هل التغير الثوري ممكن في المكسيك الآن، بالنظر إلى تفاوت خبرات المناطق ودرجة تشوّش التنظيم وتمزّق النسيج الاجتماعي؟
حين نتكلم عن تغير ثوري، المرشد الوحيد لدينا هو التاريخ. لا نستطيع أن نترك أنفسنا لترشدنا الأيديولوجية، فهي محض رغبات معلن عنها وبُنى ذهنية مجرّدة.
أعتقد أن ثمة فكرتين مسبقتين في موضوع التغير الثوري أودّ مساءلتهما:
أولاً فكرة أن العملية الثورية يمكن إدارتها أو التخطيط لها، فباستثناء الاتحاد السوفيتي والصين –الذين لم ينجحا برأيي– ليس في التاريخ عملية تغيير ثوري ناجحة خُطّط لها مسبقاً.
الفكرة الثانية هي أنه مهما غيّرت لن يُبنى مجتمع جديد إلا إذا تعرض لتدمير سابق. بعبارة أخرى، يلزم تدمير ما يكفي لبناء عالم جديد مكان العالم الذي سقط ودُمّر. أن تغيّر العالم بناءً على ما هو موجود حالياً ليس عملاً عملياً برأيي. ثمة أحكام مسبقة يجب تعديلها.
هل من المستحيل توقّع درجة الدمار الذي نعيش فيه، والذي نحتاجه ربما كي نعبر إلى عملية ثورية؟
التاريخ يعلّمنا أن كل الثورات بنات الحرب: الثورة الفرنسية وكومونة باريس
لا يبدو لي ممكناً تغيير العالم بدءاً بما هو موجود. ماذا ستفعل!؟ تجعل سانبورن ورادسون
من وجهة نظر يمينية أكثر، مصادمة السائد لا يضعفه بل، بالعكس، يقوّيه. معضلة، صح؟ فلسفية، سياسية، إبستيمية… لكن حقيقية!
مصادمة تهريب المخدرات تقوّيه فقط…
طبعاً! البلاشفة لم يُضعفوا دولة القيصر. هم بالأحرى استغلّوا ضعفها، الذي سبّبته حروبها وأخطاؤها، مما أدى إلى ثورة. بعد ذلك أعادوا بناء البلد، لكن تلك قصة أخرى.
ما أقصده أننا حين نبني أفكارنا وأفعالنا على تجارب سابقة نعرفها وتلهمنا، هذه الأفكار تبقى بحاجة إلى تنقيتها من الحجج الخاطئة والأفكار المسبقة التي لم تعد لها أية فاعلية. في مساحة ضيقة كمحار حلزون، يمكن لبناء «مجلس حكومة جيد» أن يكون له فاعلية، هذا ممتاز وتجربة مطلوبة جداً. لكن ماذا بعد؟ لا أعرف. للأسف ليس لدينا نظرية ثورية جاهزة للتطبيق.
أكثر من ذلك: جزء كبير من فكرنا التحرّري يجب إعادة بنائه أو إعادة تبنّيه أو إعادة تركيبه. الكثير من تفكيرنا أظهر مشاكل جدية: ما فكّرنا به أنا ورفاقي في تشياباس (الولاية المكسيكية) قبل خمسة عشر عاماً لا مفعول له اليوم، هذا جليّ. لذا، دون التخلي مبادئنا، ودون التخلي أخلاقنا، دون التخلي عن أي شيء، يجب علينا «قلقلة الحساء» عدة مرات لإعادة التفكير في كثير من الأمور، فبالنسبة لي أسوأ ما نقوم به هو أن نخدع أنفسنا ونبني نبوءات كاذبة.
اليسار التقليدي مرهق من كثرة الهجوم على الرأسمالية، لكن في حياتنا اليومية كلهم وكلنا يعيد إنتاج الرأسمالية: لأننا نذهب إلى (مطاعم) سانبورن، لأننا مستهلكون، لأن لدينا أجهزة آيفون، لأن لدينا أجهزة ذكية لم أرها من قبل في حياتي –وأنا صحفي– لأننا ننام في الفنادق، لأننا نركب السيارات… إنسان بسيط من جبال غيريرو (جنوب غرب المكسيك) يحقّ له أن يعظني عن الثورة والرأسمالية، لأن نمط حياته يبرّر له ذلك، أما نحن فلا.
لذلك ما زالت الثورة والحكم الذاتي نظريات أكثر مما هي ممارسة.
