في تقريرٍ نشرتْه بالتزامن مع مرور الذكرى الثانية لاندلاع الاحتجاجات الثوريّة في سوريا، سلّطت منظمة أطباء بلا حدود أضواء الإنذار والخطر على الواقع الصحّي والطبي في الداخل السوري، بالأخص في المناطق الشماليّة المحرّرة، حيث تشير بيانات ومشاهدات المنظمة، رفقةً بتقاريرٍ صحفيّة وشهادات مقيمين وناشطين، إلى كارثة إنسانيّة كبرى تتجاوز آثار القصف والقنص الدمويّة إلى نقصٍ في الموارد الطبية يهدد حياة مئات الآلاف من المواطنين، لا سيما الأطفال وكبار السن والمصابين بأمراض مزمنة.
يشير تقرير المنظمة الدوليّة إلى أن 57% من المشافي في سوريا قد تضررت بفعل القصف، و36% من مجمل المستشفيات قد توقفت عن العمل، وهذه الاحصائيّة ﻻ تشمل المشافي الميدانيّة والنقاط الطبية الإغاثية في مناطق اﻻشتباك، والتي كانت دوماً هدفاً تفضيلياً للقصف بالطيران أو بالمدفعيّة. ويقدّم التقرير مشهداً مأساوياً لظروف عمل المشافي التي ما زالت قادرة على تقديم بعض الخدمات، فالأولويّة المطلقة، ولأسباب موضوعيّة مفهومة، هي لإسعاف الجرحى من ضحايا القصف والقنص، وبعض المشافي الميدانيّة ﻻ تستقبل المدنيين، وإن فعلت فإن الأولوية في العلاج هي للمقاتلين. ﻻ موارد كافية لتغطية هذه الحاجة المتصاعدة، حيث يصل العوز إلى درجة الاضطرار لخياطة الجروح وإجراء جراحات صغرى متعددة دون تعقيم، كما أن غياب إمكانيّة المتابعة والعناية ما بعد الجراحيّة يرفع نسبة مضاعفات ومخاطر الالتهابات التي أدّت للبتر في عدّة حالات موثّقة. الأغلبية العظمى من بنوك الدم في الشمال السوري ﻻ تعمل، وتضطر المشافي للحصول على الدم من المتبرعين مباشرة، ودون إمكانيّة حفظ الدم في شروط ملائمة ودون إجراء الفحوصات اللازمة قبل نقل الدم.
في ظلّ الغرق إلى حدّ العجز في تقديم متطلبات الإسعاف الأولى للجروح، ﻻ إمكانيّة للأغلبية العظمى من مشافي الشمال، الميدانيّة منها و«الاعتياديّة»، لمتابعة أوضاع المرضى المزمنين، بسبب غياب الموارد والكوادر اللازمة، ويصل العوز إلى حدّ غياب جرعات الإنسولين اللازمة لمرضى السكّري. هكذا، وقع مشفى الرقة الوطني بعد أيام من تحرير المدينة في معضلة تقديم احتياجات جلسات غسيل الكلية لأكثر من 200 مريض يحتاجون لهذه الجلسات للبقاء على قيد الحياة، ولم تُحل هذه المعضلة بعد، بل تعقّدت: آخر نشرة احتياجات لمشفى الرّقة الوطني تشمل مسكّنات ومضادّات حيويّة أوليّة للغاية، وتطلب بشكل عاجل موادّ أساسيّة مثل الحقن بأحجامها والشاش الطبّي!
نشاط الطيران الحربي للنظام، والاستهداف الصاروخي المتزايد للمنطقة الشماليّة، يرفعان صعوبة وخطورة العمل الإغاثي والطبّي في المناطق المحرّرة، ويستهدف الطيران بتركيزٍ واضح أيّ نشاط لسياراتٍ أو شاحنات يُشكّ أنها تحمل إمدادات، وهنا ﻻ تمييز بين إمدادات الأدوية والأغذية وإمدادات السلاح. هذا يحصر العمل بسويّة مقبولة في الشريط الحدودي الضيّق، والآمن نسبياً من الطيران والصواريخ، وكلّما ازداد البعد عن الحدود باتجاه الداخل يزداد الخطر، وأيضاً تزداد الحاجة.
