1) بشأن الجمعية التأسيسية وفي سياق فراغ سياسي مؤقت بعد سقوط النظام، هل يتم تكليفها (من قبل من؟) أم انتخابها ووفق أية آلية؟
إن اعتماد آلية معينة لإنشاء الجمعية التأسيسية متوقف على الطريقة التي سيتحقق بها إسقاط النظام والمشهد السياسي بما فيه توازن القوى على الأرض لحظة سقوط النظام. ولكن في كل الأحوال يمكننا أن نفترض أنه خلال المرحلة التي تلي تحقق إسقاط النظام مباشرة سيكون هناك بعض الظروف الموضوعية التي لا بد من أخذها بعين الاعتبار بالإضافة إلى حالة الـ”فراغ سياسي مؤقت”:
* حالة انفلات أمني والذي تعني في هذا السياق حصرا أنه ليس هناك أي جهة سياسية تحتكر استخدام القوة المشروعة في المجتمع؛
* حالة فشل وظيفي في مؤسسات الدولة الإدارية بشكل متفاوت بحسب مستوى الدمار في مدن ومحافظات سورية المختلفة؛
* حالة فشل في البنى التحتيّة الأساسية (الطاقة، الاتصالات، العناية الصحيةـ الطرق، شبكات توزيع البضائع الأساسية) بشكل متفاوت وبحسب مستوى الدمار في مدن ومحافظات سورية المختلفة؛
* سيولة ديموغرافية والتي تعني في هذا السياق أنه في ظروف النزوح الداخلي واللجوء إلى دول الجوار من الممكن أن تشهد سورية خلال المرحلة التي تلي تحقق سقوط النظام مباشرة حركة سكانية تشمل ملايين من المواطنين السوريين على نطاق غير مسبوق في تاريخ سورية الحديث للعودة إلى القرى والبلدات والمدن التي هجرها سكانها نتيجة عنف النظام.
من المحتمل أيضا ان حالة “الفراغ السياسي المؤقت” هذه قد تمتد لفترة طويلة نسبيا قبل أن يتشكل هناك نواة جهد اجتماعي تراكمي للخروج من حالة الانفلات الأمني، وإعادة إحياء مؤسسات الدولة، وإعادة تأهيل البنى التحتية على كافة الأراضي السورية. هذه الظروف الموضوعية المادية تستثني إمكانية إجراء إنتخابات يكون لها أي مصداقية تنبثق عنها جمعية تأسيسية. طبعا هذا يفترض، مع كثير من التبسيط، وجود تفاهم بين الثوار، حول المحددات الموضوعية لبداية المرحلة الانتقالية، وأن سقوط النظام كان “نظيفا” بمعنى أنه لم يبقى للنظام ومؤسسته الأمنية وجود واضح ومنظم في المشهد السياسي العسكري يسمح لهم بعرقلة التحول السياسي عن طريق عمليات عسكرية أمنية عنيفة.
المسألة الأهم برأيي من الناحية القانونية هي أنه حتى لو افترضنا أن الظروف الموضوعية المادية مواتية للدعوة إلى إنتخابات فإن هذه الدعوة لا بد أن تتم على أساس قانون إنتخابي يحدد كيفية تقسيم الدوائر الإنتخابية، شكل التمثيل (القوائم أو الإنتخاب الفردي). لا يمكن الاعتماد على النظام الانتخابي القائم حاليا في سورية لشبهة أن صياغة هذه القوانين كان جزءاً من منظومة النظام للسيطرة ووضع أتباعه في مجالس الإدارة المحلية ومجلس الشعب. أضف إلى ذلك فإن إنتخاب جمعية تأسيسية لصياغة دستور قد تتطلب نظاما إنتخابيا مختلفا عن اختيار مجالس إدارة محلية ومجلس الشعب. ولا بد لصياغة هذه القواعد أن تكون على درجة من الحيادية والتجرد (ليس فيها انحياز بنيوي لتيار سياسي معين أو طبقة إجتماعية).
