بيّنت إحصائيّة رسمية نشرها المكتب المركزي للإحصاء (1)  في سوريا عام 2007 أن 50% من السكن الإجمالي في سوريا عشوائي، وأن 45% من سكان دمشق يقيمون في “مناطق مخالفات”، وكذلك 35% من سكان حلب و42% من سكان حمص، وإن لم يكن الرقم مهولاً بما فيه الكفاية فهناك إحصائيّة أخرى نُشرت في مسودّة الاستراتيجيّة الوطنيّة للإسكان الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (2) تقول أن مناطق السكن العشوائي في سوريا قد تزايدت بنسبة 220% في الفترة ما بين 1994 و2010. مرّت خمس سنوات ونيّف منذ الإحصائيّة الأولى، وملاحظة وتيرة التزايد في الإحصائيّة الثانية تجعلنا نتوقّع بسهولة أن غالبيّة السوريين يقيمون اليوم في عشوائيات، وعلينا أيضاً أن نأخذ بعين الاعتبار أن تردّي الأحوال الاقتصاديّة في نصف العقد الأخير كان الأقسى والأعمق منذ عقود، بالإضافة إلى أن انتكاس الاقتصاد الزراعي في غالبية مناطق سوريا عموماً ومنطقة الجزيرة خصوصاً أدى إلى حركة نزوح تُقدّر، بتفاؤل، بمئات الألوف، توجه عمومها نحو أحزمة الفقر في المدن الكبرى.

ليس في السكن في العشوائيات ما يغري، ولا شطارة في القول، إنسانياً قبل كل شيء، أن الإقامة في مناطق منعدمة الخدمات وسيئة البناء وصعبة الوصول، بالإضافة إلى عدم استقرار أي وضع قانوني فيها، ليس خياراً يمكن للمرء أن يتمسّك به في حال وجود خيارات أفضل. هناك بنية اقتصاديّة كاملة جُبلت على الإفقار العام لصالح إثراء نخبة سياسيّة- أمنيّة- عسكريّة- اقتصاديّة وإدامة هيمنتها على المجتمع الراكض خلف لقمة عيشه، وأن يقيم أكثر من نصف السوريين في مناطق عشوائيات ليس إﻻ نتيجةً لهذه البنية الإفقاريّة للنظام الحاكم في سوريا، وسكان العشوائيات هم ضحايا الظاهرة وكل ما تفرزه وليسوا المشكلة. لكن، بطبيعة الحال، ووفق طبائع النظام السوري، ﻻ مكان لمقاربة اقتصاديّة- اجتماعيّة إنسانيّة لواقع ملايين عريضة من السوريين حيث يكون من المستطاع اﻻتكال على عقليّة ومنطق “الهندسة اﻻجتماعيّة” بأسوأ المعاني الفاشيّة للمصطلح. العشوائيات ظاهرة خطيرة لما تُفرزه وليس لأن وجودها نتيجة لواقع اجتماعي-اقتصادي جائر وممتد زمنياً، مبني بجهود ممنهجة لنظام حكم استبدادي متأبّد. بهذا الشكل نجد تعبيراتٍ لألسنة حال عقل النظام من طراز ما طالبت به الصحفيّة هيام علي قبل أكثر من عامٍ في موقعها “سيرياستيبس”، المعروف بكونه أحد أكثر المنابر الإعلاميّة سفوراً في إظهار وﻻءٍ فاشيّ للنظام بمواجهة المجتمع. على طريقة “المكتوب باين من عنوانه”، بيّنت الصحفيّة في عنوان مقالتها مطالبتها بـ “تسوية الرمل الفلسطيني وكل ما يشبهه في سورية بالأرض” (3)، وأضافت في متنه أن هذا الحي اللاذقاني عبارة عن “سكن عشوائي متراكم فوق بعضه البعض بطريقة بشعة غير منظمة تفصلهُ الزواريب والممرات الضيقة, تفوح منه رائحة الفقر والبطالة ومعها تبدو رائحة ” التحشيش” منتشرة بطريقة لافتة”، ما جعله، وأمثاله في مدن سوريّة أخرى، منطلقاً “للعمل المسلّح ضد الدولة”. الحل؟ تسويته، وأمثاله في مدن سوريّة أخرى، بالأرض. لم لا؟

