تماماً بينما يقترب نظام الأسد في سوريا ممّا يبدو أنّه تفكّكه الأخير، تسارع بعض الشخصيات البارزة من اليسار الناطق بالإنكليزية إلى الدفاع عنه- أو على الأقل معارضة مناوئيه. الجمع المعارض لمعارضي الدكتاتورية لا ينحصر بمؤيدي نظرية المؤامرة مثل ميخائيل شوسودفسكي، وإنّما يشمل أناساً كان يتوقّع منهم أن يكونوا أكثر معرفة، مثل طارق علي، جورج غالاوي وجون ريس. بعض المحاججات يتم التعبير عنها بأسلوب أكثر التهاباً من أخرى- مثل ادّعاء غالاوي أنّ الانتفاضة السورية هي “مؤامرة دولية مهولة”– لكن كل المحاججات تتبع نفس الخطّ العام: الثورة السورية، سواء امتلكت جذراً شعبياً أم لا، قد أصبحت الآن مجرّد محاولة عسكرية جاهدة من سُنّيين متغطرسين يلعبون دور مخالب لجهد سعودي- قطري- أميركي (وربما أيضاً فرنسي- صهيوني) لقلب نظام الأسد، الذي هو آخر مأوى للقوى المعادية للإمبريالية في المنطقة. هذه الانتفاضة الممولة خارجياً تمثّل امتداداً للمشروع الإمبريالي الأميركي الذي بدأ بعد هجمات ١١ أيلول، والذي انطوى على احتلال أفغانستان والعراق. حكايات مجازر الحكومة السورية التي تظهر في الإعلام الغربي هي نظيرة تلك المتداولة في ٢٠٠٢-٢٠٠٣ حول أسلحة الدمار الشامل خاصّة صدّام حسين، وبالنتيجة يجب أن تُجرّد من مصداقيّتها. الحل الوحيد المعوّل عليه هو مفاوضات سلام (وهي إمكانية طُرحت أيضاً من قبل أطراف من المعارضة السورية) تدع بعض بقايا نظام البعث في مكانها، وبالنتيجة تحرم الولايات المتحدة وشركاءها في المؤامرة من هدية الحصول على نظام مطواع على خط الجبهة الإسرائيلية وإضعاف ملحوظ للموقع الإيراني. هذه المحاججات لم تقدَّم فقط من قبل معلقين ناطقين بالإنكليزية: خارج التيارات الثورية في مصر، هي شائعة جداً في اليسار العربي. يحتاج المرء لمحة واحدة على جريدة “الأخبار” اللبنانية ليجد الثورات العربية ملعونةً باختصار كأمثلة على “السنية السياسية”.
هل شيء من هذا صحيح؟ الحالة في سوريا شديدة العنف والتعقيد، وصعبة الفهم حتى بالنسبة لمن هم داخل سوريا، عدا عن الذين هم خارجها. على الرغم من ذلك، المعلومات متوفرة إذا كان المرء جاهزاً لاستشارة الناس داخل سوريا أو الذين غادروها مؤخراً – وهذه خطوة نادراً ما اتُخذت من قبل من يقدّمون أطروحة معارضة معارضي الأسد. دعونا نأخذ هذه الادعاءات تباعاً.
“مؤامرة دولية مهولة”؟
الاتهامات المساقة من قبل تشارلز غلاس وباتريك سيل، على سبيل المثال لا الحصر، هي أن الجيش السوري الحر مدرَّب، مموّل، ومسلّح، من قبل قطر والمملكة السعودية (مما يؤدي لزيادة تأثير الإسلام السياسي في صفوفها)، إضافة لشركاء المؤامرة في الولايات المتحدة وتركيا. هذه الأسلحة والأموال، كما يُدّعى، تتدفق بشكل كبير عبر نقاط التواصل المقامة بين منطقة سيطرة الجيش الحر والحدود التركية في الشمال السوري. هذه الأسلحة هي التي تفسّر جرأة الثوار، وبذلك فإن النهاية المحتملة للنظام الحالي ستكون نصراً لمصدري الأوامر، وليس للشعب السوري.
