يلتقي طرفان متناقضان أشد ما يكون التناقض على بلورة صورة متحجرة، أُحفورية، للمسلم المعاصر: الإسلاميون الأكثر تشدداً من «المجاهدين في سبيل الله»، وعلمانيون متشدوون، يحصل أن يصفوا العلمانية بأنها «جهادية دنيوية»، على ما عبر عن الأمر أحد أعلامهم. ويبني الطرفان على هذا التصور نظرية في المجتمع والسياسة، تؤول بصورة حصرية إلى شكل متطرف من الحكم النخبوي الاستبدادي.
1
الإنسان المسلم، «هوموإسلاميكُس»، صنف خاص من البشر، يُحكِّم «الإسلام» في كل حركة وسكنة له، لا شيء مما يفعله غير إسلامي، ولا شيء غير إسلامي في تكوينه وسلوكه وتفكيره. إنه إنسان آلي، برنامجه هو «الإسلام»، أو «الشريعة».
لكن هذا مشروع الإسلاميين، السلفيين الجهاديين بخاصة، الذين يتطلعون إلى مجتمع مكون من أشخاص منضبطين جسدياً وذهنياً أشد الانضباط، لا يقومون بشيء غير محدد سلفاً أو مبرمج فيهم. المبرمِجون هم المشايخ والمفتون.
ليس أن نخبة الإسلام الجهادي تعتزم بالضرورة فعل ذلك، أن تتصرف هي نفسها وفق البرنامج الذي تزكيه، فتنضبط وتعيش كما يعيش عموم الروبوتات المسلمة المفترضة. بالعكس، البرنامج ضروري بالضبط لأن الجمهور غير منضبط، لأن هؤلاء العوام يتطلعون إلى عيش حياة مستقلة، وأن لا يفوتوا ما تتيحه لهم الحياة المعاصرة من أدوات وفرص. قد يكون العوام مسلمين مؤمنين، بل هم في الغالب مسلمون مؤمنون، لا يريدون الانفصال عن دينهم، ولا أن يكون دينهم مُضاماً، لكنهم لا يجدون مشكلة في عيش دينهم ودنياهم بصورة تقلل من الاحتكاكات إلى الحد الأدنى، ولا تستبعد تسويات متنوعة. وكان هذا بالفعل هو «البرنامج» المرن الذي كان يسير عليه معظم المسلمين دون إشكال طوال معظم تاريخهم. ولا يزالون.
لكن هناك اليوم برنامج متشدد، أصحابه هم الأعلى صوتاً، ويبدو أنهم يحوزون شرعية إسلامية أكثر من غيرهم.
ماذا جرى؟ يبدو أنه تتواطأ للدفع في هذا الاتجاه ثلاثة أشياء تاريخية: شروط اجتماعية وسياسة تضيق على الأكثريات الاجتماعية لمصلحة ما نسميه «العالم الأول الداخلي»، فيقوم الدين بدور حد الفقر السياسي والثقافي، المبدأ الذي يضمن حداً أدنى من التنظيم والكلام لمصلحة «العالم الثالث الداخلي»؛ ثم أن «البرنامج» الذي قد يسمى «الإسلام» أو «الشريعة» هو ما يؤمن أكبر وأرسخ سلطة ممكنة على الجموع لمصلحة النخبة السياسية الدينية التي لا يشكو نهمها إلى السلطة من الوهن؛ وأخيراً هناك شروط فكرية قديمة ومتجددة، تتمثل في رجحان قراءة حرفية، أصولية وفقهية، للنصوص الإسلامية، ورفض التجريد والتمثيل، الفلسفة والفن التشكيلي والنحت؛ هذا الرجحان القديم تجدد على يد «الوهابية»، وحظي بفرصة للتعميم بفعل الريع النفطي وكأداة للسياسة الخارجية السعودية.
«الإنسان المسلم» برنامج سياسي، رهانه هو درجة انضباط ذاتي قصوى من طرف المحكومين، يكملها ويكفلها نظام عقابي بالغ الصرامة، يسميه «المبرمجون»: «الحدود».
وهذا هو مشروع الإسلاميين عموماً، الجهاديون منهم بخاصة. وهو كامن في التطلع إلى مثال اجتماعي وسياسي، يقوم أفراده بالأشياء نفسها، ويضيق ذرعا بأية اختلافات فكرية أو سياسية مهمة بينهم. ضرب متشدد من التعليب السياسي والفكري للعامة.