بهذا المعنى نحتاج لكسر الرتابة في سياقات أخرى أيضاً، وفقط تحت هذه الذريعة التي تسمح بإعادة إنتاج البُنى يمكن التفكير بخصوص احتمالات أخرى…
تماماً. حين أثور وأستولي على السلطة –أو على جزء من تلك السلطة– بينما حياة الناس اليومية على ما هي عليه، لن يكون ثمة نمط إنتاج بديل، والمجتمع سيستمر ليعمل كما كان يعمل، ولن نكون فعلنا أي شيء.
لعلّك قرأت «البيان الشيوعي»
اليوم في حياتنا القصيرة، ما الذي يمكننا فعله لبناء عالم جديد؟ سمّه اشتراكياً أو شيوعياً أو أيّ شيء، آخر همّي، لكن انظر إلى نماذج الحياة الحقيقية. كل من كومونة باريس والحرب الأهلية الإسبانية
الزاباتيستا نقطة مرجعية حالياً.
هي كذلك، وإن لم تحقّق الكثير في المستقبل، وربما لن تحقق الكثير. بمعنى ما، يمكن النظر أيضاً إلى مثال كوبا، المعقّد أكثر. كان ثمة أيضاً نقطة مرجعية تبيّن حدود قوة الدولة. إن كنا نفكّر في دخول تحوّل عمره 10 سنوات، لنا أن نقلق بخصوص التكتيكات والاستراتيجيات، لكن حين نفكّر في تحوّل يأخذ مئات السنوات، يفضّل أن نهتمّ بترك آثار الأقدام والفُتات والعلامات الصغيرة –كما يقول غينسبورغ– بينما كلها تشير لوجود طريق آخر. واضح؟
نعم، غير أني أفكر بكيفية إيصال هذه النقلة في الرؤية، ونحن نواجه أناساً وتجارب نضالية منهمكة في عمل مباشر. كيف يمكن لأحد أن يواجههم ويقول أن كل ما يمكننا فعله هو ترك آثار على الطريق بعد رحيلنا، أكثر مما «خلق» طرق جديدة؟
تاريخياً سوئلت فكرة الخلق جدياً. فكرة «بناء مجتمع جديد» منشؤها عصر النهضة والعقلانية الحديثة، لكن لا علاقة لها بالتاريخ الواقعي.
مثلاً، أفكر حالياً بالعملية الاجتماعية الجارية في تشيران (مقاطعة غربي المكسيك)، وبالنقاشات مع الأصدقاء والزملاء والناس هناك عموماً. كلها تدور حول محاولتهم إسقاط الدولة والحكومة المركزية والحكومة الفيدرالية. هم يتحدَّون الحكومة من أجل بناء علاقات اجتماعية جديدة، يفكّرون في تغيير ثوري وأعدادهم لا تزيد عن ثلاثين ألفاً، وبهذه الرؤية البديلة يفكرون بالتغيير.يعتقدون أن التغيير، وإن لم ينتهِ بحسم، سيصبح مع مرور الوقت والتاريخ علامة من تلك العلامات، أي نقطة مرجعية… إذا كلّمتهم بما تقوله سأكون في مشكلة.
إذا تكلمت هكذا مع زعماء الجماعة، ماذا تتوقع أكثر من خطاب أنطونيو العجوز نفسه؟ حين كنت في الواقع تكلمت مع تاتو وقلت له:
— تاتو، متى يبدأ تأسيس ثقافة سياسية جديدة؟ — حسناً، لقد بدأنا منذ خمسمئة وثلاثين عاماً، يمكننا الانتظار قليلاً.
لهذا ذكرت زعماء الجماعة، فهم كثيراً ما يرمون الآمال إلى المدى البعيد. ثقافتنا السياسية تنقصها الرؤية، فهُم جميعاً، على الأقل في المكسيك، أعمارهم في الستينات، وهو أمر بالغ التعقيد والجمود، رغم أن علينا العمل على تغييره.
كيف سنعالج هذه التجارب التي نبعت من الزاباتيستا ومن تشيران لتوظيفها في سياقات أخرى؟ كيف يمكننا توظيف تلك التجربة في حالتنا؟
للمرء أن يعتبر زاباتا (القائد الثوري المكسيكي) فشلاً تاريخياً، وله أن يعتبره نقطة مرجعية، صح؟ زاباتا خسر بشكل مؤسف، إذا أخذنا هذه الخسارة وفكرنا في المدى القصير سننخدع. أما حين نفكّر في تحوّل عمره قرون، فحتماً ثمة أمور مثيرة للاهتمام، ثورات مهزومة وثورات منتصرة تستمرّ فيما بعد لتأخذ اتجاهاً غير متوقّع.
