مجزرة عقرب، مجزرة عنوانها الالتباس، التباس يمكن أن يكون للمتمعن سياقاً كاشفاً وأداة تخدم وضوح الرؤية، فهذه المجزرة التي راح ضحيتها 125 قتيلاً أغلبهم من الطائفة العلوية نتيجة تفجيرات اعتبرتها لجان التنسيق قصفاً من قوات النظام على ملجأ للأهالي، واعتبرها المرصد السوري مجهولة المصدر، ووصفها شهود عيان أنها قرار انتحار جماعي اتخذه الشبيحة بالنيابة عن أهاليهم ورهائنهم خوفاً من وقوعهم في قبضة ’الجيش الحر‘ الذي يحاصرهم، مجزرة تقول وضاعة وتضارب ما غطّاها من تقارير صحفية وحقوقية الكثير عن هلامية إعلام الثورة وتكاسله إزاء بلورة رؤية وطنية تستطيع استثمار الطاقات الإعلامية الشبابية الهائلة التي أنتجتها الثورة وتأطيرها.
بلدة عقرب المختلطة طائفياً، يقطنها السنّة التركمان مع أقلية علوية، والتي تشكل فاصلاً بين سهل الحولة «السني» المنتفض وبين جبال العلويين الداعمة للنظام والحاضنة لشبيحته، هي أرض الحدث وذلك ما يشحنه بالأسئلة، أسئلة حول مصائر الشبيحة وعقليتهم ومستقبل السلم الأهلي وإمكانية تحول ’الجيش الحر‘ إلى جنين مؤسسة عسكرية وطنية، أسئلة حول المجتمعات الحاضنة للنظام، وبخاصة المجتمعات العلوية، وبناها ومصائرها، وكيفية اندماجها في المجتمع السوري بعد الثورة. بحر من الأسئلة والمؤشرات والدلالات ينبغي لنخبنا الثقافية التمعن فيها وتفحصها ودراستها، وهو ما لم يحدث إلا كفافاً، وهو ما يدلل على بؤس نخبنا الثقافية والفكرية وطابعها الإعلامي الضحل.
عقب المجزرة انتشر على موقع اليوتيوب شريط فيديو سجله نشطاء الحولة، يعرض شهادة أم أيهم الناجية من المجزرة، لتروي لنا، بمشهدية عالية، قصة الحصار الذي فرضه مقاتلو الجيش الحر على شبيحة عقرب الذين اختطفوا أبناء بلدتهم من العلويين ليستخدموهم جداراً بشري يصد عنهم غضب المقاتلين ورهائنَ لحل سياسي يمكن أن يؤمن لهم سلامة أرواحهم.
حصار طويل دام قرابة الأيام العشر، عاش خلاله الرهائن كل الإذلال الذي اعتاد الشبيحة ممارسته، الشبيحة الذين كانوا لفترة قريبة أبناء هؤلاء الرهائن انفصلوا نفسياً عن هذه الحقيقة، وتحولوا إلى وحوش مذعورة منعت عن رهائنها الطعام والشراب ومارست كافة أشكال السادية، وكانت نهاية هذا الحصار بتأجج ذعر الشبيحة بعد اشتداد الحصار وغياب تعزيزات النظام ووصول وفد من أعيان عقرب للمفاوضة، و«قطف الثمار» فقاموا بقتلهم وقتل الرهائن عبر سلسلة من التفجيرات انتهت بقتل الشبيحة لأنفسهم وزوجاتهم خوفاً من تنكيل الجيش الحر بهم واغتصاب أعراضهم!
تبدو أم أيهم في هذا الفيديو تكثيفاً أدبياً لمأزق المجتمعات العلوية الموالية، الجملة الأكثر تكراراً في كلامها «أنا بدي عيش» تعكس وعي هذه المجتمعات للمأزق الذي وضعت نفسها فيه عبر ارتباطها بالنظام ودعمها لخطابه واحتضان شبيحته، تبدو في لحظات أخرى مذعورة من نشطاء الحولة الذين يسجلون معها اللقاء فتطلب منهم تكراراً احترام عهود الأمان التي قطعوها عليها. تروي لهم بأسى وحقد ممارسات الشبيحة الشنيعة، لا تكتفي بسرد تلك الممارسات السلطوية الراهنة وإنما تتألم من احتقارهم للعنصر النسوي في هذه المجتمعات، إنها بكل شفافية وبساطة تروي لنا بغصة قصة السلطة بمعناها الواسع في هذه المجتمعات.