ويبطن هذا المشروع الانضباطي افتراضاً أساسياً عند الإسلاميين: إن الشعب مسلم، الإسلام تحديده الأساسي والجوهري، بحيث يكون حكمهم تعبيراً منطقياً عن «طبيعة الشعب». هذا الافتراض ضال إلى أقصى حد. أكثرية الناس في مجتمعاتنا مسلمون، لكن ليس بمعنى ماهوي، ولا على نحو يجعلهم يرحبون بحكم الإسلاميين دون إشكال. أكثرية السكان مسلمون على نحو تاريخي متغير، وتتنوع «إسلاماتهم» بين إسلام شعبي وإسلام فقهي وإسلام صوفي وإسلام سياسي وإسلام حربي، فضلاً عن إسلام ثقافي لا تترتب عليه أية التزامات عقدية. وكلها متغيرة مع الزمن.
وبما أن شرعية الإسلاميين مسألة جوهر وهوية، وليست مسألة سياسة ومصالح، فإن صندوق الاقتراع ليس أداة صالحة للتعبير عنها أو قياسها. الصندوق مصمم لقياس الآراء والتفضيلات المتغيرة لمجموع من الأفراد، وليس الهويات الثابتة لشعوب أو جماعات دينية. يقبل الإسلاميون الصندوق بفعل موازين قوى اجتماعية ضاغطة، وليس لأنهم يقرون بـ«عقل» الصندوق، أي اتصال نتائجه بمصالح وآراء متغيرة ونسبية. والتشكك مشروع في أنهم يريدون الصندوق لمرة واحدة، يجري التحول خلالها نحو سياسة الجوهر لقطع الطريق على المزاج المتقلب والدنيوي للجمهور الساعي وراء تحسن أوضاعه لا نحو «حراسة الدين وسياسة الدنيا به».
ومعلوم أنه حيث جرت انتخابات حرة في بلداننا فاز الإسلاميون بالكاد بربع أصوات السكان أو أقل. فرضية الشعب المسلم هي، تالياً، مثل فرضية الإنسان المسلم، حجر الزاوية لمشروع الاستيلاء على السلطة العامة باسم جوهر إسلامي لا يتغير لمجتمعاتنا.
2
لكن الهوموإسلاميكس، «الإنسان المسلم» الخاص، هو أيضاً استخلاص نظري محتمل من كتابات علمانيين جهاديين، تعطي الانطباع بأن المسلمين العيانيين مسلمون بمعنى ماهوي ثابت، يستشيرون «الإسلام» في كل حركة وسكنة، ورؤوسهم مليئة بالـ«الإسلام»، بشيء قديم ومظلم وأصولي. وأن هذا أيضاً هو تحديدهم الجوهري الذي يتفوق على أية محددات تاريخية أخرى، وليست أوضاعهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وأحوال مجتمعاتهم، غير مظاهر أو أعراض لهذا الجوهر الذي لن يتغير شيء من شؤونهم دون تغيره.
المشكلة في «الرأس» أكثر مما في «الكرسي»، قال أدونيس مؤخراً بعد أن كان «الكرسي» قد قطع رؤوس نحو خمسين ألف سوري، لم يذكرهم بشيء في مؤتمر يفترض أنه مخصص لمصير سورية والسوريين، بما في ذلك رؤوسهم (كلمته في مؤتمر جنيف لمعارضين سوريين، شباط 2013). وكان جورج طرابيشي سبقه في تشخيص مشكلتنا أيضاً في «الرأس» الذي جعل منه صندوقاً، كي يسْهُل له القول إن صندوق الاقتراع لا يحل مشكلة صندوق الرأس، بل إنه لن يؤدي إلى غير «طغيان أكثرية العدد» (كتابه «ثقافة الديمقراطية»).
وليس هناك أي لبس في أن المقصود بالرأس أو صندوقه هو شيء خاص بالإسلام، قد يسمى أصولية أو قدامة أو ثقافة واحدية، لكنه «الإسلام” أساساً، والسني تحديداً.
وقد نلاحظ أن الكلام يجري على «صندوق الرأس» بالمفرد، وعلى «الرأس» بالمفرد أيضا. يبدو استناداً إلى المفكرين السوريين أننا حيال نموذج جمعي عام، «رأس» أو «صندوق رأس» موزع في نسخ كثيرة. ليس أن هذا الرأس أو صندوقه لا يتغيران مع الزمن فقط، وإنما هما كذلك متماثلان عند الجميع (دون محاول لتعريف هؤلاء «الجميع» بغير محتوى رؤوسهم المتماثل). فلا معنى للكلام على رؤوس فردية مختلفة.