لكن مع ذلك التاريخ لا يسير بشكل خطّي.
إن عدنا إلى القرن الرابع عشر، في 1348 انتشر الطاعون الأسود واختفى ثلث سكان أوربا، ثلثهم خلال سنتين. مؤلم. تخيل ثلاثين مليون مكسيكي يموتون في سنتين! كارثة.
لدينا حالياً ما يكفي!…
هذا حدث في أوربا. ضمن هذه الأُسس: الجهنم السكانية، الذعر الاجتماعي والثقافي، الخوف الطاغي من الموت…، هنا ولدت الرأسمالية. ماذا حدث فيما بعد؟ حسناً، ستة قرون من الهجوم الرأسمالي الضاري، انتفاضات بكافة الأشكال والأحجام، ريفية وحضَرية، والاستعمار. كل ذلك هو التاريخ. الصراع من أجل الاشتراكية استمرّ لأقل بقليل من قرن. لعقد مقارنة، نحن إذن ما زلنا في القرن الخامس عشر، مع فارق بسيط أن طاعون اليوم يرتدي قناعاً مختلفاً: القنابل الذرية، الإبادة، المذبحة. أسلحة الدمار الشامل اليوم أدقّ، وأحياناً أرقّ.
ماذا نفعل؟ ليس لك طبعاً أن تقول للناس في تشيران «ستكون تجاربكم فُتاتاً يجمعه بعدكم الآخرون». لا تستطيع أن تقول للناس ذلك، لكن بقليل من الحكمة واللياقة تستطيع… مع الإحالة دوماً إلى تاريخهم، فهُم بالنهاية قضوا خمسة قرون من القتال.
للإجابة على سؤالك السابق، هذا هو الإطار الذي يجب الشغل عليه، والذي يمكننا معالجة التجارب على أساسه. لا يمكنك الكلام معهم عن كومونة باريس أو لينين غراد، لكن يمكنك الكلام عن أسلافهم هم.
من الضروري القيام ولو بأصغر الأشياء، لأنها ما يمكننا وما يجب علينا القيام به. أعتقد أن أدواتنا تكمن اليوم هنا: ماذا نستطيع أن نفعل؟ الوقوف والصراع بكل طاقتنا من أجل ما نريد، مقاتلة ما تجب مقاتلته، مقاومة ما تجب مقاومته. ماذا يخبّئ لنا المستقبل؟ لست أدري.
نتكلم عن قضايا عديدة هنا. يمكن وضع تعليقاتك كإجابة لسؤال الدولة ومستويات التنظيم الاجتماعي. لكن الجماعات ومهرّبي المخدرات غيّروا المشهد الاجتماعي. تبدو هذه مسألة معقدة وصعبة. في ولاية ميتشواكان مثلاً، الجماعتان الأكثر سطوةً تملكان طرفاً اجتماعياً بجانبهما. تبنيان المدارس وتؤمّنان فرص العمل… تبنيان شرعيتهما الخاصة، المنافسة لشرعية الدولة وحتى لشرعية الثوار. تحققان ذلك في خمس دقائق، فجأة، بمجرد ما تبنى مدرسة في بلدة ما، فيمكنهم قتل كل الرجال في نفس البلدة دون أدنى اعتبار. أين يمكن وضع تعليقاتك هنا؟ تحديداً كي نفهم كيف لنضال صغير أن يحرّض على التغيير…
ليس لدي إجابة لهذه المسألة التي جدّاً ما تشغلني، مسألة كيف يمكن تفسير تهريب المخدرات هذه الأيام. طبعاً لا أوافق أن الأمر لعبة إمبريالية. لا أعتقد أنه كذلك. أظن أن له علاقة بمقاومة الطبقات الفقيرة.
