديد. وساهم أن وقوع هذه الحوادث في مناطق العلويون والسنيون هم غالبية سكانها. الحادثة الأولى ستكون مقتل الموظف في نادي الضباط بحمص، عادل الفندي وهو علوي، وسيحدث ذلك بعد اقل من 10 أيام من عمر الثورة 26/3/2011. الحادثة الثانية ستكون الحادثة المريعة التي حصلت للعميد عبدو التلاوي وولديه وابن أخيه، حيث تم قتلهم جميعاً وتشويه جثثهم، حصل ذلك في 17/4/ 2011
حتى الآن لم يبرز أو يظهر رجال دين علويون ليلعبوا دوراً مؤثراً على صعيد ما، ولم يبرز منهم من يكفّر أهل الثورة أو السنّة الذين هم أكثرية الثورة، وأيضاً من يدعو إلى الاصطفاف خلف النظام. لا يوجد ناطقون دينيون باسم العلويين، النظام هو من يتولى هذه المهمة. فهم يشعرون أنهم مَدينون له. فهم من دونه جماعة معرضة إلى الزوال ومعه هم سوريون. هذا ربما يفسر «النزعة السورية» شديدة الحضور في ما يطرحونه على مواقعهم الالكترونية أو عبر مثقفيهم، وتعصمهم حتى الآن من الانخراط بخطاب طائفي صريح ضد السنّة بالأساس، لصالح «وطنية سورية» مفصّلة بمفردات النظام. ليست هذه النزعة بريئة من اعتبارات علوية خاصة، فهي باقية رهن بالطمأنينة التي يمكن أن تقدمها لهم، وإلا فإن الحديث عن التقسيم، أو الانفصال، سيغدو ممكناً.
انطلاقاً من هذه «النزعة السورية»، ابتعد العلويون كما قلنا عن الخطاب الطائفي ضد السنة، فالبوصلة هي النظام وليس الدين، وبالتالي، هم ضد كل من يقف ضد النظام «الوطني»، وفي هذا يتساوى السنّي والعلوي والجميع. ولهذا نراهم يبكون على مقتل البوطي، ويطربون لسماع المفتي حسون، ويُحيّون صمود مدينة حارم ويحزنون لسقوطها، ويستقبلون بينهم عشرات الآلاف من النازحين من المدن الأخرى، وأغلبهم سنيّون. وإذا كان من تصريح ضد سنيّة ما، فهو ضد السنيّة بطبعتها الوهابية الجهادية، والتي لا تخفي بدورها عدائها للعلويين، وبأنها تستهدف النظام باعتباره كافراً نصيرياً.
ترحيلهم من سورية
1
الإقدام الذي تحدثنا عنه، وغدا ميزة للعلويين أيام استقرار النظام بعد الثمانينيات المنصرمة، لم يواجَه بإحجام من باقي السوريين. بالنسبة للسنّيّين، ذكرنا كيف فشل الأخوان المسلمين بالهيمنة عليهم وتوحيدهم على أساس الغايات السياسية التي سعت إليها جماعة الأخوان، مما ساهم في عزل هؤلاء الأخيرين وتسهيل ضربهم من قبل النظام، في الوقت الذي نجح النظام آنذاك في إشاعة روحية عامة عند معظم العلويين، استطاعت تحشيدهم خلفه، كما أسلفنا. طوال سنين استقرار النظام وقوته بدا وكأن السوريين يسيرون جميعهم خلفه. ثمة «وطنية» عمل النظام على تلبيسها لذاته، واحتكارها، وتحصينها بالقوة والإعلام والتعليم. قوام هذه الوطنية بسيط جداً، ومفرداتها معدودة، فثمة سورية التي لولاها لانفرط عقد العرب والعروبة، وضاعت قضيتها المركزية: فلسطين. ولذلك فإن المؤامرات عليها دائمة، من الأمريكان والصهاينة وبعض العرب الذين باعوا عروبتهم. في مرحلة قوة النظام، بدا أن «وطنيته» قد تمكّنت من السوريين، وأن هؤلاء سلّموا قيادَهم لها ولسدنتها. ولعل المنعطفات التي ستمرّ بها البلاد، وبعضها كان من الممكن أن يودي بالنظام، تدعم هذا الرأي. منها مثلاً، رحيل حافظ الأسد واستلام ابنه بشار الأسد منصب الرئاسة، حصل هذا الأمر بكل هدوء ولم يلقَ أي مقاومة مجتمعية، إذا لم نقلْ أن ما بدا هو العكس. حتى المعارضة التي ستستأنف عملها، داخل سورية خصوصاً، بعد رحيل الأب، كانت ذات مضمون ديمقراطي وطني، ونخبوية لم تستطع لأسباب عديدة، أن تتغلغل في الأوساط الشعبية.
