Notice: Only variables should be passed by reference in
/home/u213006060/domains/aljumhuriya.koeinbeta.com/public_html/wp-content/themes/reendex-child/functions.php on line
1747
-
-
التفاؤل والتشاؤم والجدل الدائر بينهما في الثورة السورية
-
-
-
1
في أغلب المناظرات، والتَّصريحات، والسِّجالات، والمواقف، والجدالات، والتفكُّرات التي قاربت الحدث السوري، في صيغها العامة والخاصة، المكتوبة والشفاهيَّة، المقروءة والمسموعة، النظرية والعملية، تبدّت رؤى متفائلة وأخرى متشائمة. وكلتا الرُّؤيتين المتشائمة والمتفائلة بدتا كأنهما استطالة لكلٍّ من طرفيِّ الصراع الوجوديّ في سوريا؛ أي، النظام والشعب الثائر، إذ مراراً أعلن النظام ورئيسه أنها “خِلْصِتْ” كنوع من “”التفاؤل” أو طمأنة المتضامنين معه في الداخل، والواقفين إلى جانبه في الخارج. لكن “الأزمة” كما درج على تسميتها النظام وقوى السيطرة في العالم، هي (ثورة) بالنسبة إلى الشعب الثائر، وفي التاريخ لم يحدث أن تمكّنت سلطة من قَمْعِ ثورة شعبية، كما أنه من غير الوارد منطقيَّاً وواقعيَّاً أن “تخلص” الإرادة الحرة أو تنفد، ما يعني النصر المؤكَّد والحرية. تلك هي الصيغة المتفائلة التي واجه بها الثائرون تفاؤل النظام. وبين التفاؤلين “النظامي” و”الثوريّ” ثمة فوارق أصيلة، لعل أهمها أن الأول بدّد نفسه بنفسه، كونه حسماً نظريَّاً مسبقاً، يترفَّع عن الواقع الحيّ وينكره، وقد كذَّبه أيضاً استمرار الثورة واتِّساعها وتجذُّرها، في حين أن الثاني استشرافيّ، تأمليّ، مستقبليّ ينطلق من التجربة الحيّة، ومن الواقع الضَّاج بالحدث. الواقع الذي بدا كأن التفاؤل الثوريّ يحايثه ويتسامى عليه بهدف التخلّص منه نقلة نقلة باتجاه “الخَلاص” أو ما يشبه “النيرفانا” بعد أن عاش الثائرون تجربة اهتداء شخصيَّة نمّت في دواخلهم مهارة التجاوز الضرورية من أجل مواصلة النضال، والصمود أمام المآسي. إن التفاؤل الثوري هنا هو تفاؤل “الخَلاص” الذي يناقض تفاؤل الـ”خِلْصِتْ”، أي التفاؤل بمعناه النظاميّ، إن جاز التعبير، فالخَلاص خِفَّة وحرية لا يُتَصوَّر نفادها، كما أنه خروج من مرحلة ودخول في مرحلة أخرى أكثر رقيّاً بعد عبور سلسلة من التجارب القاسية. لكن “خِلْصِت” إعلان عن نفاد، عن حتميّة ميِّتة، عن تطرُّف وحدٍّ ونهاية وهاوية، وعن قنص الواقع الحي ودفنه في الماضي. لا سيَّما وأن “خِلْصِت” هي من نتاجات تغييب الواقع، إذ السلطة ما برحت منذ اليوم لاندلاع الحدث في أواسط الشهر الثالث 2011 تتحدَّث عن محاربتها لـ”مؤامرة خارجيّة” و”عصابات مسلَّحة” غير موجودة أصلاً، وهنا يظهر التباس التفاؤل النظامي، فالسلطة بدت للمتلقّي كأنها في حرب مع أشباح حيث تغيب هوية الخصم الواضحة ومحدَّدة المعالم، بينما بدا التفاؤل الثوري واضحاً جليّاً، فالسوريُّون الثائرون أعلنوا منذ البداية، على الملأ، أن خصمهم النظام ورئيسه، وأنهم يريدون إسقاطه.
