حماية الأقليات من الأكثريات، أم كفاح الأقليات والأكثريات معاً من أجل المساواة؟

لم يسبق لروسيا في الزمن المعاصر أن اهتمت بحقوق أحد أو حماية أحد في بلادنا، فما الذي يدعوها اليوم إلى الاهتمام بحقوق الأقليات في سورية؟ وماذا يدعو القوى الغربية التي كانت في العقود الأخيرة تتكلم بصورة طقسية على حقوق الإنسان إلى العودة إلى الاهتمام بأوضاع الأقليات في سورية، على نحو ما كانت تفعل أيام الاستعمار؟ وهل هناك سبب وجيه لافتراض أن وراء هذا الكلام المتواتر على حماية الأقليات السورية دوافع إنسانية وغيرية؟ 

يبدو أيضاً أن المسألة ذاتها حاضرة بطرق ظاهرة أو ملتوية في تداول ناشطين ومثقفين سوريين. فمن المآخذ المتواترة على الثورة السورية وعلى تشكيلاتها السياسية أنها لم تنجح في تعبئة قطاعات أوسع من «الأقليات»، أو أنها لم «تطمئن»ـها بقدر ما هو مطلوب. ليس ظاهراً كيف تكون التعبئة وكيف التطمين، لكن واضح أن هناك ارتباط بين الثورة وبين انشغال متصاعد، منفعل غالباً، بأوضاع الأقليات في سورية ما بعد الأسدية. 

فهل في الثورة السورية ما يحمل أخطاراً خاصة على «الأقليات» السورية؟ وما الذي يفسر هذا الانشغال المتواتر بالأمر من قبل القوى الدولية التي سبق أن شغلت نفسها به أيام المسألة الشرقية؟ ولماذا لا يكاد المثقفون والسياسيون السوريون يقولون شيئاً واضحاً عن الأمر، هذا حين لا يقولون كلام القوى الدولية نفسه أو ما يشبهه؟ 

سنحاول في ثنايا هذه المقالة المطولة تقديم عناصر للإجابة على هذه الأسئلة. 

أقليات مهدَّدة/ أكثرية مهدِّدة

مجرد طرح الأمر في صيغة «حماية الأقليات» أو «حقوق الأقليات» في سياق الثورة السورية يتضمن مُسلّمتين غير بريئتين، واحدة تخص العلاقة بين «الأقليات» و«الأكثرية»، وواحدة تخص الثورة. 

فهذا الطرح يعطي الانطباع بأن الأقليات مهددة من «الأكثرية»، وبأن حمايتها هي حمايتها من هذه الأكثرية، مع تعريف الأقليات والأكثرية معاً بالدين والإثنية والماضي. وفي الوقت نفسه تمْثُل «الأكثرية» للذهن ككتلة واحدة ضخمة، مُصمّتة ومهدّدة لأقليات هشة ومكشوفة. تبدو الأقليات أيضا كذلك كتلا متجانسة، لكن صغيرة.

ويقول الطرح نفسه إن الثورة السورية هي ثورة أكثرية معادية للأقليات دون أن يكون واضحاً لماذا، ودون أن تساق مؤشرات على ذلك، أو يقال شيء في وصف الوضع الذي قامت ضده الثورة من وجهة نظر العلاقة بين «الأقليات» و«الأكثرية». علماً أنه لم يسمع قول لروسيا والقوى الغربية في هذا الشأن يوماً. 

على أن القوم يتكلمون في الواقع على «حرب أهلية»، لا على ثورة، ووحدات هذه الحرب هي طوائف، أو هي بالضبط «الأكثرية» و«الأقليات». سنقول شيئاً عن الأصول العدائية لهذا الحكم لاحقاً، لكن سنلاحظ منذ الآن أن جذور «الحياد» الغربي من الثورة السورية تمتد في هذه التربة. فالغربيون ينفرون من النظام السوري سياسياً، لكنهم على نفور مماثل أو أكبر من المتن الإسلامي لمجتمعاتنا. التركيز على «حماية الأقليات» هو عَرَض ناطق لهذا الحياد اللاأخلاقي. 

أكثريات وأقليات/ ساكنة ومتحركة

في واقع الأمر ليس هناك أكثرية واحدة في سورية، ولا أقليات ثابتة، متماثلة الموقع السياسي أو الاجتماعي، ولا تحديد لها غير أنها أقليات قبالة أكثرية ثابتة بدورها. لدينا أكثريات وأقليات متنوعة بتنوع المعيار الذي نعتمده للتمييز بينها. فإذا كان المعيار إثنياً، كانت الأكثرية عربية والأقليات كردية أو أرمنية وآشورية سريانية…؛ وإذا كان المعيار دينياً، كانت الأكثرية مسلمة، والأقليات مسيحية وإيزيدية؛ وإذا كان المعيار «مذهبياً»، فالأكثرية سنية، والأقليات علوية ودرزية واسماعيلية وشيعية.

وهذه كلها أقليات وأكثريات ساكنة، أعطانا إياها الماضي، وليست أكثريات متحركة من نوع ما يفترض أنه يميز الاجتماع السياسي الحديث، الوطني والديمقراطي. والمضمر في الكلام الغربي الروسي أن هذه الأكثريات والأقليات الساكنة هي ذاتها الأكثريات والأقليات السياسية، وأن الأمر كذلك بفعل خصائص ثابتة لمجتمعاتنا. 

والحال أن الوضع الذي شبت ضده الثورة هو وضع أكثريات وأقليات ثابتة فعلاً، أو هي تتحرك نحو الثبات والانعزال عن بعضها، وليس نحو التمازج والاختلاط. لكن الطرح الغربي الروسي يخطئ في افتراض التطابق بين أية أكثرية ثقافية والأكثرية السياسية، وكذلك بين الأقليات والأقلية السياسية من جهة (ولنا عودة أوسع إلى هذه النقطة)، ويؤول عملياً إلى تثبيت الأقليات في وضع أقليات ساكنة والأكثريات في وضع أكثريات ساكنة، وليس العكس. 

وما يتكتم عليه هذا الطرح هو الوضع الحالي الذي لا يقول الروس والغربيون عنه شيئاً. فهل يفترضون تطابقا بين الأكثرية الثقافية والأكثرية السياسية الحاكمة في سورية؟ مخطئون في ذلك كما يعلم الجميع. لكن إذا كان هذا هو افتراضهم، فلماذا لم ينشغلوا باحتمال اضطهاد الأقليات إلا الآن؟ وإن كان يعلمون أنه لا تطابق بين الأكثرية الثقافية والحكم في سورية (الواقع أنه شائع في التيار الرئيسي من الإعلام ومراكز الأبحاث الغربية وصف النظام السوري بأنه «نظام علوي»)، فلماذا لم يقولوا عن الأمر شيئاً في أي وقت سبق؟ هل إن في الأمر ما يناسبهم على نحو خاص؟ 

أكثرية سنية؟

وليس لتلك التمايزات الساكنة القيمة السياسية ذاتها. فالتقابل سني/ علوي يبدو اليوم محفوفاً بالمخاطر أكثر بكثير من التقابل مسلم/ مسيحي الذي انشغلت به القوى الغربية وروسيا في القرن التاسع عشر، وأكثر من التقابل عربي/ كردي. وهذا الأخير يشغل المرتبة الثانية في الخطورة السياسية اليوم. وأسباب ذلك سياسية وتاريخية ومتغيرة، مرتبطة باستقطابات الحاضر وتحولاته وصراعاته، مما لن نتناوله هنا.

وقد يفترض المرء أن وضع الأقليات يكون أصعب حين تتطابق الأكثريات الإثنية والدينية والمذهبية، لتشكل أكثرية كبيرة، على ما هو حال العرب المسلمين السنة في سورية، وهم يشكلون أكثر من ثلثي السكان. لكن هذا التقدير المبني على المنطق المجرد يُكذِّبه الواقع الفعلي. فالعارف بسورية والمجتمع السوري يعلم أنه يصعب اعتبار العرب المسلمين السنة في سورية «مونوليثا» أكثرياً متجانساً ومهدداً لأية أقليات، بما يوجب حمايتها منه. لم يكن هذا هو الواقع في التاريخ القصير للكيان السوري الحديث قبل الحكم البعثي. وضمن هذا التكوين من التمايزات الجهوية والطبقية والثقافية ما يجعل الكلام على أكثرية سنية عربية غير ذي دلالة سياسياً أو يكاد. هذا فضلا عن تمايزات سياسية حديثة تشكل ما يقارب طوائف فرعية ضمن الطيف السني الأعرض (إخوان مسلمون، سلفيون، سلفيون جهاديون…).

وظاهر على كل حال خلال نحو عامين من الثورة السورية، وقد كان أكثر ضحاياها من السنيين، أنه لا وجه شرعياً للكلام على أكثرية سنية موحدة أو متقاربة المواقف في القضايا العامة، وأن نسبة متفاوتة، لكنها غير هامشية من السنيين، كانت ولا تزال إلى جانب النظام.

«سياسة الأقليات»…

وهو ما يكفي للقول إن تصور أكثرية مهددة لأقليات مستضعفة أقرب إلى استيهام، يُحتمل أنه متولد هو ذاته عن تنويعة لسياسة الأقليات التي مورست فعلياً في سورية في عهد حافظ الأسد، ولا تشكل المقاربات الغربية والروسية الراهنة غير تنويعتها الأقدم.  

أعني بسياسة الأقليات السياسة الموجهة، صراحة أو ضمنا، نحو التلاعب بالتمايزات الاجتماعية الثقافية الموروثة، والعمل على تثبيت التمايز بين «الأكثرية» و«الأقليات» وإدامته، واعتبار العلاقة بينهما علاقة خصومة حتماً، وهو ما يقتضي «تحالف الأقليات» أو «حمايتها» من الأكثرية وصون حقوقها. 

وليس المقصود بحقوق الأقليات في سياق سياسة الأقليات أن ينال المنحدرون منها الحقوق ذاتها التي ينالها المنحدرون من الأكثرية المفترضة، أي تعميم مبدأ المواطنة والمساواة الحقوقية، بل ضمان أوضاع خاصة للأقليات، ككتل أو كمجاميع. المساواة الحقوقية بين الأفراد لا تمر بمفهوم حقوق الأقليات أو حماية الأقليات، وليست مما تتضمنه سياسة الأقليات.

ولمفهوم سياسة الأقليات فضيلة مهمة: يوضح أن الأمر يتعلق بسياسة، موضوعها (وليس ذاتها) هو الأقليات، أي بخطط ومشاريع لأطراف سياسية، وليس بتفضيل تلقائي للأقليات، أو بسياسة محتّمة لها.  

لكن هذا بالضبط ما يتكتم عليه خطاب سياسة الأقليات. فالعلامة المميزة له أنه يهمل كلياً السياق السياسي العياني كما سبق القول، ليربط المخاطر والتهديدات بماهية المجموعات المعنية، أي بكونها أكثريات وأقليات اجتماعية ثقافية، لا بأي شيء آخر. فكأن الأكثرية سمكة قرش متوحشة في كل حال، وكأن الأقليات أسماك صغيرة معرضة للافتراس في كل حين! 