ثمة عناصر حقيقية في هذه السردية. ليس سراً أن الولايات المتحدة، وشريكها الإمبريالي الصغير الأكثر صخباً، تريد التخلص من الأسد، ولهذه الغاية هي تشترك مع المملكة العربية السعودية وقطر، ومجلس التعاون الخليجي إجمالاً. السعوديون والقطريون يوفّرون المال، وفي بعض الحالات الموادّ، لأطراف الجيش الحر التي يصادقون عليها. وليس إفشاءً لسرٍّ أيضاً أن الوكالات الغربية (والتركية) تحاول استغلال لعب دور الوسيط لإدخال هذه الموارد إلى سوريا، وبالتالي ممارسة تأثير على الحالة الثورية. في أي ثورة، وفي أي مكان، اليوم أو في المستقبل، ستحاول القوى الخارجية أن تفعل ذلك. ما تخطئ فيه هذه المحاججات كثيراً هو الادعاء أن الثورة السورية، وبنتيجة هذه المحاولات، تتألف اليوم من عناصر متعددة تعمل لصالح وكالات الاستخبارات الغربية وتحرّض على إعادة استعمار البلاد.
أولاً، هذه الأسلحة والأموال مثار الشكّ ليست بذلك الحجم، وليس للجميع. يستطيع المرء اكتشاف صور للجيش الحر لأسلحة أو مدافع مضادة للطيران، لكن نادراً جداً. أيضاً، على الأرجح أن هذه الأسلحة تم أخذها من قبل منشقين بعد اقتحام ثكنة للنظام. إن أفضلية النظام في القوة الجوية والمدرّعات ساحقة: موارد الجيش السوري الحر لا تتحمل أية مقارنة معه. يتوقع المرء مؤامرة دولية مهولة من هذا النّوع جديرة بتزويد الطابور الخامس الذي ينهض بها على الأرض ببعض الأسلحة الفعالة من مضادات دبابات ومضادات طيران. لا دليل على وجود ذخيرة من هذا النوع. يبدو معظم أسلحة الجيش الحر الخفيفة تأتي من الجيش السوري نفسه، عبر انشقاقات أو عبر شرائها بنقود رجال أعمال سوريين مُبعَدين في الخليج. هنا لدينا مثال عن عناصر من الجيش السوري الحر استحوذوا على مدينة الرستن في تموز، وأعطبوا على الأقل مدرّعتين، تبدوان في هذا الفيديو:
,http://youtu.be/jEe3G_SWxrs]
قوات النظام المدرّعة تبدو أنها قد ضُربت بقنابل مطوّرة، بحسب وصف تقارير أخرى. يملك المقاتلون أسلحة كلاشنكوف ودروعاً واقية للجسد، لكنهم لا يملكون أسلحة ثقيلة، ولا أسلحة هاون ولا بطاريات صواريخ. مثال عن دوافع ومطالب مقاتلي الجيش السوري الحر يقدمّه هذا الفيديو:
youtube://v/P1YSucJu40c
كونهم انشقوا بسبب الهلع من قمع النظام، يبدو هؤلاء الرجال بحاجة ماسّة إلى الأسلحة والدعم الخارجي. إن شروط مثل هذا الدعم، خصوصاً تستلزم تفوقاً جوياً غربياً، ستعرّض في الحقيقة استقلالية الثورة للخطر – لكن كونهم يطالبون بها يعني أن المؤامرة ليست ربما بهذه الهول أو الفاعلية على أية حال. إذا كنت تموّل وتدعم تسليح قوة ثائرة بشكل شامل للإطاحة بعدوّك المسلح جيداً، هل ستترك مقاتليها يعتمدون على طيبة القرويين المحليين لتأمين الطعام؟
الإيمان بمؤامرة دولية مهولة، بدلاً من ثورة شعبية، يقطع الطريق على فهم سبب الأداء السيئ لقوات الأسد. يبلغ تعداد الجيش السوري حوالي 300,000، وهو جيش حقيقي، لا مجموعة من الرجال في الغابات. ورغم ذلك لا يمكن استعماله، لأن معظم جنوده ليسوا موضع ثقة. قوات الصدم الصلبة –المدعّم ولاؤها بهويّات طائفية وعشائرية– يمكن إرسالها للقضاء على قوات الجيش السوري الحر، لكن حكم المناطق المُخضَعة تقريباً مستحيل، ذلك أن القوات النظامية يمكن أن تنشق، أو، ببساطة، أن تمتنع عن أداء مهمتها. هذا النمط من الثورية يجب أن يعدّ جزءاً أيضاً من عملية ثورية تجري منذ آذار/ مارس 2011. انشقاق مناف طلاس ورياض حجاب والتفجير الذي قتل عدة مسؤولين أمنيين رفيعي المستوى يؤشّر إلى أن النخر قد وصل حتى نواة النظام.
