1- بداية، د. برهان غليون، كيف ترى وضع الثورة السورية اليوم؟ أين نحن؟ وإلى أين ماضون؟ ما الذي يقلقك؟ وما الذي تأمله؟
كما كان متوقعاً، تحولت الثورة السورية من ثورة شعب ضد طاغية، من أجل الكرامة والحرية التي لا لوجود لوطن ووطنية من دونهما، إلى مناسبة لتصفية الحسابات، ورسم أو إعادة رسم دوائر النفوذ الإقليمية والدولية. لذلك ارتبط مصير الثورة ضد الطاغية بمصير التنافس بين الأطراف المختلفة المتنازعة في الوقت نفسه على السيطرة على بلدنا سورية.
هذا يعني ان التقدم في اتجاه إسقاط النظام لم يعد ممكناً من دون التوصل المسبق إلى تفاهم إقليمي ودولي. وهذا التفاهم لا يزال غير ممكن بسبب مطامح البعض وانعدام الثقة بين الأطراف. فإيران مستعدة لعمل أي شيء من أجل الحفاظ على سورية قريبة منها. فهي الركن المركزي في مشروعها للهيمنة الإقليمية التي تضم إلى جانب سورية حزب الله والتقنية النووية. تدعمها في ذلك روسيا التي تريد أن تتحدى الغرب وتنتقم لنفسها مما تعتقد أنه الغدر بها في ليبيا. ولا تزال المحادثات الإقليمية والدولية في بدايتها ولم تصل إلى نتيجة بعد. بل إن اللجنة الرباعية الإقليمية التي اقترحتها مصر لم تجتمع مرة واحدة بعد بكامل أعضائها، أما المحادثات الروسية الامريكية فتتقدم ببطء شديد. وبانتظار ذلك تسعى كل مجموعة إلى الحفاظ على رهاناتها بانتظار الحل، فتعمل الأولى، غير الراغبة في تغيير النظام والتوازنات المحلية والإقليمية والدولية التي يساهم في ثباتها، كل ما بوسعها، حتى تبقي النظام واقفاً على قدميه أطول فترة ممكنة، حتى لو اقتنعت بنهايته الحتمية، أملاً في انتزاع المزيد من التنازلات. وهذا هو الذي يفسر تحول مصير الأسد ومستقبله إلى العقدة الرئيسية في المحاثات الإقليمية والدولية. وتحاول المجموعة الثانية التي تؤيد التغيير أو التي تبنت خيار دعم الثورة والربيع العربي أن تعمل المستحيل كي تمنع النظام من الاستقرار والانتصار.
وباستثناء النظام الذي تبنى الخيار الشمشوني، أي الاستعداد للدمار الشامل والانتحار، فالجميع يخشى مخاطر التصعيد، خوفا من خسارة رهاناته. لكن النظام يجر الجميع لحرب لا يريدونها ويورط أقرب حلفائه، كما ورط نظامه وبلده باكمله في أشنع حرب.
علينا أن نسحب البساط من تحت أقدام التسويات الاقليمية والدولية ونعمل على استعادة المبادرة في معركتنا الكبيرة من أجل وطننا وحريتنا. ومن أجل ذلك ينبغي إعادة التمركز حول الثورة في الداخل وتطوير آليات التفاهم والتضامن والاعتماد على النفس والطاقات السورية. لا أعتقد أن علينا أن ننتظر شيئاً من التفاهمات الخارجية. وسوف ننجح فقط عندما نقطع الطريق على هذه التفاهمات ونقرر نحن أنفسنا مصيرنا. يحتاج هذا إلى جهود كبيرة في مجال تنظيم قوانا الذاتية المقاتلة والمدنية، وتوحيد صفوف شعبنا، بكل فئاته وأطيافه ومذاهبه وثقافاته. وهو ما يحتاج إلى العمل على التسريع في تبلور نخبة سورية ديمقراطية جديدة موحدة الفكر والهدف والانتماء.
الشعب تحرر نهائيا ًمن نظام الطغيان، ولن يتعرف على نفسه من خلاله أبداً بعد الآن. وهو مستمر في ثورته، لكنه لم يتلمس بعد، بسبب ضعف المعارضة إعلاماً وسياسة، ملامح النظام البديل، وهو في متاهة حقيقية، سياسية وفكرية، في مواجهة الآراء والتصريحات والتصورات المتناقضة للمعارضة. وجزء منه يكاد يفقد الأمل، لكنه مستمر في كفاحه البطولي لأن لديه هدف واضح يحركه: إسقاط رموز النظام. بالمقابل، النخبة السورية الجديدة لا تزال في عهد النشأة ولم تنضج بعد، ولا يزال مشروع بناء الدولة الديمقراطية غير واضح المعالم بالنسبة لأغلبية الناس. وهذا سببه التقصير في العمل الثقافي والسياسي والإعلامي معاً.
نحن الآن أمام نظام ينفجر ويفجر البلد معه، ونظام لم يولد بعد أو لم تتبلور ملامحه. هذه أصعب المراحل في تاريخ الشعوب وأقساها على البلاد والمجتمعات. تفتقد فيها المعايير وتتضارب المصالح وتنمو مظاهر الفوضى والاضطراب.
في النهاية نحن ماضون إلى هدفنا لأنه من غير الممكن العودة إلى الوراء. لكن إقامة الدولة الجديدة لن تكون كشربة ماء. يتوجب علينا جميعاً العمل ليل نهار من أجل لملمة أشلائنا وتضميد جراحنا قبل أن نستطيع الوقوف على ارجلنا والتقدم نحو هدفنا. سنخرج من هذه الحرب كتلة من الدمار المادي والنفسي والسياسي، كما خرجت أمريكا من حربها الأهلية. لكننا سنخرج شعباً جديداً صاحب رأي ومبادرة، وسنبني مجتمعاً حراً كريماً على مستوى طموحاتنا، يليق بدماء الشهداء والجرحى والمنكوبين.