ومن العواقب المباشرة لسياسة الأقليات ما سبق الإيماء إليه أيضاً من إبقاء الأقليات أقليات، فلا تندرج في تركيبات مغايرة أو تشكل جزءاً من أكثريات جديدة. هذا علما أن تاريخ منطقتنا هو تاريخ تشكل أكثريات وأقليات جديدة دون توقف. 

العرب كأكثرية سياسية

كانت العروبة، مثلاً، عنوان آخر أكثرية سياسية جرى اختراعها في ثلاثينات القرن العشرين في سورية. كطوبى، أتاحت العروبة بقدر طيب اختلاط وتعاون مسلمين ومسيحيين، سنيين علويين ودروز واسماعيليين، ومنحت كثيرين حسّا بالشراكة والأخوة. لكنها في السلطة انهارت تحت وطأة تناقضاتها الذاتية، وأهمها تعريب العرب، أو تحولها (العروبة) إلى إيديولوجية سياسية ضيقة، مجسّدة في حزب بعينه، «البعث»، قبل أن يتجسد هذا بدوره في شخص مثل حافظ الأسد. وتالياً تحولها إلى سند للطغيان وسلب السوريين بلدهم. 

ومن تناقضاتها أيضا أن استخدمت لتمويه الامتيازات الطائفية، وحجب التلاعب الطائفي منذ وقت مبكر من الحكم البعثي، وفي زمن حافظ الأسد بخاصة.

والواقع أن العروبة لم تكن أساساً لأكثرية سياسية في سورية لكون العرب هم أكثرية السوريين، بل لارتباطها بقيم تحررية وتقدمية كانت صاعدة عالمية وقتها: التحرر الوطني والاشتراكية والتقدم وتضامن المضطهدين العالمي. ثم تدهورت حين لم يعد لهذه القيم مضمون حي، مع بقاء العرب هم أكثرية السوريين إثنياً. العروبة المفرغة من المضمون ظلت عنواناً عاماً للحكم الأسدي لأنها تمكنه من اللعب الداخلي والخارجي، ومن حجبه في آن.   

في المحصلة شكلت هذه العروبة المتدهورة قناعاً لتفريق السوريين، وليس قاعدة واسعة لتقاربهم ووحدتهم، قناعا كذلك للمزيد من التخاصم بين عرب المشرق، مجتمعات ودولاً.

وبفضل هذه السياسة التي تسببت أيضاً باستبعاد غير العرب في دولة فيها نحو 15% منهم، لم يكد يبقى عرب في سورية اليوم (وفي العراق): هناك فقط مسلمون ومسيحيون، وسنيون وعلويون إلخ. هذا فوق أنه لم يكن هناك سوريون بفعل إنكار عقيدة العروبة المطلقة والنظم التي حكمت باسمها لشرعية وجود سورية.

هذا هو التاريخ القريب الذي تفجرت الثورة السورية على خلفيته، ويبدو أن تفجرها شغل بال قوى نافذة في العالم على مصير الأقليات. وفي هذا التاريخ الكثير من السياسة، والقليل من الماهيات الثابتة.

أصول سياسة الأقليات

تعود أنساب سياسة الأقليات إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، زمن «المسألة الشرقية» الذي تقاطعت فيه النزعات الامبريالية الأوربية مع عقيدة التقدم (وإقصاء الماضي الذاتي المُتجاوز إلى الخارج، القريب بخاصة) ومع معارف استشراقية متحيزة، يملأها الشعور بالتفوق والحق الذاتي، للقول إن الأقليات في وضع خطر دوماً في المجال الإسلامي، وأن هذا (وكنا أيام السلطنة العثمانية وعصر التنظيمات) نتيجة توحد السياسة بالدين، وتالياً التطابق المؤكد والدائم بين «الأكثرية السياسية» الحاكمة والأكثرية الثقافية.

كانت تلك القوى الأوربية تبحث عن مواطئ أقدام في السلطنة التي لم يكن توازن القوى بين تلك القوى يسمح بتقاسمها، لكنها في الوقت نفسه تناتشت مقاطعات من السلطنة في اليونان والبلقان وفي الجزائر، ثم مصر وتونس… تقاسم مناطق النفوذ كان يساعد في تصفية الحسابات البينية بين «الضواري الامبريالية» التي كانت ضارية في مواجهة بعضها أيضاً، لكن ضارية وحقيرة في مواجهة العالم غير الأوربي.

وهو ما يسوغ لنا القول إن سياسة الأقليات على نحو ما دشنت أيام المسألة الشرقية ليست شيئاً منفصلاً عن السياسات الاستعمارية التي أفضت إلى الاحتلال الأوربي لبلداننا، وصولاً إلى احتلال سورية ولبنان بعد الحرب العالمية الأولى. لا شيء غيرياً ولا إنسانياً في هذه السياسة.

ولنثبت نقطة مهمة هنا قبل استئناف المناقشة: بما أن الدولة السلطانية لا تمثل أكثرية من أي نوع أو ترعى مصالح أية أكثرية، وبما أن القوى الغربية نهجت سياسة الأقليات، فإن الأكثرية الاجتماعية الثقافية التي لا يمثلها أحد هي من ستجد نفسها في موقع الخاسر بفعل هذه السياسة، سواء استفادت منها أم لم تستفد أية أقليات. بنيوياً، هذه السياسة تُغرِّم الأكثرية الاجتماعية الثقافية في مجتمعاتنا، ومتنها دوماً هو أكثرية المسلمين، وتحديدا السنيين لأنهم المتن البشري للسلطات الإسلامية المتعاقبة. وجهة تلك السياسة الأصلية أو مقصدها المؤسس يتضمن ذلك لكونها تفترض تطابقا بين الحكم السلطاني وهذه الأكثرية. ولم تعوض عن ذلك بسياسات اجتماعية وثقافية منشئة لأكثرية اجتماعية جديدة، مستوعبة للأكثرية القديمة ومتجاوزة لها. مشروع التنظيمات المتمثل بإنشاء مواطنة عثمانية عصرية لم يكتمل بسبب السيطرة الغربية، ثم صعود النزعات القومية، التركية قبل الجميع، والأرمنية والعربية والكردية، وإخفاق «نخبة»السلطنة في تطوير سياسة غير «ممانع» للتعامل مع هذه التطورات. الممانعة الحميدية لم تعالج ولم تحل أي مشكلة.  

وإذا وضعنا في بالنا أن المحصلة الفعلية لهذه التطورات التاريخية هي تشكل «غرب داخلي»، مسيطر وممتاز، وأن أغلبية السكان مهمشة عنه اجتماعيا ومغتربة عنه ثقافيا، فوق كونها مضطهدة سياسيا، اهتدينا إلى المدخل الذي جاء منه تمثيل الإسلاميين المزعوم لهذه الأكثرية، وكذلك تحول الإسلام إلى عقيدة مقاومة اجتماعية وسياسية، وإلى «حل». بل «الحل».

هذا الحل يعقد المشكلة لأنه ليس حلاً، ولا يمكن أن تتشكل أكثرية اجتماعية جديدة أو هيمنة تاريخية جديدة حول الإسلام، أياً يكن فهمنا له. لكن هذا موضوع أخر. 

محصلات تاريخية…

فوق النسب غير المشرف لسياسة الأقليات، فإن واحدة من أبكر ثمار البيئة السياسية التي نشأ وانتشر فيها هذا الطرح صراعات طائفية دموية في لبنان وسورية، سقط ضحاياها من الأكثريات والأقليات معاً، لكن كان المتضرر الأكبر بمحصلتها هو الجماعات الدينية والمذهبية الأقلية التي رفعت القوى الأوربية شعارات حمايتها. 

الواقع أنه في كل مرة تدخلت القوى الأوربية  في المشرق تدهورت أوضاع المسيحيين، والأقليات عموما، وهذا منذ أيام الحروب الصليبية حتى يومنا هذا. لم تكن «حروب الفرنجة» تلك مدفوعة بحماية المسيحيين (كانوا من الضحايا المباشرين للغزاة) أو غيرهم، إلا أن الثمرة المباشرة لهزيمة الصليبيين أن أصبح أكثرية سكان الإقليم الشامي من المسلمين بعد أن كانوا حتى حينها من المسيحيين، علماً أن التحول جرى طوعاً (إن وضعنا جانباً الإكراهات البنيوية لوضع سياسي ثقافي تاريخي، تدين الهيمنة فيه للمسلمين). وهو ما ترافق أيضاً مع تراجع أعداد الشيعة بقدر كبير في كل من مصر والشام، ومع أوضاع أشد صعوبة للأقليات الإسلامية الأخرى، ومع تشدد ديني سني متزايد. 

فتوى ابن تيمية الشهيرة بحق «النصيريين» (العلويين) ظهرت على هذه الأرضية، وفي خلفيتها ملابسات زمنها السياسية والعسكرية، وليس اعتبارات عقدية مجردة فقط.

وفي زماننا يصعب ضرب لبنان مثالاً على معالجة ناجحة لوضع المسيحيين في المشرق، أو لأية مشكلات أقليات، ومعلوم أنه تشكل بالضبط لهذا الغرض. وهذا لأن المقصد المؤسس للكيان اللبناني الحديث هو أن سبب مشكلة البعض فيه هو البعض الآخر، وتالياً استبطان اللاثقة بين مسيحييه ومسلميه. وما تكون اللاثقة أوله، هل يحتمل أن تكون الثقة والاحترام المتبادل منتهاه؟

والمثال اللبناني يظهر الافتراض الثاني المضمر في سياسة الأقليات: استدخال قوة أو قوى غربية كوسيط بين البعض والبعض في مجتمعاتنا، على نحو بلغ حالة نادرة من الصفاء في زمن متصرفية جبل لبنان حيث تعددت أبعاض لبنان بتعدد القوى الغربية الرقيقة القلب الباحثة عن لبنانيين تحميهم من لبنانيين آخرين. 

كان يفترض طبعا أن السلطنة هي حامية المسلمين السنيين. لكن السلطنة الواقعة بين مطرقة «الضواري» الأوربية وبين سندان حاجتها إلى إثبات أنها قوة دولية عصرية و«محترمة»، لم تكن قادرة على حماية أحد جدياً، وخصوصا في وجه الخطر المصيري: خطر الأوربيين المتمدنين. بالعكس، كانت نخبة السلطنة تستبطن عقيدة كل حكم استبدادي: أن عموم محكوميها عنيفون ومتوحشون، لكن سند هذه العقيدة كان يتغير عند قطاع من النخبة على الأقل باتجاه ركْز راية عنف المحكومين في دينهم أساسا (إنه الزمن الذهبي لرينان والعقلية السامية والتعصب وعلم الفراسة الخاص الإثنولوجي.. انعكاسات إيديولوجية متنوعة لحس التفوق الغربي). حين وقعت مذبحة 1860 في دمشق ضد مسيحيين محليين، وفي خلفيتها سياسة الأقليات الخاصة بالقوى الأوربية حينها، جرى تأديب أعيان دمشق وواليها نفسه بقسوة متناهية. وكان ظاهرا أن هذه القسوة ليست من باب تحقيق العدالة ومعاقبة الجناة، بل دفعا للحرج أمام الأوربيين ومحاولة لسحب ذريعة محتملة من أيديهم للتدخل.