تحوّلت إلى حرب أهلية؟
لكن، أليست هذه مجرّد مناورات لحرب أهلية قد تحوّلت إليها الثورة السورية اليوم؟ استنكارات “عسكرة” الثورة السورية، والدعوات لوقف العنف ببساطة تصدر بدوام وقوة عن جهات معينة في اليسار الغربي. وفي الحقيقة، القوى الاقتصادية للطبقة العاملة (بأفضل حالاتها، تبدو بشكل ضئيل في الثورة السورية) توفّر قاعدة لاستراتيجية ثورية أكثر صلابةً من مجرّد المواجهة العسكرية مع الدولة. ليس هناك شك في أن ما تمرّ بها سوريا حالياً هو حرب أهلية، وإن تكن ديناميات العملية الثورية في هذه الحرب ما زالت حاضرة. ولا شك أيضاً أن الاستراتيجية العسكرية للجيش السوري الحر غير متفق عليها ضمن صفوف المعارضة نفسها. مع ذلك، يغيب عند من يلوم الثوريين السوريين على لجوئهم إلى السلاح أيّ فهم لأصول هذا التطوّر.
لقد استوحت الثورة النموذج التونسي والمصري واتبعتهما. حتى الشعار الأول “الشعب يريد إسقاط النظام”، الذي بُخّ على جدار في درعا، احتذى تونس بشكل واعٍ. كل احتجاج غير مسلّح كهذا تمّ سحقه بمنتهى العنف. الجيش السوري الحر نشأ عن انفصالات مسلّحة تحمي المتظاهرين، بدأت فعلياً فقط في الصيف الماضي. تمّ “تسليح” النظام السوري لعقود. إذا استمرّ هذا النظام بشكل ما، وهو الحلّ المفضّل لدى بعض اليسار، ستستمرّ معاناة السوريين من عنفه. وهم ليسوا موضع موضع إدانة إن ردّوا بالعنف.
ولا هي الثورة ستكتمل عن طريق أسلوب المظاهرات والإضرابات والإدارة الذاتية الشعبية. هذا عامل جوهري في التفكر بدور تدخل خارجي: الأسلحة والأموال تدخل سوريا من الخارج، ولكن هذا يظلّ ضمن سياق تعبئة شعبية نشيطة بشكل مذهل. على المرء أن يتذكر أن عشرات الألوف قتلهم هذا النظام، وأكثر منهم اعتقلهم وعذّبهم، ومظاهرات هاجمها بالرصاص الحيّ، وأحياء سكنية دكّها بالمدفعية، كل هذا يحدث منذ عام ونصف العام. ما كانت لتكون مفاجأة لو أن الثوار السوريين اختفوا نهائياً من الشوارع. لم يحصل ذلك: الواقع أن الانتصارات العسكرية المتزايدة على النظام أتت جنباً إلى جنب مع ظهور معارضة ضخمة في حلب ودمشق. لنأخذ بعض الأمثلة من الهجمات الأخيرة في هذه المدن..