لست قلقاً على المستقبل ولكن على الحاضر. فالتحدي اليوم كبير: استعادة سيطرتنا على مصيرنا وانتزاعه من أيدي الدول المتصارعة على تقاسم أشلائنا، والحفاظ على إرثنا الوطني ووحدة البلاد والشعب. وآمل أن تكون إرادة التحرر والبناء والتقدم إلى الأمام، عند أجيالنا الجديدة، على قدر المعاناة التي خبرها شعبنا في كارثة الحرب والدمار الذي الحق بنا لمجرد تطلعنا إلى الحرية وتمسكنا بالكرامة وايماننا بالقيم الانسانية.
2- ما الذي يقود مثقفاُ مرموقاً وأستاذاً جامعياً إلى معمعان السياسة؟ وبصورة عامة كيف ترى إلى الأدوار السياسية للمثقفين السوريين، وكيف تقييمها (ليتك لا تمتنع عن ضرب الأمثلة بالأسماء)؟
لم تكن السياسة أمراً بعيداً عن اهتمام المثقفين السوريين واهتمامي الشخصي طوال العقود الخمسة الماضية. فعندما يعيش المرء في ظل نظام شمولي كنظام الاسد لا يمكن أن يتجاهل السياسة أو يكون محايداً في موقفه السياسي. فهذا النظام يتدخل في كل صغيرة وكبيرة من حياة المواطنين من أجل أن يحولهم إلى عبيد خاضعين طوع بنان عملائه ومخابراته. وسواء أكنت مثقفاً أو موظفاً أو مهنياً فأنت مستهدف من النظام حتى لو لم تعمل بالسياسة ولم تكن عضواً في أي حزب سياسي.
وإذا كنت ترفض أن تودع عقلك وإرادتك وضميرك، وتشارك النظام في قهره للناس وإذلالهم وكسر إرادتهم، من أجل التمكن من استبعادهم وتحطيم مقاومتهم، فأنت بالضرورة معارض وأنا أقول مقاوم. والقسم الأكبر من المثقفين السوريين الحقيقيين كانوا مقاومين. وتعرض العديد منهم خلال العقود الماضية إلى الاعتقال والقمع والحرمان من حقوقهم وحرياتهم الطبيعية. وقسم كبير قضى سنوات طويلة في السجون، ليس لأنهم يطمعون بالسلطة ولكن رداً على عدوان النظام ومقاومة لسرطان الحكم الفاشي الارهابي الذي بدأ يتشكل منذ كارثة حماه عام 1982.
والمثقفون الذين لم يكن لديهم هم الحرية ومقاومة الفاشية لم يكونوا خارج السياسة، ولكنهم اختاروا الاستقالة الأدبية والأخلاقية أو التعاون مع الوضع القائم.
أما إذا كان السؤال يقصد تفسير مشاركتي في الثورة السورية، من خلال احتلال مركز رئيس المجلس الوطني، الذي تشكل بعد محاولات عديدة فاشلة لتجميع وتوحيد أطياف المعارضة، فأنا لم أنظر إلى هذه المشاركة أبدا كانخراط في السياسة بالمعنى العادي للكلمة، وإنما كمشاركة في الثورة وامتداد طبيعي لنشاطي إلى جانب الثورة منذ بدئها في 18 آذار، سواء من خلال الكتابة أو التعليق على الأحداث أو المقابلات الإعلامية. والصورة التي تكونت لي كمثقف مستقل على مسافة واحدة من التيارات السياسية المتباينة هي ما وجه أنظار الناشطين على الأرض إلى امكانية أن توكل لي مهمة ترؤس المجلس الوطني.
لكني لم أنظر أبداً إلى هذا التوكيل كانخراط في السياسة مقابل التخلي عن الثقافة والبحث العلمي. لم يطرح علي الموضوع بهذا الشكل على الإطلاق، ولا يزال غير مطروح بهذا الشكل. دخلت في السياسة ، مثلما دخل مئات آلاف الشباب السوريين، من خلال الثورة، ولم يكن لهم أي علاقة في السياسة من قبل، وربما لن يكون لهم علاقه بها بالمعنى الاحترافي أيضاً في المستقبل. وهذا هو موقفي أنا أيضاً. أنا لا أعتبر نفسي سياسياً ولم أترك الثقافة والبحث ولكنني مثقف وأكاديمي شارك مثل الآلاف من أمثالي في ثورة غيرت شروط حياة السوريين كلها ومفاهيمهم، وما كان يمكن لي أن أقف مكتوف الأيدي تجاهها ولا أن ارفض مهمة طلب مني القيام بها لصالحها. والثورة أبعد من السياسة وأشمل بكثير.
هناك مثقفون عملوا في السياسة لكنهم لم يشاركوا في الثورة أو شاركوا بها من الطرف المقابل، أي من خلال الثورة المضادة التي يقودها النظام وأنصاره، لكسر إرادة الناس الشعبيين وإعادتهم إلى بيت الطاعة والاستعباد. وهناك مثقفون بقوا مترددين وخائفين من الانخراط. هذه اختيارات شخصية تتعلق بقيم الأفراد وأخلاقياتهم. وهم مسؤولون عن خياراتهم، ولا أعتقد أن من المفيد، بالنسبة لي على الأقل، الدخول في تفصيلاتها.