نتكلم على «برنامج» لهذا السبب بالذات. «الرأس» اسم للبرنامج المفترض، و«صندوق الرأس» اسم آخر له.
والكائنات التي لديها البرنامج بأي من صيغتيه هي مُسلمة بمعنى ماهوي ثابت. وهي واقعة تحت ظل الاستبداد لأن الاستبداد ينبثق منها أصلاً، وإذا بدا ظاهرياً أنها ضحية له، فالصحيح أن الاستبداد قائم على ما في هذه الرؤوس من «قدامة» و«ظلامية» و«أصولية».
لا مبرر للقنوط مع ذلك. يمكن للبرنامج أن يتغير. بما هو «مفكر حقيقي» كما يصف نفسه، يعين طرابيشي نفسه «ضابط هيئة أركان» في «حرب مائة عام ضد الأصولية» (هذا تعبيره! «الأخبار»، 11 أيار 2009 ). والرجل يفتي بعد ذلك بأنه لا يجوز للضابط أن يتصل مع الجنود مباشرة، بل هو يتصل بصف الضباط فقط، وهؤلاء هم من يتصلون بالجنود.
ووفقاً لهذا التراتب العسكري الفكري، يرسل الضابط النظريات من وراء المتوسط إلى صف ضباط في سورية، يتصلون بعامة الناس كي يؤدوا واجبهم الجهادي الدنيوي (يُعرِّف العلمانية بأنها «جهادية دنيوية») فينوِّرون عامة الجنود، في محاولة لتحريرهم من الأصولية. الاتصال المباشر بين الجنرالات والعامة مخالفة خطيرة، ولها اسم خاص: الشعبوية. والمثقفون الذين يفعلون ذلك تنالهم ضغينة خاصة من المثقف العسكري، مؤلف «هرطقات»، والمجاهد ضد «الهرطقة» التي اسمها «الإسلام السياسي»، حسب تعبيره.
وليست هذه النظرية العسكرية في الثقافة ودور المثقف ومراتب المثقفين استعارة خارجية أو عارضة. الأرجح أنها تعكس صورة المجتمع عند الرجل: جنود يقودهم في حرب يحددها هو لهم، دون أن يكون لهم فوق ذلك أن يتصلوا به مباشرة، فهذا لا يليق بغير «الشعبويين». وفي أقل تقدير تصلح هذه النظرية العسكري لقياس المسافة النفسية والسياسية بين المثقف و«الشعب» الذي يفترض أن هذا المثقف عامل على تحرره. بالمناسبة، «الشعب» ليس من الكلمات الموجودة في قاموس المثقفين «الرأسيين».
ظاهر، على أية حال، أننا لسنا هنا في مجال الثقافة والمعرفة المتجردة. الرجلان سياسيان جداً، وأحدهما فوق ذلك محارب، ضابط هيئة أركان، بمرسوم شخصي؛ والآخر نبي، ما انفك ينذر المُظْلمين بانقراضهم الوشيك.
من الطبيعي أن تنقرض تنويعات من الأجناس الحية، غير متكيفة، ولا يبدو أنه يمكن قول شيء واحد طيب بشأنها.
وبينما قد يقول «الضابط» و«النبي» إن الإسلاميين يستخدمون صناديق الاقتراع سلم صعود إلى السلطة، لن يتأخروا في رفسه، فإن هذا لا يدفعهم إلى التمسك بالصندوق وتقوية شخصيته ودوره التحكيمي. يبدو الأمر غريباً، لكن لا مكان لصندوق الاقتراع إذا كان المجتمع «ثقافة»، أو «نسيجاً من العقليات»، بعبارة الجنرال طرابيشي، وليس مصالح وحاجات دنيوية متغيرة.
في عالم العقليات، كما في عالم الجواهر، وكلاهما عالم من الحتميات واليقين، لا مكان لممارسة على هذه الدرجة من العشوائية والتقلب كالاقتراع.
3
«الإنسان المسلم» طوبى ومشروع عند الإسلاميين الجهاديين، وإيديولوجية تبريرية عند العلمانيين الجهاديين. ولعل الإسلاميين عموماً، والجهاديين منهم بخاصة، لا يعترضون على أن المشكلة في الرأس أو في صندوقه. لم نطّلع على نظريات «رأسية» لديهم، لكن مناهجهم في التفكير ليست أقل غربة عن علوم الاقتصاد والسياسة والاجتماع والديموغرافية والتاريخ الاجتماعي وغيرها من اختصاصيي الرأس التنويريين. علماً أنه ليس غير تلك العلوم سند لدينا في «إقامة الحد» على الفكر الرأسي أو الماهوي، وعقيدة الخصوصية التي يقوم عليها كما سنرى.