ومع الضغوط المتلاحقة على النظام، والتي سيتركز معظمها في السنين السبع الأولى لولاية بشار الأسد، حيث أحداث 11 أيلول في الولايات المتحدة واحتلال العراق واغتيال الحريري ومن ثم حرب تموز في لبنان، بدا أيضاً أن الداخل السوري متماسك في دعمه للنظام ومواقفه. وربما كان هذا الأمر أحد الأسباب التي دفعت جماعة الأخوان المسلمين السورية، عدو النظام اللدود، إلى تعليق معارضتها له، مبرِّرة هذه الخطوة بأنه نظام داعم للمقاومة في وجه الاحتلال الإسرائيلي. وهو ذات الأمر الذي جعل بشار الأسد واثقاً من أن سورية لن تشهد ما شهدته تونس ومصر، كما صرّح بهذا قبل قيام الثورة السورية، وبعد الإطاحة بمبارك. ولم تبتعد معظم النخب السورية عن هذا المناخ، فمعظمها كان متشكّكاً بإمكانية دخول سورية في الربيع العربي، وبعضها بقي متشكّكاً باستمرار الثورة في فترتها الأولى. وهو ما طال نخباً عربية رصينة أيضاً، على سبيل المثل، بول سالم مدير «مركز كارنيغي للشرق الأوسط»، في تحليل له قبل قيام الثورة السورية، يقرر أن «رياح التغيير لا يبدو أنها ستهب على لبنان وسورية»، ومن أسباب هذا بخصوص سورية هو أن «الموقف السوري من إسرائيل مختلف عن موقف الرئيس المصري السابق حسني مبارك، ما يعزز وضع قيادتها شعبياً، كما أن الرئيس بشار الأسد ما يزال شاباً في منتصف تجربته الإصلاحية التي بدأت منذ 11 عاماً، حتى لو كان النظام قديماً، ولكنه غير شبيه بنظامي زين العابدين بن علي ومبارك، لذا من المستبعد حدوث أي طارئ في سورية»
الطائفية كانت تحت هذا السطح الظاهر، علاقاتها والكلام فيها يجري بالخفاء، بينما الكلام في العلن كان عن التعايش المعجزة بين جميع المكونات السورية، والأمن والأمان الذين ينعمون بهما وتفتقدهما حتى الدول الأكثر تقدماً في العالم. أول سجال طائفي طُرح على الفضاء العام، وتابعه السوريون، سيكون بعد احتلال العراق، من خلال قنوات تلفزيونية فضائية ستتخذ طابعاً شيعياً أو سنياً صرفاً، وبعضها، كقنوات صفا ووصال والمستقلة، سيقوم بإجراء محاورات مباشرة بين رجال دين من السنة والشيعة هاجس كل طرف منها أن يثبت أنه يمثل الإسلام الصحيح بينما الآخر مبتدع فيه ومنحرف عنه
لم يكن الهاجس الطائفي غائباً مع قيام الثورة السورية. قام المتظاهرون عبر الشعارات التي كانوا يرفعونها أو يهتفون بها بمحاولة تعريف مختلف شرائح السوريين بغاياتهم وأهدافهم، فأخذوا يهتفون بأن «الشعب السوري واحد»، وبعد ما يقارب الشهر على انطلاقة الثورة السورية، في 22 نيسان 2011، وكان يوم الجمعة، أطلق المتظاهرون اسم «الجمعة العظيمة» كرسالة الهدف منها استمالة المسيحيين إلى الثورة. وبعد ذلك بحوالي الشهرين، في 17 حزيران 2011، سيكون هناك «جمعة صالح العلي»، أيضاً في رسالة للعلويين تهدف إلى تطمينهم واستمالتهم للثورة وأن مصلحتهم هي ذاتها مصلحة باقي السوريين في إزالة هذا النظام. ومن الجدير بالذكر أن هذه الجمعة وجدت انقساماً في أوساط الثورة، فبعضهم لم يتبنّ تسميتها باسم صالح العلي وأطلق عليها اسم «جمعة الشرفاء»، وثمة أسماء أخرى أطلقت على هذه الجمعة من جهات أخرى في الثورة. ويبدو أنه ساد بعض الهرج في أوساط من الثورة بسبب هذه التسمية، مما اقتضى من القائمين على صفحة «الثورة السورية ضد بشار الأسد» نشر التوضيح التالي:
أيها الثوار الكرام منذ نشر إعلان اسم الجمعة (صالح العلي) ظهرت حملة عنيفة ضد الأخ فداء السيد, نودّ إعلامكم أن فداء السيد ليس إلا ناطق إعلامي باسم صفحة الثورة السورية. ولا يجري نشر الاسم إلا بعد تنسيق ومشاورات حثيثة في الداخل السورية وبعض النشطاء في الخارج والتي ارتأت في تسمية هذه الجمعة سبباً وجيهاً في دحض مزاعم النظام الفاسد أننا طائفيون, لذلك اقتضى التنويه
موجود على الرابطين: http://forum.sh3bwah.maktoob.com/t347547-133.html, http://www.elaph.com/Web/news/2011/6/662240.html?entry=homepagemainmiddle .