وليس لكلام القوى الغربية وروسيا اليوم عن حماية الأقليات أو حقوق الأقليات إلا المؤدى نفسه: مشكلة بعض السوريين بعضُهم، وحل المشكلة يتطلب تدخل تلك القوى أو رعايتها. سنقول فيما بعد أن العكس بالضبط هو الصحيح.  

وما كانت الحالة السورية في عهد حافظ الأسد تختلف مبدئياً إلا في كون «المنتدب» لحماية الأقليات محلي. العلاقة بين الجماعات السورية، والتفكير فيها، هو بقدر كبير نتاج أوضاع صنعتها نسخة حافظ الأسد من سياسة الأقليات، واسمها تحالف الأقليات. ليست الأكثرية السنية المهدِّدة وحدها نتاج لهذه السياسة، بل والأقليات المهدَّدة أيضا. وهما معا نتاج تكوين سياسي عمره عقود، موجه نحو حكم شخصي يدوم «إلى الأبد»، ونحو الحيلولة دون ظهور متحدين داخليين لهذا الحكم. سياسة الأقليات أداة مهمة لحماية هذا التكوين وضمان «إعادة إنتاجه».

ولا يشكل انشغال بال القوى الغربية وروسيا بحمايتها غير استمرار للسياسة الأسدية نفسها، التي تستأنف بدورها سياسة الانتداب الفرنسي،التي صدرت عن المسلمات الفكرية والسياسية للمسألة الشرقية. وحده المنتدب يتغير.

انتداب أسدي!

أعني بالانتداب في هذا السياق التعامل «الاستعماري» مع المحكومين، ذلك المزيج من إكراه سياسي متطرف ومن تعالٍ طبقي وثقافي، والذي يحمل في عين نفسه «رسالة تحضيرية» أو عبئاً تقدمياً. «التقدمية»، وهي تحويل التقدم إلى إيديولوجية عبر نقل المفهوم من ميدان التأمل التاريخي إلى ميدان العمل السياسي والتبشير الإيديولوجي، أسست في كل مكان لحكم استعماري أو ما يقاربه. الاستعمار هو النموذج الأصلي للشمولية التي ظهرت في الاتحاد السوفييتي وألمانيا، وكلاهما مؤسسان على التاريخانية، وعلى شعور بالرسالة. في سورية كان في التقدمية البعثية عنصر طائفي حجبته لبعض الوقت وجزئيا فحسب الهامشية الاجتماعية والسياسية الفعلية للأقليات الإسلامية، العلويين بخاصة (وليس للمسيحيين بحال). بعد ذلك انقلبت التقدمية إلى إيديولوجية مؤسسة لانتداب شبه استعماري، يخفي نسخته الخاصة من سياسة الأقليات وراء عروبة كانت تعجز أكثر وأكثر عن إخفاء أي شيء. 

في سنوات بشار تحولت التقدمية والتعالي المبطن لها من نصاب الثورة والاشتراكية إلى نصاب الحداثة (التطوير والتحديث) والعلمانية، أو من التثوير إلى التنوير. أي أيضاً من نصاب السياسة إلى نصاب الثقافة. أكثر تقدميي الأمس ثقافويون اليوم، ورسالتهم هي التنوير، وبرنامجهم السياسي هو الاستبداد المستنير. بشار نفسه تكلم قبل الثورة بقليل على عقود إلى حين «ينضج»المجتمع السوري للإصلاح (هذه السخاء الزمني، قياس الزمن بالعقود الطوال والقرون، من لوازم لغة الثقافويين وتفكيرهم)، وبعد الثورة جعل من نظامه «قلعة للعلمانية»(حديث لقناة «روسيا اليوم»، 9/10/2012).

و«العلمانية»هي من أعمدة دعوى الثقافويين أيضاً. ولها خصائص «انتدابية» نافعة، تتصل مباشرة بموضوع هذه الدراسة، لكن لن أتوسع فيها هنا (تناولتها في مواد سابقة على الثورة…). 

الهدف في كل حال هو أن ينال الحكم الأسدي شرعيةً دولية تسوغ دوام انتدابه. وينبغي القول إنه ناجح بقدر ما في ذلك.

ربما يعرض سؤال هنا: أليس منتدب واحد، مثل فرنسا، أيام انتدابها في سورية ولبنان، ثم حافظ الأسد ووريثه في سورية، خير من منتدبين عدة مثل الدول الأوربية الست أيام متصرفية جبل لبنان، ومثل حال لبنان اليوم، والحال المحتمل لسورية بعد السقوط المأمول للنظام الأسدي؟ وربما يكون نظام المنتدب الواحد خطوة نحو زوال كل انتداب؟ لا يبدو لنا هذا صحيحا بحال. كلاهما، الانتداب الفرنسي والانتداب الأسدي، مارس سياسة الأقليات بهمة عالية، وكلاهما أسس لأوضاع سياسية واجتماعية يمتنع أن يتساوى تماهي السكان بها، أو أن يدافعوا عنها بالتكرس نفسه، وتالياً فتحا هما الاثنين الباب لتعدد الانتدابات. ولدى كليهما رسالة تمدين لـ«رعاع» أو «بدائيين»، لمتخلفين أو ظلاميين. ولا يمكن أن ينسب لأي من الانتدابين جهد جاد لبناء دولة ووطن وفق نموذج الدولة الأمة القائمة على المواطنة. فإذا نظرنا من وجهة نظر التحت الاجتماعي، لا من وجهة نظر الفوق السلطوي، فإن تعدد الانتدابات يوفر هوامش حركة أكبر للسكان دون ريب. 

كيف يمكن الجمع بين حرية السكان وتجاوز الشرط الانتدابي؟ كيف يقوم المجتمع على تدبير شؤون أفراده ومجموعاته لا على الأفكار العالية التي تشرع لفوق اجتماعي «يؤدب» المحكومين: يقسو في معاملتهم لخيرهم، لقيادتهم إلى التقدم أو إلى الأنوار أو الحضارة؟ وكيف نتخلص من الانتداب الأسدي دون الوقوع في انتداب إسلاموي يريد هدايتنا وتأديبنا بدوره؟ هذه كبرى مسائلنا السياسية اليوم. 

بعد عقود من سياسة «الانتداب»الأسدي، يبدو أن العلويين الذين ارتكز عليهم أساساً في عملية إعادة إنتاجه معرضون اليوم بالفعل لمخاطر مصيرية لم يتعرضوا إلى ما يشبهها من قريب أو بعيد في تاريخ الكيان السوري الحديث قبل نحو قرن، وربما منذ قرون. هل يمكن الفصل بين ذلك وبين 4 عقود أو نصف قرن من سياسة الأقليات؟ 

نعرف جواب سياسة الأقليات: هذا الخطر متولد عن طبيعة الأكثرية الثقافية وماهيتها! وهي إجابة تشترك فيها النخبة الأسدية مع نخبة الانتدابات الاستعمارية السابقة، ومع التيار الرئيس في النخب السياسية والإعلامية الغربية اليوم. 

وغير الأمثلة السابقة، قاد الحل الغربي للمسألة اليهودية إلى كارثة على الفلسطينيين وبلدان المشرق، لأنه منذ أن قامت إسرائيل كان الافتراض المؤسس لها أن مشكلتها هي المحيط العربي، ما يوجب إبقاؤه ضعيفاً مذلولاً. والسؤال هنا: إلى متى؟ مشكلتنا نحن أنه حتى لو رضينا بالهم الإسرائيلي، وقد رضي بعضنا، فإن الهم الإسرائيلي لا يرضى بنا، ولا حتى بالبعض الذي يرضى به. هنا القصة.  

وفي هذه التحولات المحققة أو المقدرة منطق لا يصعب إظهاره. الطرف الاجتماعي أو الثقافي الأكثر هشاشة، «الأقليات»، يدفع أكثر من غيره ثمن الصراعات التاريخية الكبيرة، التي يجري توريط الدين فيها. يدفع الطرف الأمنع، الأكثريات، ثمناً كبيراً أيضاً، لكن لأنها أكثريات يبقى تأثرها أقل.

في جميع هذه الحالات قاد التلاعب، الداخلي أو الخارجي، إلى تحسن وقتي في أوضاع أقليات، لكن إلى كوارث كبيرة على مدى أطول. الأقليات ولأنها أقليات، وليس الأكثريات، هي من يرجح أن تتأثر بالأزمات والانقلابات السياسية الكبيرة. علما أنه لم تتشكل أبدا أوضاع قابلة للاستدامة حول سياسة الأقليات. لا يستديم ما يغذي أصلا عوامل التمييز والخصومة والصراع. 

ولذلك فإن القوى الغربية تنصح نفسها جيداً، وتحسن إلى الأقليات في بلداننا، إذا هي كفت عن تداول هذه الورقة أو استخدامها للضغط على أية أطراف سياسية سورية. 

العجب والسبب

الغريب أن هذه الدعوة لم تواجه بردود تذكر، لا من جهة النظام الأسدي، ولا من أحد من الطيف السياسي السوري المتسع اليوم، ولا من المثقفين «العلمانيين» الذين قلما يقولون شيئا عن مشكلات الطائفية في غير سياق الترويج لحلها العلماني المفترض.

لكن من شأن معرفة السبب أن تبطل العجب. 

النظام لا يرد على هذا الكلام على حماية الأقليات وحقوق الأقليات لأنه يناسبه القول إن الأقليات مهددة، ومن الأكثرية (العربية المسلمة) السنية تحديدا. أثناء الثورة لم يعد النظام يهتم بإخفاء هذا العنصر من سياسته، بل صار يسوّقه علنا في الداخل والخارج. السند الدولي الأساسي لشرعية الانتداب الأسدي تقوم اليوم على هذا. 

أما المعارضون الأكثر تماهياً بالثورة فلا يهتمون بدورهم بالأمر. يكتفون بتحميل النظام المسؤولية عن أية صراعات قد تقع من جهة، ويميلون عموما إلى التكتم على مشكلات الأقليات كيلا تشوش على الصراع ضد الطغيان من جهة ثانية. 

ويشارك الإسلاميون أو أصحاب الاختصاص الإسلامي (يعرفون أنفسهم بالإسلام ويحتكرونه لأنفسهم) في الموقف ذاته، مع الإنكار التام لأن يكون لهم كتيار سياسي أو للإسلام كعقيدة دور في ذلك. 

