عندما كنت طفلة في الخامسة، أو السادسة لا أذكر، كنت أتساءل عن ذلك الرجل صاحب التماثيل في كلّ مكان، وكانت الإجابات دائما ً تأتي ضبابيّة. «جدّو»، هكذا قررت أن أنادي شيبته بحدسي الطفولي. لم أفهم يوماً السبب الذي يجعل من نفس الشخص موضوعاً لعدد من المنحوتات والصور في المدينة تماماً كما توزّع جدتي صورنا في منزلها. الشيء المختلف هو أنها لم تكن نفس الصور في منزل جدتي لكنّ صوره كانت واحدة أو اثنتين موزعتين في كلّ مكان. أكثر ما كان يثير فضولي هو حركه يديه، يضمّها أو يفردها بشكل غير طبيعي، غير بشريّ، إن صحّ التعبير. أطلقت مرّة عبارة طفوليّة بأنه يمدّ يديه في الهواء كأنه يسأل الناس شيئاً أو عطيّة، كنت في التاكسي مع جدتي التي قررت أنّ الترجّل من التاكسي كان أفضل جواب، وفعلاً كان كذلك.
كبرت وشبح ذلك الرجل في مخيلتي، شبح يشبه الآلهة لدرجة أنني عندما التحقت في المدرسة الابتدائيّة وبدأت أحفظ أقواله أصبت بحالة ضياع كبيرة بينه وبين الله الذي كنت أقرأ أقواله القرآنيّة في حينها. في كلتا الحالتين كان الغلط ممنوعاً وبشدّة وكان حفظ الآيات القرآنية أو الأقوال الرئاسيّة متشابه جدّاً لأعوامي السبع؛ لا يمكن في أيّ منهما أن تخطئ ولا حتّى في التشكيل، ولا يمكن في أيّ منهما أن تبدأ القراءة دون مقدمة «بسم الله الرحمن الرحيم» أو «قال الرئيس القائد حافظ الأسد» وفي كلتا الحالتين كان هناك عرف إجتماعيّ بأن لا يتطرّق أحد إليهما أو يسائلهما.
هناك شيء من الألوهة التي أحاط حافظ الأسد بها نفسه لدرجة أنني عندما رأيته، بعد موت ابنه باسل، يبكي مرّة أصبت بشيء من الذهول… كيف للآلهة أن تبكي؟
صورته على دفاتر المدرسة وكتب الدراسة تعني أنّ صاحبها هو الأوّل في التحصيل العلمي. كنّا نحبه دون أن نختار ذلك فقد كان في كلّ مكان. في عيد الميلاد ورأس السنة، كما في الأعياد الرسميّة الأخرى. صوره تأتي على شكل حبل غسيل يمتدّ بين ألوان الفرح والعيد، يمدّ رأسه بين َ لون وآخر ليلقي نظرة ويتأكد بأننا مازلنا نحبّه ولم يشغلنا العيد عنه.
على أبواب كلّ الأماكن الثقافيّة، الشبابيّة، أو حتّى الطفولية كان هناك لوحة بيضاء من الغرانيت حفر عليها أسماء عدّة كانت قد نابت عن سيادته بالقيام بتدشين المنشآت، لكنّ الاسم المرسوم بخط كلاسيكيّ جميل يضاعف حجمه حجم كلّ ما كتب على اللوحات هو إسم سيادته، «حافظ الأسد».
هذا ما يفسّر أنّ المشهد الأجمل في الثورة والمشهد الذي تكرر مراراً دون ملل هو اللحظات التي يسقط فيها تمثال أو تركل أو تمزّق صورة لتلك الآلهة. المشهد الأوّل الذي عرفت، بشكل شخصيّ، عنده أنّ الثورة اشتعلت فعلاً كان فيديو شاب يتسلّق َ نادي الضبّاط في حمص ويركل، بكلّ قوته، صورة «القائد الخالد». يركل بقوّة وكأنه ينتقم من كلّ المشاهد والصور في الذاكرة، كلّ التماثيل وحركات اليدين. يركلها وكأنه يركل الألم الذي عاشه الشعب أربعين عاماً خلف تلك الابتسامة الصفراء الذي كان يزين حافظ الأسد بها صوره وهو ينظر إلى الشعب من الأعلى.
هذا المشهد، نفسه، لم يتوقف يوما ً منذ بدء الثورة، وكأنه الرمز الذي يربط جميع تفاصيلها معاً. كان آخر ما سجّل في هذا السقوط هو مشهد إسقاط تمثال حافظ الأسد في محافظه الرقة المحررة حديثاً. هوى أرضاً وزغردت النساء، هوى أرضاً وركض َ الرجل الستينيّ ليفرغ ما بجعبته من بول على رأس «الإله الخالد».