لو كنا أقل انبهارًا بالغرب وأكثر تمسكاً بديننا (ديننا واحد طبعاً، مثل رأسنا، ومثل صندوقه)، لكان كل شيء على ما يرام، يقول الإسلاميون. ولو كنا أقل مرضاً بالغرب، أقل قدامة وأصولية أيضاً، لكانت أمورنا بخير، يقول مجاهدو العلمانية الدنيويون. في الحالين لدينا تمركز مزدوج، حول «الغرب» (وهو منبع الخير مرة، والشر مرة)، وحول «الإسلام» (وهو أيضاً منبع الحق عند قوم، ومنبع الضلال عند غيرهم).
الإسلاميون ثقافويون بداهة (يشرحون المجتمع والسياسة بالثقافة، وبخاصة الدين، ويفكرون في الناس كمنسوبين إلى أديان أساساً)، لكن مثلهم أيضاً خصومهم من العلمانيين الجهاديين (يشرحون المجتمع بالثقافة، مختزلة إلى الدين). وبينما هناك نظرية علمانية للذهنيات، تشخص مشكلتنا في «المرض بالغرب»، فإن هناك نظرية ذهنيات إسلامية، يشغل «الانبهار بالغرب» موقعاً مركزياً فيها.
ثم إن الطرفين محاربان. الإسلامي مجاهد كاستعداد طبيعي، وإن كان يصعب تصور أن يعين أحد الإسلاميين نفسه ضابط هيئة أركان، ويحرم على نفسه الاتصال المباشر بعامة المقاتلين. «العلماني» يستعير «الجهاد» لتعريف نفسه، أي ذلك المزيج من الدين والحرب.
الطرفان طائفيان أيضاً. الماهوية، تفسير الأوضاع المتغيرة بالماهيات الثابتة، هي التأسيس المعرفي للطائفية. والاعتراض على الطائفية في السياسة متهافت حين يكون المرء منهمكا في تفسير المجتمع والسياسة بالماهيات، أو «الذهنيات» (مع رد الذهنيات إلى الدين).
والتياران بعد ذلك شريكان في اللاإنسانية الجذرية، ومنح الأولوية لمعان مجردة على حساب الحياة البشرية والكرامة الإنسانية. اسم تلك المعاني هو «الحداثة» مرة، و«الإسلام» مرة. الإسلاميون متمركزون حول السماء والماضي. العلمانيون الرأسيون متمركزون حول أوربا و… أشخاصهم. وفي الحالين السلطة المرجعية للمركز مطلقة وغير دستورية.
و«الإنسان المسلم»، أخيراً، ركيزة أساسية لسياسة وفكر فاشيين، سيان أن يكون ذلك الإنسان «مشروعاً» عند إسلاميين، أو «إيديولوجية» عند علمانيين. لقد واجه النظام الأسدي الثورة السورية بعنف فاشي منفلت، وسط صمت المثقفين «الرأسيين» أو تواطؤهم، وذلك عبر إثارة الخوف من شبح إسلامي مخيف، من هذا الكائن الإسلامي الذي عملت دعاية النظام ومخابراته على نشر صورة شريرة له (رعاع وحثالات، «عراعير» متخلفون، إرهابيون، متعصبون، ظلاميون…) وردّه إيديولوجيوه العالمون إلى رأس أو صندوق رأس جمعي، فاسد ومريض ومخيف. لن نجد، مهما حاولنا، شرحاً دنيوياً أو علمانياً لهذا الكائن عند صنف العلمانيين الذين نتناولهم.
وعند الإسلاميين الجهاديين، يؤسس «الإنسان المسلم» لسياسة انضباط عام فاشية، موجهة بصورة أساسية ضد علمنة الحياة، وبخاصة خروج النساء إلى المجال العام وسوق العمل. الحجاب ليس خطة كافية عند الجهاديين. البرقع الكامل هو الحل، وهو يحتاج إلى مجتمع رجال منتظم حول الجهاد، مع عزل النساء عزلاً صارماً.
يحتاج الطرفان إلى شبح مخيف يمثل تهديداً وجودياً لهما كي يسوغاً سياسات فاشية. هذا الشبح هو العلمنة المتسعة للمجتمع والسياسة والثقافة عند الإسلاميين، وهو الإسلاميون والأصولية عند العلمانيين. لطالما كانت الفاشية في حاجة إلى عدو خطير مخيف ولا يُعقل.