مظاهرة في ركن الدين، دمشق، في 19 حزيران\يونيو:
,http://youtu.be/bRbFDJfzIiE]
وفي 20 حزيران\يونيو، أيضاً في دمشق، ستلاحظ “عسكرة” الوضع في الدقيقة 4:36 حين يفتح قناصو النظام النار:
,http://youtu.be/7cg-YmzbM1Q]
هنا مظاهرات من حلب بعد بضع أيام، من حيّ كردي – عند مشاهدة مشاهد القتال في تلك المدينة، من الجدير بالتذكر أن مظاهرات كهذه هي ما تقاتل قوات الأسد للقضاء عليه:
,http://youtu.be/eT3TC1uQz1w]
وهنا ملخّص للمظاهرات في حلب يوم 29 حزيران\يونيو:
,http://youtu.be/k8SYmL00z2I]
الهجمات المسلحة على البنية التحتية للدولة الأمنية تتمّ أيضاً بمشاركة شعبية، كما يظهر في هذا التسجيل لاقتحام مبنى الأمن السياسي في قرية التل:
,http://youtu.be/9PbSpu_6wlg]
جرت عدة محاولات لإشعال إضرابات عامة ضد نظام الأسد، على أمل تكرار مساهمة الحركات العمالية المصرية والتونسية في إنهاء الديكتاتوريتين. حتى الآن، لم تنجح هذه المحاولات، جزئياً بسبب التراكب العميق للأحزاب الشيوعية والمنظمات العمالية الرسمية، وجزئياً بسبب مقدار القمع. ومع ذلك، شهدت مدن سورية عديدة في مناسبات عديدة أياماً من الإضراب – هنا فلم عن إضراب لسائقي الميكروباصات في ضواحي دمشق يوم 8 حزيران\يونيو:
,http://youtu.be/3WdrGu7Cyts]
المجلس الوطني السوري، المتمركز في تركيا، يُعتبر بحقّ من قبل معسكر معارضي معارضي الأسد مؤسسة مؤيدة للتدخل، متأثرةً إلى حد كبير بالإخوان المسلمين ورعاتهم القطريين. لكن، لا يبدو أن هذه المجموعة تحظى بتمثيل أو باحترام على الأرض. رسائل واضحة من بلدتي سراقب وتفتناز تكشف عن عناصر قوة شعبية في مناطق محررة من نظام الأسد. إن لجان التنسيق المحلية
“لملء الفراغ، تداعى المواطنون لانتخاب مجالس – الفلاحون شكّلوا مجلسهم، وكذلك فعل التجار، العمال، المدرّسون، الطلاب، موظّفو العناية الصحية، القضاة، المهندسون، وكذلك العاطلون عن العمل. في بعض الحالات اندمجت المجالس بشبكات ناشطين موجودة مسبقاً، والمسماة لجان تنسيق محلية. وقد اختاروا بدورهم موفدين ليجلسوا في مجلس على مستوى المدينة. هذا المجلس هو الصيغة الوحيدة للحكم الذي اعترف به جمهور المواطنين في تفتناز والبلدات المحيطة.”
وفي سراقب:
“يتولى كلّ من أعضاء المجلس التسعة دوراً – ثمة مسؤول ارتباط إعلامي، مسؤول مالي، مسؤول ارتباط عسكري، مسؤول سياسي، ممثّل للمحاكم الثورية، منسّق خدمات، خدمات طبية، مسؤول تبرّعات، ومنسّق مظاهرات. وهؤلاء يتناوبون على مواقعهم المنتخبة كل ثلاثة أشهر. “لا وجود لقائد في المجموعة” كما قال “السيّد”، وهو أحد المسؤولين التسعة وقد طلب عدم الكشف عن هويته. “نريد التخلص من هذه الفكرة”.