ومع ذلك فقد تم التزام هذه التسمية في معظم التظاهرات التي خرجت آنذاك. إن هذه التسمية (صالح العلي) التي جاءت بعد ثلاثة أشهر من بدء الثورة، بالإضافة إلى السجال الذي دار حولها في أوساط الثورة، يعكس أن ثمة «مسألة علوية» بدأت تطفو على السطح، وتشكل أحد السياقات التي ينبغي على الثورة التعامل معها، لا سيما أنها ستغدو أحد المسائل الحاضرة في تناول الصراع مع النظام. في الأشهر المتقدمة من الثورة، ومع تزايد عنف النظام اتجاه مجتمع الثورة وكوادرها؛ وانتقال الثورة إلى طورها المسلح؛ وتصاعد الصدامات الطائفية في بعض المناطق، لا سيما في حمص؛ وتأييد معظم العلويين للنظام وانخراط كثير منهم في العمل المسلح إلى جانب النظام؛ وانتشار فيديوهات لعناصر محسوبة على النظام، يوحي الكثير منها أنهم علويون، وهي ترتكب بعض الجرائم أو تشارك في أعمال القمع للثورة…، كل هذا سيدفع باتجاه تصدر «المسالة العلوية» كواحدة من أهم عناوين الصراع في سورية. لاحقاً، سيبرز المكون الإسلامي في الثورة، وينزاح بعضه نحو تبنّي النسخة الجهادية، التي ستسعى ليس فقط إلى «تسنين» الثورة، بل إلى بناء ذاتية سنية لا تعي نفسها إلا عبر التناقض مع الكافرين، وهم في السياق السوري العلويون أولاً. النظام سيغدو مع هؤلاء «نظاماً نصيرياً»، والعلويون من القوم الكافرين، قتالهم واجب.
2
ترحيل العلويين من سورية يمكن أن نقف عليه على مستويين:
الأول يظهر في ذلك التصلب النفسي اتجاه العلويين، والذي بدأ يعبر عن نفسه في أوساط لا بأس من الثورة. ثمة آليات تُتبع هنا تهدف إلى تنميط هؤلاء الغرباء (=العلويين)، بصفات ثابتة، سلبية وشريرة. إنهم الدخلاء الذين لوّثوا نقاء هذه البلاد، ولولا طيبتنا والخير الذي فينا لما تمكّنوا من ذلك، لذلك لا بد من استعادة هذا النقاء عبر إبادة هؤلاء الغرباء، أو القطيعة معهم في أحسن الأحوال. إنهم غرباء أولاً لأنهم ليسوا سوريين، فكيف يكونون كذلك وهم يصطفّون مع من يقتل السوريين؟ وحتى يكتمل إخراج العلويين من «السورية» يسعى البعض إلى النيل من بعض رموزهم والتشكيك بها، وهي التي كانت حتى ما قبل الثورة محطّ إجماع سوري، كالشيخ صالح العلي وثورته ضد الفرنسيين، والذي يعتبره العلويون رمزاً ودليلاً على سوريتهم الأصيلة
ثمة نقلة ثانية يسير بها البعض، تركّز على إخراج العلويين من الإسلام، فهم مجموعة مرتدّة كما أجمع على ذلك لفيف من علماء الأمة والسلف الصالح، ولا تاريخ لهم إلا تاريخ المؤامرة على الإسلام والطعن بالمسلمين. تسمية «العلويين» غير أصيلة، سماهم بها الفرنسيون لقاء الخدمات التي قدموها لهؤلاء. وما هذه المرحلة التي نعيشها إلا إحدى حلقات المؤامرة المستمرة لهذه الطائفة الباطنية! ثمة من يذهب أنه حتى حافظ الأسد لم يكن إلا أداة دفعته هذه الطائفة ودعمته ليصل إلى ما وصل إليه لتحقيق أهدافها الخبيثة، فهو «يدين بالولاء لطائفته في الدرجة الأولى، ومن قيادة هذه الطائفة يستمد تعليماته وأوامره، وما الحزب عنده إلا ستار للتسلط النصيري» و«حافظ الأسد ليس حاكماً فردياً كالشيشكلي أو حسني الزعيم، وإنما هو كيان طائفي منظم وله داخل هذه الطائفة حجم محدود لا يستطيع أن يتجاوزه»