أما بالنسبة للتكليف من جهة معينة أيا كانت فهو برأي خيار يجب استبعاده على أساس مبدئي. صياغة الدساتير في جوهره ليس موضوعا تقنيا. الجمعية التأسيسية التي لا تمثل القوى السياسية الفاعلة ولا يتمتع أعضاءها بسند ديموقراطي ستكون دائما عاجزة عن الوصول إلى وثيقة لها أي وزن.
كل هذه المعطيات تؤدي إلى الاستنتاج بأنه في مرحلة الفراغ السياسي المؤقت التي تلي إسقاط النظام، لا بد من أن يتم إنشاء جمعية تأسيسية بالانتخاب. ولكن و بنفس الوقت من المهم عدم التسرع في الدعوة إلى انتخابات قبل التأكد من توافر الشروط الموضوعية حتى تكون لهذه الانتخابات مصداقية من حيث أنها تمثل بأمانة تنوع الشعب السوري. ويمكننا حتى القول بأنه من الممكن أن التسرع في تنظيم انتخاب جمعية تأسيسية يفتح مجالا واسعا للتلاعب في نتيجتها.
2) هل يمكن إقرار الدستور وإنجازه قبل فرز القوى السياسية (انتخاب مجلس الشعب والانتخابات الرئاسية) كما حصل في مصر؟
يثير هذا السؤال مسألتين مهمتين ومنفصلتين:
– المسألة الأولى تتعلق بتوقيت وإمكانية البدء بمسيرة وضع وإقرار دستور تكون على درجة من المصداقية والشرعية الديمقراطية.
مجلس الشعب ورئاسة الجمهورية هي مؤسسات ليس لها أي معنى إلا ضمن نطاق نظام دستوري محدد. وبالتالي من الصعب أن نتخيل انتخاب مجلس الشعب أو رئيس جمهورية من دون أن نعرف مسبقا ما هي صلاحيات كل منهما وطبيعة العلاقة بينهما وحدود سلطاتهم أثناء مرحلة انتقالية. على هذا الأساس كانت التجربة المصرية برأي غير ناجحة وفتحت الباب للكثير من الانتهاكات وتضييق خيارات الشعب المصري الدائم للمشاركة في صياغة وإقرار دستور لمصر بعد الثورة. ولكن صياغتكم للسؤال كانت أكثر دقة والمقصود بالإشارة إلى مجلس الشعب والرئاسة كانت فقط كأمثلة عن استحقاق سياسي ما يساهم في “فرز” القوى السياسية. وهذا برأي أمر مختلف وضروري من أجل البدء بمسيرة دستورية تكون على درجة من المصداقية
والشرعية الديمقراطية. أي، وآسف للتكرار، فرز القوى السياسية برأي هو شرط ضروري لمسيرة ديموقراطية ذات مصداقية تنتهي باعتماد دستور دائم. ولكن ليس من الضروري أن يتحقق هذا الفرز من خلال انتخابات مجلس شعب (له سلطة تشريع) أو رئيس جمهورية (على رأس سلطة تنفيذية).
التجربة المصرية التي كانت تعتمد على إجراء تعديلات بسيطة على دستور مبارك يتم في ظلها انتخابات مجلس شعب، مع استمرار المجلس العسكري على رأس السلطة التنفيذية، لن يكون مقبولا في سورية. لا أظن أن أي سوري سيقبل بأن يحكمه دستور ٢٠١٢ الذي فرضه النظام وهو يمارس القتل والإرهاب حتى ولو تم تعديله. وكذلك لا أظن دستور الحركة التصحيحية سيكون مقبولا. أما العودة إلى دستور ١٩٥٠ (وهو فعليا آخر دستور تم اعتماده ديموقراطيا في سوريا) فإنه أيضا غير عملي. دستور ١٩٥٠ ما زال مجمدا ليعكس واقع سياسي في سورية لم يعد موجودا. الأهم من ذلك أن دستور ١٩٥٠ لا يأخذ بعين الاعتبار أن سورية التي قد يحكمها قد خرجت بعد ثورة طاحنة من نظام دكتاتوري تركت آثارها على البشر والحجر.