تبدو أم أيهم في هذا الفيديو وكأنها بطلة رواية ماري شيللي الشهيرة، إنها تروي لنا قصة فرنكشتاين، الوحش الذي اخترعته ليتمرد عليها ويحول حياتها إلى كابوس، ففي ظل الفقر المرعب الذي عرفه أهالي المجتمعات العلوية، لم يجدوا سوى وظائف الدولة سبيلاً لإنتاج وجودهم، وهو ما أتاح الفرصة للنظام الأسدي لترويض هذه المجتمعات وخنق كل ميكانزم اجتماعي لمقاومة الحضور السلطوي، لينتهي إلى ربط وجودها بوجوده، وكان للبنية البدائية الريفية الشديدة التبعثر والطبيعة السرية والشديدة المحلية للعقائد الدينية وهيمنة شرائح بائسة من النخب ذات الجذور الاقطاعية والبيروقراطية العسكرية وصلابة سرديات المظلومية التاريخية ذات البعد الطائفي دوراً مساعداً في تسهيل تلك الهيمنة، التي استحالت حصاراً خانقاً حوّل هذا الريف إلى «دمية عجينية» لايمكن أن تلتقط الروح إلا بانهيار النظام وبمساعدة جوارها.
تأتي أم أيهم، صوت بلون أحمر كصافرة الإنذار، صوت يندد في عمقه بهذا النظام، الذي أساء للمجتمعات العلوية مرتين، المرة الأولى عندما منع الطائفة العلوية، وهو حال باقي الأقليات، من التحلل السياسي والاندماج الاجتماعي ليتحول أبنائها إلى مواطنين أحرار من الماضي، والمرة الثانية عندما حولها إلى مجرد أداة تخدمه في تمكين استبداده دون أن يمنحها إمكانية التحول إلى فعالية مجتمعية وديناميكية تاريخية قادرة على مواجهة أندادها.
بعد مجزرة عقرب بأيام، استشهد العقيد المنشق يوسف الجادر الملقب «أبو فرات»، كان لاستشهاده أثر الفاجعة في الفضاء الافتراضي والإعلامي، فقد انتشرت عدة مقاطع فيديو على موقع اليوتيوب تعرض آراء هذا العسكري الشهيد، المقطع الأول كان يعرض كلمته إثر تحرير مدرسة المشاة في حلب، والذي بدأه بعبارة «واللهي مزعوج»، فما أثّر فيه ليس قدرته وكتائبه على الانتصار في معركة مدرسة المشاة وإنما مشاهد الخراب والدم التي خلّفتها المعركة. ويوجه في مقطع آخر رسالة تنديد بالنظام السوري الذي وضع عساكره في معادلة قاهرة «فإما أن تكون قاتلاً أو تكون قاتلاً»، كما استعرض في المقطع المناخات المذلة التي يعيشها العسكري السوري ومدى صعوبة خيار الانشقاق، وأدان فيه تحويل النظام أبناء الطائفة العلوية إلى رهينة يعمل من خلالها على ابتزاز المجتمع السوري والمجتمع الدولي، وأكد على رغبته في انتزاع العلويين من براثن النظام.
يأتي أبو فرات كرد سوري جواني على صرخة «أنا بدي عيش» التي أطلقتها أم أيهم، فالمنشقون يمكن أن يشكلوا نواة هامة ذات دور رئيسي في إعادة هيكلة المؤسسات والأجهزة العسكرية، وأن يساهموا في استعادة احتكار الدولة للعنف وشرعيته، وخطاب أبو فرات الذي يرى أن الثورة، في أحد وجوهها، هي عملية إعادة إنتاج دولة قوية قادرة على إطلاق ديناميكية اندماج اجتماعي قائم على تمكين مبدأ المواطنة وتحطيم البعد السياسي للفسيفسائية السورية، هو الخطاب الوحيد القادر على النأي بسوريا عن مخاطر تفجّر كيانها واستمرار فوضى السلاح. وعلى المشي بسوريا على طريق عدالة مجتمعية قائمة على الحق والواجب والقانون بدلاً من عدالة نفسية فردية قائمة على نزعات الثأر والانتقام.