في ظلّ هذه الأوضاع، مُضافاً إليها سوء التغذية المنتشر بسبب النقص والغلاء، يشير تقرير أطباء بلا حدود وتقارير أخرى إلى انفجار ضخم في نسب أمراض مثل الليشمانيا (حبّة حلب) والتهابات الكبد والسلّ، وأشارت تقارير طبّية من دير الزور إلى اكتشاف أكثر من 1200 حالة تيفوئيد في الأسابيع الأخيرة. دير الزور، حسب أطباء بلا حدود، متروكة لوحدها تواجه مصيرها طبياً وإغاثياً. تضاعفت حالات الإجهاض والإنجاب المبكر بسبب غياب متابعة الوضع الصحي للحوامل وآثار الشدّة النفسيّة، كما أن مناطق واسعة من الشمال، لا سيما أرياف حلب وادلب، لم تشهد حملات تلقيح أطفال منذ أكثر من عامٍ ونصف، ما يعني وجود مئات الآلاف من الأطفال تحت رحمة الأوبئة إن استمرت الأوضاع على ما هي عليه فترة أطول.
يُدين التقرير أيضاً العطالة الدوليّة تجاه المأساة الإنسانيّة في سوريا، فالأمم المتحدة ترفض إغاثة الداخل السوري دون موافقة الحكومة السوريّة أو قرار من مجلس الأمن يسمح لها بذلك دونها، وحكومة النظام السوري تمنع عمل عشرات الهيئات والمنظمات الدوليّة في كلّ البلاد، وتقوم بتهديد المنظمات الدوليّة العاملة في المناطق الواقعة تحت سيطرتها بالطرد إن حاولت العمل في المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة، وفقاً لما علمت «الجمهوريّة» من مصدر مختصّ في منظمة اليونيسيف. تحصر سلطات النظام قبول الدعم عبر الهلال الأحمر السوري، والذي يعاني عوزاً كبيراً في الكوادر والآليات ويمنع ارتباطه إدارياً بحكومة النظام إمكانية عمله في مناطق تقع خارج السيطرة النظام، وقد استشهد سبعة متطوعين في الهلال الأحمر منذ بدء الثورة، واعتُقل عدد آخر لمدد متفاوتة.
الجهات الناشطة في توفير الموارد الطبية للداخل السوري هي جمعيات المغتربين السوريين، والدول الداعمة للمعارضة السوريّة، وبعض المنظمات السياسيّة-الدينية. وشبكات النقل والإمداد تعتمد، أساساً، على جهود نشطاء محليين والكتائب المسلّحة.
يشتكي التقرير أيضاً من القيود التي تفرضها الدول المجاورة لسوريا على عمل المنظمات الدوليّة وغير الحكوميّة عبر الحدود إلى الداخل السوري، فهي تتغاضى عن وجودها في المنطقة الحدوديّة وﻻ تمنع عبورها باتجاه الأراضي السوريّة، لكنها ترفض منحها التسهيلات اللوجستيّة والإداريّة، وأولها الاعتراف بها وترخيصها. هذه المسألة تجعل من محاولة تمويل العمليات العابرة للحدود مسألةً بطيئة وصعبة للغاية، باعتبار أن هذه المنظمات غير قادرة على تقديم طلبات تمويل من الدول والمنظمات الرسميّة وشبه الرسميّة لعمليات غير مُرخّص لها. هذا سلوك غريب من دول، كتركيا، تتخذ مواقف سياسيّة صلبة تجاه النظام السوري وتعترف بالائتلاف الوطني ممثلاً للسوريين وتدعم فصائل مُعارِضة سياسيّة ومسلّحة.
الواقع الكارثي لسكان المناطق المحررة يحتّم مطالبة الائتلاف الوطني، بوصفه الهيئة المعارضة التي نالت الاعتراف الدولي ولها مقدرة على العمل في القنوات الدبلوماسيّة الرسميّة، بالتصدّي لواجبه المُستعجل كمسألة حياة أو موت، بدايةً من تقديم إمكاناته في خدمة التغطية السياسية والتنسيق الإداري بين المنظمات العاملة على الحدود، خصوصاً هيئات المغتربين السوريين الناشطة في هذا المجال، ومضاعفة الجهود الدبلوماسيّة وحملات العلاقات العامة في سبيل رفع الضغوط والقيود على العمل الإغاثي في الداخل السوري، وﻻ سيما مع الدول التي تُعتبر راعية للائتلاف الوطني. هذا ليس فقط واجباً إنسانياً ووطنياً، بل إنه امتحانٌ سياسي ﻻ يمكن للائتلاف الوطني أن يثبت مقدرةً على إدارة المناطق المحررة، كما ينوي عبر حكومته المُشكّلة حديثاً، دون أن ينجح به.