3- ليس هناك تقييم واحد لأدائك السياسي في رئاسة المجلس الوطني السوري. يثني عليها البعض، ويطعن فيها بعض، ويرتبك حيالها آخرون. كيف تقيم أنت هذه التجربة؟ وبم تفسر أن صورة العديد من السياسيين المعارضين اليوم كانت أكثر إيجابية قبل “التجربة” مما أثناءها وبعدها؟
بالتأكيد لم يكن أداء المجلس الوطني على المستوى المطلوب لثورة عظيمة كتلك التي فجرها الشعب السوري الفذ، ولا على قدر روح التضحية والشجاعة الاستثنائية للشباب السوريين الثائرين. وانا أتفهم تماماً التفاوت في تقييم الناس لتلك القيادة في الأشهر الأولى لقيام المجلس الوطني. وكنت أنتظر ذلك لكنني لم أكن أتوقع أن يعمل زملائي أو الكثير منهم داخل المجلس وخارجه على تقويض موقفي بدل التعاون وتقديم الدعم للخروج من الازمة التي عاشها المجلس الوطني. ما هي هذه الازمة؟
تكشل المجلس الوطني في أعقاب انتصار التدخل العسكري الدولي في ليبيا. وكان تدخل مشابه قد كنس نظام صدام حسين في العراق. وكان جزء كبير من الرأي العام الثوري يتوقع أن يكون تشكيل المجلس الوطني مقدمة لتدخل مشابه يضع حدا للعنف غير المسبوق الذي استخدمه النظام ضد المدنيين. بل هذا هو المبرر الوحيد لتشكيل المجلس والتفاؤل الذي نجم عنه بالنسبة لمعظم الثوار وأبناء الشعب. وهو الذي دفع المعارضين لمثل هذا التدخل إلى اتهام المجلس بالتعامل مع الدول الأجنبية ورفضهم الدخول فيه. وكان ذلك من أسباب إضعافه أيضاً تجاه الرأي العام السوري والدول الأجنبية الصديقة أيضاً.
لكن مع تفاقم شدة العنف الممنهج ضد المدنيين والثوار، واستخدام النظام للاسلحلة المتوسطة ثم الثقيلة، وبدء خوضه معارك منظمة ضد المتظاهرين، زاد تطلع الثوار إلى هذا التدخل الأجنبي الحاسم بأمل وضع حد للمعاناة وينقذ الثورة التي كانت مهددة أو اعتقد البعض أنها مهددة بالفعل.
بيد أن إمكانية الاستجابة لمثل هذا التطلع، الذي تحول إلى طلب رسمي عبر تسمية مظاهرات أحد الجمع ب «جمعة التدخل الدولي»، اصطدمت بعقبتين كأدائتين. الأولى هي رفض المجتمع الدولي، الذي لم يكن مستعداً لأسباب مختلفة، لإعادة سيناريو العراق أو ليبيا ولا مواجهة الرفض الروسي، من دون تجاهل الأسباب الأخرى التي ستطفوا على السطح في مابعد، فكرة التدخل من أي شكل كان. وهذا ما كنا نتلقاه من الدبلوماسية الدولية جواباً على مطالبتنا بتطبيق مبدأ مسؤولية حماية المدنيين المنصوص عليه في المواثيق الدولية. أما العقبة الثانية فكانت تردد أعضاء كثيرين في صفوف الثورة وفي المكتب التنفيذي في المجلس أيضاً في الحديث عن التدخل، من جهة لعدم خلق أوهام حول امر لن يتحقق في المدى المنظور، وفي سبيل الاحتفاظ بإمكانية الابقاء على وحدة المعارضة وعدم خلق قطيعة نهائية بين أطرافها. وثانياً لأن مثل هذا التدخل كان يعني تدمير البنية العسكرية والدفاعية لبلدنا وجعلنا مكشوفين تماما أمام إسرائيل التي تحتل جزءاً من أراضينا ولا تخفي عدائها لنا.
من هنا كان هامش حركتنا تجاه الرأي العام للثوار ضيقاً جداً. وكنت أفكر من جهتي أنه لا ينبغي لنا أن نخسر معركة عزل النظام واستثمار سلمية الثورة لضمان التأييد والدعم الدولي باثارة التدخل العسكري، من جهة واستثمار هذا التأييد من أجل خلق الشروط التي يمكن أن تمكنا من طلب المساعدة والتدخل من خلال تشكيل مناطق آمنة أو مناطق حظر جوي لحماية المدنيين، إذا تطورت الاوضاع إلى مانشهده اليوم من استفراد النظام بشعبه وشن حرب كسر إرادة وتدمير وإبادة عليه. ولذلك اخترت الحديث دائماً عن التدخل الانساني لحماية المدنيين، وهو ما تقره لنا مواثيق الأمم المتحدة، وقلت إن التدخل سيكون بالتفاهم مع المجلس الوطني. وعلى هذا الأساس عملت من أجل تكوين تجمع أصدقاء سورية لتجاوز الفيتو الروسي في مجلس الأمن، ونجحنا في استصدار قرار من الجمعية العامة في 3/8/ 2012 يدين النظام ويطلب منه وقف العنف وسحب الأسلحة الثقيلة وإعادتها إلى ثكناتها والسماح للشعب بحرية التعبير والبداء بحوار وطني لمساعدة الشعب السوري على الانتقال نحو دولة ديمقراطية مدنية تعددية تساوي بين جميع مواطنيها.
اتهمني البعض في ما بعد بأنني كنت ضد التدخل، واتهمني البعض الآخر بأنني كنت مع التدخل. واستخدم البعض من داخل المجلس الوطني وخارجه التهم المتناقضة ليقولوا لقد فشل المجلس ونسبوا هذا الفشل للرئاسة، وأضافوا إليها القيادة الديكتاتورية أحياناً وغياب القرار أحياناً أخرى، أي عكسها، ثم قالوا إنني سايرت الأخوان المسلمين قبل ان يصبح بعضهم أدوات في أيديهم.
