حتى الآن فشل الألم السوري في توحيد صوت المعارضات التي تتحلق حوله وتدعي تمثيله. وفشلت هذه الأخيرة في الحد أو التخفيف من هذا الألم الذي يتزايد يوماً بعد يوم. الخلل لم يكن في الشارع المنتفض والثائر بالتأكيد، فعلى الرغم من الأداء المتهافت والحضور الخجول الذي ميز المعارضة السياسية ـ بتلوناتها ـ منذ قيام الثورة، لم يخفت صوت السوريين في المطالبة في توحيد صوتها وتمثيل مطالب ثورتهم. ندخل في الشهر الواحد والعشرين من الثورة السورية ولم ينجح أي تجمع أو ائتلاف وتيار من أن يتميز ويغدو العصب الرئيسي، أو الممثل السياسي للحراك الثوري في سوريا. في مرحلة ما بدا أن مثل هذا متاح أمام المجلس الوطني السوري الذي ظهر كائتلاف سياسي متميز لم يعرف التاريخ السياسي السوري المعاصر مثيلاً له من حيث طريقة تكونه وطبيعة القوى المندرجة فيه والتفاف أكثرية الشعب المنتفض حوله والدور الذي أريد له أن يلعبه في دعم الثورة السورية. ولكن ما حدث كان مخيباً للآمال.
الآن يبدو أن ثمة محاولة تحت مسمى “مبادرة الهيئة الوطنية” التي ستعقد مؤتمرها في الدوحة، ومن الواضح أن هذه المبادرة تلقى دعم الولايات المتحدة وبعض الدول العربية والأوروبية، وبمشاركة شخصيات لها وزنها وحضورها على الساحة السياسية السورية وفي معارضة النظام، كرياض سيف البرلماني السابق والمعتقل السياسي لسنوات على خلفية معارضته للنظام السوري.
استناداً إلى النقاط التي أذاعها رياض سيف للتداول فيها في مؤتمر الدوحة الذي سينعقد في الثامن من الشهر الجاري، تطرح المبادرة نفسها كمشروع لتوحيد المعارضة وتمثيل الثورة سياسياً، بما يبدو وكأنه تجاوز للمجلس الوطني. بحسب هذه النقاط تبدو هذه المبادرة طموحة وواثقة من إمكانياتها في تحقيق ما لم يحقق حتى الآن (توحيد المعارضة ودعم الثورة وتنظيم الجيش الحر ودعمه، إدارة المناطق المحررة، الإغاثة)، بالإضافة إلى أنها تضمن عدم وقوع البلاد في فراغ سياسي أثناء سقوط النظام. ولكن، من أين استمدت المبادرة كل هذه الثقة؟ ما هي المعطيات التي تستند عليها؟ ما الذي تغير على الصعيد الدولي الذي غدا واقعة أساسية ووازنة في الشأن السوري؟ على هذا الصعيد الأخير، تبدو الأمور غير مبشرة، فحلفاء النظام مستمرون في دعمه والتمسك به بقوة، بينما أخذ بعض التململ يظهر عند خصومه. لا جواب نملكه عن هذه الأسئلة، كما لا توضح المبادرة أياً منها. فلقد ظهرت هذه المبادرة دون سابق تمهيد وبشكل مفاجئ وبعيداً عن أي مقدمات ظاهرة، موضوعية كانت أم غيرها، ومعها ظهرت بعد التصريحات التي توحي بأنها مسنودة دولياً، ولكن هذا بحد ذاته غير كافٍ ورأينا مثله أثناء تشكل المجلس الوطني. كما أننا لم نشهد حتى الآن أي محاولة من قبل أطراف المعارضة لتقديم تصور حول كيفية إدارة المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام وإعادة الحياة إليها، ولا بتجارب على هذا الصعيد عملت على إحياء المرافق العامة التي تعطلت فيها وتسوية أوضاع الإدارات المدنية التي قد تساهم في تسيير أمور الناس وتأمين متطلبات العيش لهم. المحاولات التي تمت بهذا الخصوص ظهرت في مناطق محدودة وبمبادرة من كوادر محلية فيها بعيداً عن التنسيق مع المعارضات السياسية، وهذا ما يفتح الباب على تساؤل حول مقدرة المبادرة بالفعل على إنجاز مثل هذا الأمر، لاسيما وأنه في ظل الأداء الخجول للمعارضات، عمد الناس إلى إيجاد بدائل أهلية لتنظيم أمور حياتهم، التي استطاعت أن تتجذر مع مرور الأيام، وأصبح لها كوادرها ومرجعياتها الخاصة بها، والبعيدة تماماً عن التنسيق مع المعارضة السياسية. فهل ستنجح المبادرة وحكومتها المزمع تشكيلها في إيجاد صيغة من التواصل والتشارك مع هذه البنى والمؤسسات الأهلية، وأن تفرض نفسها طرفاً شرعياً يأخذ على عاتقه تنظيم أمور الناس وتسييرها؟
كذلك في ما يخص السلاح الذي انتشر على الأرض السورية والذي يحمل بعضه هوية لا تجعل من أهداف الثورة هماً له، ويحضرنا هنا أولاً الجماعات الجهادية التي تعلن ذلك صراحة، والتي باتت عبئاً على الثورة ومصدر قلق لقطاعات واسعة من الشعب السوري وكذلك للمجتمع الدولي. إن عنف النظام لذي فاق كل تصور، وكذلك فشل جميع المحاولات من أجل توحيد الجيش الحر وتنوع مصادر التمويل المشروط بغايات محددة تخدم الممولين بالأساس، كل هذا ساهم في تعقيد هذا الملف، الذي يعد من أهم التحديات التي تواجه أي تعبير سياسي سيقدم نفسه على أنه ممثل للثورة.
انتقدت المبادرة من قبل أطراف سياسية معارضة، وبعض هذه الانتقادات لا يخلو من وجاهة، لاسيما تلك التي تتعلق بعدم مشاورة قوى وأطراف أساسية في المعارضة والثورة. ولكن البعض شطح إلى اتهامها بـ “خيانة” الثورة، من حيث أنها التفاف على أهدافها وخطوة باتجاه فتح حوار مع النظام على أرضية لا غالب ولا مغلوب. ليس واضحاً إلى ماذا استند هؤلاء في أحكامهم هذه، وخصوصاً أن النقاط الأولية التي طرحتها المبادرة تقول العكس تماماً. لا تمتلك المعارضة السورية فائضاً من الوقت يتيح لها الخوض في هذه الحساسيات التي زادت من تعتيم صورتها في قلوب السوريين، فالبلاد تترنح من الألم، وآن لهذه المعارضة أن تخرج من حالة الشرذمة والانقسام التي تعود لاعتبارات أيديولوجية أو تغليب مصالح خاصة على أي اعتبار آخر أو عبر الارتهان لبعض الأطراف التي تسعى لاستثمار الأزمة السورية بما يخدم مصالحها. آن لها أن تعمل على استعادة المصداقية السياسية والأخلاقية عبر تحمل مسؤولياتها اتجاه ما يحصل في سوريا.