ثمة كتاب رائع عنوانه «الهيدرا المتعدّدة الرؤوس»، وهو قصة عن تجارة العبيد في الأطلنطي في القرنين السادس والسابع عشر، يجادل أن صعاليك القراصنة كانوا بطريقة ما جزءاً من الصراع الطبقي. يبدو وضوحاً أنهم كذلك. حسناً، سأستخدم هنا أيضاً نفس الفكرة. كيف ستنظر الأجيال القادمة لقضية تهريب المخدرات؟ هل أضعفت أم قوّت الرأسمالية؟
واضح اليوم أن اليسار يختفي في المناطق التي تتكاثر فيها المخدرات. فهل لدى اليسار فعلاً ما يفعله بخصوص ما بعد الرأسمالية، بخصوص الصراع مع الرأسمالية؟ أم إنه يبحث عن ظل تحت مظلّتها؟ لست أشير فقط إلى لوبيس أوبرادور
أعرف من زملاء صحفيين كيف تلقّوا عروضاً من بعض جماعات المخدرات لـ«تحسين جودة حياتهم والحصول على وظائف ممتازة»، لكنهم لم يوافقوا. ومع ذلك، كان سيعني ذلك قفزة في شروط حياتهم لو وافقوا، ولن تُمسّ نزاهتهم بشيء، وقد فكروا ملياً قبل الرفض…
إذا رفضوا فخوفاً، لا بهدف عقلاني. خوفاً. قد أرفض الأمر خوفاً وقد أرفضه لأنه خاطئ أخلاقياً. الوكالة التنفيذية للمخدرات في الولايات المتحدة تبدو لي أسوأ. هل رأى أحدكم مسلسل بريكينغ باد؟ من تظنّ يربح: التجار أم وكالة المخدرات؟ أظن أن التجار يربحون، وضوحاً. وثمّ صلة توحّدهما: موسيقا الكوريدو والناركوكوريدو الفلكلورية في المكسيك
بانشو فيا «الحقيقي» (البطل المكسيكي الشعبي)، الذي كتب عنه الروائي باكو إغناسيو تايبو الثاني، كان مغتصباً، وحشاً جنسياً، ومجرماً وسفّاك دماء، فأين ترى مكانه اليوم؟ مع أحد تلك الجماعات، لا شكّ
بوضوح، إن كان ثمة عملية ثورية حقيقية في المكسيك فسيكون لهذه الجماعات دورُها في الثورة، فإذا حاصرت قوى الشعب السلطة غداً ستتكيف الجماعات معهم. التغيير التاريخي الحقيقي لا يمكن التنبّؤ به…كيف يمكن التخلص من ملايين الناس الغارقين في عالم المخدرات، ومن كل ثقافة شباب المخدرات التي تمتدّ من منتصف المكسيك وحتى الشمال؟ هذا ليس مما يمكن استئصاله في عشر سنوات، ولا واحدة، ولا مئة! ما أريد الوصول إليه، أن «الحملة الأخرى» للزاباتيين، البرنامج السياسي العقلاني المنظّم الذي أدعمه وسأبقى أدعمه، اصطدم بعقبة: الواقع! «آه، يا له من واقع! لا يمكنني التورّط في حرب المخدرات، لا يمكنني أن أقول أنا مع طرف أو آخر». نعم، ولكن أيضاً لا يمكنني أن أكون حيادياً. على اليساريين أن يصوغوا موقفاً من تجارة المخدرات. كل ما لدينا مجموعة من الدوغمائيين يردّدون «إنها (المخدّرات) خطة إمبريالية». قد تكون كذلك، لكن موسيقا المخدرات، الناركوكوريدو، واضحة في عدائها الامبريالية، وفي انحيازها للمقاومة ضد الدولة، وللتمرّد والثورة.
دعنا نأخذ مشهداً مختلفاً.
أجريت هذا التمرين مع مجموعة شباب من أحياء الصفيح في ريو دي جانيرو (في البرازيل)، صِبية يسكنون العشوائيات لا تتجاوز أعمارهم الخامسة عشرة: أحد الصبية، 15 سنة، أسود، خرج إلى الشارع وضربته الشرطة. حسناً، أولاً هو فقير، أبوه وأمه بلا عمل مستقرّ، وليس لديه شعور بالأمن. إذا مرض أحد والديه فلا مكان يسعفونه إليه، حتماً على المسعفين أن يجيئوا…، لذا خرج في الشارع وتعرّض للشرطة. غداً قد تضع عصابة الجوار مسدساً في حزامه فيغدو مهاباً. لننظر للأمر من قرب، هؤلاء الأطفال لن يذهبوا أبداً إلى الجامعة. هكذا، حين أنظر من فوق سأرى الحكومة والإمبريالية وجماعات المخدرات، لكن حين أشاهد على الأرض، كما هو الواجب برأيي، سأرى شيئاً آخر. حتى هم قالوا لي في ريو دي جانيرو، أن الشاب في الخامسة أو السادسة عشرة، إن كان وسيماً، جذاباً، أو يرقص بمهارة، يلعب كرة القدم أو كرة السلة بشكل جيد، أو يتواصل مع الصبايا، فلن يتورّط أبداً في المخدرات، سيكون شخصاً واثقاً.