هذه ليست منظمات منعزلة عن بضعها – اللجان تنتخب موفدين لهيئات مناطقية، وهذه بدورها تشكّل القيادة الثورية السورية العامة.
هذه اللجان لا يمكن أن يُساء الظنّ بها كسوفييتية. كنظيراتها (الميتة الآن إلى حدّ كبير) في مراحل مبكّرة من الثورتين التونسية والمصرية، هذه اللجان تعكس تسلسلات هرمية محلية وعلاقات، كما حالات غيرة ومنافسة.
مع ذلك، في مجتمع في مخاض وهيجان ثوري (والذي يتعامى معارضو معارضي الأسد)، يتعرّى الصراع الطبقي وتُثار كثيراً أسئلة حول إعادة تشكيل النظام الاجتماعي. وبذلك، في بلدة بنّش، قرب تفتناز، ينقل غوبال كيف أن الفلاحين والمستهلكين اتفقوا على أسعار الغذاء عبر آلية مجلسهم على الأرض، بناءً على قاعدة “أن نعطي كلاً حسب حاجته”. يتابع التقرير:
“هذه عبارة سمعتها مراراً، حتى من قبل ملاكين وتجار كان من الممكن أن تقشعّر أبدانهم من خطاب الثورة المساواتي – لا يمكنهم تجاهل أن العديد ممن هم على خطوط التماس ينتمون للشرائح الدنيا للمجتمع. في لحظة ما من آذار/ مارس، فرض مجلس المدينة ضوابط أسعار على الرز ووقود التدفئة، ملغياً بشكل محلي أكثر الإصلاحات الاقتصادية لا شعبيةً خلال العقد المنصرم.”
آليات شبيهة يبدو أنها ظهرت في حلب، حيث، بحسب تقرير في الغارديان:
“الأغنياء… [ينظرون إلى] الثوار كجيش فلاحين غير مرحّب به. “لو أمكنني التعميم لقلت إن الطبقة الوسطى والطبقة العليا لا تريد الثوار. يريدون أن يكون كل شيء كما كان سابقاً حتى يتمكنوا من ممارسة التجارة والذهاب إلى المقاهي” كما قال عبر سكايب ساكن منطقة موالية يتكلم الإنكليزية.”
لا ريب أن اللجان المحلية، كما يبدو، قد تبنّت حتى تعاليم غرامشي حول دور الصحافة الثورية، فقد طبعوا جريدتهم الخاصة (كلماتثورية) عارضين تقارير مما هو حرفياً خط الجبهة، إضافة لمقالات عن التاريخ الثوري – بكلمات أحد محرّري الجريدة: “هذه ليست ثورة مثقف… هذه ثورة شعبية. علينا أن نقدّم للناس أفكاراً، ونظرية.”
“عصابة طائفية”؟
لا يجب أن يُساق وجود وطابع هذه اللجان المحلية كحجة على أن جمهورية العمال السوريين قريبة. بل إنها تؤشّر إلى أن الديناميات في سوريا –وهي معقّدة ودامية وفوضوية– هي ديناميات ثورة حقة، وليس مجرد إنتاج عصابات مسلحة تعمل بإمرة أعداء خارجيين. أحد أكثر الحجج الشائعة والمطروحة هي تلك التي تدعي، بالترافق مع التوكيد على درجة الدعم الخارجي الذي تحظى به الانتفاضة، أن الانتفاضة قائمة على أساس من العنف الطائفي الذي يجعل الثوار بنفس سوء النظام (إن لم يكونوا أسوأ منه). هذه الحقيقة، كما يُدّعى، يتم إخفاؤها من قبل وسائل إعلام غربية متواطئة ومتعطّشة للحرب.