الحقيقة أن التعبئة القوية للنظام ضد المجلس ورئيسه، بهدف إسقاط رموز المعارضة المدنية، بالإضافة إلى الحملة الشرسة التي نظمتها بعض الأوساط الاسلامية عبر قنوات «وصال» وغيرها، ولم توفر اي اتهام ديني، وروح التنافس السلبي الذي خيم على قيادات المجلس وتنازع المواقف داخل المعارضة بأكملها، كل ذلك عمل على بث الإحباط وضرب ثقة الرأي العام، وهو ما سعت أطراف عديدة داخل المجلس، وحتى في المكتب التنفيذي، إلى تضخيمه واستغلاله في معركة الصراع على منصب رئاسة وهمي ليس فيه غير تحمل المسؤولية و التعب والعناء. وقد حولت إلى كبش فداء وأرادت جميع الاطراف، في المعارضة أن تبرر عجزها وتهرب من مواجهة مسؤولياتها برمي المسؤولية علي شخصياً. عندئذ وجدت أن من مصلحة الثورة أن أقدم استقالتي، لوضع الجميع أمام حقيقتهم ومسؤولياتهم، ولفرض عملية إعادة هيكلة المجلس وتجديد قياداته حتى يستعيد دورة كممثل للثورة وجامع للمعارضة. وهو ما لم يتحقق إلا جزئياً ومن دون نتائج تذكر.
الآن لنقيم موضوعياً ما حصل، من دون التفكير بالأشخاص. ماالذي تحقق خلال الفترة التي رأست فيها المجلس، للثورة والمعارضة، وماذا تحقق بعدها. لم تنجح جميع المبادرات السابقة للمجلس، خلال ستة أشهر من عمر الثورة، في خلق هيئة تجمع أطراف المعارضة وتعبر عن وحدتها، وهو ما كان المطلب السياسي الرئيسي للثوار والشعب. لكن المجلس نجح في لم شمل أطراف مهمة منها وكان يمكنه لولا تردد هيئة التنسيق وشكوك بعض قادتها أن يجمعها كلها، واستمر في الوجود. وهو الذي رسم الخط الوطني المستقل للمجلس، ورفض أي وصاية أو تدخلات خارجية في قراره، بعكس ما أشيع في مابعد ترديداً لدعاية النظام الذي أطلق عليه اسم مجلس استنبول. وهو الذي بنى شبكة العلاقات الرئيسية للثورة مع الدبلوماسية الدولية وأعطى عنها صورة ايجابية سمحت لنا بتحقيق المكاسب الدبلوماسية الوحيدة التي حصلنا عليها إلى اليوم، سواء في عقد جلسات مجلس الامن واستصدار قرارات لصالح الشعب السوري وثورته، ولا ينتقص من قيمتها معارضة موسكو، المستمرة إلى اليوم على كل حال. ونجحنا أكثر من ذلك، في خلق تجمع «أصدقاء سورية» الذي يضم أكثر من مئة وخمسين دولة الآن، والذي نستند إليه حتى اليوم في تأمين الدعم السياسي والمالي للثورة والبلاد، وبفضل هذا التجمع حصلنا على أهم قرار يؤكد حقنا في الانتقال نحو دولة ديمقراطية صوتت عليه مئة وأربعين دولة في الجمعية العامة. وهو القرار الوحيد الذي يمكن أن نبني على تفعيله من أجل تأمين حماية للمدنيين وإلزام المجتمع الدولي بالتدخل الانساني لوقف حرب الإبادة الجارية.
وقد تم التصويت على هذا القرار في ٣/٨/٢٠١٢ كما ذكرت، حسب البند السادس الذي يعني الإلزام، لكن من دون استخدام القوة، والذي يمكن أن يبنى عليه من أجل القيام بتدخل إنساني لحماية المدنيين حسب القرار 377 «الاتحاد من أجل السلام» الذي طبق في كوريا عام 1950، والذي ينص على أنه : «في حال فشل مجلس الامن بسبب فقدان اجماع الاعضاء الدائمين في ممارسة مسؤوليته الرئيسية بالحفاظ على السلم والامن العالميين في كل حالة يظهر فيها تهديد للسلم او خرق له او عمل عدائي، فأن الجمعية العامة تنظر في الموضوع فورا بقصد اتخاذ التوصيات المناسبة وذلك من اجل صون السلم والامن الدوليين او اعادتها الى نصابها، واذا لم تكن الجمعية العامة في دورة انعقاد في غضون ذلك، تنعقد جلسة طارئة خلال 24 ساعة من طلب انعقادها لهده الغاية».
منذ ذلك الوقت، لا أعتقد حقيقة أننا أنجزنا شيئاً على المستوى السياسي والدبلوماسي، لا قراراً دولياً ولا مكاسب تذكر. فرطنا بالمجلس الوطني الذي بنيناه بأنفسنا وخربناه بانفسنا أيضاً لسوء الحظ، فاتهم بالعجز عن القرار وبالتصلب، وتم تجاوزه من خلال تشكيل الدول الصديقة للإئتلاف بديلاً سياسياً عنه. كل ما حققته الثورة منذ ذلك الوقت جاء بفضل شبابنا المقاتل على الأرض. وعادت المعارضة لتشكل مصدر تشويش للثورة بدل أن تكون القاطرة التي تجرها.
أما لماذا كانت صورة السياسيين أفضل قبل الثورة فهذا طبيعي. السيف الذي تستعمله لا يبدو ناصعاً كالسيف الذي لا يخرج من غمده. من يعمل ويبادر يخلق بالضرورة مؤيدين ومعارضين، ولا يبق على موقف الإجماع الذي كان يمثله. ومن يعمل ويبادر يخطيء بالتاكيد هنا وهناك، ويدفع الثمن، أما من يبقى خارج المعمعة فيظل دائما على صواب.