ولا يجد معارضون آخرون واقفون في الوسط مصلحة لأنفسهم في الرد على هذا الخطاب لأنه يناسبهم، بالأحرى، إبراز الوجه الإسلامي للثورة والتحذير من خطره، ومحاولة استمداد وزن سياسي من تمثيل «الأقليات».

ولا ينشغل بالأمر «اختصاصيو العلمانية» من المثقفين لأن علمانيتهم معرّفة تكوينياً وحصراً بدلالة الدين (= الإسلام السني)، ويناسبهم كثيراً القول إن الأقليات الدينية معرضة للخطر من قبل الإسلاميين أو «الأصولية الإسلامية».

لكن هذه كلها اعتبارات سياسية ضيقة وانتهازية، لا يصح أن تمنع من الاعتراض القوي على كلام القوى الغربية على حماية الأقليات، وليس على روسيا الفظة وحدها. ولدينا في هذا كل الحجج القوية المقنعة. فعدا ما سبق ذكره من أنه كلما تدخلت القوى الغربية تدهور وضع الأقليات على المدى الأطول، فإن عقيدة حماية الأقليات لا تنفتح على مطالب المساواة والمواطنة، أو أية إيديولوجيات سياسية علمانية، بل تؤدي حصراً إلى المطالبة بأوضاع خاصة لها في النظام السياسي، أي إلى أوضاع ذمية مقلوبة، وربما إلى نظام محاصّة سياسية، ليس مثاله اللبناني مما يستحسن التمثل به.

ومن يدفع ثمن هذه الأوضاع الخاصة قد يكون الأكثرية الاجتماعية الثقافية ظرفياً، لكن يدفع ثمنها أساساً بلداننا التي يتعذر أن تتحول إلى أوطان حديثة، بينما هي مؤسسة أو يراد لها أن تتأسس على شك السكان ببعضهم، وعلى ثقتهم بقوى خارجية مختلفة، ليس في سوابقها التاريخية جميعا ما يسوّغ الثقة بها. تقلب هذه السياسة الواقع حين تجعل السوري خطراً على السوري، والروسي أو الفرنسي أو الأميركي صديقاً له. لا وطن يبنى على ذلك. وروسيا وفرنسا وأميركا ليست مبنية على ذلك.    

إن افتراض أن مجتمعاتنا بطبيعتها الثابتة التي لا تتغير مكونة من أبعاض يمتنع أن تختلط وتتمازج، وأن العلاقة بينها صراعية، ومحصلتها صفرية، وأن مكسب قوم هو حتماً خسارة لقوم آخرين، لا يؤسس لأوطان قابلة للحياة. أما أن يكسب الطرفان معاً ويخسران معاً، فهذا خارج أفق «سياسة الأقليات». خارجها بالقدر نفسه أن هذه الأطراف متغيرة، وأن تاريخنا مثل تواريخ غيرنا تاريخ اختلاط وتشكل تمايزات جديدة، وأكثريات وأقليات جديدة. وأن أجدى نهج لحماية أية أقليات والجميع هو الكفاح المشترك بين منحدرين من أصول مختلفة من أجل المساواة، وأسوأ نهج ممكن هو عزل الأقليات عن غيرها عبر سياسة الأقليات. 

ما يتأسس عبر هذه السياسة هو مجتمعات مفخخة، استدخلت الحرب في مؤسساتها وثقافتها وسيكولوجية أفرادها وجماعاتها. وهو ما يصادق عليه بالفعل تاريخ لبنان المعاصر، وتاريخ سورية في ظل النظام الأسدي.

هذا النهج هو ما تريد روسيا والقوى الغربية جعله مستقبلنا رسميا، دستوريا ومؤسسيا، بما من شأنه أن يبقي هذه القوى في موقع مرجعي بخصوص أية مشكلات أو توترات بين أية أقليات وأكثريات تعرض داخل مجتمعاتنا. 

خطابات فاشلة

وإلى الاعتبارات السياسية الضيقة المشار إليها فوق لا يتوفر بتصرف الفاعلين العامين السوريين خطابات ملائمة في شأن سياسة الأقليات، تجمع بين الإحاطة بالوقائع والسوابق التاريخية وبين مبادئ السياسة الوطنية وقيم العدالة. الخطابات المتاحة إما إنها غير صالحة لمقاربة المسألة، أو هي تستبطن مسلمات عقيدة حماية الأقليات ذاتها. 

الخطاب الوطني التقليدي غير صالح لأنه يتكتم على الوقائع المعنية ويكبتها باسم عقيدة الوحدة الوطنية. وقد يشتبه في مقاصد استعمارية وراء الكلام على هذه القضية، لكن هذا لا يدفعه نحو مواجهة المشكلة سياسياً وثقافياً. وسجله السوري بالذات مشين، ويجعل من الخطاب الوطني شاهد زور على التلاعب الطائفي والطغيان. 

الخطاب الإسلامي متمركز إيجابًا حول الإسلام والمسلمين (السنيين، في سورية)، وهو ما يتظاهر في المبدأ السياسي الذي يتبناه الإسلاميون السوريون في هذا الشأن: لهم ما لنا وعليهم ما علينا، هذا حين لا يتكتم خطابهم على المشكلة لأسباب تجمع بين الوطنية التقليدية وبين عنجهية الأكثرية.

والخطاب العلماني الرائج متمركز سلبيا وحصرا حول الإسلام والإسلاميين، ويصدر عن مقدمات عقيدة حماية الأقليات، وهو ما يضعه في موقع ضائع بين تجاهل هذه العقيدة وبين التواطؤ معها. 

أما خطاب حقوق الإنسان فهو ضعيف في مجالي التاريخ والسياسة، ومقدماته الليبرالية الغربية تجعله غير قادر على قول شيء في هذا الشأن، هذا حين لا يكون أقرب إلى التسليم بهذه العقيدة.

وحيث هناك خطاب شيوعي في هذا الشأن فهو أمْيل إلى اعتبار مشكلة الأقليات مظهراً مشوهاً للصراع الطبقي، أو نتيجة تلاعب من قبل القوى الامبريالية. فينتهي إلى التكتم على المشكلة أو إلى رفد الخطاب الوطني التقليدي في شأنها.

لكن هناك مشكلة أقليات… 

والحال أن لدينا مشكلات أقليات فعلاً، تتظاهر في شعور بالقلق وعدم الأمان حيال الأكثرية الدينية أو الإثنية أو المذهبية، وفي خشيتها من أن تعامل باستخفاف وتفضُّل، أو تهمش سياسياً أو ثقافياً، أو يعامل المنتسبون إليها كمواطنين من الدرجة الثانية. 

وهذا لا يعود حصرا إلى أوضاع امتيازية يتمتع بها منحدرون من أقليات، وإن كان قدراً لا بأس به منه يعود إلى هذه الأوضاع.

الإسلاميون، وهم تيار نافذ في أوساط المسلمين السنيين، ليسوا ممن يُطمأن إليهم بخصوص معالجة هذه المخاوف. بعضهم مُتفضِّل في أحسن الأحوال (الإخوان)، وبعضهم عدائي (السلفيين والسلفيين الجهاديين). وهو ما يوجب من حيث المبدأ وضع مواجهة سياسة الأقليات في سياق يشمل مواجهة هذا الضرب من سياسة الأكثرية. بالعكس، من شأن سياسة الأكثرية هذه أن تضفي بمفعول راجع شرعية كاملة على سياسة الأقليات، وتُزكّي إقامة النظام العام على التحاصّ الطائفي. 

وواضح اليوم أن صعود السلفية الجهادية في سورية، وطائفيتها المبدئية، يمنح صدقية للخطاب الأسدي ما كان يملكها، وكذلك لخطاب القوى الغربية وروسيا، والإيديولوجيين المحليين الذين يشاركون هذه القوى مقدمات تفكيرها.    

وأسوأ الردود على خطاب حماية الأقليات، وعلى سياسة الأقليات ككل، هو إنكار المشكلة أو النفي السلبي لوجودها، أو تحكيم اعتبارات اللياقة السياسية فيما هي واحدة من أخطر مشكلاتنا الوطنية. إنكار المحسوس هذا نقطة قوة لأية قوى داخلية أو خارجية تريد التلاعب بالمشكلة، وليس نقطة قوة لنا، الوطنيين الديمقراطيين والعلمانيين. 

ما يمكن أن يكون نقطة قوة لنا هو الانطلاق من الاعتراف بوجود مشكلة إلى معالجتها داخليا، ومنع أية أطراف خارجية من التدخل فيها، وتجريم أية أطراف داخلية تتلاعب بها.

وبعد الاعتراف الحاسم بالمشكلة، وتحرير التفكير والبحث في شأنها، والعمل على توفير عناصر تاريخية واجتماعية وفكرية للنظر فيها، يمكن أن نتساءل: إلى أي مدى هذه المشكلات مستقلة عن مناخات سياسية وفكرية غذتها وعملت على دوامها في بضع العقود الماضية نخب وإيديولوجيات وثقافة قائمة؟ وما العمل من أجل تجاوز هذه الأوضاع، وعدم مواجهة سياسة الأقليات بسياسة أكثرية؟ أعني تعظيم وزن الأكثرية الثقافية ودورها، ومحاولة جعلها إلى عصبية حكم، واعتبار أن الأقليات شيء ثانوي ومكمل، مجرد قِلّات صغيرة، لا مشكلة كبيرة في تهميشها؟ 

الواقع أن هناك ميلا ملحوظا لدى ناشطين سنيين سوريين اليوم إلى اعتبار الأكثرية المفترضة كل شيء، مع تعريف الأكثرية ذاتها باعتقاد إسلامي سني قويم، واعتبار الأقليات «كمالة عدد»، شيء مضاف. 

هذا خطر بقدر ما يمكن لأية سياسة أقليات أن تكون خطرة. 

وسياسة الأكثرية هذه احتمال وارد بالنظر إلى أن لدينا اليوم في سورية اليوم مشكلة أكثرية، يلتقي فيها اغتراب سياسي باستلاب ثقافي وشعور عميق ومتعدد الطبقات بالاضطهاد والنقص، من نوع ما تشعر به عادة الأقليات. 

شروط اليوم تكمن في خلفية ما يشعر به ناشطون «سنيون» من سخط حيال عقيدة حماية الأقليات. فهم يجدون بيئاتهم منكشفة بلا حماية، ومعرضة لعدوان وحشي من قبل النظام الأسدي من جهة، مع إعطاء الانطباع بأنهم هم متوحشون، وسيفتكون بالأقليات ما إن يرفع عنهم سيف الطغيان من جهة ثانية، ومع فصل ذلك كله عن نحو نصف قرن من أشكال تلاعب متنوعة بالمجتمع السوري الذي لم يبلغ عمر كيانه السياسي الحديث قرنا واحدا.

