علم الله تعالى آدم الأسماء كلها، ونسيها السوريون كلها إلا كلمة «نعم للأبد». 

اخترع إديسون الهاتف للحفاظ على ميراث أبينا آدم، عن بعد، وجعل الجبل يلتقي مع الجبل– على خلاف ما تدعيه الأغنية السورية التي تنكر إمكانية التقائهما، لكن السوريين حولوا المسموع مبصوراً!

اخترع السوريون مصابيح صغيرة مثل عيون الحباحب، تعمل بطاقة الهاتف ما دام الكلام محرماً إلا «تحت سقف الوطن».

الحوار الوطني «تحت سقف الوطن» يبدو مستحيلاً. سنتان عضوض، والنظام يحاول تنظيم حوار فلا ينجح سوى في… النجوى وهمسات الليل. 

اكتشفت النار بحك حجري صوان، وبدأ التاريخ –كما يذهب مؤرخون– وها هم السوريون يكتشفون أنواعاً جديدة من النيران: نار من حكّ الجسد بالجسد، نار من حك الألم بالألم، نار من حوار الطبشور مع حائط أخرس في درعا! 

نحت الفنان الإسباني الشهير سلفادور دالي نصباً لفيل له أقدام زرافة، وأذنا خفاش، وصهوة حصان، وها هي الترويكا الروسية الإيرانية السورية، تنحت أسداً له زفير تنين صيني، ونابا دب روسي، وقرنا ثور فارسي… وحولت غيرنيكا بيكاسو إلى واقع سوري. صناعة الأنقاض تزدهر. انطق أيها الحجر، انطقي أيتها الأنقاض! تمتعوا أيها الموتى بالحرية إلى… الأبد.

حيثما مشيت –في جفن الردى– وجدت أنقاضاً، وزجاجاً مكسوراً، ورائحة جثث «للعرض فقط». ناس جوعى يجمعون الخبز اليابس ويطحنونه ويُعيدون عجنه وخبزه! الحنفيات تضخ الهواء بدلاً من الماء، والبصل بات أغلى من الموز المستور، وفواتير الهاتف الخليوي حتمية الدفع مع أنها خرساء، فلا حقوق في عقد الهاتف الخلوي للمتعاقد المستعبد، والطائرة تلعب بالجموع الثائرة بدلاً من النجوم الزاهرة في أنشودة شاعر البعث!

من أشكال السريالية تحوّل مثقفي النظام المبدعين –وهم غير الأبواق– إلى حكماء يتحدثون عن غاندي، وفضائل الحوار، والطب، ويملؤون مقالاتهم ويومياتهم في «كتاب الوجوه» بالوعظ الصحي: احذر مصباح الغاز فهو يمتلئ بغاز سام، احذر حبة السكر سبارتام لأنها سامة، احذر أكل حبة البطاطا الخضراء لأنها سامة… فتخال نفسك في يوتوبيا كامبانيلا، وليس في بلاد الغول غودذريلا. إذا كان الكلام من سمّ فالسكوت من ذهب. لكن الذهب لا يغني من جوع. المدن المحررة لا تزال تدفع ثمن الكلام قصفاً، أما المدن «المستعمرة» فالصمت يخنقها. الصمت سامّ وقاتل، كأنّ آدم لم يتعلم سوى كلمة واحدة هي: «الأسد أو لا أحد»! كأن سوريا التي اخترعت الأبجدية ستتعلمها من جديد. قلب العروبة النابض ليس لها أشقاء سوى… بلاد فارس!

بطل القادسية الأولى اسمه سعد بن أبي وقاص، بطل القادسية الثالثة اسمه حمزة الخطيب. ينتقل مولانا معاذ الخطيب من الإعلام إلى السياسة ويطلب الحوار مقابل معتقلين، ثم يخفضه إلى المعتقلات، فيرضى النظام، بعد انقضاء «المهلة» وبضغط روسي، بالحوار من غير شروط، ويكلف وزيراً «معارضاً» اسمه علي حيدر بالحوار مع… المعارضة! لا تزال أبواق النظام تندد بضحايا الناتو الليبي الذين بلغ عددهم ستين ألفاً، وينسون «الناتو السوري» الذي فاقت ضحاياه السبعين ألفاً! المخيم هو أكثر الأحياء أماناً في حمص. لاجئو إسرائيل يحمون لاجئي النظام السوري، وكل غريب للغريب نسيب، يا امرأ القيس! يحاول السوري نطقاً أو يموت فيُعذرا. تتحول أعمدة الكهرباء إلى شجرة ميلاد من كثرة الكابلات التي تصطاد الكهرباء ثم تتوهج من شدة الوجد وتنهار حمراء مضرجة بالنار. سورية واحدة من أغنى الدول بالقمح، كالعيس في البيد يقتلها الظما \ والماء فوق ظهورها محمولُ.

المخبز رقم 13 قُصف للتو في الحجيرة. هتلر حوّل لحوم ضحايا النازية إلى صابون، أما النظام السوري فيحول سوريا إلى لوحات حية ينافس بها سلفادور دالي وبيكاسو. سكتت أغنية «أنا سوري وآه يانيالي»، أما المدرسة التي بجوار بيتي فيعلو منها صياح الأطفال نفسه في هتافات خالدة: بعث، عروبة، طلائع. من مكان غير بعيد تعلو هتافات جديدة لِلَبوات الجيش الشعبي: آآآسبل! جواب: أسد!… استارح! جواب: سوريا! رفع النظام رواتب الموظفين –وزعم أنها كانت معدة للرفع وليس لها علاقة بما يجري في بلدان الثورات والربيع العربي– لدرء خطر الثورة، وها هي الرواتب المرفوعة بحركة السكون تنخفض إلى النصف، فالدولار يسحق الليرة السورية تحت قدميه.

يهبط الثلج بقسوة، بلا أي بهجة، ولا يذوب، هذا ثلج شيوعي! يدفن الناس شهداءهم بلا تعزية، في الحدائق، فدفنها في المقابر يحتاج إلى تصاريح وتحقيقات… امتلأت الحديقة المقابلة لدارنا التي تبادلت فيها الأشجار مع الشهداء الديار و… الأدوار.

فاجتمع المشيّعون ليفكروا في إيواء الشهيد الواصل إلى «الحديقة»، فإكرام الميت دفنه. وجدوا حلاً وهو إعادة حفر القبور وجعلها من طابقين! الرفات لصبي في السادسة عشرة، مات بشما من فواكه التعذيب وكثرة اللهو، وليس مع النعش سوى الأم الثكلى، والنساء لا يرافقن النعوش عادة، فالموت ذكر و«أجنبي»، واسم حواء مشتق من الحياة! لكنها رافقته، فقد اشتاقت إلى وحيدها الذي مات نفساً نفساً، وزوجها –أبوه– سبقه، وليس لرفاته عنوان. لا أحد يوصيها بالعودة، بعضهم يعزيّها، بعضهم يبارك لها شهيدها. تبقى وحدها مع مواسيات، فتتمرّغ على ندبة من كوكب الأرض تورمت من دفن الصبي الشهيد…

على بُعد أمتار، رتل طويل من جرار الغاز الحديدية، والبشر المتحجّرون بجوارها من البرد، الرتل طويل ويمكن أن يُرى من فوق سطح القمر… كسور الصين العظيم!

*التصميم لتمام عزّام: «موناليزا»