لم تؤد عملية مبنى الأمن القومي في دمشق في الثامن عشر من تموز الماضي إلى سقوط عاجل للنظام، لكنها بلا شك قفزت بجماهير السوريين إلى مكان بات معه التفكير بمرحلة ما بعد الأسد أمرا منطقياً، لا بل ضرورياً إلى حد بعيد. السؤال البديهي الذي برز بشكل أكبر كان عن طبيعة الجهاز السياسي القادر على قيادة مرحلة انتقالية في ظل انهيار مفاجئ ناجم عن اندحار عسكري أو هروب لآل الأسد خارج البلاد. هل تقود شخصية منشقة عالية المستوى جهازا كهذا، أم تتولى قوى الثورة “الأصيلة” المهمة، وفي هذه الحالة، هل ستكون القيادة للجيش السوري الحر أم لقوى المعارضة السياسية؟ بعيدا عن هذا التحدي المباشر، يبدو من الواضح أيضا أن تحديات ثلاثة، أعمق وأكثر خطورة، ستتحكم بمصير سوريا ما بعد الأسد. الأول أمني ويتعلق بقدرة الدولة على فرض هيبتها واحتكار السلاح في ظل كثرة تشكيلات المقاومة المسلحة. الثاني سياسي ويختص بالعلاقة بين القوى الإيديولوجية والحزبية المختلفة، وتحديدا بين الإسلاميين من جهة والعلمانيين من جهة أخرى. أما التحدي الثالث فهو ذو طابع اجتماعي وقانوني ويختص بفرص المصالحة الوطنية بعد سقوط النظام في ظل الانقسام الحاد الذي طغى على البلاد طيلة فترة الثورة والحامل لأبعاد طائفية وطبقية ومناطقية في كثير من الأحيان.

لاستشراف بعض وجهات النظر التي قد تطغى على النقاش في هذه المواضيع خلال المرحلة المقبلة، توجهت الجمهورية ببعض الاسئلة لمجموعة من الكتاب والمدونيين السوريين: الباحث والأكاديمي سلام الكواكبي، الكاتب والصحفي محمد دحنون، المدونة والناشطة ميس قات، والمدونة شيرين الحايك.

الحكومة الانتقالية وشكل النظام خلال المرحلة المقبلة

عن هذا الموضوع يقول محمد دحنون أنه من الصعب بمكان الحديث عن “شكل النظام السياسي” لان المرحلة الانتقالية ستكون بحد ذاتها مكرسة لتحديد شكل هذا النظام كنتيجة لصراع سياسي واجتماعي تخوضه مختلف فئات “سوريا المنتصرة”. لكن دحنون منحاز بشكل مبدأي لحكومة تراعي تمثيلا عادلا لقوى الحراك الشعبي الميداني بشقيها المسلح والعسكري، بالمقارنة مع قوى المعارضة السورية التقليدية التي يراها “مفوتة سياسيا وإيديولوجيا وشعبيا”. ميس قات أيضا ترى أن القوى السياسية “غير قادرة” على السيطرة على البلاد بعد سقوط النظام، لذا فمن الأرجح أن تقوم قوى الجيش الحر ذات المرجعيات المختلفة حالياُ بالاتفاق على تشكيل مجلس عسكري يقود البلاد.

بالمقابل، يعترف سلام كواكبي أن الإدارة السياسية الفاشلة للعمل العسكري حتى الآن تحتم إعطاء قيادات الجيش الحر دورا قياديا مباشراً، لكنه حريص في الوقت ذاته على صيغة تشاركية توافقية تشمل مختلف الأطراف دون إقصاء، وتسعى قدر الإمكان على “تغليب الصبغة السياسية على الحضور العسكري إن كان السعي السوري النضالي هو للتخلص من الديكتاتوريات وحواشيها”. أما شيرين الحايك فهي فتأخد بعين الاعتبار إمكانية تقديم الثورة، بما فيها الجيش الحر، لتنازلات للأسرة الدولية، والتي على حد تعبير الحايك تعد “طبختها الخاصة فيما يتعلق بالملف الثورة”. قد يعني هذا أن يبقى الكثير من أركان النظام دون الأسد وعائلته، وفي هذه الحالة فإنه لا يمكن الحديث عن مرحلة انتقالية أساسا، بل عن استمرار “قيادات السفينة الغارقة” على حد تعبير الحايك والتي ترى فيه سببا كافيا لاستمرار الحراك الثوري.