ويمكن أن يجري «تأصيل» سياسة الأكثرية بربطها مع أصول عقدية وتاريخية عريقة في الفكر الإسلامي، وبخاصة في مفهوم «أهل الذمة» الذي أدرج مجموعات غير مسلمة في «السلم الإسلامي»، أو في «دار الإسلام»، لكنه خفض من مرتبتها لتكون أدنى من المسلمين. وبقدر ما يستعيد الإسلاميون المعاصرون خلاصات التاريخ الإسلامي، ويمزجون بين هذه الخلاصات التي يطلقون عليها اسم «الشريعة» وبين مواجهة «سياسة الأقليات» بـ«سياسة الأكثرية»، فإنهم يثيرون مخاوف مفهومة لدى أية أقليات إسلامية أو غير إسلامية، وكذلك لدى مسلمين سنيين كثيرين غير نمطيين.

أسلمة المسلمين

وإذا كانت مشكلة الأقليات من أخطر ثمار سياسة الأكثرية السنية المحتملة، فإن أولى هذه الثمار هي تهميش السني اللانمطي، عبر افتراض أن السني النمطي أو القويم هو مسلم مؤمن متدين محافظ اجتماعيا وإسلامي سياسياً، قريب من الإخوان أو السلفيين… في واقع الأمر لا يشكل هذا السني النمطي المزعوم غير أقلية في المجموع السني السوري (وغير السوري). لا نستطيع تقدير النسبة، وهي متغيرة تاريخياً بين صعود وهبوط، لكن النظر إلى تنوع بيئات الإسلام السني السوري يسوغ بقدر كاف التشكك في أن يكون السنيون النمطيون غير طائفة من الطوائف السورية، أقلية ضمن السنيين، وأقلية أكثر ضمن عموم السوريين. 

من المهم قول ذلك لأنه يمكن لمدرك «الأكثرية السنية»، إن استخدم دون تحفظ، أن ينطوي على برنامج سياسي لفرض التجانس على السنيين السوريين وتطييفهم، وربما تحزيبهم إخوانياً أو سلفياً، في سياق تسويغ أحقيتهم، بما هم كذلك، بالسلطة العمومية.

ونعتقد أن سياسة أسلمة المسلمين هذه، أو بالأحرى تسنين السنيين، متهافتة بقدر ما هي سياسة تعريب العرب البعثية. وأنه إذا آلت سياسة تعريب العرب إلى تدمير العروبة سياسيا ومعنويا، فإن سياسة أسلمة المسلمين لن تقوّض فقط الجامع الإسلامي العام الذي يفترض أن يشمل الشيعة والعلويين والاسماعيليين والدروز، وإنما كذلك الإطار السني الضعيف التجانس أصلاً، وذلك لمصلحة «طوائف» الإخوان والسلفيين والسلفيين الجهاديين وما شابه.  

ولا نتكلم على هذه الطوائف من باب المجاز، بل لأننا حيال مجتمعات ثقافية ضيقة، ميالة إلى الانغلاق علي نفسها، لديها شعور حاد بالاضطهاد (هذه نقطة تفوت عموم المراقبين)، وشعور موازٍ بالتفوق والتميز، تلك البارانويا التي هي الحالة الطبيعية للطوائف. 

التمييز بين هذه “الطوائف” الإسلامية وبين عموم المسلمين، وعموم المسلمين السنيين، يبدو بديهياً لكنه يفوت كثيرين، في الوسط السني ذاته، كما في خارجه. 

يخطئ في الأمر ملاحظون من خارج البيئات السنية يظنون أن لدى السنيين سوسيولوجيا استعداد خاص للتحول إلى إسلاميين، أو أن هناك قضية مشتركة بين الإسلاميين وعموم السنيين. هذا غير صحيح. 

ويعتقد عموم الإسلاميين أن الوسط السني هو قاعدتهم الطبيعية المضمونة أو تكاد. وهذا بفعل نظرتهم الطائفية إلى العالم، وهي نظرة تستبعد من الأساس اللامؤمنين واللامبالين. في واقع الأمر، الإسلاميون طائفة أو طوائف، ميثاق توحد كل منها هو تأويل ما للإسلام، متشكل بأدوات عصرنا وبفعل إكراهاته وضغوطه السياسية والاجتماعية والنفسية والمعرفية، تأويل ليس أكثر شرعية من أية تأويلات أخرى للمتون الإسلامية، تشكلت قبل ألف من السنين. 

وما نريده أن سياسة الإسلاميين تندرج ضمن «سياسة الأقليات” التي نتكلم عليها، أكثر مما ضمن أية سياسة أكثرية. ليس هناك سياسة أكثرية ممكنة على أساس سني أو إسلامي. وهي ما يعني، بعبارة أخرى، فإن «الدولة الإسلامية» ليست قطيعة مع النظام الطائفي، بل هي مجرد صيغة أخرى له.   

سياسة الأكثرية هي الديمقراطية.

حكم القلة ومشكلة الأقليات  

ليس صحيحاً بحال أن سبب مشكلات الأقليات متأصل في تكوين الأكثريات التي أعطانا إياها الماضي. وبالقدر نفسه ليس صحيحاً أن سبب مشكلات الأكثريات متأصل في تكوين الأقليات التي أورثنا إياها الماضي. أورثنا الماضي مصاعب متنوعة، لكن هذا ما يفعله الماضي دوماً. المشكلة ليست هنا بقدر ما إنه ليس هناك مجتمعات بلا ماض. المشكلة في نوعية الترتيبات السياسية والمؤسسية والقانونية التي يقوم عليها نظامنا العام اليوم، والتي قد يستفيد القائمون عليها من التمايزات الموروثة والتلاعب بها كي يثبتوا سلطتهم وامتيازاتهم. وهي (التمايزات) التي يمكن أن تتشكل في صورة مغايرة، بحيث يجري الحد من احتمالات تسييسها والتلاعب بها. 

وفي تاريخنا السوري بالذات سارت البلاد منذ بدء تشكلها في نهاية الحرب العالمية الأولى إلى الانقلاب البعثي عام 1963في مسار عام يخفض بقدر ما من القيمة السياسية لهذه التمايزات. في عام 1949 ألغيت الأنصبة الطائفية الثابتة للمذاهب الإسلامية في البرلمان (حوفظ على النصيب المسيحي، وألغي النصيب اليهودي)، دون أن يثير ذلك مشكلات عامة فيما يبدو. أكثر من أنه اعتبر الجميع مسلمون، يبدو أنهم اعتبروا جميعا عرب. ولعله لم يستثن المسيحيون من ذلك إلا بغرض المزيد من طمأنتهم (كانت سورية مستقلة منذ 3 سنوات فحسب، وكان الانتداب الفرنسي يسوغ نفسه بحماية الأقليات، والمسيحيين بخاصة). 

لا يعني ذلك أن هذه التطورات مرت دون مقاومة من جهة تيارات اجتماعية وسياسية محافظة، لكنه يعني أن محصلة القوى الاجتماعية كانت لمصلحة تقدم أكبر باتجاه المساواة والمواطنة.

ونميل اليوم إلى أن مشكلات الأقليات هي إحدى وجوه مشكلة وطنية أكبر، تتمثل في افتقارنا إلى أية أكثرية متحركة معاصرة، وائتسار الجميع، الكثيرين والقليلين، في صور محددة لهم، ساكنة ومفتوحة فقط على الماضي. الترتيبات السياسية القائمة ليست مما لا يتيح لنا تجاوز هذا الوضع فقط، وإنما هي عنصر حاسم في تثبيته. 

وليس هذا للقول إنه لا مشكلة إطلاقا في ثقافتنا الموروثة في هذا الشأن. أشرنا إلى جانب منها فوق. لكن من وجهة النظر التاريخية لا نرى أن ثقافتنا الموروثة تطرح مشكلة غير قابلة للحل. ليست الثقافة طبيعة، وهي لا تكف عن التغير في اتجاهات مختلفة. 

هناك مشكلة حين نفترض أنه من ثقافتنا الموروثة نستمد حلولا لمشكلاتنا اليوم، على ما يفضل أن يعتقد الإسلاميون. 

مخطئون. فلا حل في الماضي لمشكلات الحاضر. 

لكن الإسلاميين بالذات نتاج أزمتنا التاريخية المعاصرة: تعثر قيام الأمة، بما فيها الدولة الحديثة القادرة على الحرب والسياسة، وليسوا نتاجاً حصرياً لثقافتنا الموروثة، وإن قامت إيديولوجيتهم على ذلك. بعبارة أخرى، الإسلاميون أحد أوجه أزمة من مظاهرها الأخرى الطائفية (هم ذاتهم «طائفة»، كما قلنا سابقا)، ومشكلات الأقليات عموماً. وبالتالي، فإنه لا تلزم معالجة خاصة لمشكلة الإسلاميين مغايرة لمعالجة مشكلات الطائفية والأقليات، أو شارطة لها أو سابقة عليها. إنها وجوه مختلفة للتجميد القسري للديناميات الاجتماعية والسياسية والثقافية، وليست سبب هذا التجميد. يقدم الإسلاميون الماضي حلا لمشكلات مجتمعات سدت آفاقها التاريخية فعلا بفعل الطغيان، أي منعت من المستقبل وبقي درب الماضي وحده مفتوحا. الميزة العظيمة لثوراتنا الحالية ليس أنها تعالج مشكلاتنا الموروثة وتحلها، بل في أنها تكسر حالة الانسداد وتزجنا في مواجهة تحديات حياتنا المعاصرة دون ضمانات. 

المبدأ العملي الأساسي الذي نراه منطلقا صالحا هو أن قابلية حل المشكلات أكبر بقدر ما ينشط في المجال العام الكثير من الناس. كلما كان العدد أكبر، أيا تكن الأصول، كانت فرصتنا أكبر لتجاوز الأكثريات والأقليات القديمة. الكثرة تحرض على الاختلاط والتنوع وتشجع مزيدا من توسيع المجال العام. وكلما كان عدد المنخرطين في النشاط العام أكثر كان الاحتمال أكبر في أن يكون بينهم عدد أكبر من خارج الوسط النخبوي، وكانت فرص «الفوضى» و«الاختلاط» واللاطائفية أكبر. بالمقابل، كلما قل العدد، بفعل إغلاق النظام السياسي، كان مرجحاً أن تتفعل التمايزات القديمة وتكتسب قيمة سياسية وعامة. حتى لو لم تقم الأوليغارشية القائمة بهذا التفعيل كي تُفرِّق، فتضعِف، سكاناً تستأثر بحكمهم، فإن فرص الصعود الاجتماعي والسياسي في نظام ضيق تقترن بتنشيط تلك التمايزات واستمداد وزن منها تقربا من مراتب الحكم العليا، الضيقة بدورها. أيضا، كلما كان العدد أقل كان مؤكدا أن يشغله «المحدّدون» أو المتمايزون، أو واضحو الهوية كثيرا، وأن يطور النظام غريزة مقاومة للاختلاط والتهجين و«الخلاسية». غريزة طائفية.