وفي الحالين لهذه النظريات عواقب سياسية مباشرة، تتمثل بالضبط في إباحة قتل الناس ذوي الرؤوس أو «العقول» الخطأ، أو التقليل من قيمة حياتهم، بحيث لا يكون قتلهم تلك القضية الخطيرة. الجهادية الإسلامية مشروع للتعليب العام، لا يجد بأسا في قتل المخالفين، بوصفهم مرتدين أو زناديق أو كفرة.
لم يجد صاحب نظرية الرأس مقابل الكرسي ما يقوله عن عشرات الألوف من مواطنيه المفترضين الذي يقتلهم… الكرسي. إنهم الرؤوس الغلط. ونصه الذي يتكلم فيه على الرأس والكرسي يعطي الانطباع بأن الرأس هو المعتدي.
ولم يجد صاحب نظرية صندوق الرأس ما يقوله أيضاً عن مقتل عشرات الألوف من مواطنيه المفترضين أيضاً. إنهم أصحاب صندوق الرأس الغلط. بتفريده الرؤوس المختلفة وتشييئها، يقلل «ضابط هيئة الأركان» من أهمية قتل أصحابها أو سحق رؤوسهم بكتل الأسمنت، ويزود القتلة والمتواطئين معهم بنظرية مريحة، تسهل لهم إنامة ضمائرهم إن وخزتهم يوماً.
ثم إنه إذا كان الرأس واحداً كما هو الكرسي واحد، فلماذا يكون قطع الرأس (الواحد) أسوأ من قلب الكرسي (الواحد)؟ وإذا كان الأمر يتعلق بصندوق، والكلمة توحي بالابتذال مثل صندوق الخضار أو صندوق الأدوات…، فهل يكون تحطيمه تلك المشكلة المهمة؟
4
على أن أهم ما يمكن أن يؤخذ على المفكرين «الرأسيين» هو، قبل أية مترتبات سياسية على نظريتيهما، هو شيء يتعلق بـ«الرأس»، رأسيهما (أو، ربما، «رأسـ»هما). فشرح الواقع المركب والمتغير بالماهيات الثابتة هو فكر العصور الوسطى، وليس التنوير ولا الحداثة ولا ما بعدها. وهو يتوافق مع مجتمع المراتب الثابتة والطوائف، ويثبّته، وليس مع أي مجتمع حديث.
ويخفق المفكران في إظهار أدنى حد من الحس الجدلي. كانت الاقتصادوية الماركسية اختزالية وحتموية مثل ثقافوية الرجلين، لكنها كانت تقول شيئاً على استقلال «البنية الفوقية» الذاتي، وعلى تأثير راجع منها على البنية التحتية الاقتصادية. لا شيء من ذلك هنا. لن نقرأ شيئاً عندهما عن استقلال نسبي ذاتي لـ«الكرسي» عن «الرأس»، ولا عن تأثير راجع له على «الرأس» أو على «المعدة».
وخلافاً للنقد الماركسي الذي كان ينتقد الدين من مدخلين إنسانيين عامين: نظرية المعرفة (الدين معرفة قائمة على الوحي والخيال)، والنظرية الاجتماعية (الدين يقوم بدور اجتماعي محافظ…)، نجد هنا نقداً مغلقاً، يستبطن مقدمات «صراع الحضارات» (وبخاصة تعريف الثقافة بالدين، وإفراد «الإسلام» بمكانة خاصة في المخطط)، ولا يحاول قول كلمتين عابرتين عن أي دين آخر.
حين ينسب أدونيس العلمانية إلى المسيحية، وهو يبلغ من عمق الفكر أن يقول ذلك مراراً، فإنه يثبت أن معرفته بتاريخ العلمانية لا تتفوق في شيء على معرفة السلفيين الجهاديين. لكن إذا كانت هذه المعرفة صحيحة، فما معنى الدعوة للعلمانية في عالم الإسلام إذن؟ هل يحتمل أن الرجل يخوض معركة دين ضد دين، وليس علمانية ضد سلطة دينية؟
ثم أن التيارين شريكان في عقيدة الخصوصية، وفي غرس لوائها في «االإسلام». الأمر بديهي بخصوص الإسلاميين، فهم يصدرون أصلاً عن عقيدة فرادة الإسلام وتفوقه على غيره. لكن «االعموميين» يؤولون إلى العقيدة نفسها دون افتراض الفرادة مبدئياً، وذلك حين ينشغلون كل الانشغال بـ«الرأس»، ولا يظهرون أدنى قدر من الانشغال باليدين والقدمين والمعدة والقلب، بحياة الإنسان في العالم الأرضي. هذه الحياة التي تتقاسم شرحها العلوم الاجتماعية ومناهجها القائمة جوهرياً على دنيوية الإنسان وعاديته وعموميته، وعلى أنه لا فرق بين عربي وعجمي، أحمر وأسود، مسلم وغير مسلم، إلا بظروف عيشهما وشروطهما التاريخية.
