دعا ناشطون سوريون إلى إحياء ذكرى شهداء الثورة السورية والحداد على أرواحهم من خلال «يوم صمت» في السادس من آذار غرضه إبداء التضامن مع الشعب السوري، يلتزم فيه السوريون على مواقع التواصل الاجتماعي بالامتناع عن الدخول في سجالات أو مناقشات أيديولوجية حادة لمدة يوم كامل. ويرى مؤسسو هذه الحملة أن الصمت عملٌ مكمل لهتافات الشعب السوري التي تدعو إلى الحرية ورفض الذل منذ أربعة وعشرين شهراً.

قد تبدو غريية هذه الحملة إذ أن إحدى أهم قيم الثورة هي انتزاع الحق بالكلام. كيف لنا إذن أن نمدح الصمت وهو مرادف الخوف والكبت والقمع؟ أليست الثورة مبنيّة على واجب الكلام؟ أليس هدفها تعدد الأصوات؟ ألم يقل الشعب السوري «صمتكم يقتلنا» مشيراً بهذا الشعار إلى تواطؤ «الصامتين» من السوريين والعرب وغيرهم مع نظام البطش والعنف الأسدي؟ 

في نفس الوقت، قال الشعب تكراراً «لا حوار مع النظام» وفي هذا القول يكمن انتزاع حقنا بالصمت أيضاً. هنا نجد صمتاً من نوعٍ آخر؛ نقاطع النظام بالامتناع عن الكلام، فيصبح الصمت صمتاً إحتجاجياً، ويصبح وسيلة مقاومة. هذه ممارسة لا تنبع عن ضعف إنما عن قوة معبرة عن رفضٍ كاملٍ للنظام، ففي اعتبار اللسان آلة الفعل والتواصل، تؤدي الحيلولة دون استخدامه إلى الحد من تأثير فكرة جعل سيادته أمراً حقيقياً، فهذه السيادة تتحقق فقط حينما يحتل النظام فضاءاً يمارس فيه الحديث بلغته وثقافته. أمّا نحن فنجد أننا في طور خلق لغة أُخرى يكون للصمت فيها دور إيجابي.

صوت الصمت مدوّ، فهو جزء من الكلام وليس طرفه المقابل. إن الصمت لا يعني السّكوت؛ الصمت مشاركة بكل الأحوال، إنه تفاعلٌ وليس مجرد انفعال، فهو تواصل يتجاوز حدود اللغة ويعبر الآفاق ويحطّم جدران الخوف ويفسح المجال لمزيد من المعنى؛ في الصمت استرجاع للذاكرة وتأمُّلٌ وتفكير، وحركةٌ وإيماءةٌ وتعبير، وكما قال رجلٌ حكيمٌ، «بكثرة الصمت تكون الهيبة». الصمت اليوم سلاحٌ في وجه النظام الفاجر وضجيج آلة قمعه وحربه وأقبية تعذيبه وطائراته الحربية، وهو سلاحٌ في وجه ضوضاء الآراء المتضاربة والشائعات وأنصاف الحقائق، وسلاحٌ في وجه الثنائيات الكليشية ومخاوف «الأقليّات» وجهارة صوت «الأغلبية الصامتة».

فلنستذكر بعض لحظات الصمت في تاريخ الثورة. في مطلع عام 2011 وقبيل أن تعمّ سوريا المظاهرات السلمية المناهضة للنظام في آذار، أضرم شابٌ من محافظة الحسكة، يدعى حسن علي عُقلة، النار في نفسه تيّمناً بالتونسي محمد البوعزيزي، الشرارة التي أشعلت الربيع العربي حرفياً ومجازياً على حدّ سواء. وقام الشاب الحسكاوي بذلك كبادرة احتجاج بعد أن منعت السلطات السورية اعتصاماً سلمياً دعت إليه مجموعة من الشباب السوريين تضامناً مع الشعب المصري.

تكاد لا تُذكر هذه الحادثة في سيرة الثورة السورية علماً أنها تحتوي في طياتها على الكثير من الألم والحزن والظلم والقهر الذي يعلمه ويعيشه السوريون اليوم. هذا لأن الإعلام لم يكن قد أعار الأهمية لهذه الحادثة حينئذٍ. لم يحمل حسن علي عُقلة لافتةً ولم يهتف شعاراً ولم يظهر على شاشات الفضائيات ولم يكن لديه حساب فيسبوك يخاطب من خلاله شبكة ناشطين أو يؤهبهم للتظاهر. لم يكن لسوريا موقعٌ بعد على خريطة الثورات، ولم يكن للسوريين وجودٌ في «عجقة» الشعوب المنتفضة ضد الإستبداد. وهكذا باتت قصة هذا الشاب منسيّة مع أنها تحمل من الرمزية ما يماثل في الوزن تجربة الإنسان السوري على مدى العامين الأخيرين؛ مات «صامتاً» وهو مُحاطٌ بالصّمت. ولكن التضحية «الصامتة» لهذا الشاب لا تستند على الشعور بأنه ضحية وإنما هي بيانٌ يشير إلى سيادته لذاته وقدرته على صنع قراره بنفسه. هذا هو الحال اليوم لدى كل سوريٍّ يقف صامداً في وجه قوى الظلام.

وفي كفرنبل ظهر أفرادٌ، اعتدنا أن نراهم في الصور يحملون لافتاتٍ ناقدة، نابضة بالحيوية، غنية بالألوان، مليئة بالتعليقات، ظهروا ذات مرة مكممي الأفواه، يحملون لافتة عارية، مجردة، لا نرى فيها غير تاريخ الإحتجاج وإسم المدينة: «4/12 كفرنبل المحتلّة». هذه «الصفحة البيضاء» التي ولدت فارغة، تشير إلى أنها ولِدت دون محتوى سابق، وأن مغزاها سوف يأتي من تجربتها وقدرتها على التصور وحريتها في كتابة مستقبلها. تُشكّل الصفحةُ هالةً تحيط بالمتظاهرين؛ يصبحون كياناً واحداً؛ بياض الصفحة يعكس صمت المتظاهرين، والعكس صحيح. ربما تكون رسالتهم هي: «ليس هناك شيء آخر نقوله»، أو «نحن غاضبون بسبب سكوتكم عن الحق» … مهما كانت الرسالة، إن المتظاهرين، كلافتتهم، يعلمون أن تحررهم من انقضاض الكلمات والشعارات على المشاعر يعني أن هذا «الصمت» حجة لا تدحض.

فلنصمت اليوم بهيبةٍ وتواضع احتراماً وتأسياً برِقّة غياث مطر، ورباطة جأش أبي فرات، وبحمزة بكور الذي حرمه بشار الأسد من الصراخ بعد أن اقتلعت قذائف النظام فكّه، وبنايف، الصبي الحلبي الذي قصفت طائرات الموت حيّه، وفقد جميع أفراد عائلته لكنه لم يذرف دمعةً واحدةً بل عبّر عن صمته بسؤال: «بس أفهم، ليش عم يضربنا؟»

وربما بصمتنا نستطيع على الأقل أن نقف وقفة حدادٍ واجبة وأن نتخيّل شهداءنا بين الجماهير الحاشدة في الرّقة، يشدّون على الحبل المربوط حول عنق تمثال مؤسس مملكة الخوف، ويسقطونه مبتهجين.