روبن لاكوف، ألسنية اجتماعية أمريكية مختصة بشؤون الجندر. في إحدى مقالاتهاLakoff, R. (2003) Language, Gender, and Politics: Putting «Women» and «Power»  In the same sentence in The handbook of language and gender/edited by Janet Holmes and Miriam Meyerhoff. 2003 تستعيد لاكوف قصتين معروفتين في تراث أدب الأطفال، الأولى قصة «البجعات السبع» للكاتب الدنماركي أندرسون والقصة الثانية هي قصة «الخياط الصغير الشجاع» من الموروث الشعبي الألماني، لتظهر أن الكثير من الأمثال الشعبية والقصص الفلكلورية تؤدي وظيفة الكتب الإرشادية لليافعين والأقل يفاعة لتحذير النساء من أهوال «القول الفصل» (assertiveness) ولتعزيزه وتشجعيه عند الرجال. في قصة الخياط، يقوم الفتى بقتل سبعة ذبابات ٍ تحوّمت حول شطيرته، دفعةً واحدة، فيقرر أن يطرز على حزامه عبارة «سبعة في ضربة واحدة» ينطلق بعدها في هذا العالم ليحقق النجاح تلو الآخر. العبرة، بحسب لاكوف دائماً، هي أن التأكيد والفصل الكلامي يأخذ الرجل نحو النجاح. في الجهة الأخرى، وفي قصة «البجعات السبعة» يتحول الأخوة السبعة لفتاة إلى بجعات بفعل تعويذة شريرة لا ينفك فعلها عنهم إلا إذا صنعت الفتاة سبعة قمصان تغزل خيوطها من نباتات شائكة خلال سبع سنوات لا تنبس خلالها بكلمة واحدة وإلّا فشلت في تحرير أخوتها. تنجح الفتاة رغم المصاعب الجمّة. العظة: الصمت والطاعة هما طريق النجاح للمرأة.

إلغاء القدرة التعبيرية المباشرة للمرأة هو فعل سياسي. لا يحق للمرأة «اكتساح» الفضاء العام بالقول، يمكنها أن تزينه، أن تكون بركته أو دمية الباليه الراقصة التي نخرجها من العلبة الخشبية حين الحاجة أو حين الرغبة بإظهار التنوع في المؤتمرات (إن لم تتثاءب). الكلام في السياسة وعليها هو تجرأ وفعل غير ملائم للمرأة تستحق أن توصف على إثره وفي معظم لغات العالم بال «عاهرة» «shrew» «bitch» «pute» ضمن تنويعات أوسع وأغنى، تعرفنا عليها مباشرة، مؤخراً في أجواء الثورة السورية وشبكات تواصلها الاجتماعية. هي تتراوح في وضاعتها، بدءاً بـ «خائنات»، وصولاً لـ«قحبات». وقد يأخذ الإقذاع منحى شطط ملفت تكثر فيه التلميحات الجنسية المهينة، لا يتورع عن إيرادها «مدافعون» عن حقوق المرأة في «الجمهورية العربية السورية» ممن يعادون الثورة في وصفهم لنساء منخرطات ٍ في الثورة. غني عن القول أن النعوت السابقة الذكر لا تمس الرجال في السياسة والسلطة، في معظم لغات وثقافات العالم، بل على العكس، تلحق النعوت السلبية بالرجل عندما يعزف عن تمثل دور السلطة أو عندما يرفض الخوض في العمل السياسي المباشر إن كان من المشتغلين في الشأن العام. وفي ثقافتنا نذهب بعيداً في ترسيخ المتضادات من نوع: كلام/ صمت، حسم/ لا حسم، رجل/ امرأة، فنتغنى بالمرأة التي تستعين على عملها بالصمت: «إلها تم تاكل مالها تم تحكي».

