بدا إدراج وزارة الخارجية الأميركية لجبهة النصرة في بلاد الشام في لائحة المنظمات الإرهابية في 11/12/2012 وكأنه نقطة تحوّل في النظرة الدولية للصراع في سوريا بين السلطة وقوى الثورة المختلفة. فقد ترافق هذا الإدراج مع تقارير إعلامية ورسمية غربية تتحدث عن الحرب الأهلية في سوريا وليس عن ثورة شعبية ضد نظام لايزال قائماً ويمارس مهامه السلطوية.

كما أن الإعلام الرسمي السوري سارع إلى إلتقاط الفرصة واستعاض عن أوصافه القديمة في تسميه مناهضيه كمندسين وعراعير وعصابات مسلحة بتوصيف جديد هو أنهم من مقاتلي «جبهة النصرة» حصراً.

فبعد سنةٍ وعشرة أشهر على بدء الثورة السورية وأكثر من ستين ألف شهيدٍ تم توثيق أسمائهم وعدد غير معروف من الجرحى والمعاقين والمعتقلين وخراب أحياء وقرى وأكثر من مليوني ونصف مهجّر وآلاف نقاط التظاهر الدوري يبدو كاريكاتورياً ختزال كل هذا المشهد بقتال عسكري بين جيش النظام ومقاتلي «جبهة النصرة».

فما هو اللغز في ذيوع شهرة هذا الفصيل دوناً عن غيره من التشكيلات المسلحة التي تقاتل النظام؟

كان الإعلان عن تأسيس «جبهة النصرة» في الشهر الأول من عام 2012، وفي الشهر الثاني شباط 2012 دعا زعيم التنظيم الدولي للقاعدة أيمن الظواهري المسلمين للجهاد في سوريا، وفي نفس الشهر في 27 شباط ردّت وزيرة الخارجية الأميركية وقتها هيلاري كلينتون على سؤال لشبكة سي بي إس الأميركية حول تقاعس الإدارة الأميركية عن دعم الثورة السورية بالقول : نحن نعرف أن زعيم القاعدة الظواهري يدعم المعارضة في سوريا، فهل نقوم بدعم القاعدة في سوريا؟ ولم يتنهِ هذا العام إلا وقد وضعت الخارجية الأميركية «جبهة النصرة» في لائحة المنظمات الأرهابية.

أما الوسط السوري المعارض فتراوحت مواقفه من إنكار حقيقة وجود الجبهة وإعتبارها صنيعة الأجهزة الأمنية للنظام إلى الأعتراف الحذر بوجودها مع التحفظ عليها إلى الدفاع عنها من قبل الشيخ أحمد معاذ الخطيب رئيس الأئتلاف الوطني لقوى الثورة و جورج صبرة رئيس المجلس الوطني السوري ومن ثم تسمية أحد جمع الثورة بجمعة «لا إرهاب في سوريا إلا إرهاب الأسد» رداً على تصنيف وزارة الخارجية الأميركية المذكور سابقاً.

ولكن هذا الدفاع عن الجبهة لم يمر مرور الكرام بين جمهور وأنصار الثورة السورية بل وتعدّاه إلى كتّاب عرب لهم موقفهم الواضح لصالح الثورة وبدا واضحاً إشكالية إعتبار الجبهة جزءاً من الحراك الثوري المسلّح وما تثيره من هواجس ومخاوف عند شريحة غير قليلة من العلمانيين وأوساط الأقليات الدينية والمعتدلين في إيمانهم.

ورغم وجود الطابع السلفي عند الكثير من كتائب الجيش الحر من تسميات الكتائب إلى خطابها الإعلامي لكن لم تثر واحدة منها هذه البلبلة كما فعلت «جبهة النصرة». فالسلفية المقاتلة ذات المرجعية السورية الهادفة لإسقاط النظام شيء والسلفية الجهادية التابعة لمرجعية غير سورية كما يرشح من التقارير الأعلامية والأستخباراتية المسرّبة والتي تشير لكون هذه الجبهة من تفرعات دولة العراق الإسلامية التابعة لتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين وكون قريب أردني لأبو مصعب الزرقاوي، القائد المقتول لهذا التنظيم في العراق، هو من يقودها حالياً شيءٌ أخر مختلف.

ولكن برغم هذه التحفظات المختلفة والتصنيف الأميركي وحرب النظام السوري فإن هذه الجبهة تتمدد وتكسب شعبية أيضاً بسبب مايُروى عن بسالة مقاتليها وعدم تورطها في السلب والنهب كما فعلت كتائب أخرى وعن تمويلها الجيّد الذي يجعلها تقوم بالإغاثة وتنظيم الموارد في أماكن وجودها. هذا الوجود والاستمرارية للجبهة وتعاظم دورها يبدو كأحجية لا تخلو من تقاطعات يشترك فيها الأطراف المتجابهة اليوم على الساحة السورية.