سأعطيك مثالاً آخر.
إذا أخذت صفحة من كتُب حياة أولئك الأطفال، المتورّطين منذ الخامسة عشرة بتجارة المخدرات وكذلك المنتمين إلى تنظيم «الدرب المضيء» الثوري (الحزب الشيوعي في البيرو)، ستراها نسخاً كربونية عن بعضها، فالأيديولوجية تبرير لاحق لا علاقة به بالواقع.
هناك كاتب أرجنتيني اسمه كريستيان ألاركون، كتب عدداً من الكتب الرائعة ككتاب «حين أموت أريدهم أن يعزفوا لي الكومبيا»
قمنا بنفس التمرين مع عالم اجتماع برازيلي صديق، من حركة «المشرّدين» (Sin Tierra) التي تعمل مع الكنيسة الخمسينية
وفقاً لليسار التقليدي، الخمسينية «أفيون الشعوب». لكن حين ترى أسرة ما، امرأة وحدَها مع أطفالها في أحياء الصفيح، مع زوج يضربها أو يهجرها أو يسكر كثيراً، وترى كيف يقلع الزوج عن الشرب مذ أصبحوا يذهبون إلى الكنيسة، وكيف يذهب الأطفال إلى الحضانة، وتصير الأسرة أفضل تنظيماً، والمرأة يمكنها الذهاب إلى العمل دون الحاجة للقلق من زوج ربما يحرق البيت… بالنظر من فوق، الخميسينية «أفيون». لكن، باستعارة وجهة نظر المرأة، الخمسينية هي مساحة نماء شخصي، حتى لو كانت فرصة التحرّر ضئيلة ربما.
نتحدث عن الشيء نفسه لكن في أمكنة مختلفة. هذا ما نريد إنجازه بخصوص تهريب المخدرات، ابحث عن كرة القدم، ابحث عن الخمسينية… لِمَ العالم تتحمّس جداً لكرة القدم؟ لأن الأمهات يردْنَ من أبنائهنّ أن يكونوا مثل ميسّي، ينتشلون أنفسهم من الفقر ويحقّقون ذاتهم، فبغير ذلك لن يكونوا شيئاً. لو لم يلعب ميسّي ومارادونا كرة القدم كانا سيموتان من الجوع في أحد أحياء الصفيح الفقيرة، هذه هي الحقيقة! ومارادونا هو نفسه الذي يتعاطى الكوكائين ويضع وشْم تشي غيفارا وفيديل كاسترو. لذا، دعنا لا تشتّتْنا الأيديولوجية. كثيرون ينتقدون مارادونا، لكنه هو الشعب.
بالتأكيد، أيّاً منّا قد يكون مارادونا. حتى في كرة القدم…
من المهم النظر إلى الشغف من هذه الزاوية.
لدى اليساريين فكرة تقول إن الظلم في كل مكان، والناس مضطهدون بالدين وكرة القدم. لا يتخيلون أن الناس تختار، تختار وإن ضمن مجال ضيّق، فهم طبعاً ليسوا أحراراً تماماً في اختياراتهم.
بالنسبة للناس العائشين في مستوطنات فقيرة على هوامش المجتمع، ما هو أقصى ما يريدون؟ تحسين وضعهم. هذا لا يعني فقط الحصول على شاشة بلازما، بل يريدون أيضاً الاستقرار، فبالنسبة للكثير من العائلات الفقيرة، حين يمرض فرد ما عليهم بيع البيت لتوفية أجور المعالجة، وإلا سيموت. الصحّة همّ يومي لنا جميعاً. قد أمرض غداً وتكون تلك مشكلة كبيرة. لكن أولئك الذين ليسوا تحت حماية الحكومة أو حماية أي أحد في أزمة مريعة.