4- كيف تقيم أداء القوى السياسية المتنوعة في الثورة؟ تحديداً، الإسلاميين، حزب الشعب، الناصريين، والمثقفين المستقلين؟
لو كان لأحد هؤلاء أداء جيد لكانت مشاكل الثورة التنظيمية والسياسية والايديولوجية والإعلامية والتربوية أقل مما نعرفه الآن بكثير. النقص واضح في كل المجالات. ليس لدينا إعلام ولا برنامج ثقافي للرأي العام، ولا تنظيم للكتائب يليق بثورة قدمت حتى الآن اكثر من مئة وخمسين ألف شهيد على أقل تقدير. ونحن الآن نعيش بداية الانقسام والنزاع الايديولوجي الذي لم يكن له وجود في الثورة على الإطلاق. لا أريد أن أقول أن الهيئات السياسية كانت جميعها قاصرة ولكني أقول إنها لم تستطع ان ترتقي بتفكيرها وعملها إلى مستوى تطلعات الشعب، ولا احتياجات تنظيم شؤون الثورة وقيادتها. لذلك بقيت ثورتنا يتيمة بالفعل، لا قيادة حقيقية لها سوى إحساس شبابها الناشط والمقاتل على الأرض، وما تفجر في قلوب هؤلا من روح وطنية عارمة واحلام تحررية عميقة أصبحت مهددة اليوم بسبب انتشار العديد من مظاهر التسلق على الثورة واستخدامها من قبل المتطفلين عليها لتحقيق مآرب شخصية.
هذا ليس من باب النقد على الإطلاق. فلا أعتقد أن أي تنظيم سياسي كان بإمكانه أن يواكب ثورة من هذا النوع، أجبرها العدو على أن تطور من استراتيجياتها وتعيد تنظيم صفوفها كل يوم من دون سابق إنذار أو تفكير. فقط التنظيمات التي تعمل على الأرض قادرة على مثل هذا التكيف والتأقلم السريعين. كان من الممكن للتنظيمات السياسية أن تواكب بشكل ما الثورة لو بقيت سلمية ولم تتحول إلى ثورة مسلحة. لكن هنا يكمن اكبر التحديات.
5- ساهمت بنفسك في تشكيل “هيئة التنسيق الوطنية”، وكنت أحد أهم شخصيّاتها قبل تشكيل المجلس الوطني. لم تنضم هذه الهيئة إلى المجلس الذي ترأسته حال تشكيله. تشكّل لاحقاً أيضاً المنبر الديمقراطي السوري. فشلت كل محاولات توحيد هذه الأطراف. إلامَ تعزو ذلك؟
السبب الرئيس هو ثقافة الخوف والشك وغياب الثقة بالنفس وبالآخر. وهي من أهم ما يعيش عليه نظام الطغيان والإرهاب الذي عرفناه خلال عقود طويلة. كل فرد يشك بالآخر، ويخاف على نفسه من الخطأ وبالتالي الخسارة. لا أحد مستعد لأخذ مخاطر جدية، سواء بالنسبة لاسمه أو صورته أو الافكار التي يؤمن بها، بينما لا يمكن لعمل كبير أن يتحقق من دون القبول بحد أو آخر وأحياناً بمخاطر كبيرة. الإسلاميون يخافون من العلمانيين والعلمانيون يخافون من الإسلاميين لأدنى خلاف، والإسلاميون يخافون من إسلاميين مختلفين عنهم، والعلمانيون أيضا منقسمين إلى علمانيين معتدلين ومتطرفين. لا أحد يشعر بالراحة والثقة مع أحد. الكل يقزم الكل ونفسه معهم. في لعبة التقزيم المتبادل الجميع خاسر وهذا حال القوى السياسية السورية.
عندما قبلت أن أرأس المجلس كنت أعرف أنني سأواجه مسألة إحباط الشارع الذي ينتظر من المجلس جلب التدخل العسكري غير المحتمل. لكنني قبلت المخاطرة، واعتقدت أنني أستطيع أن اجد الطريق السالكة بين تدخل غير مطروح وسلمية مهددة بعنف غير مسبوق. لكن كان لا بد من تعاون الآخرين، وعدم استغلال الرأي العام من هذا الاتجاه أو ذاك لتوتير الموقف وكسر التوازن المنشود، والمغامرة بغرق المركب الحامل للجميع. إنما خوف البعض، وتشكك البعض الآخر، وانعدام الثقة، قضى على هذا الاحتمال، وانقسمنا على أرضية التدخل أو عدمه، وإشكالية الداخل والخارج الذي ارتبط به، وهو غير موجود وغير مطروح، خلال سنتين.
6- أين يقف الدكتور برهان غليون اليوم تجاه الائتلاف الوطني، وما الذي يريده المجتمع الدولي من التحالف الأكبر للمعارضة السورية برأيك؟ هل ترى أن تخوفات البعض من توجهات الغرب ممثلاً بالثنائي شوفالييه- فورد محقة؟ وكيف يمكن للمعارضة السورية صياغة استراتيجية لمواجهة تناقص الدعم الدولي للثورة في الآونة الأخيرة؟
الإئتلاف الوطني، بعكس المجلس الوطني، لا يحلم بأن يكون قيادة للثورة. هو واجهة للعمل الدبلوماسي. هكذا تكون، وهكذا أريد له ان يكون. وقد مال بسرعة إلى وظيفته كما هو واضح بعد فترة قصيرة من تكوينه. وقد كونه المجتمع الدولي لأنه يريد مفاوضين، ولا يريد التدخل مهما حصل. ونحن قبلنا به كي نعطي ما لقيصر لقيصر. لكن الحاسم في مصير الثورة لن يكون الإئتلاف ولا أصحابه وإنما المقاتلوين على الأرض، على شرط أن نبلور منذ الآن استراتيجية فعالة لتوحيدهم وتنظيمهم وتمكينهم من وسائل النصر.