2
وفي قبالة المتحمِّسين الثوريِّين،هناك القانطون واليائسون والعازفون، من طراز القائلين مثلاً :”رجَّعونا لورا عشرات السنين، هي الحرية إلي بدن ياها؟” أو القائلين كرد فعل على الدمار والخراب، والدماء والأشلاء: “ريتها ما كانت الثورة، كنّا عايشين بأمان ومستورين”. قد تكون تلك المواقف مبرَّرة نوعاً ما، ربما بسبب اعتياد هؤلاء على العيش لعقود طويلة تحت إمرة عائلة مالكة/ حاكمة أمسكت بمقاليد السلطة بلا منازِع. والاعتياد، على المدى الطويل، من شأنه دفع المرء صوب التَّراخي واللامبالاة، والتَّسليم بالواقع كما هو مع غياب تام لأي حسٍّ نقديّ وإنسانيّ وأخلاقيّ. وقد ضاعفت وحشيَّة النظام غير المسبوقة في قمع الثورة، على الأقل في العصر الحديث، من الإحساس بالعجز لدى البعض، والميل إلى الإلقاء باللائمة على الثائرين الحالمين بالعدالة وبالعيش الحر الكريم، وتحميلهم وِزْرَ ما لحق بالبلاد من خراب، خاصة وأن الثائرين لم يتمكَّنوا بعد مرور أشهر طويلة جداً على ثورتهم من تحقيق الهدف الرئيس، أي رحيل الرئيس، ما جعل صورة الثائرين في ذهن هؤلاء المتشائمين تبدو ضعيفة، على خلاف ما حصل في ثورات أخرى من ثورات “الربيع العربي” والتي لم تدم طويلاً حتى أسفرت عن هروب طاغية (بن علي)، وجَبْر آخر على التَّنحِّي ثم البدء بمحاكمته (مبارك)، و”قَتْل” ثالث (القذافي)، وخَلْع رابع بعد حرقه (صالح). يُضاف إلى ما سبق، تنامي وحدة الشعب السوري الثائر وتجلّي “يُتْمه” بوضوح تام، بعد فشل أو إفشال كل المساعي والاجتماعات، والمؤتمرات…؛ المحليّة والإقليمية والدولية الرَّامية إلى حلِّ “الأزمة” ووَقْف “العنف” نتيجة غياب الإرادة الفاعلة والفعليَّة في الحل، كل ذلك وأكثر دفع لتصوُّر النظام كأنه فاطر الإرادة الشريرة، ويستحيل لإرادة أخرى أن تنتصر عليها أو تفوقها. ولكن تبقى مثل هذه النظرة المتشائمة كليَّاً أو جزئيَّاً، بالنسبة إلى المتفائلين، كأنها عِلْمٌ ميِّت لا يبارح السطح، أو كأنها موقف “لا أَدْرِيّ”” يشكِّك بالثورة ويقلل من شأنها ومن شأن ما فعله الشعب الثائر وما أنجزه. هذا من جهة. ثم إن من ثار، من جهة أخرى، ما كان ليثور لو لم يكن “خراب الدولة” قد أتى على الأخضر واليابس. لذلك، فإن التمدُّن أو ما يظنُّه المتشائمون حيال التغيير “نِعَماً” كانوا يغرقون فيها قبل الثورة “المشؤومة”، لن يكون تمدُّناً حقيقياً، من وجهة نظر المتفائلين بالتغيير والمؤمنين بالثورة، إن لم يرتبط بالحرية، إذ الحرية بالنسبة إلى هؤلاء شرط من شروط التقدُّم. إن “الرجوع إلى الوراء” الذي يتكلّم عنه ذوو المنطق المتشائم، الذين يصبُّون اللَّعنات على من ثار وكان السبب في دمار البلاد وخرابها، وتدهور الأوضاع المعيشيَّة والصحيَّة وغيرها، لا يرون، من وجهة نظر المتفائلين الراغبين في التغيير، أن للتمدُّن والتقدُّم وَجهَيْن مادي ومعنوي، فلو أن العدالة الاجتماعية والكرامة والحرية والديمقراطية والقضاء العادل المستقل والتداول السِّلْميّ للسلطة كانت موجودة لما انتفض الشعب. ويبدو أن وجهة النظر هذه تتقاطع وآراء مفكِّر تَنويريّ مثل (رفاعة رافع الطهطاوي 1801-1873)، فالطهطاوي أيضاً يرى أن التقدُّم له