التحدي الأمني وضبط السلاح في ظل كثرة تشكيلات المقاومة المسلحة  

يتفق جميع المشاركون على الأهمية القصوى لهذا الموضوع وطبيعته الشائكة، لكنهم يختلفون في مدى صعوبة إيجاد الحلول المناسبة له. محمد دحنون لا يخفي تشاؤمه ولا يجد من السهل الحديث عن تصور واضح يتم عن طريقه الخروج من الوضع الحالي. احتمال تشكل “دكاكين سياسية عسكرية” قائم، كما أن ردود فعل القوى المتبقية من النظام قد تعقد الأمور، وكذلك طبيعة “التدخلات الإقليمية والدولية لضمان الهيمنة والنفوذ، عبر وكلاء سوريين”. في المقابل تجد ميس قات أن الحل يكمن في المجلس العسكري الذي ستشكله قيادات الجيش السوري الحر، والذي سيكون قادراً على ضبط الفلتان الأمني وحالات الانتقام “التي لا بد أن تحدث”. أما المقاتلين منزوعي السلاح فترى قات انه من الحيوي إيجاد برامج لتأهيلهم وإعادة اندماجهم في المجتمع ليحصلوا على بديل مادي ورمزي يضمن لهم معاشهم واحترامهم المرتبطين في السابق بحيازتهم للسلاح.

بين تشاؤم دحنون والنزعة العملية لقات، يتموضع رأي شيرين الحايك التي ترى أن أكثر ما يمكن القيام به في المرحلة الأولى هو تأسيس جهة مدنية شعبية ومنتخبة على الصعيد المحلي تقوم بتسجيل ما يوجد من أسلحة، ليس بهدف مصادرتها بل من اجل توثيق السلاح وحامله وصفته (جيش حر، دفاع عن النفس، صيد) ومن لا يعلن عن سلاحه هو من يتم اتخاذ إجراءات بحقه سواء كأفراد أو جماعات. سلام كواكبي يرى أن نقطة البداية يجب أن تكون عند قوى المعارضة وقدرتها على إنتاج “خطاب شفاف ووثيقة شرف للقوى المسلحة في ظل العملية الثورية”. الجهة المدنية التي تقترحها حايك تتحول عند الكواكبي إذاً إلى تآلف سياسي بين جميع القوى الثورية يضمن سلامة المرحلة الانتقالية ويبدأ بعملية العدالة الانتقالية التي ستعزز سلطة الدولة بالضرورة.

الحياة السياسية وطبيعة العلاقة بين الإسلاميين والعلمانيين بعد سقوط النظام

في مقابل القلق من الوضع الأمني، يغلب على المشاركين نوع من التفاؤل تجاه المستقبل السياسي لسوريا ما بعد الأسد. بالنسبة لميس قات يبدو السيناريو الأكثر ترجيحا سيطرة الإسلاميين على الحكومة لبضع سنوات، دون إلغاء الدور المدني والسياسي للقوى العلمانية. على العكس تجد قات أن القوى العلمانية ستتوحد بالضرورة لمواجهة الأحزاب الإسلامية الأقوى وهذا ما قد يؤهلها للعودة إلى واجهة الحياة السياسية كما كانت الحال في خمسينيات القرن الماضي. شيرين الحايك أيضا تبدو متفائلة لأن العلاقة بين الإسلاميين والعلمانيين ستحكمها الأغلبية المعتدلة من الطرفين لا الأقلية المتطرفة. الإنسان، كما تقول الحايك، “عدو ما يجهل”، والثورة استطاعت أن تعرف الناس ببعضها وتجعل التعايش بينهم أسهل، وبالنتيجة، فالشعب الذي ثار على نظام الأسد، قادر أن يثور مرة أخرى في حال حاول أي طرف سياسي إقصاء الآخرين.

بالنسبة لمحمد دحنون، فان الميول السياسية للغالبية العظمى من السوريين لا تزال مجهولة، وعلى الأغلب فان معظم القوى السياسية التقليدية الموجودة حالياً ستتراجع وستحل محلها قوى جديدة تعبر عن هذا السواد الأعظم. سيكون من المهم متابعة الطرح الفكري والأداء السياسي للإسلاميين السوريين على حد تعبير دحنون، لكن المعركة المحتملة بينهم وبين القوى الأخرى لا يجب أن تقوم على أساس الهوية الإيديولوجية، وإنما على أساس قدرة الجميع على بناء “الوطن”. الهوية الوطنية بمعنى آخر ستكون منطلقا جديدا نحو “صيغة أخرى من التفاعل والعمل السياسي”. سلام كواكبي يبدو الأكثر انشغالاً بالقوى السياسية الحالية التي تبدو لباقي المشاركين بحكم المنتهية بعد سقوط النظام، ويرى كواكبي أنه في مقابل التقوقع الفكري الذي يمارسه العلمانيون، يوجد نزعة استئثارية خطيرة عند الإسلاميين “تحتمي بقدرتها على التنظيم والظهور بمظهر متماسك”. لكن الانفتاح على المجتمع السوري ستؤدي على حد اعتقاده إلى تغليب القوى المعتدلة عند الطرفين، وهذا طبعا يعتمد على الجسم أو الأجسام السياسية الجديدة التي ستفرزها الثورة.

