أن يستعين بشار ونظامه بالدين ليستقووا على السوريين ويحاولوا حكمهم، فهذا ليس بالأمر الجديد، لكن هذه المرة له دلالات مختلفة.
لم تكن شرعية النظام أساساً (وفق تقديمه لنفسه) مستمدة من الدين، وهي وإن عملت على توظيفه داخلياً بسبب طبيعة المجتمع المحافظ في أهم المدن السورية، فإنها أمام معجبيه الخارجيين حاولت أن تبتعد قدر الإمكان عن الدين، وحافظت على الادعاء أنها علمانية، ولم تدعي أنها غيورة على الإسلام والمسيحية إلا من منظور قومي بحكم أن منشأ الديانتين كان في المنطقة العربية. شرعية النظام أمام مؤيديه الخارجيين (وحتى أمام السوريين) كانت مستمدة من قوله وادعائه أنه مقاوم وممانع، وأن حربه التي يخوضها في سوريا هي حرب ضد العدو الاسرائيلي الذي يستهدف هذه المقاومة، وأنها حرب ضد المشروع الغربي وأدواته كما تردد أدبيات النظام. هذا الأمر سابق على الثورة السورية، وكان من الطبيعي أن تسمع من نقاشات السوريين قبل الثورة قولهم: أنهم يؤيدون مواقف النظام الخارجية، وإن كانوا لايتفقون مع السياسة الداخلية له.
استمر النظام باستجداء شرعيته من خطاب الممانعة والمقاومة حتى قبيل الثورة السورية وبعد ثورات تونس ومصر (حديث بشار الأسد مع جريدة الفايننشل تايمز)، واستمر الأمر بعد اندلاعها، ثم استحضر النظام رمزية حافظ الأسد لجمع مؤيديه الذين بدؤوا ينفضون عنه، فبدأ أنصار النظام ينادون بشار ب «أبو حافظ». ومع أن الله لم يكن غائباً في شعارات النظام (الله، سوريا، بشار… وبس مثلاً، أو سوريا الله حاميها)، لكن بيان مجلس الافتاء الأعلى الأخير مختلف عن ذلك كله. البيان دعا [المواطنيين للقيام بالواجب الشرعي في الدفاع عن الوطن]، وأن هذا أصبح فرض عين على كل قادر على حمل السلاح. اليوم (وبعد أم تمزقت شرعية النظام المكتسبة من الممانعة داخلياً وخارجياً)، يحاول أن يستمد شرعية جديدة من الدين، وبعد أن كانت حربه ضد من يستهدف مقاومته للاسرائيلين، باتت اليوم (وفق بيان الافتاء) حرباً مقدسة يخوضها بإسم الله، وسيبرر فيها كل ماسيفعله من جرائم أيضاً بإسم الله أيضاً.
لاشك أن هذا مستوى جديد من مستويات دفاع النظام عن نفسه، والحق يقال أنه مفاجئ بمحاولته سحب الخطاب الديني وخطاب الجهاد من تحت أقدام الثورة السورية عامة، وجبهة النصرة خاصة. وفق هذا سنصبح أمام حرب بين فرقتين “مسلمتين” تعلن كل منهما الجهاد على الأخرى. إن هذا كله يقودنا للقول أنها محاولة جديدة لاشعال حرب طائفية في البلد، مهما كانت مدمرة له، فهو يطبق منذ أمد المثل القائل «عليّ وعلى أعدائي». وهي برأيي ليست محاولة منه لاعطاء شرعية لوجود قوات من حزب الله وايران تقاتل لجانب النظام في سوريا، فهذا الأمر سابق على فتوى الجهاد هذه.