ليس هؤلاء الشتّامين ممن يجدر الاقتباس عنهم، لكن خطابهم ملفت لعدة أسباب. من جهة، هو ملفت لأنه السطح الأكثر شفافية وفجاجة لخطاب ذكوري يختبئ أحياناً كثيرة تحت زخارف ثقافية منافقة، وفي خطاب بعض المعارضين للنظام. من جهة أخرى هو ملفت لأنه يحمل شحنة من الغيظ غير مفهومة وموجهة باتجاه زمرة من النساء دون غيرهن.

لماذا لم توجه تلك الحمم لنساء أخريات منخرطات بالثورة وربما مؤمنات بالعسكرة وغير مغفلات ٍ الهوية؟ لماذا يعتدل جميع الشتّامين عندما يتعلق الأمر بالشق الإغاثي من العمل الثوري؟ الإغاثة تعريفاً فعل صامت، وهي تعريفاً عزوف عن السلطة، قد نصنع منها اسماً وشعبية ونطمح فيها لعمل مدني مجتمعي، ولكننا نفرض مسبقاً حياداً تجاه السلطة السياسية. المثير للحنق هو اختراق الفضاء العام، الظهور الإعلامي وأعمق من ذلك هو أن تفتح المرأة فمها لتتكلم. الكلام فعل، والكلام في السياسة هو فعل الاقتراب من السلطة، واقتراب المرأة من السلطة مثير للحنق تستحق عليه الاغتصاب اللفظي والرمزي، وربما الفعلي (خاصة إذا كانت المرأة من «طائفة» أو منطقة الشتّام فذلك يستثير سخطاً مضاعفاً).

«اغتصبوك لأن الثورة أنثى»، تقول النساء الجولانيات في إحدى لافتاتهن الداعمة للثورة السورية. معهنّ كل الحق.

وأخيراً الكلام تداول، وفي التداول قابلية خطأ أكبر، يكسر قوالب المرأة الجاهزة، وهذا أيضاً مثيرٌ للغضب. على المرأة أن تذهب في سبات يكرس صورة أحادية عنها، أحياناً إيجابية: «مادونا الثورة»، «أيقونة الثورة»، «خنساء الثورة»، «تيريزا الثورة» (الأخيرة من اختراعي ولكنها مناسبة للجوقة).

المرأة السورية كانت طليعية ورائدة في انتفاضتها ضد الاستبداد، لا أحد يمكنه أن يناقش في ذلك، ولكن الراصد للخطاب النسائي في الثورة يستشعر أن المرأة استبطنت هذا التوجس من الوقوع في الخطأ وخطأ الحسابات المبدئية في المواقف، وكأن متغير الزمن الذي يبدل الآراء والمواقف في المعادلة البشرية هو حكر لجنس دون آخر. الأضمن للمرأة، حتى تبقى مبدئية ولا تقع في الخطأ والتداول والأخذ والعطاء هو أن تتمسك بالجانب الإنساني وأن ترثي الشهداء وتنعي الخراب، لا تأتي على ذكر العسكرة ولا على ذكر السلمية فهذا أضمن للصورة الأيقونة وأضمن من أن تُحرق أوراقها. المرأة تتكلم بالإنسانيات دون الخوض بالسياسي المباشر لأنه خطاب أقل إشكالا ولكن بالمقابل دون أن يتبلور هذا الخطاب في تيار نظري فكري يعلن بوضوح وبقولٍ فصلٍ أن التجارب المؤسسة في الحياة والثورات الجذرية يمكن أن تحدث دون خراب، إن لم تحمل المرأة الخطاب الإنساني الرافض للخراب إلى داخل السياسة سيبقى مائعاً (عذب ورقيق وحنون) ولا معنى له.

والحال هذه، تكون «الثرثرة» وصولاً إلى القول الفصل سلاحاً مهماً لكسر احتكار الكلام والسلطة والسياسة. ثرثرن!

نحن مع انتفاضة المرأة في العالم العربي لأننا نريد لأفواهنا أن تأكل وتحكي بنفس القدر، وربما أن تحكي أكثر.