مستقبل المصالحة الوطنية في سوريا

لا يرى محمد دحنون إمكانية للحديث عن المصالحة الوطنية قبل الاعتراف أولا أن هذه الثورة هي صدام حقيقي بين مهمشي المجتمع السوري غير المؤطرين سياسيا أو أيديولوجيا من جهة، وبين النظام الذي يصفه الدحنون “كشر مطلق”. اعتراف كهذا يجعلنا ندرك أنه قبل المصالحة الوطنية علينا أن نقر بمنطق المواجهة أولا وبضرورة وجود غالب ومغلوب. في المقلب الآخر، تفضل ميس قات ومثلها سلام كواكبي النظر نحو الأمام، والحديث عن عملية شاملة للعدالة الانتقالية تكون هي الضمان للابتعاد عن العدالة الانتقائية الثأرية. يعني هذا بالنسبه لهما البدء بعملية بحث عن الحقائق بخصوص كل ما جرى وإقامة، حسب توصية قات، “جلسات اعتراف علنية على نمط ما قام به نلسون ماندلا في جنوب أفريقيا”، وملاحقة جميع الجناة جنائيا، وجبر الضرر المادي والمعنوي، وإعادة هيكلة للقوانين والأنظمة ومناهج التعليم والمؤسسات الحكومية. يتحدث كواكبي أيضا عن إقامة “ورشات كثيفة المضمون لشرح المفاهيم ووضع أسس” عملية كهذه، و”الاستعانة بخبرات دول” في هذا المجال.

 أما شيرين الحايك فتحسس نوعاً من التناقض، دون أن تسميه، بين الحاجة إلى المحاسبة الشاملة للحؤول دون انتشار حالات الانتقام الفردي، وبين عدم معقولية محاسبة كل من قتل، لأن القتل تم في كثير من الأحيان تحت ظروف قاهرة. المسؤولية الأولى بالنسبة للحايك تقع على الأسماء الكبيرة “ممن كانت لديهم القدرة على اتخاذ القرار بشكل حازم”، لأن “مطلق النار ليس متخذ الخيار الوحيد وإنما الأخير”. تتساءل أخيرا عما إذا كان من الممكن إعطاء الحصانة لآل الأسد أنفسهم في حال كان هذا ضامنا لتنحيهم عن الحكم، وعمن ستشمله الحصانة في حالة كهذه.

******

وأخيرا… يبدو أن كل تحديات سوريا في مرحلة ما بعد الأسد تعيدنا إلى نقطة فصل واحدة، وهي قدرة كتائب الجيش الحر المتشعبة والمنتشرة في كل أنحاء البلاد على تنسيق صفوفها شيئاً فشيئاً والخروج بقيادة موحدة حقيقية قادرة أولا على ملء الفراغ الأمني، ومتحلية ثانياُ بالمسؤولية الأخلاقية للنأي بالمجتمع السوري قدر الإمكان عن الثأرية والاقتتال الأهلي، وحاملة ثالثا لوعي سياسي يصبو نحو إعادة القرار للقوى المدنية والتمهيد لتحول ديمقراطي حقيقي لا يقصي أياً من الأطراف أو المجموعات السياسية والأهلية. طبيعة الصراع الحالي تجعل هذه المهمة بالغة الصعوبة ومن هنا يبدو من المنطقي توقع مرحلة انتقالية مليئة بالمطبات، لكن الكثير من التصريحات والبيانات الصادرة عن الجيش الحر في أكثر من منطقة تشير في نفس الوقت إلى وجود وعي مبدئي بضرورة العمل في هذا الاتجاه. لقد فاجأ السوريون أنفسهم والعالم بإصرارهم على المضي في ثورتهم “المستحيلة”، واليوم قد تدفع إرادة التغيير التي أطلقت الثورة والتضحيات الهائلة التي بذلت من أجلها جماهير السوريين مرة أخرى نحو “مفأجاة” أخرى، أي انتقال لا يطول بعد رحيل آل الأسد إلى نظام ديمقراطي تعددي وحياة سياسية آمنة وحرة.