لكن ماذا تبقى للنظام بعد هذا كله لتثبيت شرعيته، أو للحفاظ على أي شيء منها إن كان بقي شيء أساساً؟ هل هناك شيء حقيقي يتمسك به؟ وهل يملك فرصاً في النجاح هذه المرة؟
في حقيقة الأمر، هناك مؤسستان لم تنهارا حتى الآن، المؤسسة العسكرية والمؤسسة الدينية الرسمية. المؤسسة الدينية الرسمية هذه، تضم عدداً لابأس به من مشايخ دمشق وحلب، من تيارات دينية مختلفة، يمكن وضعها بفريقين متناقضين في كل شيء تقريباً هما الصوفية والسلفية. المدارس الصوفية (وهي الاقوى والأكثر انتشاراً) بشكل عام مايزال البوطي بالدرجة الرئيسية قادراً على امساكها وتهدئتها، بدليل أن أنصاره ومريدوه مايزالون يدافعون عن موقفه، وماتزال هذه الطرق الصوفية المنتشرة بكثرة في دمشق صامتة ومعتزلة الكلام في السياسة، وهي تتحكم بعدة آلاف من الأتباع، بل أزعم أن عدم دخول دمشق بقوة في التظاهر في بداية الثورة، هو بسبب هذه المؤسسة الدينية الصوفية القوية بالدرجة الأولى، ومن زار ركن الدين يومي الخميس والجمعة وشاهد مثلاً أعداد الناس التي تؤم مسجد أبو النور أثناء الدرس الأسبوعي لأحد أشهر شيوخ الطريقة النقشبندية، فسيدرك كم كبيرة هذه المؤسسة، وهي بررت أمام مريديها عدم المشاركة بالاحتجاجات بأمرين: طاعة ولي الأمر، وعدم الخوض في السياسة، وفي المجالس الخاصة كان بعض شيوخ الصوفية يقولون: انظروا ماذا سيحل بنا، هذا النظام فاجر نعم، فلاتقربوا منه. كل ذلك ساهم في تماسك النظام في دمشق (عدا عن الأسباب الأخرى كانتشار الشبيحة وغيره). أما المدرسة السلفية السورية (إن صحت التسمية)، فقد يكون من المفاجئ للبعض أن بعض شيوخها في دمشق وحلب معارضون للثورة وإن كانوا بوجهة نظر مختلفة تختلف عن نظرة المدرسة الصوفية لما يجري. فمثلاً نقرأ بياناً للشيخ محمـد أبو الفتح البيانوني، وهو عالم سلفي من مدينة حلب يقيم في المملكة العربية السعودية، يقول فيه (نشره على صفحته على الفيس بوك بتاريخ 23 شباط الماضي وفي الصفحة أيضاً منشورات أخرى بنفس المعنى) أنه لم يكن يحبذ هذه الطريقة في التغيير، وأن الأمر برمته فتنة ويجب اعتزالها، وأن النتائج غير مضمونة ولهذا فإنه من الأفضل عدم الخروج، واستشهد البيانوني بنقل عن الامام أحمد بن حنبل ورفضه الخروج على الخليفة الواثق لعدم ايقاع الفتنة وشق وحدة المسلمين، كما يعرض مانقله ابن خلدون في مقدمته وكيف أن الغوغاء والعامة يعرضون أنفسهم للمهالك في سبيل اتباع مالايعرفونه، ظناً منهم أنهم يغيرون المنكر.
فهذان موقفان لمدرستين مختلفتين كلياً إلا أنهما اتفقتا على عدم الخروج والمشاركة في الثورة. وحتى أوائل بيانات بعض شيوخ دمشق المشهورين والذين أيدوا الثورة كانت ضعيفة اللغة، لاتسمي الأشياء بمسياتها، وتنسب لمجهول أفعال القتل والتخريب، وهذا ماأنكره مجموعة من طلاب معهد الفتح الاسلامي في رسالة لمدير المعهد حسام الفرفور.
هذه التفاصيل تقول لنا، أنه لو صدر مثل هذا البيان في أشهر الثورة الأولى لربما رفدت النظام بجيش شعبي لابأس به، أو على الأقل وسعت قاعدته الشعبية جيداً. أما اليوم، فمن الصعب تصور ذلك، لكنها ستزيد في تردد الحائرين الذين لم يحسموا أمرهم وفقاً لرغبات المشايخ، أو تجعلهم براغماتيين ينتظرون منتصراً ليؤيدوه. بيان الافتاء الأخير كان محاولة جديدة لإعادة جمع الناس حول النظام، وهي فعلاً مختلفة عن محاولاته السابقة، بدخولها في تناقض علني هذه المرة مع كل سياقات وأدبيات النظام، مما دفع القيادة العامة للقوات المسلحة (جهة عسكرية) شرح بيان دار الافتاء (جهة دينية) والقول بأنه كان يدعو للالتحاق بالخدمة الالزامية للدفاع عن الوطن.
يبقى السؤال الأهم في نهاية المطاف، ماذا بقي في جعبة النظام؟ قبل أسابيع فاجئ النظام الجميع بإعلانه عن تشكيل جيش شعبي، واليوم قد تكون هذه محاولة أخرى لحشد المزيد من المقاتلين في صفوفه (وهو لاشك يعاني من نقص)، لذلك سيكون من الصعب الاجابة على هذا السؤال، ومن التبسيط القول أنه لم يعد أمامه الكثير، فقد تبين بالدليل القاطع أنه لا قعر لدناءة وخسة هذا النظام.