لست أقصد أن الخمسينية ثوريّون، ولا أن عليك أن تكون خمسينياً وإلا مهرّب مخدرات. لا. أنا أحاول التفكير في الثورة وفق رؤية مركّبة أكثر، ومن وجهة نظر عامّة الناس تحديداً. لم تحدث ثورة أبداً كما تقترح الصور، أن لينين قال مشيراً بإصبعه «اقتحموا قصر الشتاء»
«اقتحِموا قصر الشتاء» عبارة لا تكفي، أليس كذلك؟ الناس اقتحموا حصن الباستيل دون لينين ودون أي قائد، ففي اليوم الذي اقتُحم لم يكن هناك لا دانتون ولا روبسبيير
نحن صنعنا من لينين قائداً فيما بعد، وآخرون صنعوا تروتسكي، وغيرهم ماو
أنا أسائل فكرتنا عن الثورة. هي محض بُنى أيديولوجية تظهر بعد حدوث الأحداث.
حدث في الأرجنتين ذات يوم شيء رائع: في 19 و20 كانون الأول 2001 كانت المجاعة منتشرة، وكانت الحكومة قد أعلنت إغلاق البنوك، فراحت المحلات تُنهب لعشرين يوماً، وبعد أن شهدت الحكومة ملامح اكتساحها (اليساريون كانوا يتكلمون، ولم يكونوا هناك طبعاً، فاليسار لا ينهب المحلات حيث «لا بأس في سرقة الطعام لكن سرقة التلفاز بها بأس») أعلنت رسمياً حالة حصار، فإذا بالناس تتجمّع في الشوارع، والحكومة تسقط، وخلال يومين أو ثلاثة عُقد 300 اجتماع في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس، وآلاف الاجتماعات في عُرض البلاد. التروتسكيون والماويون الذين كانوا وقتها يقرؤون ماو ولينين وتروتسكي حينما عُقدت الاجتماعات (سُمّي هؤلاء فيما بعد الأرجنتينازو) ذهبوا براياتهم الحمراء، والمنجل والمطرقة، وراحوا يهتفون «من أجل أرجنتينازو أخرى!». طبعاً، هم أرادوا ثورة (أرجنتينازو) يقودونها هم. هذا ما لم ولن يحدث أبداً. هم عملياً خسروا، لكنهم أرادوا أن يتبعهم الناس في ثورة أخرى مماثلة، حيث ستكون الثورة القادمة عظيمة!
عمّ نتحدث عادةً نحن اليساريين؟ عن ترويض الناس بما يمكّننا من حكمهم. هذه هو الفكر الثوري لدينا.
إذا كان من ثورة ممكنة في المكسيك أو أي مكان آخر، فالثوريون مثلي، الذين يدعمون حكماً ذاتياً، الزاباتيون أو مؤيدوهم، المتعاطفون أيضاً مع كومونة أوكساكا، مع قوى شرطة غويرو الاجتماعية، مع تشيران، وسائر هؤلاء…، الثوريون مثلي قد يؤثرون، لحسن الحظ يمكننا ذلك. ورغم ذلك لا تظنّنّ لِلَحظة أن بإمكاننا التأثير بنسبة 99 بالمائة. إن كان لنا تأثير10 بالمائة فأنا أوقّع. في الثورة الروسية انظر إلى المدى البعيد: كم التأثير الذي امتلكه البلاشفة، بالأحرى أفكار لينين، في الكيان الذي أصبح بالنهاية الاتحاد السوفييتي؟ عشرة بالمئة؟ مئة بالمئة؟ أربعون بالمائة؟ لقد كانت السلطة الجديدة في حكم ستالين تشبه جداً سلطة القياصرة وبطرس الأكبر، تماماً كما كان وزراء ماو أقرب إلى مانداريين جُدُد
هي غيّرت. مثلاً، كان في الأوروغواي تأريخ للديكتاتورية، قبل وخلال وبعد، مؤسّس على مقابلات مع قادة سياسيين واتحاديين وقادة جماعات، وكان هذا التأريخ يصوّر الديكتاتورية كتصدّع. بالنسبة لي نعم كانت تصدّعاً، فقد نُفيتُ وفقدتُ عدداً من أصدقائي. الديكتاتورية مزّقت حياتي، لن أقول للأفضل أو للأسوأ لكنها مزّقتها بشدّة. لكن آخرين من كتّاب التاريخ الجزئي (micro-history) قد يركزون على حياة رجل مثليّ (جنسياً) في السبعينات من عمره، ويلاحظون كيف كان يقال في وصفه «مخنّث»، وهي إهانة. في تلك الفترة من حياته لم يكن ثمة ديكتاتورية، فقد كان مقموعاً ومحتقراً قبل وخلال وبعد. بالنسبة لجزء جوهري من هويته الجنسية (كمثليّ) لم توجد الديكتاتورية، لم يكن يهمّه إن كانوا عسكراً أم فاشيين أم ديمقراطيين أم ثوريين، فقد تلقى المعاملة نفسها من الجميع. فقط مؤخراً بدأ الرجل بالظهور، ولو باتجاه الصواب.