قد يعتبر البعض أن هذا الكلام ليس إلا منطقاً مغالياً لصحافيّة متحمّسة، لكننا نجد نفس العقليّة في خطاب “مؤسسات الدولة” وتعبيرها عن ذاتها، ففي ملخص توصيفي لدراسة لوزارة الإسكان حول الظاهرة نشرته وكالة “سانا” الرسميّة الشهر الماضي يبدأ الاستهداف التجريمي، مرّة أخرى، من عنوان المادّة: العشوائيات استجرّت الموارد والطاقة بشكل جائر (4). ليست المشكلة في أن هناك منظومة سياسيّة- اقتصاديّة حرمت ملايين السوريين من إمكانيّة الحصول على احتياجاتهم بشكل كريم، بل أن هؤﻻء السوريين ﻻ يموتون بصمت دون إزعاج، بل يحاولون الحصول على ما يحتاجونه بصورة “غير قانونيّة”. يبدأ النص، ونذكّر أنه منشور في وكالة الأنباء الرسميّة، بالحديث عن خطر العزل الاجتماعي للتجمعات العشوائيّة، لكنه يظهر ككلام حقّ يراد به باطل عندما يُشار، بمقاربة أمنيّة صرفة، أن خطر هذا العزل اﻻجتماعي يكمن في “انحدار المستوى الأمني والأخلاقي” و”تحول هذه المناطق إلى مجتمعات وتجمعات ذات بيئة وقيم اجتماعية منعزلة عن البيئة والقيم الاجتماعية العامة للمجتمع.” وليس في أثر اﻻنعزال الاجتماعي على سكان العشوائيات أنفسهم، والذين سيعاملون دائماً وأبداً كغرباء خطرين على “مجتمع” ليسوا منه. وتتابع الدراسة حديثها عن مخاطر الظاهرة بأفكار من قبيل “التجمعات العشوائية أخذت أشكالا وتوزعات سكانية ضمن جزر مغلقة تحمل هوية وخصائص مناطقها ومجتمعاتها الأصلية وتؤهل لأشكال من الانغلاق الاجتماعي والعزل السكاني ضمن محيطها الجديد”، وﻻ شك أنها أفكار يجب أن تُدرس، لكن ليس قبل دراسة أصول وجذور الظاهرة الاقتصادية بعمق، وإﻻ سيكون إيرادها مشابهاً للاستخدامات المشوّهة، عنصرياً وطبقياً، لمصطلحات مثل “ترييف المدينة”. وﻻ تظهر المعاناة المؤسِسة للعشوائيات وقاطنيها إﻻ، باختصار، في المقطع الأخير من النص حين يذكّر المحرر أنّ “الشرائح الأعظم من هذه الأسر هي أسر مكافحة ارتضت في سبيل تأمين لقمة العيش وفرصة العمل والتعليم أن تهجر مناطقها الأساسية لتستقر في هذه العشوائيات وفي ظروف قاسية” رغم ما يوحيه توصيف هذه الأسر وخصائصها في العشوائيات “من حيث تجاوزها القانون والاعتداء على الأراضي الزراعية وعلى أملاك الدولة والاستجرار الجائر وغير النظامي لموارد المياه والطاقة إضافة الى بعض مظاهر التردي الأمني والأخلاقي في هذه المناطق”.

باعتبارها، رفقةً بالأرياف، بيئة أكثر فئات الشعب تضرراً من نهج النظام السوري على مدى العقود الماضية، كانت مناطق العشوائيات والأحياء الفقيرة في أطراف المدن مسارح أبرز الحركات الاحتجاجيّة منذ لحظات الثورة الأولى، كما كانت منطلقاً للمقاومة المسلّحة ضد حملات عسكريّة منفلتة العنف بقصد معاقبة هذه البيئات الحاضنة ككل، ويبدو تكاثر الحديث الاستعدائي عن “العشوائيات” في وسائل إعلام النظام بوصفها مصدر مشاكل “أمنيّة وأخلاقيّة” وليس بكونها تعبيراً عن وضع اقتصادي واجتماعي سيء لقطاعات واسعة من السوريين مرحلةً جديدة ليس فقط لمعاقبة هذه التجمعات السكانيّة، بل لإنهاء وجودها أساساً والتخلّص من بُنى اجتماعيّة متماسكة تحتضن حركة احتجاجيّة قريبة جداً من مركز العاصمة أساساً، ومدن أخرى تالياً. فقد صدرت مؤخراً العديد من المراسيم الجمهوريّة والقرارات الوزاريّة الخاصة بـ”تنظيم” هذه العشوائيات، ويُكثر مسؤولون في النظام من التصريح للإعلام عن مُهل بحجم شهورٍ معدودة لتفكيك هذه التجمعات السكنيّة في دمشق وريفها، ولن نسمع منهم، طبعاً، أن الكثير من هذه التجمعات قد “فُكك” وأخلي من سكانه فعلياً بالمدفعيّة، وبالتالي ﻻ تبدو كل هذه المراسيم والقرارات في الواقع إﻻ قوننة رخيصة لوضع قائم عسكرياً وإجراءاً لمنع عودة المهجّرين إلى منازلهم. وليست الوعود بدورٍ للدولة في إيجاد البدائل إﻻ تعليباً شكلياً، سيما وأنها تأتي على طراز أحاديث الدكتور عمار يوسف، وهو باحثٌ في اﻻقتصاد العقاري تلجأ إليه بعض وسائل الإعلام الموالية بحثاً عن آراء مختصة في الشأن. يقول الدكتور يوسف في تصريحٍ له (5) الشهر الماضي في “سيرياستيبس” (موقع الصحفيّة الوطنية هيام علي نفسه) أن توفير البديل السكني “إما عن طريق المواطن نفسه من مدخراته مع ملاحظة أنه إذا قامت الدولة بدعم ثمن الارض فلا يمكن أن تتجاوز تكلفة المتر المربع جاهز للسكن أكثر من عشرة ألاف ليرة سورية، أو عن طريق قرض بفوائد مخفضة بضمانة الشقة نفسها ”. أيّ ادخارات يمكن توقّع وجودها بحوزة مواطن قاطن في منطقة عشوائيات، خصوصاً مع الأوضاع الاقتصاديّة المتعمّقة في تأزمها في الوقت الراهن وفي هذه المناطق بالذات؟ وأيّ اقتصادٍ في العالم يمكن أن يتحمّل هذا الكم من القروض العقاريّة بضمانة الشقّة لأسر منخفضة الدخل حتّى العدم؟ لكن المتابع لقراءة شرح الدكتور الخبير سيجد أنه لم يضيّع كثيراً من الوقت في التفكير في بدائل جدّية وقابلة للتنفيذ، فأولوياته مختلفة تماماً:”من المؤكد أن التنظيم هو الحل الأمثل والإزالة هي الحل الوحيد لمشكلة السكن العشوائي وكلفة التنظيم والإزالة أقل بكثير مما أفرزته هذه المناطق من إرهاب ومن غوغائية وعدم القانونية والالتزام بل والأكثر من ذلك قلة الوطنية”. ﻻ شك أنها وطنيّة “الأسد أو نحرق البلد” هذه التي يفتقدها الدكتور عند هؤﻻء الغوغائيين.