السمة المشتركة للخصوصانيين، على اختلاف أصنافهم، هي إهمال العلوم الاجتماعية لمصلحة «الثقافة».
في هذا أيضاً يضاهي الثقافويون العلمانيون الإسلاميين الذين يرفضون العلوم الاجتماعية رفضاً مبدئياً بالضبط بسبب ضفتها الدنيوية، العلمانية.
هذا فضلاً عن الطابع القياسي لمحاكمات المثقفين «الرأسيين». يمكن بدون صعوبة استحضار عشرات الأمثلة من نصوص أدونيس يقول فيها إن المفكر الأوربي فلان يقول كذا، قبل أن يردف فوراً أن العرب لا يعرفون كذا، ثم يستنتج أن العرب إذن غلط. المقدمة الكبرى نصية دوماً، وليست واقعية.
أما طرابيشي فيقوم مجمل تفكيره على مقدمة كبرى مأخوذة من الفكر أو التاريخ الأوربي الحديث (الماركسية، التحليل النفسي، الأبستمولوجية، العلمانية…)، مع التسليم بكونية ناجزة للغرب، فيما المقدمة الصغرى من واقع العرب المعاصر، والنتيجة هي إثبات نقص أو غياب عند العرب عن المعيار الكامل المفترض!
وحربه التي تدوم 100 عام ضد الأصولية هي تشبيه بما جرى في تاريخ الغرب، دون أية محاولة لتسويغ الشبه.
5
«الإنسان المسلم» غير موجود. إنه متخيل مؤسس لفاشية مشتهاة مرة، وإيديولوجية تبريرية لفاشية قائمة مرة أخرى.
الروبوت الإسلامي غير موجود أيضاً، إلا كركيزة لمشروع فاشي يتطلع إلى انضباط مطلق، من طرف النساء بخاصة. وانتداب النفس جنرالاً في حرب ضد الأصولية لا يوفر أية فرصة للاعتراض على قتل «الأصوليين» المفترضين بصواريخ سكود أو الطائرات الحربية، أو بالأسلحة الكيميائية.
«الرأس» أيضاً غير موجود، و«صندوق الرأس» غير موجود كذلك.
ما هو موجود هم بشر عاديون، لهم رؤوس فردية مختلفة، ومتغيرة المحتوى مع الزمن، ويصعب فصل محتواها عن الكراسي. معلوم أنه في ظل الحكم الأسدي صار السوريون يتكلمون على «شرطي داخلي» وعلى «جدار الخوف». هذا يعني أن هناك علاقة ما بين الرأس والكرسي، أن الرؤوس لا تبقى نفسها باختلاف الكراسي. وهذه نقطة حاسمة فيما نرى لدحض الفكر «الرأسي» من أساسه. لهذا الفكر دلالة كبيرة هي ما نتقصاها هنا، وأما قيمته فصغيرة.
ما هو موجود أيضاً مثقفون يظنون أن «الرأس» موجود، لكن رأسهم الخاص ليس منه، وأن «صندوق الرأس» موجود أيضاً، لكن رأسهم الشخصي ليس صندوقاً. إنه «عقل»، وصاحبه «مفكر حقيقي» و«منجب» و…«ضابط هيئة أركان».
لماذا يفترض المفكران أن كائنات كهذه موجودة؟ ربما لأنهما محتاجان إلى صنف من الجان يفسر ما يقرره فكرهما الماهوي من جنون المختلفين عنهما. وإن لم يكن العنف المهول الذي يتعرض له «المجانين» من أصحاب الرؤوس المضروبة اليوم منهجاً علاجياً صحيحاً، فليس في فكرهما ما يُمكّن من الاعتراض عليه.
تعذيب المجانين منهج قروسطي مجرب.
ما يغيب عن صنفي الجهاديين، الإسلاميين منهم والعلمانيين، هو فقط كل شيء. عالم الممارسات الاجتماعية، عالم الرؤوس الكثيرة المتغيرة، عالم حياة ملايين الناس وأشواقهم وقيودهم وبؤسهم وأميتهم وجهلهم وإنسانيتهم؛ العالم… العلماني.