وجهان: ماديّ، يتعلق بالمنافع العمومية كالزراعة والتجارة والصناعة والعمران والمرافق وغيرها. ومعنويّ، شديد الصلة بالأخلاق والآداب، وكلاهما متمِّم أحدهما الآخر. وفي الثورة، بالنسبة إلى المتفائلين، كل شيء تتَّصل حلقاته: كبرياء الثائرين وحماستهم، حميا الذين انخرطوا في العسكرة مثلاً، قنوط الإنسان العاجز عن الانخراط في الثورة، الضّجَّة التي تصاحب كل انتصار أو تقدُّم جديد للثورة، رغبة الثائر في الهدم الخالص وعزمه على أن يكون فوق الراهن دوماً، الزُّهو بالنفس الذي أدى إلى ظهور مُثل عليا جديدة لم يعرف معها الشباب الثائر أي نوع من أنواع الصبر أو ربما الهدوء البارد الذي يطبع شخصيّة السياسيّ التقليديّ مثلاً، إذ يجب أن يعيدوا بناء عالمهم الخاص في أسرع وقت ممكن، وهُم في الوقت نفسه غير مؤطّرين بإيديولوجية محدَّدة قد تشكِّل خطراً على نقاء عواطفهم، كونهم لا يؤمنون إلا بما يسنُّونه لأنفسهم. إن جملة هذه العواطف المتوهِّجة، المتقلِّبة، القلِقة وجوديَّاً، المتضارِبة، هي ما يمكن أن يُطلق عليه اسم الثورة، تلك النار الشاملة، التي نخطىء إن اعتقدنا أنها مجرَّد مرحلة،لأنها تطال كل شيء، وهي مصير فرديّ واجتماعيّ بما اتَّسمت به من احتدام مركّز، وحسٍّ بأهميتها الاجتماعية الأساسية، وثقل في تأثيرها الإقليمي والعالمي ليس المحليّ فحسب، ومضيّ في هتك حُجُب النظام السوري كجزء من نظام عالمي قائم على ما يبدو على السيطرة والعدوان والغَلَبَة.
3
إن الرَّيبة حيال أي تغيير، الناجمة عن الرؤيا المتشائمة، إضافة إلى أنها دفعت بمتبنِّيها إلى عدم الاكتراث بمستقبل سوريا وفقدان الثقة به، كونه غير معنيَّ أصلاً بقيم الديمقراطية والحرية والعدالة التي قد تحلّ على الناس مستقبلاً؛ فإنها أيضاً، أي الرَّيبة، انقلبت قنوطاً ويأساً جعل الريبيّ موهَن القوى، وغير مكترث بالرَّاهن. الراهن الذي تعصف به كل الموبقات والرذائل والمفاسد والشرور من قتلٍ وتهجيرٍ وتشريدٍ وتجويع، ومن مجازر وجهد النظام الحثيث من أجل وأدِ البلاد تاريخياً وحضارياً وثقافياً وجغرافياً ربما! ما يعني في نهاية المطاف ضعف الإرادة والعجز عن الانتماء إلى الثورة، أو حتى إلى أي شكل من الأشكال التغيير. على أن المأثور الثوري الذي تراكم على مدار أشهر طويلة من عمر الثورة مكّن من تقديم الدعم الذي يُشَرْعِنُ الرؤيا المتفائلة المتجاوِزة لمِحَن الراهن، والمنطلِقة مما حققته الثورة من مكتسبات سياسية وأخلاقية. ومن مفارقات الثورية السورية الكثيرة والنَّادرة، أن يكون مَنْ في وسط الميدان الثوري، وتحت القصف، أو خارجٍ من تحت الأنقاض، متفائلاً، في حين قد يكون آخَر في مكان بعيد كل البعد عن ميدان الثورة، متشائماً !ومن مفارقاتها أيضاً، أن تستمر التظاهرات المدنيَّة السِّلْميَّة بعد ما ينوف على العام ونصف العام، وتعود لتتأجَّج كلَّما ساد اعتقاد جازم بأن الثورة قد تعسكرت إلى درجة باتت تستحيل معها عودة التظاهرات! وهذا ما يمكن أن يُقرأ على أنه حنين الثورة الدائم إلى ذاتها، والرغبة في “العَوْد الأبديّ” إلى منبعها الأساس، المنبع المدنيّ السِّلْميّ رفيع المستوى إنسانياً وعقليَّاً وروحيَّاً وقيميَّاً.