– المسألة الثانية تتعلق بإسقاطات الخيار حول توقيت البدء بمسيرة وضع الدستور واعتماده على الساحة السياسية وعلى تحديد القوى السياسية التي سيكون لها بالفعل تأثير على الشارع المنتخب وتوجيه خياراته.
في الأشهر الأولى بعد تنحي مبارك كان النقاش حول إمكانية وتوقيت البدء بوضع الدستور وانتخاب جمعية تأسيسية أو مجلس شعب تنبثق عنه جمعية تأسيسية مرتبط بالمنافسة السياسية. في انتخابات مبكرة سيكون للقوى السياسية القادرة على تعبئة كتلة انتخابية منضبطة النصيب الأكبر في تحصيل أغلبية انتخابية وبهامش كبير. في مصر بعد تنحي مبارك، وبعد انحلال الحزب الوطني وضمور قدرة كوادره على التأثير في العملية الانتخابية، كانت جماعة الإخوان المسلمون هي القوة السياسية ذات الخبرة التنظيمية والوجود على الأرض الذي يسمح لها بتعبئة الناخبين. واعتقد الكثير في تلك الفترة ان التأخير في إجراء الانتخابات لن يكون في مصلحة الإخوان وسيعطي القوى السياسية والأحزاب التي أفرزتها الثورة فرصة لكي تكتسب الخبرات التنظيمية والوجود في الشارع الذي قد يقلص من هامش الأغلبية الذي سيحصل عليه الإخوان المسلمون.
صحيح أنني أرفض من ناحية المبدأ أن تكون مثل هذه الحسابات عاملا حاسما في تحديد إمكانية وتوقيت البدء بمسيرة وضع وإقرار الدستور. ولكن لا يمكن استبعاد أن هذه الحسابات سيكون لها تأثيرا في تطور المرحلة الانتقالية وفي تحديد توقيت إقرار الدستور. ولكن الوضع في المشهد السوري مختلف: التأخير في إجراء انتخابات سيكون من مصلحة القوى الإسلامية بما فيها جماعة الإخوان المسلمون.
3) ماهي النسبة الموافقة على الدستور التي تجعل إقراره شرعياً؟ هل نسبة 57% كما حدث في مصر مقبولة؟
لا توجد إجابة قانونية صحيحة حول هذه المسألة. ولكن إذا كان لا بد لنا من الاستفادة من التجربة المصرية فإن الدرس الأهم هو أنه لا بد للدستور أن يكون وثيقة جامعة وليست مفرقة. وإقرار الدستور لا بد من أن يعكس توافقا عاما في المجتمع ولا يكفي أن يكون فقط ممثلا لرأي أغلبية انتخابية. الديموقراطية في جوهرها ليست نظام حكم الأغلبية بل نظام الحكم الذي يحمي الأقلية من الإقصاء والتهميش. إقرار الدستور بأغلبية لا يعطي بالضرورة ضمانات للأقلية.
في الاستفتاء الدستوري المصري، كانت نسبة الموافقين على الدستور 63.8% من المشاركين بالاستفتاء. ولكن نسبة المشاركة كانت أكثر من 30% بقليل. أي أن الدستور المصري تم اعتماده فقط بموافقة 20% تقريبا من من يحق لهم التصويت. هذه النتيجة لا تعكس التوافق الذي يعطي الدستور شرعية ديموقراطية. بل على العكس، هذه النتيجة تجعل الدستور المصري الذي تم إقراره بالاستفتاء دستور اتجاه سياسي بعينه وليس دستورا لكل المصريين. للمقارنة لنأخذ مثلا نتيجة الاستفتاء على دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة عام ١٩٥٨: كانت نسبة المشاركة في الاستفتاء ما يقارب الـ 98%، ونسبة الموافقة على الدستور بين المشاركين أكثر بقليل من الـ 82%.
في هذا السياق، وإذا كان لا بد من اللجوء إلى الاستفتاء في إقرار الدستور المهم أن يكون هناك توافق على حد أدنى للمشاركة وأن تكون نسبة الموافقة عليه تعكس توافقا عاما وليس فقط خيار الأغلبية.