وتالياً فإن فتح النظام السياسي، بحيث يدخله كثيرون، «الشعب»، هو المدخل الأول لتجاوز مشكلات الأقليات. فتح النظام السياسي لا يضمن وحده لفتح آفاقنا التاريخية، وتجاوز سياسة الأقليات (بصيغها غير السنية والسنية)، لكن دون فتحه لا يمكن لأي أفق أن ينفتح.

والمقصد أن المشكلة تذوب بقدر طيب في التقابل بين ديمقراطية وأوليغارشية أو طغيان. 

موضوعتنا الرئيسية في هذا الشأن هي أنه في مجتمع متعدد ثقافيا كمجتمعنا السوري، لا يؤدي الطغيان (حكم الفرد بمقتضى الهوى)، ولا الأوليغارشية (حكم القلة ضمانا لامتيازاتها)، إلا إلى تغذية الطائفية في المجتمع والدولة معاً، وإلى انسداد الأفق التاريخي للمجتمع المعني، وإبقاء دربي الماضي والخارج وحدهما مفتوحين. 

المشكلة ليست في أية أقليات، بل في حكم القلة، أو أصغر القلات: حكم الفرد. وتالياً فإن حكم الكثرة هو المدخل إلى الحل، وهو ما من شأنه أن يتيح كسر التطابق بين الكثرة وبين الأكثرية الثقافية. 

المشكلة أيضا ليست مشكلة أصول وهويات، بل مشكلة حرية وعدالة. 

مشكلتنا مع الانتداب الأسدي ليس المنبت العلوي لحافظ وسلالته، بل الطغيان كفصل نوعي لحكمهم. والطغيان طغيان، أيا يكن على رأس النظام، علوياً أو سنياً، مسلماً أم مسيحياً.    

نظام اللاثقة العامة

الافتراض الخاص بنوعية الترتيبات السياسية والمؤسسية والقانونية القائمة، وتأثيرها في صنع مشكلات الأقليات والأكثريات، وليس بالماهية الثقافية للأكثريات والأقليات، هو المسلّمة العملية (ونحن نتكلم في شأن عملي) التي نرى أن ينطلق منها تفكيرنا السياسي والاجتماعي من أجل بناء النظام العام بصورة استيعابية. أي على نحو يوحد جهود منحدرين من الأقليات والأكثريات معاً لصنع مستقبل مشترك، بدل تبادل اللوم واللاثقة. 

وهو المسلمة التي يبدو لنا أن مجتمعات الغرب بالذات مبنية عليها، ولا تسمح لأي خارجيين التدخل في هذا الشأن الحساس من شؤونها. أما المداومة على لوم الماضي كما يفضل بعضنا، أو لوم الخارج كما يفضل بعض آخر منا، أو التفرغ للوم بعضنا كما يفضل جميعنا تقريبا، فهو تنصل من الواجب، لن يؤدي إلى معالجة أي من مشكلاتنا. سياسة اللوم ازدهرت في عامي الثورة المنقضيين، وهي تؤشر على مستوى متدني من الثقة بين السوريين.

وخلافا للانطباع الشائع، ليست الطائفية هي الأصل في عدم الثقة. العكس هو الصحيح. ضعف الثقة العامة، وفي أساسها ضعف الثقة بالنظام السياسي، والاغتراب العام أو تراجع التحكّم العام بشروط الحياة، هو ما يرسو على الطوائف كأطر ثقة داخلية أو تضامن داخلي، تعود على الأفراد بقدر من الأمان

الطوائف نتاج اللاثقة العامة، وليس العكس. 

لدينا مشكلة أقليات متفجرة اليوم في سورية بالضبط لأن هناك مستوى مقلقا من اللاثقة بين السوريين المنحدرين من منابت مختلفة، ولأن الجميع يعلمون أن الوضع الحالي غير قابل للاستدامة (أي انعدام الثقة بالحاضر)، وأن أحدا لا يعلم ماذا سيحدث للجميع بعد طي الصفحة الأسدية من تاريخ سورية (خشية من المستقبل).

سياسة تحالف الأقليات الأسدية لم تعالج أية مشكلة خاصة بالأقليات، بل أضافت إليها مشكلة أكثريات كما قلنا. ونحن اليوم في مواجهة الحصاد المر لهذه السياسة.

من شأن الطرح الحالي للمشكلة، الغربي والمحلي، وهو قائم على تغذية اللاثقة والخوف بين الجميع، أن يحولها إلى صراع داخل مجتمعاتنا بين أقليات وأكثريات تكونت في الماضي، بدل صراعها المشترك من أجل نظم سياسية وقانونية قائمة على المساواة في الحاضر. فإذا كانت الأكثريات سبب مشكلات الأقليات، فإن التشدد في التعامل مع الأكثريات هو الشيء الصحيح، وهو ما يبدو أن النظام الأسدي مبني عليه، وما تفضله نخب من الأقليات ذاتها. والسند الثقافي لهذه السياسة هو الكلام الذي نعرفه جيدا في سورية عن أصولية وظلامية، ثم، بعد الثورة، عن وهابيين وعراعير وتكفيريين… وعن «علمانية» طبعاً. وإذا كانت الأقليات هي سبب متاعب الأكثريات، كان الحل الصحيح هو «سياسة الأكثرية»، أي تحجيم الأقليات والتعامل معها كضيوف ثقلاء، وهو حل لا يبدو بعيداً عن تصور منحدرين من الأكثرية السنية اليوم.

ولا يبعد أن يكون السند الثقافي لهذه السياسة هو ضرب من الوطنية المتشددة المعادية للغرب ثقافيا وسياسيا، المشتبهة بمؤامرات ضد ثقافة «الأمة» وأخلاقها، والمناهضة لـ«التغريب» و«الغزو الثقافي». 

لكن هذا وذاك يعنيان صراعاً بلا نهاية، قد يفتر بين حين وآخر، إلا أنه يبقى محتدما داخل النفوس والأذهان دوماً، وكل فتور فيه هو هدنة بين جولتين من الصراع. أليس هذا هو الحل الأسدي لمشكلة الأقليات في سورية؟ الحل الذي ولد مشكلة أكثرية محتدمة، ولم يفتح الباب إلا لحرب مستمرة، نرى اليوم جولة بالغة القسوة منها، متصلة بصورة وثيقة جدا بمسـألة الأقليات والأكثريات، وبحصاد خمسين عاما من التلاعب قصير النظر بها. 

مشكلة الأمة 

سبقت الإشارة إلى افتراض جوهري في القلق الغربي والروسي على وضع الأقليات السورية، أعني تطابق «الأكثرية السياسية»، أي الحاكمة، مع الأكثرية الثقافية في المجتمع، بحيث تكون الأقليات الثقافية ما بين مهمشة ومضطهدة سياسياً. هذا الافتراض غير محقق في سورية. يمكن المجادلة في ما إذا كان هناك أية أكثرية سياسية في الحكم أصلاً (يفترض شكليا أنها الأكثرية العربية)، وما إذا كان هناك تطابق بين الحكم وأية أقلية (العلويين، على ما يوصف النظام في الغرب عادة)، لكن بالتأكيد لدينا مشكلة أكثرية في سورية الأسد بقدر ما لدينا مشكلة أقليات، وهي متصلة بالضبط بهذا الشأن.

المظهر الأبرز لمشكلة الأكثرية هذه يتمثل في احتقان سني وشعور عميق بالتهميش، يبلغ عند مناضلين إسلاميين درجة الكلام على مؤامرة غربية علمانية أقلوية تستهدف السنيين، أو «الإسلام». 

لكن في الأساس تتمثل مشكلة الأكثرية في اختلالات عملية تشكل الأمة في عالم تشكل الدولة/ الأمة الوحدة المعيارية فيه. 

لذلك لا حل أكثرياً (بالمعنى «الثقافي» للكلمة) لمشكلة الأقليات، ولا لمشكلة الأكثرية ذاتها. وبكلام واضح: لا حل إسلاميا، ولا حل سنيا، ليس لمشكلة الأقليات فقط، وإنما لمشكلة الأكثرية أيضا. الحل «الإسلامي» يزيل احتقاناً سنياً وقتياً، لكنه لا يؤسس لتشكل أكثرية جديدة تصلح قاعدة لأمة المواطنين. 

بل إن السنيين في سورية وغيرها (والشيعة في العراق والبحرين) ليسوا حلاً، ولا يمتلكون حلاً، ولا أسس حل، لمشكلة الأقليات أو لمشكلة الأكثرية. على أساس ديني أو مذهبي أو إثني، ليس هناك إلا أقليات، ولو كانت تشكل إحصائياً تشكل 90% من السكان. غاية ما هناك على هذا الأساس طوائف، «أنواع» اجتماعية، أو «أصناف»، لا قيمة للفوارق الكمية بينها. الاجتماع السياسي الحديث اجتماع كمي، إن جاز التعبير، تتمايز فيه أكثرية وأقلية، خلافا للاجتماع السياسي التقليدي، وهو نوعي، وقائم على أنواع اجتماعية، بعضها «شريف» وبعضها «خسيس»، بعضها نبيل وبعضها عامي أو مبتذل، بعضها «براهمي» وبعضها «منبوذون». نموذج الإسلاميين و«العلمانيين» الشائعين، هو نموذج «نوعي» وليس كمياً، أرستقراطي وليس ديمقراطياً. «أزرق» خاص، وليس «أحمر» عام.

مشكلتا الأكثريات والأقليات مترابطتان في سورية، وهما معا نتاج نقص تشكل الأمة، أي الشعب، وقد لعب الطغيان وسياسة الأقليات دورا مهما فيه (وليس لسياسة الأكثرية بالمعنى «الثقافي»، أي الديني أو المذهبي أن تخرجها منه). 

وإنما لذلك كانت الأقليات قلقة طوال سنوات الحكم الأسدي، رغم أن نسباً منها أعلى من المعدل الوطني تشغل سياسياً ومعنوياً، ومادياً، مواقع أعلى من المتوسط الوطني. وهذا مع شعور منتشر بين السنيين بالتمييز والتوتر. فلا هؤلاء كانوا مرتاحين، ولا أولئك كانوا آمنين، هذا بينما كان هؤلاء وأولئك يزدادون تمايزاً، وتتراجع المشتركات الوطنية في وعي أكثرهم وفي تعريفهم لأنفسهم. 

يفاقم من المشكلة أيضاً أن لدينا نقاش غائب في هذه الشؤون في سورية، بتأثير متآزر من التحريم السياسي الذي يحيط بها من جهة، وعدم ملاءمة الخطابات المتوفرة من جهة ثانية، والتواطؤ مع أوضاع امتيازية من جهة ثالثة. 

هل يمكن معالجة مشكلة عامة لا تناقش ولا يجري التفكير فيها؟

أكثرية ثقافية/ أكثرية سياسية

بغرض تنظيم التفكير في هذا الشأن، واستناداً إلى معطيات التاريخ المعاصر، السورية والإقليمية والعالمية، يمكن أن نميز بين أربعة أشكال ممكنة للعلاقة بين الأكثرية السياسية (التي في الحكم) والأكثرية الثقافية (التي في المجتمع).