أول هذه الأطراف هو النظام السوري الذي تحقق هذه الجبهة مصداقية لخطابه حول أنه نظام علماني يحمي الأقليات الدينية من خطر الأصولية الأسلامية التي تتهددهم وشريك للعالم الغربي في حربه على تنظيم القاعدة وتفرعاته المحلية. هذا النظام ورغم كل خطابه المتركز حالياً حول هذه الجبهة لا يكلّف نفسه بالجهد العسكري ضدها في حملاته المفتوحة عسكرياً ضد داريا، التي لا وجود معروف للجبهة فيها، وفي حمص حيث كتائب أخرى للجيش الحر تقوم بالمواجهة معه وحتى في حلب. ورغم تمركز عناصر الجبهة في قطاعات محددة جغرافياً، يقوم النظام بقصف مناطق أخرى بدلاً عنها، ولا يخلو اتهام النظام بأنه أحد العوامل المساعدة على تقوية نفوذ الجبهة من وجاهة تتعلّق أصلاً بماضيه في التعامل مع الحالة الجهادية المغذيّة لتنظيم القاعدة في العراق بالرجال والتمويل، فمكاتب الارتباط الأمنية التابعة للأجهزة الأمنية المختلفة في سوريا كانت مسؤولة ًعن تنظيم ومرور الجهاديين العرب للقتال في العراق وتاريخ هذه الأجهزة في تسمين هذه المنظمات الأصولية تمهيداً لذبحها فيما بعد مقابل مكافآت غربية طويل وغني بالدلالات.

ثاني هذه الأطراف هو الدول الأقليمية التي تتعاطى في الثورة السورية من جانب أنها فرصة لتصفية الحسابات المتعلقة بمواجهة النفوذ الإيراني أو ماتعتبره تلك الدول المدّ الشيعي في المنطقة. فتمويل الجبهة الذي يبدو أنه ميسور وغير منقطع يأتي أساساً من دول الخليج عبر شبكات متشعبة من الأمراء ورجال الأعمال والجمعيات الإسلامية المختلفة ويمر بشكل أساسي عبر تركيا التي غضّت النظر عن تسرّب مقاتلين عرب وأجانب عبر حدودها للداخل السوري رغم علمها بمحاذير ذلك على الثورة والنظرة إليها في الداخل السوري ومن الرأي العام الغربي. وترافق هذا مع تجفيف موارد الدعم عن كتائب وتشكيلات الجيش الحر الأخرى وعن الحراك الثوري السلمي بطبيعة الحال. هذا الأمر أدّى إلى علّو كعب «جبهة النصرة» وقدرتها على التجنيد واستقطاب الولاءات وتعففها عن النهب والسلب الذي أنخرطت فيه تشكيلات أخرى أصبحت سمعتها فاسدة ومكروهة. يمكن أستقراء جانب أخر لاستعمال الجبهة من قبل هذه الدول وهو إستدراج التدخل العسكري الغربي في سوريا لمعرفة هذه الدول بحساسية هذا الملّف الجهادي بالنسبة للغرب ولمعرفتها أيضاً وهي الخبيرة بألية إتخاذ القرار الغربي أن لا نيّة لها بالتدخل العسكري لمساعدة الشعب السوري نظراً للتعقيدات المختلفة لموقع سوريا الجغرافي وتحالفاتها السياسية العسكرية الأمنية مع إيران وروسيا وبنية جيشها ونوعية سلاحه مما يجعلها حالة مختلفة تماماً عمّا سبق فعله في ليبيا. وهكذا تعيد هذه الدول أسلوب النظام السوري نفسه في إستعمال هذه التنظيمات ومن ثم تصفيتها ولكن هذه المرّة للمفارقة ضد هذا النظام.

ثالث هذه الأطراف هو الدول الغربية نفسها المفترض أنها داعمة للثورة السورية وترغب بتغيير النظام، حيث تبدو علاقتها بتضخم حالة الجبهة قائمة على مستويين اثنين: الأول هو تقاعسها عن بذل جهد حقيقي لحماية الشعب السوري وتركه لمصيره اليائس أمام ألة عسكرية جرّارة، والثاني يتعلّق برغبة ربما تكون موجودة في إطالة عمر الصراع في سوريا وجعله ميدان لتقاتل الأعداء وإستنزاف الجميع النظام وسنده الإيراني من جهة والقوى الجهادية الإسلامية من جهة أخرى!

رابع الأطراف هي القوى المحلّية المنخرطة في الثورة والداعمة لها فالمقاتل على جبهات القتال لن يلتفت كثيراً لمعتقد من يقاتل إلى جانبه وتصوّره لشكل الحكم المستقبلي في سوريا والشعب اليائس الذي رفع شعار «يا ألله مالنا غيرك يا ألله» لايملك ترف إختيار مقاتلين ترضى عنهم وسائل الإعلام والرأي العام والمعارضة السياسية السورية المحشورة بين زيف الوعود الخارجية وضغط الحراك الثوري في الداخل لا تجرؤ على تجريم تنظيم جبهة النصرة أو خوض أي صراع معه ومع من خلفه.

هكذا يبدو انفلاش هذا التنظيم كمحصلّة لرهانات يائسة تختلف مسبباتها وتجتمع كلّها في نيله هذه الشهرة.