ومن طرفي، لم أراهن ولا ساعة على المجتمع الدولي، ولست من المغرومين به. كنت أعتقد أن من الضروري إنشاء خيمة تقينا من عداء الغرب وتآمره، لكن الرهان الرئيسي ينبغي أن يكون على العرب. وهذا واضح جداً في خط المجلس واختياراته في الفترة التي رأسته فيها، ليس من دافع قومي ولا ديني ولا أخوي او أي سبب آخر، ولكن لان أرجلهم في الفلقة معنا. ومن مصلحتهم، وأعني هنا بشكل خاص دول الخليج، التي كانت حتى الآن مصدر الدعم الأساسي في المال والسلاح، أن يتحرروا من طغيان الهيمنة الايرانية التي لا تخفي مطامعها، وأن يستفيدوا من ثورة الشعب السوري ليعيدو التوازن في العلاقات الإقليمية. قلت لهم أكثر من مرة أن هناك تقاطع في المصالح بيننا، لكننا نحن الذين نضحي بالدم، وأنتم تقدمون المساعدات، ونحن نشكركم عليها. لكن لا شيء يعادل قطرة من دماء شبابنا الذين يستشهدون، ليس دفاعاً عن حق الشعب السوري في حياة حرة كريمة فحسب، وإنما عن امنكم واستقلالكم وشرف الانسان العربي أيضاً. وأنتم مديون لهؤلاء الشباب الشجعان مهما قدمتم من مساعدات.
7- يعتقد البعض أن المعارضة السورية فشلت في الحصول على دعم أميركي وأوربي حقيقي لأنها لم تقدم أي مواقف واضحة فيما يختص بتوجهات سورية ما بعد النظام تجاه المحاور الإقليمية والعلاقة مع إسرائيل تحديداً. ما رأيك بهكذا مقولة؟
هذا الحديث من باب الذرائع التي بدأ الغربيون يستخدمونها متأخرين في علاقتهم بالثورة. في البداية كانوا يشجعوننا بالفعل على تقديم برنامج واضح ورؤية مفصلة حول سورية المستقبل. وهذا كان أيضاً واجبنا تجاه السوريين الذين يتطلعون للتغيير، وأؤلئك الذين كانوا يخشونه. ولهذا أصدرنا منذ الأشهر الأولى وثيقة العهد الوطني، التي كانت وثيقة للمجلس قبل أن تصبح وثيقة مؤتمر المعارضة التي عدل فيها وأضاف إليها بعض النقاط. كما أصدرنا وثائق حول المرحلة الانتقالية. وقد عمل فريق من المجلس والمعارضة بالتعاون مع ألمانيا والإمارات العربية المتحدة على الملف الاقتصادي.
ولا أعتقد أن توجهاتنا كانت غير واضحة تجاه المحاور الإقليمية. لقد قلنا أكثر من مرة أننا نريد الانخراط الكامل للجامعة العربية معنا، وأننا لا نملك أي عداء لأي طرف، وأننا نسعى إلى علاقات طبيعية مع جميع الدول، ولن نعادي أحداً إن لم يبادر هو إلى معاداة الثورة السورية وحق شعبنا في الكرامة والحرية. وقلنا أكثر من مرة أننا على مسافة واحدة من جميع الأطراف الدولية، الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والصين. وقلنا للروس أننا لا نريد أن نستبعد روسيا عن الحل وأن لنا مصلحة كبرى في الابقاء على علاقاتنا قوية معهم لحفظ التوازن مع الكتلة الغربية ونحن نواجه تحدياً كبيراً من قبل اسرائيل التي تحتل أراضينا. وكان الغربيون يلحون علينا في أن لا نترك الروس وأن نستمر على الحوار معهم. ولم نتردد منذ البداية في فتح حوار ايجابي مع جميع الدول. وعندما دعانا العراقيون لزيارة بغداد رحبنا بذلك وطلبنا منهم أن تصدر الحكومة بياناً يؤكد على حق الشعب السوري في تقرير مصيره في انتخابات ديمقراطية. وهو ما طلبناه من الايرانيين أيضاً.
لم يطلب الأروبيون والامريكيون منا شيئاً سوى تطمين الأقليات وعدم القطع مع الروس. ولا أعتقد أنهم كانوا خائفين من أن نتبنى سياسات تضر بهم ونحن نطلب دعمهم. بالتأكيد لم نتخل ولن نتخلى عن حقوقنا في الأرض السورية المحتلة، وهذا ما لم نصمت عنه لأن هذه حقوقنا وهذا يتفق أيضاً مع الشرعية الدولية. إنما نحن الذين كنا ولا نزال نحتاج إلى من يطمئننا من سياسات إسرائيل لا العكس.
في نظري ان موقف الغرب الضعيف من تأييد الثورة كان نابعاً في البداية من عدم تقدير الغربيين لخطورة الوضع واعتقادهم، والاتراك والعرب معهم، أن بشار الأسد سوف يرضخ للضغوط والعقوبات، وانه لن يقاوم طويلاً بعد أن سقط بن علي ومبارك والقذافي. وكل شهر كانوا يفكرون أن الحسم سيكون خلال شهر أو شهرين. ولم يكن يقنعهم حديثنا عن الطبيعة الخاصة لنظام بشار الأسد وشلته. وعندما اكتشفوا أن سقوط النظام لن يكون سريعاً، ارتبكت سياساتهم ولم يكن لديهم خيار طالما أنهم حسموا امرهم بأنه لن يكون هناك تدخل. وحاولوا أن يمرروا الوقت ويغطوا على ارتباكهم وعجزهم وإخفاق خياراتهم التركيز على تشديد العقوبات والدعم اللوجستي البسيط للثوار من جهة وبالحديث المكرور عن انقسام المعارضة وضرورة توحيدها، ثم في ما بعد عن غياب الرؤية الواضحة لسورية المستقبل.