الانتفاضة السورية، بالضبط لأنّها انتفاضة شعبية، تحمل في طيّاتها العديد من الانحيازات و…. للمراكز الإقليمية، على الأغلب سُنّية، التي وجدت لنفسها قاعدةً فيها. القرّاء الناطقون بالعربية سوف يلاحظون غلبة الشعارات الدّينية في مقاطع الفيديو المشار إليها في الأعلى (“الله أكبر”،”لبّيك يا الله”، “جمعة واثقون بنصر الله”، وغيرها). بعض هذه الشعارات رّبما تعكس التزاماً إيديولوجياً: الأكثر احتمالاً، كما يقول أناند غوبال، هو أنّ هذه الشعارات “عادة ما تكون جزئياً أداء للمفردات، وجزئياً مبدأً موحِّداً في مجتمع ممزق، وبجزء آخر هي توسّل رمزي للنضال بطريقة حرب العصابات في عالم ما بعد حرب العراق، وبجزء هي تعبير عن الإيمان الخالص”.
يبدو غريباً جداً أن الناس الذين قبلوا شرعية نضال حزب الله مثلاً ضدّ اسرائيل يطالبون الثوار السوريين اليوم بأن يُنكروا لغةً من نوع الشعارات أعلاه. إن تصريحاً لجورج غالاوي بأنّ تيّاراً “إسلامياً جهادياً متطرفاً” ينتظر الاستيلاء على سوريا يبدو بشكل خاص انقلاباً حادّاً واستخداماً ضبابياً قذراً للّغة. كما يبدو فإنّ هناك جماعات تحت اسم القاعدة في شرق سوريا حيث تًوفّر الحدود مع العراق مخزوناً من المحاربين المتمرّسين عبر الحرب ضد الاحتلال الأميريكي ليتمّ تهريبهم. مع ذلك، الدلائل على أنّ هؤلاء يشكلون قوة مُهيمنة ضمن المجموعات المتعددة التي تقاتل تحت عنوان الجيش السوري الحر لم تُقدَّم بعد.
ولو أنّ الطلبنة هي بعيدة كل البعد من أن تقض مضجع سوريا، فإنّ المجتمعات الريفية الحريصة على سلوكها القويم، والتي كانت الثورة فيها الأقوى حتى الآن، قد حافظت على الرغم من ذلك على ممارسات التسلسل الهرمي الجندريّة السابقة على الثورة. تبدو هذه المجتمعات الموصوفة أعلاه محكومة بشكل رئيسي من قبل رجال. ولكن، كما في حالة الصراع الطبقي، لا يمكن إلّا وأن تحفّز العملية الثورية ممارسات من التحرر الذاتي، والتي متى اختُبرت، سيكون صعباً أن تُمحى. بالإضافة إلى المشاركة في المظاهرات، انضمّت نساء إلى الجيش السوري الحرّ بما في ذلك تشكيل كتيبة خولة بنت الأزور الظّاهر في في الفيديو أدناه:
,http://youtu.be/vowbuLxK7po]
إذا كان دور المسلّحين التكفريين مبالغاً به، فإن خطر مذابح طائفية هو خطر حقيقي. كلّما تمسّك النظام بمكانه أكثر مغرِقاً الجميع معه، سيصبح هذا الخطر أعظم. إن عاماً ونصف من القتال المستمرّ قد قادت بلا شك إلى استقطاب طائفي- رغم إنّه، وكما تشير “مجموعة الأزمات الدولية”، ربّما من المفاجئ أنّ هذا الاستقطاب لم يصل إلى مستوى أسوأ.