تلك الممارسات لا تنضبط بهوية أو تتحدد بدين، إنها ممارسات بشرية دنيوية، والمزايدة عليها باسم معان مجردة مثل «عقيدة الأمة» تشبيح فكري.
تشبيح فكري أيضاً المزايدة عليها باسم معان مجردة أخرى، مثل العقل والتنوير والعلمانية، بخاصة حين يرسلها ضباط من باريس إلى صف الضباط في دمشق.
6
لماذا نهتم بالمفكرين «الرأسيين»، مثل الإسلاميين الجهاديين، وهؤلاء الأخيرون موجة صاعدة وخطرة؟
لسبب شخصي قبل كل شيء. فكاتب هذه السطور من بيئة «الرأسيين» الفكرية والاجتماعية، ومن عالم حساسيتهما الدنيوية ولغته ورموزه، وهو أقرب إلى إحداثيات هذا العالم منه إلى أي إسلاميين. لكن أجد أن من واجبي الشخصي والعام القول إني لا أشارك هذا الضرب من الدعاة شيئاً من مقدماتهم الفكرية، وما تبطنه من مسلمات، وما تحمله من انحيازات اجتماعية وسياسية.
الأمر ببساطة إني علماني، لكني لست شريكاً لمن أفقدوا العلمانية كرامتها الفكرية والسياسية والأخلاقية.
ثم إن المفكرين الرأسيين ومنهجهما المشترك لا يتيحان نقد الإسلاميين. على المستوى الفكري رأينا تفكيراً تشبيهياً وماهوياً، متمركزاً إيجابياً بصورة غير نقدية حول الغرب، ومفتقراً بالكلية للحس الجدلي.
وعلى المستوى السياسي، الرجلان من دعاة «الاستبداد المستنير»، أو هما بالفعل ناطقان إيديولوجيان باسم «العالم الأول الداخلي». ولم يدافعا يوماً عن ضحايا الطغيان القائم، ولا كلمة عن الفظاعة التي عومل بها الإسلاميون طوال عقود، ولا كلمة أيضاً عن ما يقارب الفظاعة التي عومل بها علمانيون.
وما هو أهم من المعرفي والسياسي هو خلو فكر الرجلين معاً من أي شاغل أخلاقي. فيها كثير من «العقل» وقليل من الضمير، كثير من «الحداثة» وقليل من العدالة، كثير من «العلمانية» وقليل من العالم والحياة في هذا العالم، كثير من «التنوير» وقليل من الاستنارة الداخلية وانشراح الصدر.
نميز بين تيار علماني جمهوري وديمقراطي، لا يفصل «العقل” عن «الشعب»، ولا يستخدم «العقل» و«الحداثة» هراوات ضد الجمهور، وينحاز إلى العامة ويكافح معهم من أجل الحرية والمساواة والأخوة، وبين تيار علماني نخبوي وفاشي، جعل من احتقار عامة الناس والتعالي عليهم عنصرا أساسيا في تكوينه وهويته.
و«العقل»، سواء تحت اسم «الحداثة»أو «التنوير» أو «العقلانية»، هو الإيديولوجية المشرعة للعالم الأول الداخلي، تضفي على سلطته على العوام المظلمين والقِداميين شرعية عالِمة، هي وريثة الشرعية التقدمية في جيل سبق. يقوم هذا العالم الأول برسالة تحضيرية تجاه «البدائيين» الداخليين، لا تغاير في شيء الرسالة التي سوغ الاستعمار الفرنسي نفسه بها، في سورية وغيرها.
هذا الفكر ليس سنداً تحررياً في مواجهة الإسلاميين والتيارات الجهادية؛ الواقع أنه يخلي المكان لإشغال «الإسلام» موقع المقاومة الاجتماعية والوطنية للعالم الثالث الداخلي. وهو ما يناسب الإسلاميين لأنه يضعهم في موقع القيادة الطبيعية لهذه المقاومة، فيما هم لا يتطلعون إلى غير نخبوي جديد.
وكيف لا نتوقف أمام المفارقة المدهشة المتمثلة في أن دعاة الحداثة يتنكرون لأهم تجلياتها المعرفية: العلوم الاجتماعية، ولمضمونها الأخلاقي: الإنسانية والمساواة الجوهرية بين الناس، ولمضمونها السياسي: الديمقراطية. بل ويجري رد العلمانية نفسها إلى دعوة متعصبة، حين تفصل عن شرح علماني للمجتمع وعملياته، بما فيها صعود الإسلاميين. ولا نجد تفسيرا لهذا التهافت في غير الصراع الاجتماعي، وسعي ممثلي العالم الأول الداخلي لنصرة قضيتهم بانتحال ما يفترض أنها قيم كونية ناجزة.