كان الأوروبيون، الذين لا يمكن لهم اتخاذ أي قرار بالحرب أو السلام من دون الامريكيين، يعتقدون أن انتخابات التجديد للرئيس الامريكي سوف تكون حاسمة في تغيير سياسات واشنطن. وكنت أقول لهم إن أوباما لن يغير سياسته حتى بعد الانتخابات. وانتظروا الانتخابات ولم يتغير شيء. ولا يزالون ينتظرون الحسم في الموقف الامريكي. ومن الواضح أن المشكلة تتركز هنا بالضبط. وقد تبين من خطاب أوباما عن حالة الامة والخطاب الذي سبقه أن المشكلة ليست في الإدارة الامريكية ولكنها في موقف أوباما نفسه. هو وحده الذي يعطل أي خيار بتسليح المعارضة لأسباب متعددة أهمها، كما ذكر الخوف على أمن إسرائيل. وهذا ضد رأي وزارة الدفاع والامن القومي. هذه هي الحقيقة التي تقرأ من الخطابات والمواقف المعلنة من دون حاجة لتفسير وتأويل.
8ـ هل يخشى الدكتور برهان من ازدياد التطرف الطائفي في المجتمع السوري والنزعات الجهادية في صفوف الثورة؟ وهل يعتقد أن المعارضة قادرة على لعب أي دور نقدي فعال أو ضابط تجاه تطرف كهذا؟
ليس هناك وقت الآن لفتح أي ملفات جانبية في نظري. المهم هو تحقيق الانتصار على النظام القاتل والارهابي، وبعد ذلك نستطيع أن نرتب اوضاعنا بشكل أفضل. كل من يحاول أن يربط مصير الثورة بمصير المعركة ضد هذا الفريق او ذاك يعطي لبشار الأسد فرصاً أكثر لتمديد الوقت وزيادة معاناة السوريين.
التطرف الطائفي يأتي اليوم بالدرجة الأولى من طرف النظام وليس من قبل الثوار. هناك تعبئة طائفية متزايدة بالتأكيد في المجتمع كله نتيجة هذه السياسات اللاوطنية للنظام، لكن الطريقة الوحيدة لقطع الطريق على انفجار الدمل الطائفي، وكذلك النجاح في وقف تقدم القوى المتطرفة التي تجد في سورية اليوم، مرتعاً مثالياً لها، أمام نظام غاشم لا يتورع عن أي جريمة للحفاظ على سلطة مدانة، هو أن نعمل على حسم المعركة بأسرع وقت، ولا نسمح للنظام بالمزيد من اللعب على مشاعر الخوف والقلق والانتحار.
النقد والتصويب والتوسط لرأب الصدع هنا وهناك، كما حصل في رأس العين، ضروري ومفيد من دون شك. لكن من دون أن يكون لدينا أوهام عن نتائجه على الوضع العام. الأصل هو القضاء على هذا النظام الذي هو المولد الطبيعي، بسياساته الإجرامية، لكل انواع التطرف والمغامرة والانتقام.
9- يثقل الوضع السوري اليوم نفوس كثير من السوريين بالهم، وبعد شهور من التفاؤل في 2011 يبدو مناخ من الشك والتشاؤم مخيماً في بضع الشهور الأخيرة حتى عند منحازين إلى الثورة ومشاركين فيها؟ ماذا تقول في ذلك؟ وهل تستطيع قول شيء عن مستقبل البلد القريب؟ وكيف تتخيل أن تكون سورية ما بعد الأسدية؟
أحد العوامل الرئيسية التي خلق هذا المناخ فشل المجتمع الدولي في مواجهة مسؤولياته تجاه حماية المدنيين وفرض احترام حقوق الشعب السوري الشرعية. والعامل الثاني ناجم عن تخبط المعارضة وانعدام اتساقها وغياب الخطط السياسية والعسكرية لدى المتصدين لقيادتها في الميدان العسكري وفي المجال السياسي. والعامل الثالث نجم عن تهويل الكثير من المثقفين والصحفيين بمخاطر انقطاع الدعم الدولي للثورة وخيانة العالم لها. والعامل الرابع كان وراءه التشكيك بمقدرة الثوار على الحسم عسكرياً من قبل هواة الحلول السياسية والمفاوضات، وضغوط الدول المستمرة من أجل دفع المعارضة إلى فتح طريق الحوار في الوقت الذي كانت الثورة تفتقر فيه للدعم الواسع، وكان النظام يشن فيه أكبر هجوم مضاد عسكري وإعلامي وسياسي، مدعوما بايران وروسيا، منذ بداية الثورة. وهذا ما أقلق الرأي العام وزرع الشك والخوق عند قطاعات واسعة منه.
والحال لم تكن هذه معنويات المقاتلين على الأرض. ولم يفقد هؤلاء في أي لحظة ثقتهم بأنهم المنتصرون. ونحن نرى كيف ذهب الهجوم المضاد الذي قام به النظام مع الريح، من دون أن يحقق أي كسب، بينما استعاد المقاتلون الثوار المبادرة على الأرض، وهم يحققون اليوم انتصارات باهرة في أكثر من موقع وجبهة، من الطبقة إلى دمشق ومن حلب إلى درعا.