1- أن تكون الأكثرية الثقافية هي الأكثرية السياسية، بمعنى أن النخبة السياسية المقررة تنحدر من الأكثرية الثقافية. 

2- أن تكون الأكثرية السياسية من أقلية أو أقليات ثقافية.

3- أن تتشكل الأكثرية السياسية بالتشارك بين منحدرين من الأكثرية ومن الأقليات بصفتهم هذه، وفقا لنسبهم الديمغرافية أو وفق قاعدة متفاهم عليها.

4- أن تتمايز الأكثريات والأقليات السياسية عن الأكثريات والأقليات الثقافية، فتكون الأولى متغيرة وفقا لنظام محدد، مع بقاء الثانية ثابتة أو أبطأ تغيراً، ومع تحييد الأثر السياسي للتمايزات الثقافية. المنهج «الكمي” المعتمد لهذا الغرض هو صندوق الاقتراع.  

النموذج الأول، ولنسمّه نظام الأكثرية، يتسبب بمشكلة أقليات، تتمثل في شعور بالاغتراب والهامشية، أو المواطنة من الدرجة الثانية. لا يغير من الأمر شيئا أن تستعين النخبة الحاكمة بمنحدرين من أقليات لإعطاء مظهر وطني عام. العبرة في مواقع القرار والسلطة الحقيقية.

الأنسب في واقع الأمر أن نتكلم على نظام «النوع الأرفع»، بدل العدد الأكبر، أو «الأكثرية»، على «أشرف الأديان» (الإسلام طبعاً) بدل أوضعها، وعلى «البراهما» مقابل «المنبوذين»… ولكن أيضا على الأوربيين المسيحيين البيض مقابل المهاجرين الملونين والمسلمين. يقول عبدالله العروي إن نظام الذمة مطبق اليوم في الغرب الأروبي، الديمقراطي الليبرالي، ذي الأصول اليهودية المسيحية، وأن أهل الذمة في أوروبا هم… المسلمون. 

الواقع أن مشكلة الأقليات أو المشكلة الطائفية في بلداننا هي نتاج التحول غير المكتمل أو المجهض بين الاجتماع النوعي أو المراتبي، وبين الاجتماع الكمي والبرجوازي والديمقراطي والحديث.

النموذج الثاني، نسميه نظام الأقلية، يتسبب بمشكلة أكثرية دون أن يحل مشكلة أية أقليات، وهو الوضع الذي ورثناه من النظام الأسدي.

معروف أن هناك نقاشاً متوتراً وغير ذي محصول في شأن ما إذا كان النظام الأسدي من هذا الصنف. لا جدال في ذلك في رأيي. «الدولة الباطنة»، موطن السلطة الحقيقية، عائلية وطائفية. الدولة الظاهرة سورية عامة، لكن ليس لها من أمر السلطة الفعلية شيء.

النموذج الثالث هو النظام المحاصّة الطائفية القائم في لبنان، وهو مصدر شلل للبلد، وتناوبه بين حرب أهلية باردة وأخرى ساخنة مع تغير الأوزان الديمغرافية أو السياسية للجماعات، أو مع تغير المعادلات والتوازنات الإقليمية والدولية.  

النموذج الرابع، الوطني، يميز مجتمعات تحقق فيها تاريخيا خفض القيمة السياسية للتمايزات الموروثة لمصلحة الرابطة الوطنية الجامعة، وظهور تمايزات سياسية وإيديولوجية مكتسبة ومتغيرة، واتساع ظاهرة «الخروج من الدين» (مارسيل غوشيه). هنا الأكثرية السياسية تتغير، ومعها الأقلية السياسية، فلا تولد شعورا بالغبن أو الاستبعاد لدى أية جماعات ثقافية. 

وهذا النموذج متفوق أخلاقياً وسياسياً على غيره، لكن لا يمكن إحداثه بمراسيم أو توجيهات فوقية. إنه نتاج تطور اجتماعي واقتصادي وسياسي وحقوقي أطول أمداً. 

لكن إذا تصورنا إنه جرى تجميد النظام السياسي في إنكلترا، وحكم ديفيد كاميرون البلد «إلى الأبد»، ثم ورث ابنه، فهل يمتنع أن تستعيد تمايزات موروثة قيمتها السياسية، وتتحول إلى أحزاب أو ما يشبهها. 

بالعكس، من شأن انفتاح النظام السياسي في بلداننا، وتوسع المشاركة السياسية ودوران النخب، أن يحول دون تطييف الحياة السياسية، ونحو تحلل الطوائف.  

ومن المناسب في كل حال أن نفكر ونعاود التفكير في نظام «أهل الذمة» الأوربي المعاصر، أقله من باب التدرب على التفكير المركب.

السؤال الذي يفرض نفسه في سياقنا الراهن هو: ما الذي يمكن عمله كيلا نتحول من «نظام الأقلية» إلى «نظام الأكثرية»، دون السقوط في نظام «المحاصّة»، ومع التوجه نحو نظام وطني وديمقراطي؟ نتصور أن الطريق متعرج، لكن كلما اتسعت دائرة المشاركين في الحياة العامة، ولو من ضمن الروابط الموروثة، كان هذا أنسب لتطور وطني معافى. دخول الكثيرين المعترك السياسي هو أول الحل.  

الكثيرون هم «الشعب».

ونرى أن الأولوية في كل حين ينبغي أن تكون لأوضاع سياسية وعامة أكثر عدالة وإنصافاً. أما النماذج، ومنها الأربعة التي ذكرنا، فهي أدوات مجردة تساعدنا في تنظيم تفكيرنا، ولا يصح تحكيمها دوغمائياً وفي كل حال في الأوضاع العيانية. 

حكم الأقلية

ما يخشى منه فعلا على أية أقليات، وعلى الجميع، وما يتعين أن تهتم به أية قوى يشغل بالها وضع الأقليات في بلداننا، هو بالضبط حكم الأقلية، أيا كانت الخلفيات الاجتماعية الثقافية التي يستند إليها هذا الحكم، «أكثرية» كانت أم «أقلية». الإسلاميون تيار أقلي في مجتمعاتنا ذات الأكثريات الإسلامية الكبيرة جدا. وكما سبق القول، هم «طائفة» لا يفوق حجمها حجم طوائف أخرى في سورية. إذا كان النظام الأسدي قد استند في ركائزه الأمنية والعسكرية إلى «العصبية» العلوية أساساً فلأن العلويين أكبر الطوائف في سورية. ولعلهم كانوا، حتى قبل الثورة، أكبر من «طائفة» الإسلاميين كلها. 

أما السنيون السوريون فلا يشكلون طائفة لأسباب تاريخية وجغرافية واجتماعية متنوعة، لا يصعب تبينها (أحيل في هذا الشأن إلى مقالتي: جماعة ما تبقى: السنيون السوريون والسياسة). 

وفي كل الحالات، المضمون الاجتماعي لحكم الأقلية هو حكم القلة، أي الأوليغارشية.

وما يمكن أن يكون خطراً على الأقليات غير السنية ليس حكم الأكثرية السنية المحتمل، على ما استطاع وزير الخارجية الروسي القول (21 آذار 2012)، بل هو حكم الطائفة السنية الصغيرة، المعروفة بالإسلاميين. من المحتمل أن هذه الطائفة أوسع قاعدة اليوم في شروط الثورة، لكنها لا تطابق بحال عموم السنيين، ونتشكك في أن تعادل ثلثهم في أي وقت. لكن يمكن لهذه الطائفة أن تكون خطيرة، وعلى عموم السنيين قبل الجميع، لأنها تعتبرهم «شعبها» الأوْلى بالمجانسة والتنميط، وما قد يقتضيانه من قمع ومراقبة.

والقصد أن ما هو خطر على الأقليات هو ذاته ما هو خطر على الأكثريات، وهو ما يحول أصلا دون ظهور أية أكثريات. 

أعني الحكم الطائفي. 

وتاليا فإن ما يحمي الأقليات هو ذاته ما يحمي الأكثريات، وهو «حكم الشعب»، أعني توسيع القاعدة الاجتماعية النشطة للحكم لتشكل أكثرية السكان. 

السنية السياسية

هل من المحتمل أن تتطابق الأكثرية السياسية التي في الحكم مع الأكثرية الثقافية في سورية بعد الثورة، وفقا للنموذج الأول المشار إليه فوق؟ لم يكن الأمر محتوما في تاريخ البلد في أي يوم، وهو ليس محتوما اليوم أيضا. فليس للأكثرية العربية المسلمة السنية مركز ثقل جاذب أو عصبية تشدها إلى بعضها، وتدفعها إلى التصرف على نحو موحد أو متقارب سياسيا. وليس هناك فكرة قائدة تشد هذا الطيف القليل الكثافة إلى بعضه.

ومهما حاول المرء فإنه لا يتبين أثرا لأي ضرب من السنية السياسية الجامعة.

لكن السنية السياسية هي بالضبط مشروع الإسلاميين، والحكم السني هو بالضبط ما يتطلعون إليه (ربما يسمى الحكم الإسلامي أو تطبيق الشريعة…). ومن شأن هذا الحكم أن يثير مشكلة أقليات دون ريب، لكنها ستكون جانباً من مشكلة أوسع، يعاني منها عموم اللاإسلاميين في البيئة السنية، وتعاني منها سورية ككل. 

هل من صيغة لحكم الأكثرية السنية لا تكون إسلامية؟ لا نتصور ذلك. يمكن تصور حكم أكثري، يشغل فيه سنيو المنبت وزنا أكثريا ضمن الأكثرية السياسية القائمة، على نحو ما كان الحال في سورية ذاتها قبل الحكم البعثي، لكن يصعب وصف هذا بأنه حكم سني. 

بين استقلال سورية عام 1946 والانقلاب البعثي 1963، كان لدينا حكم وطني غير مستقر، لا يقوم على عصبيات موروثة، وإن لم يتجاوزها ويطو صفحتها تماما. وكان يفتقر إلى أكثرية سياسية داعمة، ولم يشكل السنيون، ولا أكثريتهم، قاعدته الاجتماعية المضمونة بحال. 

كانت العروبة، في صيغة أقل تصلبا وإطلاقا من الصيغة البعثية، هي إيديولوجية ذلك الحكم “الأكثري” الذي قام اجتماعياً على طبقة أعيان مدينيين، سنيين أساساً. كانت البعثية، عقيدة وحزبا وتنظيما اجتماعيا، أحد ممكنات التطور السوري، وليست شيئا سقط على رؤوسنا من السماء.  

واليوم، كما في ذلك الوقت قبل نصف قرن وأزيد، ليس في محله الكلام على «طغيان أكثرية”، على ما سبق مفكرون سوريون من دعاة «الاستبداد المستنير» إلى التحذير منه. ولا يبعد أنهم أساؤوا بقدر بالغ، ودال جداً، فهم الفكرة المقتبسة من مرجعيات تاريخية فكرية «برجوازية» و«مواطنية» و«ديمقراطية» (طوكفيل عن أميركا منتصف القرن 19، جون ستيورات ميل عن إنكلترا بعد ذلك بعقد، وبصورة ما نيتشه عن عصره). 