إن اللجان الموصوفة في الأعلى تعمل في مناطق سُنية وبعض عناصرها يظهرون عداءً للقرى الشيعية في المنطقة. هناك تقارير موثوقة عن إعدامات لمعتقلين من الشبيحة ولمتعاونين محتملين مع النظام (عواينية) بما في ذلك القتل الجماعي لأفراد من آل بري المناصرين للنظام في حلب. لكن، لو كانت الثورة مجرّد حرب أهلية مجتمعية، لكان السُّنّة العرب (المجتمع الراجح عددياً إلى حد كبير) قد ربحوا المعركة الآن. هناك أيضاً علويّون عرّفوا أنفسهم كثوريين- لديهم موقع إلكتروني يوثّق مشاركتهم. هناك جهد كبير يجري ضمن أوساط الثورة للتأكيد على الوحدة ضدّ الطائفية- لك أن تشاهد، مثلاً، وثيقة العهد الصادرة عن لجان التنسيق المحلية والتي وُقّعت من قبل ٢٩ من قياديي فرق الجيش السوري الحر. تعهدت الوثيقة بـ”الامتناع بنفسي عن أية سلوكات وممارسات تسيء إلى مبادئ ثورتنا التي قامت عليها، مبادئ الحرية والكرامة والمواطنة. وعليه فإنني أحترم حقوق الإنسان وفق ما تمليه مبادئنا شرائعنا الدينية السمحاء، وقواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان.”
كثيراً ما تُصاغ هذه الالتزامات ضمن ثقافة خطابية تثير اللغط لدى أولئك الذين يرون “الإسلام” كمشروع متجانس بدلاً من رؤيته كنوع من “العامّيّة السياسية”. على سبيل المثال، هذا الفيديو يُظهر تشكيل “فرقة المقاومة الشعبية” في دمشق. الشاشة مليئة بالرجال المسلّحين المقنّعين الذين يتحلّقون حول قرآن ويقسمون على الولاء لله تعالى:
,http://youtu.be/vO1hx9wRhmo]
لكن ما هو محتوى القَسَم؟ إنّه “حماية والّدفاع عن النّاس الذين سوف يقررون حكومتهم التي يرقبون.. (و) رفض ودرء الانتقام الذي يمكن أن يحصل خارج سيطرة فرقتنا” والعمل” دون أيّ تمييز بين المدنيين، بغضّ النظر عن إثنيّتهم، طائفتهم و معتقدهم الديني أو السياسي”.
مشهد آخر شبيه يمكن رؤيته في هذا الفيديو أدناه. حيث يظهر تشكيل “لواء أحرار السّاحل” في اللاذقية، قلب المنطقة العلوية:
,http://youtu.be/LV-jJUDFeBw]
كما في الفيديو الذي سبقه، يبدأ الإعلان بآية قرآنية، وتكون الغرفة مليئة بالذقون، الأسلحة وعصابات الرأس. يتعهّد الموجودون ب”بناء وطن يفيض بالمحبة ويسوده العدل والسّلام” واتّباع القانون الدولي لحقوق الانسان “دون التفات إلى الأعراق أو الأديان”. كلا الفيديوين يقدّمان لوائح بكتائب تعلن التزامها بهذه التعهدات.
من المستحيل الحديث عن مدى الالتزام اللاحق بهذه التعهّدات. لكن ما تشير إليه بكل الأحوال هو معركة ضمن الجانب الثوري للحفاظ على الوحدة الوطنية العابرة للطوائف ضمن وضع شديد العنف والفوضى. لا يوجد أيّ اهتمام مشابه من جانب النظام، وبذلك فإن معاملة الطرفين على نحوٍ من المساواة يكون خطأً قاتلاً. والخطأ الأكبر عندما يكرر اليساريّون الغربيون رواية النظام، كما في حالة مجزرة الحولة عندما قيل أنّ الثّوار هم من قاموا بالمجزرة لكي يشوّهوا سمعة النظام.