4) هل يجب أن يستفتى الشعب على مجمل الدستور؟ لما لا يتم الاستفتاء على كل مادة على حدة بما أن مواد بعينها في أحيان كثيرة هي التي تسبب الخلاف الإشكالي؟
الاستفتاء على الدستور ليس ضروريا ما دام اختيار الجمعية التأسيسية الملكفة بوضع الدستور ديموقراطيا يمثل كافة أطياف الشعب. الدستور السوري لعام ١٩٥٠ لم يعرض على الاستفتاء، ولكنه كان من صياغة جمعية تأسيسية منتخبة ديموقراطيا. وكذلك دستور جنوب أفريقيا بعد انهيار نظام الفصل العنصري اعتمدته جمعية تأسيسية منتخبة ديمقراطيا وتم إصداره من رئيس جمهورية منتخب. وإذا كان لابد من الاستفتاء فمن الأفضل أن يتم الاستفتاء على الدستور بمجمله. الوثيقة الدستورية ككُلٌ متكامل يعكس القيم والمبادئ الأساسية التي توافقت عليها القوى السياسية و الاجتماعية. ومواد الدستور تفسر بعضها في ضوء المبادئ الأساسية التي وقع عليها التوافق. الاستفتاء على كل مادة على حدى من شأنه أن ينتج وثيقة دستورية مقطعة الأوصال، غير منسجمة، ومشبعة بالتناقضات.
5) قال نائب وزير العدل لشؤون التفتيش القضائي المصري في مقابلة تلفزيونية أنه لا ينصح أن يستفتى على الدستور من هم دون الثانوية العامة في مستواهم التعليمي، ما رأيك في هذا؟ كيف يمكن تنظيم حملات توعية شعبية فيما يتعلق بالدستور؟
بالرغم أنني لا أعتقد ان الاستفتاء بالضرورة الطريقة المثلى لإقرار الدستور عندما تتم صياغته من قبل جمعية تأسيسية منتخبة ديمقراطيا وتمثل كامل أطياف الشعب، إلا أنني أرفض من ناحية المبدأ فكرة استبعاد من هم دون مستوى تعليمي معين من الاستفتاء. الدستور الذي يتم إقراره باستفتاء يقوم على التمييز بين المواطنين وحرمان البعض من حقهم في التعبير والمشاركة السياسية لا يمكن أن يكون ديمقراطيا بالتعريف. المساواة ليس فيها درجات إما أن يكون هناك مساواة أو لا يكون. وإذا كان لا بد من معاملة مختلفة فهذا يكون فقط من أجل تحسين موقع أولئك الذين يشاركون في العملية السياسية من موقع سياسي أو اقتصادي مهمش. مثلا، في حالة المواطنين والمواطنات الذين لا يعرفون القراءة والكتابة، لا بد للدولة والمؤسسات القائمة على الاستفتاء أن توفر الموارد والمساعدة الضرورية لضمان أن لهؤلاء فرصة متساوية في المشاركة الواعية بالاستفتاء.
لا بد من الإشارة في هذا السياق أنه بمقابل هذا التصريح من قبل وزير في حكومة مصرية بعد ثورة، كان هناك العديد من المنظمات الغير حكومية التي أخذت على عاتقها واجب القيام بحملات توعية شعبية. أذكر على سبيل المثال مبادرة المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية: “العمال و الفلاحون يكتبون دستورهم”
قام المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بالتعاون مع نقابات وجمعيات حقوقية بتنظيم زيارات ميادنية على مستوى الجمهورية وتنظيم اجتماعات لعمال من قطاعات مختلفة في أماكن عملهم وفلاحين تم فيها تبادل الآراء والنقاش حول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي يجب أن يرسخها الدستور المصري. ومن ثم قامت المبادرة بتجميع نتائج هذه الاجتماعات بوثيقة دستورية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية لعرضها على الجمعية التأسيسية وطرحها للنقاش العام.