4
إن اللذين وقعوا تحت تأثير “سِحْرِ” الثورة بطابعها السلميّ في أشهرها الأولى، يبدون كأنهم “سُحِرو”ا إلى درجة مفارقة الواقع، والانفصال عنه، إذ غابت المرونة التي تخوِّلهم مواكبة الثورة في منعرجاتها ومنعطفاتها وتحوُّلاتها، وظلُّوا أسرى صورة محدَّدة ثابتة، ومطلقة عن الثورة، رافضين الإصغاء إلى أو الاعتراف بأي طارئ جديد قد يحلّ عليها. وهنا تبدَّت رؤيا أخرى ممهورة بالتشاؤم وأسُّها الخوف، الخوف من انحراف الثورة ذات التكوين المدنيّ السِّلْميّ باتجاه العسكرة المحفوفة بكل أنواع المخاطر. ولكن على الضفة الأخرى ثمة من بدا “هيرقليطيّا”ً في التفكُّر في واقع الثورة، وأظهر مهارات في إدراك هذا الواقع كصيرورة، على اعتبار أن “الأشياء في تغيّر متَّصل”، وأنه “لا يمكننا أن ننزل النهر الواحد مرَّتين، فإن مياهاً جديدة تجري من حولنا أبداً”. هكذا تجلّت على الضفة الأخرى رؤيا متفائلة انطلقت من الواقع كصيرورة، ولم تكن لتفاجأ بأي منعطف في الثورة قد يغيِّر بعضاً من ملامحها الأوليَّة، مادام الواقع في تغيُّر دائم، وما دمنا غير قادرين على السباحة في نهر الثورة مرَّتين، لأن ثمة مياهاً (إحداثيَّات) جديدة تجري فيها دوماً. كما سمحت مرونة الرؤيا المتفائلة بإدراك أنه ليس في الواقع مُطْلقات، وبالتالي فإن سِلميَّة الثورة لا يمكن أن تكون مطلقة، خاصة وأنها جوبهَت ببطش قلّ نظيره في القسوة والبشاعة. وقد جرت العادة، في مثل هذا النوع من السِّجال، أن يستحضر البعض ممن تحنَّطت في أذهانهم الثورة بصورتها الأوليَّة السِّلْميَّة “المطلقة”، (غاندي) باعتباره فيلسوف اللاعنف. وغالباً ما يتم، عند استحضار غاندي، تجاهل واقع الثورة بما ينطوي عليه من حيثيَّات وتفاصيل ودقائق تنتمي إلى زمان ومكان محددَّيْن، هما زمان ومكان الثورة نفسها، وغالباً أيضاً ما يتم تجاهل صعوبة أو لا إمكانيّة ولا معقوليّة نقل تجربة إنسانية أخرى، وتطبيقها على واقع مختلف زمانيَّا ومكانيَّاً. والمفارَقة هنا، أنه حتى غاندي الذي يُعتبَر اللاعنف أوَّل عقائده وآخرها يعلن أن المرء إذا لم يكن له إلا خيار بين الجُبن والعنف، فإنه ينصح بالعنف. وفي كتابه (ر. دراته: العدالة والعنف- باريز- هاتيه 1958- ص91) يقول: “إنني أعتنق الشجاعة الهادئة بأن أموت من دون أن أَقتُل. ولكن من يفقد الشجاعة فأنا أرغب إليه تنمية فنّ أن يَقتل ويُقتَل، بدلاً من فراره المشين”. وفي حين يرى المتشائمون من عسكرة الثورة أن موقفهم يتَّسق مع حجم هَوْل النظام الذي زاد وتضخَّم، ومع الانهيار الشامل تقريباً لمدن وبلدات بأكملها بات النظام يقصفها ويبيدها بكل أنواع الأسلحة، كما يتَّسق موقفهم مع ما باتت تقترفه بعض عناصر”الجيش الحر” من جرائم قد تقترب من جرائم النظام، ومع وجود بعض المتديِّنين الأصوليّين في صفوف الكتائب المقاتلة، الأمر الذي يدفعهم للتخلّي عن مناصرتهم الثورة وتأييدهم لها. يرى المصرُّون على التفاؤل – على الرغم من كل شيء- أنه ليس عدلاً أن يتم التخلّي عن الثورة، وأن يُضرب عرض الحائط بكل ما مرَّت به قبل أن تصل إلى هذه الحال. وأن هذه الحال لا تُخيف، ولا تشكِّل خطورة على الثورة ككل مادامت ليست داخلة في تركيبتها، و وما دام هناك فسحة دائمة لتقويم أخطاء الثورة وتصويبها، كما أنه ليس عدلاً أن يكون (غياث مطر) أهم من (حسين هرموش) مثلاً. ومن المعلوم أن كلتا الشخصيَّتين المذكورتين هما رمزان من رموز الثورة التي تعجُّ برموز البطولات والتضحيات، ولمَّا كان مطر رمزاً للسِّلميَّة والورد