عمليّة ”عناقيد الغضب“، اﻻسم السينمائي للعدوان الإسرائيلي على لبنان ربيع 1996، والذي بقيت منه ذكرى مجزرة قانا الأولى، كانت فاتحة فولكلورٍ جديدٍ في السياسة الإسرائيليّة، يقول أن أفضل حملة انتخابيّة هي الحملة العسكرية. بهذا الشكل، وبفظاظة سافرة تليق بمن تدّعي نفسها “واحة الديمقراطيّة” في الشرق الأوسط، شنّت إسرائيل أعمالاً عدوانيّة ضد الفلسطينيين واللبنانيين قُبيل خمسِ من الاستحقاقات اﻻنتخابيّة السبع.

 إنها ديمقراطيّة الدّم الفلسطيني: نحو 150 شهيداً، نصفهم نساء وأطفال.

بطبيعة الحال، نجد أوصافاً كثيرة للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، منها ما يختصر المسألة إلى عمليّة عسكريّة- أمنيّة ضد حماس كممارسةٍ طبيعية لحق الدفاع عن النفس، وهو التوصيف الذي نجده في الأوساط الإعلاميّة المقرّبة من الحركة الصهيونيّة في أوروبا والولايات المتحدة، وليس ثمة جديدٍ في هذا التعامل المتواطئ مع عدوانيّة الكيان الإسرائيلي في هذه الضفة، وعلينا أن نبحر إلى الضفة الأخرى، إلى إعلام ”الممانعة“، كي نصادف اجتهادات حديثة جداً في التعامل مع وقائع العدوان على غزّة سببها المستجد أنّ حماس، لم تعد ابنةً لمحور ”الممانعة“، بل يتم التعامل معها على أنها ناكرة للمعروف وخائنة لقدسيّة المقاومة نتيجة ابتعادها، البطيء والمحسوب، عن النظام السوري، والذي تكلل باقتحام القوّات الأمنيّة لمكاتب الحركة في دمشق وإغلاقها، هذه المكاتب التي لطالما كانت رمزاً لممانعة النظام لما يُملى عليه، وبنداً غير قابل للمس في المفاوضات مع الأمريكيين والإسرائيليين (مباشرةً أو عبر الوسيط التركي). سمِعنا وقرأنا أن العمليات الرئيسية للمقاومة الفلسطينية تقوم بها الفصائل الأخرى التي ما زالت موالية للمحور السوري- الإيراني وليس حماس، أو أنّ عمليات الاغتيال التي طالت قياديين في حركة المقاومة الإسلاميّة استهدفتهم نتيجة رفضهم للتوجه الجديد للحركة، خصوصاً بما يتعلّق بالعلاقة مع النظام في سوريا. ولعلّ الفكرة الأكثر سينكيّة جاءت من منطق أن هذا السلاح الذي يُقاتل به الفلسطينيون في غزة جاء أو مُوّل من إيران وسوريا، وبالتالي فإن هذا الواقع “الموضوعي” يضع معارضي هذا المحور المُمانع في موقع المُعادي لحقّ الفلسطينيين بالقتال للدفاع عن أراضيهم. أنت ترفض الظلم والطغيان في سوريا، وتريد إسقاط النظام الفاشي الجاثم على صدر البلد وأبنائها منذ عقود؟ إذاً أنت عدوٌ لحقوق الفلسطينيين، وبالتالي متحالف موضوعياً مع إسرائيل وتعمل لديها كطابور خامس. الابتزاز المعتاد لمن لم ولن يعرف إﻻ أن يبتزّ الآخرين ويزايد عليهم.

ليس ردّ الفعل الذي يقوم به بعض الممانعين من مدّعي الموضوعية، والذين يكررون دوماً أنهم ليسوا موالين للنظام السوري، على عبارات أو شعارات الإخاء بين الشعبين السوري والفلسطيني في معاناتهما المشتركة من آلة عسكرية طاحنة تعمل بكل جد ودون أيّ روادع لحصد أرواحهم وهدم بيوتهم وحرق ممتلكاتهم غريباً عن المنطق المذكور أعلاه. يقولون أن المقارنة بين الجيش السوري والجيش الإسرائيلي ﻻ تجوز، وأن من يفعل ذلك إنما يحاول أن يجعل تصرفات الجيش الإسرائيلي مقبولة ويقلل من أهميتها، وغيرها من هذه المبررات الواهية. هناك واقع، ويقول هذا الواقع أن جيشاً “وطنياً” يتصرّف كقوّة احتلال بكل معنى الكلمة: يقصف المدن بالسلاح الثقيل وبالطيران، ويستخدم أكثر أنواع القنابل والقذائف فتكاً وباستخدام آلة حربيّة دُفع ثمنها من جيب وتعب السوريين أنفسهم، ومن أجل تحرير أرضٍ محتلّة منذ 45 عاماً. قد يكون صحيحاً أن مقارنة أعداد الضحايا لا تفيد بشيء، وﻻ هي مسألة محبّذة ﻷنها تكاد تشبه باباً للبازار والمزايدة ﻻ نريد الاقتراب منه، لكن عجبي ممن تجرح المقارنة بين جيش استبداد وجيش احتلال مشاعره المرهفة، في حين أن تحوّل جيش الدولة إلى جيش استبداد قاتل بشكل سادي ﻻ يتعارض لديه مع قدسيّة تفترض أن هذا الجيش هو “جيش الوطن”! ابحثوا عن صور بابا عمرو والخالدية وصلاح الدين ودير الزور: هذه هي صور الأوطان التي تكون جيوشها كجيش النظام السوري. إنها ازدواجيّة الذي سكب الدموع مدرارةً على الطفولة الذبيحة حين نشرت صفحة قناة “الميادين” الممانعة صورةً لجثث أطفالٍ مكفّنةٍ بدماءٍ مختلطة بتراب الأرض على أنها في غزّة، ثم أشاح وجهه بعيداً، أو جلس يبرر (أو يبربر) حين عُرف أن هذه الصورة، في الواقع، تنتمي لمشاهد ما بعد قصف جيش النظام السوري لبلدة الحراك في درعا.

لهؤﻻء فلسطينهم، تلك القضية الخالية من البشر والسكان، والتي تنفع للاستخدام في كلّ شيء، حتى ضد الفلسطينيين. إسألوا اللاجئين الفلسطينيين في لبنان كم مرّة قُصفوا من الجيش السوري أو من حركة أمل بحجة الدفاع عن القضية الفلسطينية ضد “العرفاتيّة” المتخاذلة. لكن ثمة فلسطين ﻻ يعترف بها هؤﻻء. فلسطين التي ﻻ تقبل أن تكون عنواناً لمبررات طاغيةٍ دمويّ لسحق الشعب المستعبد من قبل سلالته الأسديّة، فلسطين التي تعرف أن كرامة أبنائها من كرامة أبناء الشعوب العربيّة الأخرى. إنها فلسطين التي ترفع أعلام ورايات الثورة السورية في غزّة والقدس في الوقت ذاته الذي ينادي فيه المتظاهرون السوريون للتضامن مع أشقائهم الفلسطينيين. هذا ممكن في سوريا، وممكن في فلسطين، لكنه غير ممكن في الجامعة الأمريكية في بيروت، حيث ضُرب حاملو اللافتات التي أشارت للثورة السوريّة في وقفة تضامنيّة مع غزّة من قبل الطلبة “الممانعين”.

بين فلسطينٍ وفلسطين… لك الخيار!