في أيّار هذا العام، قُتل عدد كبير من الناس في منازلهم في منطقة الحولة شمالي حمص بعد هجوم للجيش السوري الحر على حاجز لجيش النظام. أكّد الناجون أن الجُناة كانوا عناصر موالية للنظام، سواء من الجيش أو الشبيحة. ادّعى النظام أن الجيش السوري الحر قام بعمليات القتل ثمّ رمى باللائمة على الحكومة. نشر صحفي ألماني من صحيفة Frankfurter Allemeine Zeitung قصّة مشابهة مبنيّة على مصادر مجهولة الهوية ادّعت القتلى هم عائلات شيعية قُتلت بسبب رفضها الانضمام إلى المعارضة. كردّ على ذلك، صرّحت لجان التنسيق المحلية بأن الضحايا كانوا من عائلات سُنية (كما أكّد أفراد ناجون من هذه العائلات، والذين صرّحوا أيضاً بأنّهم يعتقدون بأن القتلة هم من الشبّيحة) ولم يقم أيّ صحفي ألماني بالاتصال مع هؤلاء أو بزيارة المنطقة. التحقيق الذي أجرته الأمم المتحدة بهذا الشأن انتهى إلى أن القوات الموالية للنظام هي المسؤولة. ورغم ذلك، تبقى هذه الحادثة مصدراً للاستشهاد من قبل معارضي معارضة الأسد في اليسار كما لو كانت ملفّ ألاستير كامبيل الزائف الذي برّر الحرب على العراق.
ماذا لو القصة غير الممكنة وغير المستساغة عن ثوريين قاموا بذبح أطفال لجعل الأسد يظهر بصورة سيّئة حقيقة فعلاً؟ إنّها بالتأكيد خاطئة، ولكن حتى لو افترضنا صحتها، لا يحتاج الأسد أيّ مساعدة كي يظهر بمظهر سيّء. إنّ قصف بلدة اعزاز في الخامس عشر من آب، والذي أدّى إلى مقتل العشرات من الناس، قد قامت به بالتأكيد قوات النظام، إلّا إذا آمنّا أن الجيش السوري الحر قد حصل على طائرات مقاتلة، وهو الآن يستعملها لقصف مؤيّديه لجعل الأسد يظهر بمظهر سيّء. كيف يمكن أيضاً أن تكون شديد التفاهة: دعونا نؤمن أن قطر، المملكة العربية السعودية، اسرائيل والولايات المتحدة الأميريكية قد تآمرت لتثبيت حُكم عقود طويلة من الوحشية والديكتاتورية في سوريا، قاتلةً ومعذّبةً الناس، ومُهدرةً كمية ضخمة من الثروة على حساب العمّال والفلّاحين، وفارضةً سياسيات نيوليبرالية على الجُموع المُفقرة… وكل هذا لتجعل الأسد يظهر بصورة سيّئة. أو إذا قبلنا إذاً أن كل هذا ليس بمؤامرة، هل يكون هكذا نظام مُرتكزاً لقطب مُستدام للمقاومة ضدّ الإمبريالية؟
شكراً للثورة السورية، فلدينا على الأقل مجموعة صغيرة من اليساريين المنخرطين في الصّراع. ينشر “اليسار الثّوري السّوري” عندما تسمح الظروف الصّعبة جداً جريدة بعنوان “الخط الأمامي”. هذه الجريدة تشنّ حملة ضد الطائفية والتدخّل الخارجي وتدافع عن الثورة المستمرّة. النُّسخة الأصل العربية من برنامجهم موجودة هنا. وقد قمت بترجمة قسم منها هنا. تعلن أنّ المهمّة الرئيسية للتيار هي “بناء يسار ثوري فاعل وقادر على تعبئة الناس المقهورة والكادحة، وكل أولئك الذين يطمحون للحرية، الكرامة والعدالة الاجتماعية على قاعدة برنامج تقدمي يواجه البرامج الاقتصادية والاجتماعية للقوى السياسية الأخرى”. رفاقهم الوهميّون في الغرب يجب أن يأخذوا شيئاً من الوقت للاستقصاء ولدعم تيارات كهذه قبل أن يعلنوا أنّ ثورتهم هي صنيعة مؤامرات مهولة.