فإذا شئنا الاحتفاظ بسوء الفهم المميز لهؤلاء المفكرين، فإن الزمن الذي عرفت فيه سورية شيئاً قريبا من طغيان الأكثرية، هو الحكم البعثي، بخاصة نحو عقد أو عقد ونصف بعد الانقلاب البعثي الأول. كانت الأكثرية الطاغية في ذلك الوقت هي الأكثرية العربية. 

وكان بعضهم من وكلائها. 

اليوم، ليس ممتنعا أن نشهد طغياناً في سورية بعد الثورة، ولا يبعد أن يسوغ هذا الطغيان نفسه بما لحق بـ«الأكثرية السنية» من ظلم، بل نرجح ذلك فعلاً، لما نراه من سردية مظلومية سنية نشطة اليوم، ازدادت تنشيطا خلال نحو عامين من الثورة.

لكنه سيكون طغيان أقلية، تتوسل المظلومية السنية المفترضة لتشريع حكمها، على نحو ما توسل حافظ الأسد المظلومية العلوية لفرض طغيان نظامه، وتنصيب نفسه وسلالته ملوكا لسورية. 

فالحكم السني الذي لا يمكن إلا أن يكون إسلاميا لا يمكن إلا أن يكون أقلويا كذلك. وفوق أنه سيؤدي إلى مشكلة أقليات، سيؤدي إلى مشكلة أكثرية أيضاً. 

الطائفية هي التنظيم الاجتماعي الأنسب للتعايش مع مشكلة أقليات وأكثرية معاً.

ومن سيعاني أولا من هذا الطغيان السني المحتمل هو أكثرية السنيين كما سبق القول، قبل أية أقليات، يوفر وضعها كأقليات متميزة حماية نسبية لها. أكثر من المسيحيين بخاصة، لكونهم يؤمنون بديانة كتابية معترف بها إسلامياً، فضلاً عن حساسية الغرب المضاعفة حيال أي تعدٍّ عليهم. الأقليات الإسلامية الأخرى أقل حماية من الوجهة الإسلامية السنية السراطية (التعبير لصادق جلال العظم، في سياق مختلف).  

لكن من يمثلون هذه الوجهة هم خطر على المجتمع السوري ككل. 

لماذا طرح الأمر بهذه الصورة مهم؟ لأن هذا ينقلنا من مواجهة أقليات بأكثرية أو أكثريات إلى مواجهة الأقليات والأكثريات (بالمعنى الثقافي أو الساكن) للحكم الأوليغارشي الطائفي. أي لأن الحل يكمن عندئذ في حماية المجتمع من الطغيان، وكيفية بناء أوضاع سياسية تحمي الجميع من الطغيان، وليس في حماية بعض السكان من بعضهم الآخر. 

المدخل هنا، والأولوية هي للكفاح ضد الطغيان، وليس لتغيير لون الطغيان أو دينه. 

ليس للطغيان دين.

عندنا، الغربيون والروس أقليات

ليس هناك أي مؤشر على أن مقاربة قوى غربية وروسيا لأوضاعنا متصلة بهواجس من هذا النوع، مضادة للطغيان ومتطلعة إلى الحرية والمساواة، بل هي متصلة بنظرة أقدم إلى مجتمعاتنا، لا تصدر عن مقدمات ودية، كيلا نقول إن أخص خصائص هذه المقدمات أنها غير ودية، ولا متجردة، وفي أعماقها هي مشاعر طائفية خبيئة يجري إسقاطها على مجتمعات غريبة من قبل مجتمعات تحرم الطائفية على نفسها. ومحصلتها السياسية هي أن يكون لهذه القوى أصبع في ترتيباتنا السياسية، أو نوع من مسمار جحا بذريعة حقوق الأقليات.

فإذا كانت حقوق الأقليات هي ما يشغل بال هذه القوى فعلا، فإن «حكم الشعب” القائم على الكثرة والمواطنة والصوت الواحد للفرد الواحد هو الخيار الأنسب، وينتظر من تلك القوى، تاليا، أن تكون «محضر خير» وتدعم هذا الخيار القائم على «الشعب السوري الواحد». وإن لم تستطع المساعدة في تشكل حكم واسع القاعدة في بلداننا، أي في تعزيز فرص الديمقراطية، فليس لها أن تكون «محضر شر»، وتقنع بعض السوريين أن مشكلتهم هي بعضهم الآخر، «الحكم السني» في قول سيرغي لافروف، وحل مشكلتهم يتمثل في مراقبة بعضهم، بإشراف من تلك القوى أو بالتماس المساندة منها. 

في هذه الحيثية نضيف أن الطائفية الحديثة في مجتمعاتنا المشرقية وجدت غالبا ضمن مركب داخلي خارجي، أو طوائف محلية ورعاة خارجيين، وهذا بالذات ما يجعل الظاهرة معقدة وصعبة الانحلال، وما يحول دون تشكل داخل وطني متماسك، يفترض أن تتفوق تفاعلاته الداخلية على تفاعلات أي من أطرافه مع قوى خارجية. 

ليس هذا واقع الحال في لبنان، ولا في العراق. ولا في سورية. وبعض الفضل في ذلك لمتدخلين خارجيين، وبعضه لـ«متخرجين داخليين».

وأكثره يقع على نخبنا السياسية. 

والثقافية. 

وما نرتبه على ذلك أن تدخل القوى الغربية وروسيا هو جزء من مشكلة الأقليات، وليس شيئا خارجها، ولا هو بالطبع حلها. وأنه لا يخرج على منطق سياسة الأقليات بنسخها المختلفة، من أيام المسألة الشرقية، إلى الانتداب الفرنسي، إلى الحكم الأسدي في سورية.

وأن المدخل إلى الحل، بالعكس، هو في الرفض القطعي والواضح لأي تدخل لهذه القوى في هذا الشأن، وفي تحويل النظرة بحيث يكون حل مشكلة بعض السوريين عند بعضهم الآخر، وحل مشكلاتهم جميعا عند جميعهم. 

ليست روسيا ولا الغرب سنداً لأية أقليات ولا هي ضمانة لحقوق الأقليات؛ إنها، بالعكس تماماً، سند لمشكلات الأقليات ولتمزق مجتمعاتنا وتطييفها، ولتأبيد الصراع بين أية أكثريات وأقليات. 

آخر سياسة الأقليات

وفي خلاصة النقاش، فإن ما يتعين الإلحاح عليه من وجهة نظر عملية أن سياسة الأقليات لا تثمر تشكل أكثرية جديدة، عابرة للانقسامات الثقافية، ولا هذا هدفها. وهي لن تنتج إيديولوجيات وطنية أو قومية أو اشتراكية أو ديمقراطية، ولا أحزاباً وطنية أو يسارية أو ليبرالية، ولا بنية اجتماعية وطنية تتغلب التفاعلات الداخلية بين عناصرها على تفاعلات أي منها مع أي خارج وطني. 

سياسة الأقليات لن تنتج إلا المزيد من الطائفية، ونظام محاصة في أحسن الأحوال، وخرابا متربصا في جميعها.

آخر سياسة الأقليات هو أقليات سياسية متحجرة. 

من شأن الكفاح المشترك من أجل المساواة، بالمقابل، أن يقود إلى اختلاط واسع وإلى ظهور تيارات  فكرية وسياسية جديدة، وإلى تشكل أكثريات وأقليات جديدة، مُعرّفة أكثر بدلالة  صراعات الحاضر وأهداف المستقبل، لا بدلالة الميراث والماضي. 

فإما أن نغير الظروف الحالية معا، وإلا فإن تعذر تغييرها سيدفع كلا منا إلى الاعتصام بعصبيته، «الاعتصاب» مع أشباهه، بغرض الاستفادة العظمى من الشروط الراهنة، أو خوفا من أن تؤول ثمار تغيرها إلى البعض دون الغير.  

وما ينبغي الإلحاح العملي عليه أيضا في سياقنا السوري هو أن المسلمين ليسوا مشكلة المسيحيين، ولا المسيحيين هم مصدر متاعب المسلمين، ولا السنيين منبع الخطر على العلويين، ولا العلويين هم مشكلة السنيين، على ما يفضل الاعتقاد طائفيون هنا وهناك، متدينون و«علمانيون». وليس العرب مصدر إحباطات الكرد، ولا الكرد جهة الخطر على العرب، على ما يفضل القول قوميون متعصبون هناك وهناك. هذا التصور لا يحل مشكلة لأحد، بل يزيد متاعب ومشكلات الجميع. 

أصل مشكلات الجميع هو عدم ثقتهم ببعضهم، وعدم بذلهم جهودا مشتركة للتواصل والتفاهم فيما بينهم على أوضاع تكفل المساواة والحرية الاحترام للجميع، والاستراتيجيات والخطط السياسية المحلية والدولية التي تستثمر في تخاصمهم وتباعدهم. والمدخل إلى الحل هو العمل معا لمقاومة هذه الاستراتيجيات والخطط، والهياكل السياسية والقوى السياسية التي تعتمدها، ومن أجل أوضاع أكثر عدالة. 

وتاليا يلزم التحول نحو تصور تكاملي قائم على الشراكة بدل هذا التصور الحربي القائم على الاستبعاد المتبادل.

مسألة كرامة أيضاً

في الختام، ليست خبرات الماضي والحاضر وحدها ما تزكي هذا المسلك المقترح، ولا أيضاً المسلمة العملية الخاصة بشراكة الحياة والمصير التي لا يُبنى مجتمع متفاهم على غيرها، ولم تبن مجتمعات الغرب على غيرها. 

ولكن كذلك اعتبارات الكرامة الوطنية. 

وتوجب هذه الاعتبارات اليوم القول للقوى الغربية بكلام واضح إنها لا تستطيع إعطاءنا دروساً في شؤون بلدنا، وليست مؤهلة لذلك، لا معرفيا ولا سياسياً ولا أخلاقياً. 

ليس في سجلها الأقدم ما يشرّف حتى تتدخل في شؤوننا الخاصة هذه. وليس في سجلها الراهن، الخاص بالتعامل مع الثورة السورية، ما يضعها في موقع أخلاقي يبيح لها قول شيء في قضايا العدالة والمساواة. ومثل ذلك بخصوص روسيا. من في سِجلّه القريب غروزني، كيف له أن يحاضر في حقوق الأقليات في أي مكان من العالم؟

الكرامة الوطنية سبب كاف للاعتراض على مثل هذه التدخلات على كل حال. كان حافظ الأسد ووريثه قد أهانا كرامتنا أفراداً وشعباً، والثورة ضد نظامهما هي ثورة من أجل الكرامة. السوريون قالوا ذلك بوضوح. وهو ما يصلح سندا لمقاومة كل إذلال جديد وكل مُذلّين جدد.

من الداخل، ومن الخارج أيضاً.