والماء، فإن هرموش رمزاً للنُّبل العسكري، ورَفْضِ الانصياع إلى أوامر مؤسسة عسكرية آثرت غزو الديار بدلاً من حمايتها، وقد لاقى كلُّ من مطر وهرموش مقابل مواقفهما المشرِّفة المصير نفسه، أي التعذيب والموت. إضافة إلى ما سبق، يرى المتفائلون أيضاً أن المساواة بين الضحيَّة والجلاد لا تجوز، وأن الوحش الحقيقي هنا هو النظام دوماً. عدا عن ذلك، فإنه لمن الأنانيَّة المفرطة بمكان، بالنسبة إلى هؤلاء المتحمِّسين المتفائلين، أن تكون مع الثورة حين تغمرها السعادة والجمال ظنَّاً منك أنها ثورة ملائكة أو أنبياء، ثم تتخلَّى عنها حين تمرُّ بأزمات ومطبَّات؛ فكل ما جرى ويجري في الثورة إنما هو من أكثر الأمور طبيعيّة وواقعية وضرورية. إن فقدان الثقة بثورة اندلعت من أجل تحرير الوطن والإنسان، يعني فقدان الحُلُم، إذ لا يوجد شيء ناقص للتغلُّب على التشاؤم، إلا الهدف الواضح، وبمجرد وضوح الهدف تخسر “الشياطين” رهاناتها. فالثورة التي ولّدت عبر الويلات التي نجمت عنها مشاعر الحزن والأسى واليأس دفعت البعض إلى تبنِّي خطاب مثبط محبط، هي نفسها التي ألهبت كل مشاعر الحب والرغبة والحيوية والتَّوق، وقدّمت أمثلة مهمة في التسامح والتعاضد، والتفاني من أجل القضايا العادلة في الحياة، وهي نفسها التي أسهمت في إعادة اكتشاف الإنسان /الفرد ذاته، وانبثاق شعور عميق بالاستقلال، وسموّ الروح والعقل، والنفس والوجدان أعاد الاعتبار إلى قيم المواطَنة والوطن والوطنيَّة.
في التفاؤل كضرورة ثوريَّة
كيف تحيا البشريَّة حياة وجدانيَّة مستقرَّة والناس يبحثون عن مصالحهم الخاصة، ويهجرون المُثل العليا، ويزخر العصر بالأعمال الشريرة والمساعي العشوائيَّة؟ إن الفشل في تقديم إجابة شافية عن سؤال من هذا الطراز، ربما يكون سبباً في ولادة إرادة منكسرة مهزومة، حلَّ عليها التشاؤم بعد أن حَاولَتْ وفشلَتْ، وربما يكون سبباً كذلك في سواد شعور بتفاهة الحياة ونقدها. ولكن السؤال المقابل الذي قد يكون أهم من السابق هو الآتي: ما السبيل للخروج من معمعة الموت الناجم عن التشاؤم والتغلغل في شبحيِّته؟ السبيل حتماً هو النقيض، أي الامتلاء بالحياة. إن زعماء العالم الذين يسحقون خصومهم، ويخدعون شعوبهم، ينصتون باحتقار بالغ إلى مطالب الشعب الثائر في سوريا، ذاك الشعب المكوَّن من أعدائهم وضحاياهم في آن معاَ، فلماذا لا يأكلون من الفاكهة؟ ولماذا لا يتركونها تفسد إذا كانوا سيربحون من تبديدها؟ ولكن الشعب الثائر يدرك، على ما يبدو، اللعبة وقواعد اللعب فيها، وإدراكه هذا هو واحد من بين الأسباب العديدة والمتعدِّدة التي تمنعه من الرجوع عن ثورته، فمدينة “داريا” في ريف دمشق مثلاً، ارتكب النظام فيها مجزرة ارتدَّ فاعلوها بتاريخ ( 25/8/2012 ) إلى الحياة البهيميَّة بكل ما تعنيه العبارة من معنى، مجزرة راح ضحيَّتها حوالي (440) شخصاً بينهم أطفال ونساء! بيد أنه في المدينة نفسها رفع الثائرون في إحدى تظاهراتهم لافتة رسموا في أسفلها هلالاً يحيط بصليب، وكتبوا عليها متسائلين طامحين: “ما المانع أن يكون رئيسة الجمهورية امرأة مسيحية؟” إن هؤلاء الذين أعياهم التعب وجافى النوم عيونهم، يحدوهم الأمل بعد أن أدخلت الثورة السورية عليهم- كمؤمنين بها- تحوّلات عميقة جعلت منهم أصحاب مبادأة عقليَّة ومتبصِّرة، وصار الشعب الثائر يطمح لأن يبتدع لنفسه قوانينه بحرية، فما كان مستحيلاً في الأمس يصبح اليوم ممكناً، وما هو ممكن اليوم قد يصبح في الغد واقعاً، وفي كل الأحوال يبقى التفاؤل ضرورة ثوريّة.