لدى الإسلاميين «عقل»ـهم أيضاً. وبينما يفترض «عقل» العلمانيين النخبويين عصمة الغرب، يقوم «عقل» الإسلاميين جوهريا على عصمة «الإسلام»، وعلى اعتبار الوحي السند الصلب والأخير للحقيقة والأخلاق والقانون والسياسة. في الحالين، توضع التجربة البشرية والتاريخ بين قوسين، أو في موقع ثانوي. ومعهما المجتمع الحي الذي ليس «هوية»ولا «نسيجا من العقليات».
أما سياسة الإسلاميين فتتراوح بين «الاستبداد العادل»، الذي يقوم على «إنزال الناس منازلهم»، ولا يقر لهم بمنزلة واحدة، وبين الطغيان الفاشي لدى التيارات الجهادية.
وتنكر أخلاقيتهم المساواة الجوهرية بين الناس، بصرف النظر عن الدين والجنس والمكانة الاجتماعية.
لا نستطيع الاستناد إلى أي من هذين التيارين لمواجهة الآخر. «الاستبداد المستنير» ليس الوجهة الصالحة للاعتراض على «الاستبداد العادل»، والفاشية النخبوية ليست الرد على الفاشية الجهادية، ودوغما العصمة ليست مؤهلة لنقض دوغما عصمة أخرى، والتمييز بين الناس وفق «رأس»ـهم ليس سنداً يركن إليه للمقاومة التمييز بين الناس وفق دينهم وجنسهم.
مقاومتهما معا تمر عبر كشف تهافتهما كمعرفة، ومضمراتهما السياسة الفاشية، ولا إنسانيتهما المشتركة، وبالاستناد إلى العالم الاجتماعي ومقاوماته التحررية.
7
ختاماً، الغرض من هذه المقالة هو التحول من التمركز حول الإسلام، سلباً أو إيجاباً، إلى العالم الاجتماعي، إلى الحياة في العالم الأرضي، وإلى العلوم الاجتماعية.
مسلمتنا الرئيسية هي أنه ليس هناك من خصوصية جوهرية للإسلام والمسلمين، أن ما يبدو من خصوصية يمكن شرحه شرحا عموميا بالعلوم «العلمانية»، أنه إذا ظن الإسلاميون أن هناك خصوصية ما في عقيدتهم فهم مخطئون، أما إذا ظن مفكرون علمانيون ذلك، فهذا أسوأ بكثير من خطأ، والأرجح أنه يدل على خصوصيتهم هم.
هذا لا يلغي حتما الحاجة إلى «إعادة هيكلة الإسلام» على أساساً مفهوم للصلاح مستمد منه وليس من خارجه (الإيمان والتوحيد والعدل واللاإكراه أساساً)، ويتيح للمسلمين العيش في عالم اليوم بأدنى حد من البؤس وشقاء الوعي. لكن ليس هناك حتمية متعالية تكفل حدوث ذلك، أو تكفل «التنوير» أو «العلمانية» أو «حرب مائة عام ضد الأصولية». هذه أشياء يمكن أن تحصل أو لا تحصل. المسألة تاريخية بالكامل.
في الإسلام ذاته، وفي التراث الإسلامي، ما يتعارض مع المساواة ومع الحرية. صحيح. وسيبقى الأمر كذلك على الدوام. ليس هناك شيء يمكن عمله حيال ذلك.
«إعادة الهيكلة» الدينية يمكن أن تكون مفيدة من أجل مزيد من الاتساق في ثقافتنا، وليس لجعل الإسلام عصرياً (لن يصير)، أو لأن هناك مخططاً كونياً مُلزِماً لكل تطور بشري. الأولوية للتاريخ في كل حال، وما قد يكون عصرياً اليوم يمكن أن يصير «مُفوّتاً» غداً.
الأولوية أيضاً في منظورنا هي للعدالة على الحداثة، وللجمهور على النخبة، ولـ«الشعب» على «العقل». ولكلية الإنسان ومجموعه على رأسه.
ليس هناك «إنسان مسلم»، وليس هناك «مسلمون» من طبيعة خاصة، نفهم تاريخنا بالانطلاق منهما؛ هناك تاريخ عام، تاريخ البشر، نفهم «الإنسان المسلم»، ونفهم مجتمعات المسلمين، بالانطلاق منه.