يلجأ علويون إلى ذات الآلية وهم يتناولون خصوم النظام، الجهاديين خصوصاً، الذين يظهرون ككائنات تتميز بتفكير وسلوك شيطاني مقزّز لا يمت للإنسانية أو العقل أو الأخلاق بصلة. ثمة سرديات تنتشر في أوساط العلويين عن حوادث خطف واغتصاب وقتل وتمثيل في جثث أبنائهم، قام بها أولئك الأشرار، يستندون إليها في تدعيم تصورهم هذا. هذه الآلية في «اختراع» العدو على هذه الشاكلة التي تجرّده من أي امتياز إنساني، وتحمّله جميع النقائص والسلبيات، تبدو وكأنها ضرورية لتبرير القضاء على هذا العدو، بل وإبادته حتى، وبغض النظر عن الوسيلة في كثير من الأحيان. أثناء اختراع هذا العدو، لا يهم إن كانت الصورة التي تُرسم له مطابقة له بنسبة معينة أو غير ذلك، فالحقيقة ليست من الأولويات هنا، فهذه تُستبعد لصالح استحضار هذه الصورة الملفّقة ورفعها لتغدو هي أم الحقائق، حتى ولو كانت في العديد من تفاصيلها تُناقض معطيات واقعية، أساسية وصلبة موجودة عند هذا الآخر−العدو.
نرغب في ذكر مثال من الماضي. لقد كانت الحروب الصليبية في الشرق بداية لاحتكاك كبير بين الغرب والشرق، ومقدمة لأن يغدو كل منهما موضوعاً للآخر. كان لا بد لأيديولوجيي الصليبية المحاربة من أن ينتجوا تصوراً حول طبيعة الأعداء المسلمين الذين تقع الأماكن المقدسة المسيحية تحت سيطرتهم. وكان مما أنتج في هذا السياق ملحمة رولاند، التي يُظهر فيها المسلمين كعبدة لأصنام ثلاثة هي: أبوللين، وتيرفاجانت، وماحوميت (محمد). في تلك «الرواية الصليبية» يلجأ المسلمون الكفرة إلى آلهتم يستنصرونهم قبل معركة رونسسفاليس في جبال البرانس، قائلين: «على هؤلاء الذين يريدون الخلاص أن يجتمعوا معاً. ها هو تيرفاجانت Tarvagant الرحيم، فلنعبده. وكذلك ماخميت (محمد) Machmet العزيز، وأبوللو Apollo المجيد. ولنعبد أيضاً المخلّصين الآخرين من الآلهة الخالدة»
ظهرت مؤخراً فتاوى وآراء تدعو إلى تطهير سورية من العلويين، ومعظم هذه الدعوات صادرة عن جهاديين، مقاتلين أو رجال دين، وبعضها يصدر عن مواقع جهادية معتبرة ومعتمدة من قبل الجهاديين في سورية. شبكة أنصار المجاهدين، وهي المعتمدة من قبل جبهة النصرة كما أشارت في بيانها الإعلامي رقم (5) بعنوان «شكر واعتذار»، ورد فيه: «الحسابات الرسمية لجبهة النصرة هي معرفاتها على الشبكات الجهادية الموثوقة التالية: ’شبكة شموخ الإسلام‘ و’شبكة أنصار المجاهدين‘ حصرياً»
الترحيل للعلويين لا يقتصر فقط على الجهاديين أو على مزاج شعبي أوصلته وقائع الصراع في سورية والعنف الممارس من قبل النظام إلى مواصيل القطيعة النفسية مع العلويين؛ وإنما وجد هذا الترحيل سبيله إلى بعض النخب المحسوبة على أجواء الحداثة والتغيير الديمقراطي أيضاً. هذه النخب المقصودة وجدت نفسها منساقة إلى الاستعانة بمصفوفة تجعل من الطائفية عاملاً مفسّراً لما يجري في سورية، ولا تخفي تبرّمها من اصطفاف علويين خلف النظام وتحميلهم وزر استمراره ومقاومته حتى الآن.