هذا المهم: من أين ننظر. طبعاً، من وجهة نظر سياسي أو زعيم اتحادي، الدكتاتورية صنعت تصدعاً. لكن بالنهاية كم سياسياً أو زعيماً اتحادياً في العالم؟ هل السيرة الذاتية لأحد عمّال الطبقة الكادحة تشبه الزعيم أم ذلك الرجل المثليّ؟ حسناً، ربما بين هذا وذاك. لكن دعنا لا ننأسر بوجهة نظر الزعيم كما لو أنها تمثل وجهة نظر الجماهير، حتى لو كان الزعيم صديقنا ماركوس، قائد جيش زاباتيستا للتحرير الوطني، أو صديقنا من تشيران. الفكرة أن نبني تفكيراً أكثر تركيباً وشمولاً؛ ولو أننا ربما خرجنا عن الموضوع…
عارضنا آراء بخصوص حكومة إيفو مورالس (في بوليفيا)، خصوصاً بعد صراع محميّة تيبنيستيبنيس (Territorio Indígena y Parque Nacional Isiboro Secure, TIPNIS – الحديقة الوطنية والإقليم الطبيعي الآمن لإيسيبورو) محميّة طبيعية في بوليفيا يعيش شمالها بوليفيون أصليون وقسمها الجنوبي مستعمَر من قبل مستوطنين معظمهم من فلاحي الكوكا ، وبالتالي واضح أيّ وجهة نظر يجب أن نتبنى…
حسناً، الأمر معقد للأسباب التي ناقشناها للتوّ: يعتمد على وجهة النظر التي نتبناها، فنحن، وإن علمانيون، ولكن عباقرة في صناعة الزعماء والأنبياء والآلهة، أليس كذلك؟ التأريخ الماركسي مليء بالآلهة التي فوق النقد، وبالأديرة والقدّيسين والكنائس الموزّعة بين القدّيسين: القدّيس تروتسكي، القدّيس ماو، القدّيس غرامشي. ما الجديد لدينا؟
أعتقد أن ما حدث في إقليم تيبنيس كان كفاحاً عادلاً، معركة ضد التقدم. بالأمس كنت أقتبس المؤرّخ الأميركي جون ووماك، وقد أعجبني جداً كتابه «زاباتا والثورة المكسيكية»، رغم أنه لا يتبنى رؤية مؤيدة لزاباتا، لكنه افتتح سيرته الذاتية قائلاً: «هذه قصة فلاحين لم يريدوا التغيير، لذا كان عليهم أن يثوروا».
عادةً، الناس يثورون ليمنعوا التغيير؛ كي لا يقضى على نمط حياتهم اللارأسمالي. هذه قصة معركة تيبنيس. القضية هناك تعقّدت مذ كان فيها جماعات أهلية و«غُزاة»، أي فلاحي الكوكا الذين هاجروا إلى تيبنيس وأسسوا مزارع هناك، واليوم يملكون ما يكفي من الحق ليعتبروا أنفسهم جزءاً من البلدة كغيرهم. هذا وضع معقّد جداً ويقطع باستحالة أيّ تحليل بسيط للمسألة. أنا مع من يدافعون عن تيبنيس. ثمة طريق يجب بناؤه. هم نظّموا مسيرة احتجاجية ناجحة جداً (وكانت ناجحة جداً لأن الحكومة فيما بعد ردّت بقمعها) مئات آلاف الناس انتشروا في الشوارع، ولأن الحكومة لم توقفهم استطاعوا المضيّ قدماً بعد ذلك ثم تنظيم مسيرة مشابهة. هذه المرة فشلت لأن الحكومة عرفت كيف تتعامل معها، والحكومة اليوم هي من يبادر سياسياً. نضال هؤلاء يشبه نضال أولئك في تشيران وباروتا: مجموعة كبيرة وقوية ممن يستوعبون الحالة لكنها ذات قاعدة منقسمة جداً. القاعدة هنا في المكسيك منقسمة أيضاً. لا يمكنك القول أن فلاحي الكوكا يجب طردهم من تيبنيس فقد عاشوا هناك لوقت طويل. هكذا تتعقّد رؤيتنا للواقع.