لم يكن من الممكن أن تغيب مسألة التطرّف الديني عن حزمة الموبقات التي يتم إلباسها للبيئة الاجتماعيّة للعشوائيات، ففي تعليقه على محاسن أحد المراسيم التشريعيّة الأخيرة الخاصة بـ”تنظيم العشوائيات” أشار محلل سياسي (6) إلى أن هذه العشوائيات “شكلت بيئة حاضنة لفكر دخيل على المجتمع السوري لبس لبوس الفكر الديني مستغلاً الوضع الذي تعاني منه معظم هذه المناطق ودرجة الابتعاد عن الواقع والتدني في المستوى العلمي والمعرفي وانتشار البطالة عدا عن الآفات المجتمعية من تعاطي مخدرات وغيرها والتي أمنت مناخاً فعلياً لمن يريد أن يقوم بمثل هذه الإساءات المرفوضة اجتماعياً وأخلاقياً وقانونياً ودينياً”. بطبيعة الحال تشكّل النزعات العدميّة الناتجة عن اليأس، ومن ضمنها التوجهات الدينية المتطرّفة، نتيجة محتومة لواقع العزل الاجتماعي الممتد، خصوصاً إن تم التعاطي معه بعنف من قبل السلطة، لكنّ الترويج لمفهوم أن التهجير القسري لسكان منطقة عشوائيات دون أي مقاربة اقتصادية واجتماعيّة وسياسيّة لواقع حياتهم يكفي لحلّ هذه النتيجة ﻻ يشبه إلا أحاديث نبيل فياض، المثقف العضوي للعلمانوية النخبوية اﻻعتذاريّة للنظام، عن “حل ثقافي” مرافق “للحل الأمني والعسكري”.. كتابة عبارات لفولتير على براميل المتفجرات التي تلقيها الطائرات الحربية على هذه المناطق الفقيرة مثلاً؟

ﻻ يكتفي النظام وألسنته بالعنف المتوحش ضد المجتمع، بل يجتهد على تصوير نفسه كضحيّة لهذا المجتمع بوقاحة منقطعة النظير. المجتمع، إﻻ من رحمه القدر واﻻنتماء الطبقي، متخلّف وفقير وهمجي، أحياناً يكون أيضاً حشاشاً ولصاً ويبني لنفسه بيوتاً بشعة عمرانياً في مناطق غير جيّدة، والعنف ضروري لهندسة الأوضاع بصورة حضاريّة. “الشعب يريد ترباية من جديد”، يكتب الشبيحة على الجدران.

 

 (1) http://thawra.alwehda.gov.sy/_print_veiw.asp?FileName=31649585820070417000121

(2) http://thawra.alwehda.gov.sy/_print_veiw.asp?FileName=5516463220120401181654

(3) http://www.syriasteps.com/?d=207&id=73565&in_main_page=1

(4) http://tiny.cc/5jbtlw

(5) http://www.syriasteps.com/index.php?d=207&id=93897

 (6) http://www.alazmenah.com/?page=show_det&category_id=13&id=43421&lang=ar