ثمة ترحيل من نوع آخر يميّز ناشطين علويين في صفوف الثورة، يُعاش على شكل تمزّق داخلي يجد أساسه في ذلك التشتت بين موقفهم المؤيد للثورة والتغيير من ناحية، وألمهم من المكان الذي أخذ العلويون يوضعون فيه مؤخراً، خارج قلوبِ أوساط لا بأس بها من السوريين، مما يستنفر الخوف في قلوب الناشطين على مستقبل أهاليهم ومستقبل البلاد. هذا بالإضافة إلى الحساسية المزدوجة التي يعانون منها، من جهة من قبل بيئتهم الاجتماعية الأصلية، ومن أخرى من بعض أهل الثورة. وجد بعض هؤلاء الناشطين أنفسهم في مواقع اعتقدوا أنهم أنجزوا قطيعتهم معها، فقام بعضهم بتدبيج البيانات والتوقيع عليها، كعلويين، بغية تخفيف الاحتقان عبر القول أنه ثمة علويين منحازين إلى قضية الشعب السوري وحريته؛ ووجد آخرون أنفسهم في موقع السجال الذي يريد أن يثبت أن النظام هو على هذا النحو ليس لأنه «علوي» بل إنه ليس كذلك، وإن التعاطي الصحيح معه يكون عبر وصفه بالاستبداد، وبهذا فهو لا يختلف عن أنظمة عربية أخرى تقمع شعوبها ولا تعترف بتطلعاتها. وثمة ناشطين علويين ذهبوا إلى أن الثورة سورية و«سنية»، لأن معظم أهلها ومن يقع عليهم الحيف والعنف، من السنّة، بينما ينأى معظم أبناء الطوائف الأخرى عنها في أحسن الأحوال، ويقف عديد منهم في موقع المحارب لها. نجد ضمن هذا الصنف الأخير من يذهب إلى المغالاة في إبراز «سنيّة» الثورة، ولا بأس لديهم بأن يذهب كل العلويين إلى الجحيم. ربما نقع هنا على نوازع سيكولوجية واجتماعية ومادية تقف وراء الموقف الأخير، تتراوح بين استبطان قدر من «الذمية» اتجاه تصاعد «السنيّة» في الثورة، يظهر من خلال ادعاء تطهرية مثالية هي مقلوب ذلك الانسحاب الذي شهدناه لبعض الناشطين والسياسيين العلويين إلى مواقع مشككة بالثورة أو معادية لها، انطلاقاً من أن هذه الثورة ليست ثورة، بل إنها تحرك «طائفي» و«سنّي» أو غير ذلك؛ أو بسبب موقع ما يعود على صاحبه ببعض المكانة.
ثمة تقسيم نفسي أخذ يتمكن من السوريين، في الوقت الذي يكافح أغلبهم ضد التقسيم السياسي الذي بدأ الحديث عن احتمال وقوعه، وربما يكون هذا التقسيم مقدّمة لذلك السياسي.
تديّن العلويين
ربما كانت فتوى مفتي فلسطين الشيخ أمين الحسيني، عام 1936، هي المرة الأولى التي يتم بها اعتراف من خارج العلويين بأنهم مسلمون. يعلن الحسيني أن «العلويين مسلمون، ويجب على عامة المسلمين أن يتعاونوا معهم على البر والتقوى». سابقاً كان كلٌ من الشيعة والسنة لا يعترف بهذا. وبهذا يكون الاعتراف الأول بإسلام العلويين جاء من طرف سنّي. ربما جاءت فتوى الحسيني في سياق التفاعل مع ما يحصل في المنطقة، وسعي نخب سياسية سورية آنذاك إلى تحقيق الاستقلال والوحدة السورية عبر مفاوضات 1936. وسبق أن ذكرنا جانباً من هذا، ومن الانقسام الذي حصل بين ال%