أظن حكومة إيفو مورالس، إذا نظرنا من وجهة نظر خطاباته، حكومة ثورية، بينما حكومة ديلما روسيف في البرازيل معتدلة جداً ووسطية. لكن، بالممارسة، ولنترك جانباً الخطابات وننظرْ إلى ما تفعله كل حكومة، بالكاد نجد فرقاً بين الحكومتين. الفرق ليس في الحكومة بل في المجتمع. ما زال لدى بوليفيا، بخلاف البرازيل، مجتمعا معبّأ سياسياً. طبعاً لم يوفِ إيفو مورالس أبداً بوعوده التي أعلنها عندما انتُخب.
تبدو أنها محاولة لإيجاد الدولة الأمّة التي لم تُتح لها فرصة الوجود من قبل.
بطبيعة الحال. ألم تقم كل الثورات بإعادة بناء الدولة الأمة؟ أتفق مع إيمانويل والرستين (المفكّر الأميركي) حين يقول ثمّة ثورتان كبريان ناجحتان لم تغيرا العالم، الفرنسية والروسية، وثورتان فاشلتان هُزمتا، لكن انتصرتا بتغييرهما العالم، ثورة 1848 (حين كتب ماركس البيان الشيوعي) وثور 1968
ماذا يحدث في البرازيل مع الغواراني كايووا؟ كيف يمكننا فهم تركيب وشمول هذه المسألة؟
لست على إحاطة بتفاصيل النزاع على الأرض، لكن أعتقد أننا في مرحلة يتطرف فيها التوسع الرأسمالي في البرازيل، خصوصاً في الأمازون.
في الأمازون هناك حوالي 70 سداً كهرمائياً، بأحجام متفاوتة، يُبنَون على روافد كبيرة وسريعة التدفّق، وثمة طرق أيضاً تبنى. الفكرة أن مشاريع البنية التحتية الواسعة هذه، كالمجاري المائية و«مبادرة دمج البنية التحتية في أميركا الجنوبية»، تخلق نمواً سريعاً، لكنه سرعان ما يؤثر على المجتمعات التقليدية. هي جزء من فكر التنمية الجديد في البرازيل وجزء من عملية استعباد للناس تتوسّع داخلاً وخارجاً، فالأمازون خطّ يجب تجاوزه وغزوُه. هناك كتاب يتحدث تحديداً عن هذا، اسمه «السلطة البرازيلية»، يشرح كيف أن «البرزايل ستصبح قوة عالمية عبر غزو الأمازون». الأمازن هو الكهرباء والصويا والمواشي…
تبدو هذه الأمور مهمة بالنظر إلى التغير بين المركز والأطراف…
فكرة أن هناك نقلة من الأطراف إلى المركز افتراضية تماماً. نموذج المركز- الطرف سقط، ولا نعلم كيف سيُصاغ مرة أخرى. محتمل في أميركا الجنوبية أنه هناك مراكز جديدة ستنشأ وأطرافاً جديدة. يجب أن يكون هناك مراكز وأطراف كي تشتغل الرأسمالية. من الوارد ألا تغدو البرازيل شكلاً جديداً للإمبريالية، لكنها لن تكون دولة طرَفية.
باختصار، ما أودّ قوله أن من المهمّ للثوار أن يتحركوا باتجاه عمليات التغيير بحماس، لكن دون تعويل مبالغ به عليها. ثمة كثيرون مثلاً يرَون أن الزاباتية خذلتهم، ذلك أنهم ظنّوها ستملأ الفجوة العاطفية والروحية لديهم، لكنها لم تفعل! من أجل هذا تتغير الرأسمالية باستمرار، تجدّد نفسها دائماً لأنها حين لا تجدّد نفسها تنهار. ليس لنا أن نشبه الرأسمالية، نشبهها أحياناً، ولكن ليس هذا أفضل ما نقوم به. يمكن للنضال والثورة أن تحلّ مشاكل عديدة، لكنها لن تحل مشكلة الوجود! علينا أن نتذكر هذا جيداً. وإلا سنرتدّ على أعقابنا بحثاً عن شيء أبداً لا يخيّب الأمل: الاستهلاك. لن يخذلك الاستهلاك لأن رصيدك اليومي يتجدّد ويتجدّد ويتجدّد…، حتى تصل إلى حيث لا يمكنك الاستهلاك مجدّداً، ووقتها ترتدّ إلى الثورة…