أنا أعرف الظروف اللاإنسانية التي يعيشها الشعب اليوم. لكن لن يخدم التراجع عن الأهداف أو التشكيك في إمكانية الوصول إليها قضيته، ولن يخفف من معاناته، ولكنه سيزيدها لأنه سيطيل أمد الحرب. في مثل هذه المواجهة المصيرية بكل المعاني ينبغي على القادة أن يتحلوا بالكثير من رباطة الجأش والتصبر والتصميم على الانتصار. وإلا فإنهم يضعفون معنويات المقاتلين ويضرونهم بدل أن يخففوا المعاناة عن شعبهم.
10- ما الذي تقوله لنا الثورة السورية على المستوى الفكري؟ في بداية «الربيع العربي» بدا أن الثورات تؤكد نقد «الحداثة الرثة»، الذي كنت طليعياً فيه على المستوى العربي؟ اليوم مع صعود الإسلاميين بمحصلة الثورات، كيف ترى الأمر؟ هل من مراجعة لازمة؟
ما بني على باطل فهو باطل. ومانشهده اليوم هو الانهيار الشامل لبنيان الحداثة الرثة الذي بني على القهر والظلم والإقصاء والتمييز والعنصرية الاجتماعية والطائفية، وفي النهاية على الاستهتار بحياة الانسان وحرياته وحقوقه وضميره. ولم يتخذ أحد القرار في هذا الانهيار. جاء من تلقاء نفسه لأنه لايمكن أن يستمر، ولم يعد هناك امكانية لا نفسية ولا سياسية ولا أقتصادية ولا حتى أمنية كي يعيد إنتاجه لصالح حفنة من القتلة والفاسدين وعديمي الوطنية والاخلاق.
لكن مضمون الثورة التي نشهدها اليوم ليس الرد على مشروع الحداثة الرثة بكليته. لا تزال هناك أوهام كثيرة علينا التخلص منها حتى ندخل في الحداثة الحقة، أي العاملة على تحرر الانسان وتكريمه. ما نعيشه هو سعي الشعب اليائس في انتزاع ملكية وطنه التي انتزعت منه، واستعادته كوطن يضمن له الحقوق والحماية القانونية، بعد أن تحول إلى ملكية خاصة ومزرعة إقطاعية، وحول الناس الأحرار فيه إلى أقنان بالمعنى الحرفي للكلمة تلحقهم الطغمة المتسيدة بالقهر والعنف بالأرض والدولة وتسخرهم لخدمة أغراضها الخاصة، مستهينة بحقوقهم ومستهترة بحياتهم وارواحهم ومدمرة لمعنوياتهم ولهويتهم الأدمية. هؤلاء الرجال والنساء الذين ينزلون إلى الشوارع مخاطرين بحياتهم، وأولئك الشباب والشابات الذين حملوا السلاح ووضعوا أرواحهم على أكفهم، واستشهدوا بالآلاف، لا يريدون خبزاً ولا أجراً ولا مجداً. إنهم يريدون وطنا يضمهم ويحميهم وهوية توحدهم وتقرب فيما بينهم، يريدون دولة ترعى مصالحهم، يريدون قانوناً يحمي ضعفاءهم، يريدون حكومة تسأل عنهم، يريدون قادة منهم يمونون عليهم ويسمعونهم ويطيعونهم عن طيب خاطر. يريدون أن يعيشوا بكرامتهم وأن يتعامل بعضهم مع البعض كرجال ونساء أحرار ، متساوين، لا يخضع أحد احداً، ولا يذل مواطن أخيه أو يظلمه او يغشه.
لكن غاية الثورات لا تبلغ مباشرة ولا دفعة واحدة. تمر بالضرورة بتعاريج ومطبات ومآزق. هكذا لم يكن من الممكن التحرر من طغيان النظام العنصري الراهن من دون خلق مشاكل جديدة لا يكاد المرء يتصور مقدار ما سيعانيه الشعب كي يجد الحلول المناسبة لها قبل ان يحقق أهدافه ويبلغ مبتغاه. منها مشكلة إعادة بناء الدولة التي أغرقها النظام معه، ومنها إعادة الإعمار لبلد تحول إلى خرائب مادية وإنسانية، ومنها مشكلة بروز قوى جديدة تتحدى قيم الثورة المحركة ذاتها في الحرية والكرامة وتسعى إلى فرض قيم أخرى مضادة لها.
لكن هذا مجرد معبر إجباري للوصول إلى الغاية الرئيسية. وعلينا أن لا نخلط بين الوليد وماء الولادة. لنرجع إلى تاريخ الثورات، لننظر كيف كان الطريق متعرجاً وطويلاً في الثورة الفرنسية الذي لم يصل فيها الشعب إلى غايته إلا بعد أكثر من قرن من المعارك السياسية والاجتماعية والفكرية الطاحنة. لكن من دون هذه الثورة ما كان هناك جمهورية ولا شعب بحقوق سيادية متساوية ولا وطن ولا تقدم حضاري. فما نشهده هو ثمرة تحرر الفرد وتكريم ذات الانسان.
لا تتغير النظم والمجتمعات بلمحة بصر، لأن ثقل التاريخ والعادات وصراع المصالح وتضارب البنيات والهويات يجعل من المستحيل التقدم بصورة خطية بسيطة، ويفرض المرور بمعارك متنوعة ومتوازية أحياناً لايصال التاريخ إلى غايته. المهم أن لا يغيب الهدف عن نظرنا وان لا نفقد الايمان بالمثل التي حركتنا ودفعتنا إلى تحمل هذه التضحيات الهائلة. ومهما حصل، لن تذهب دماء الشهداء هباءً. سوف تزهر وتعمر الأرض، وتجعل من سورية الوطن الذي يتطلع إليه السوريون بالتأكيد.