في جمعة «الوفاء لطرابلس الشام وأحرار لبنان» (31\8\2012)، لم يكن إيجابياً المزاج العام في مخيم اليرموك، وعلى الأرجح في غالب المخيمات الفلسطينية في سوريا. كان الغالب شيئاً من الخيبة من تجاهل ما أدّاه الفلسطينيون في الثورة السورية منذ بدء الحراك والتضحيات غير القليلة التي قدّموها، إذ لم تقتصر خسائر الفلسطينيين على تعرّض مخيم الرمل الجنوبي في اللاذقية في صيف 2011 إلى قصف قوات النظام واضطرار سكانه من السوريين والفلسطينيين إلى النزوح عنه، لا على تعرّض مخيم اليرموك في دمشق إلى القذائف في عدة أحياء، فضلاً شارع الجاعونة الذي شهد مجزرة في آب 2011… لقد قُدِّر العدد الكلّي للشهداء الفلسطينيين حتى هذه اللحظة بحوالي 300 شهيد، معظمهم في اليرموك، ويشمل العدد المفقودين والذين تمّ دفنهم في المناطق الساخنة دون توثيق، وذلك بين مدني ومُسعف ومشارك في المقاومة المسلّحة.

لم يعد خافياً على أحد، على الرغم من الحياد الظاهري الذي اتّسمت به المخيّمات في بدايات الثورة، أن هذه المخيّمات لم توفّر جهداً إغاثياً إلا وقدّمته، بدايةً كأفراد متحمّسين لوضع طاقتهم النضالية الكامنة موضع التنفيذ، وفيما بعد بشكل مجتمعي أكثر تنظيماً. الكثير من أبناء مخيم اليرموك في دمشق ومخيم العائدين في حمص قدّموا بيوتهم مجاناً دون مقابل لنازحي الأحياء والمناطق الأخرى، حتى أنه يقال إن أعداد قاطني المخيمات تضاعفت ضعفين أو ثلاثة؛ مخيم درعا كان السبّاق بفكّ حصار درعا البلد ودرعا المحطة في نيسان 2011، ثم بعد الضربات القاصمة لريف دمشق في صيف 2012 امتلأت مدارس وكالة الغوث والمدارس الحكومية في مخيم اليرموك بالنازحين من أعمال العنف (13 مدرسة)، ولأن بروتوكولات وكالة الغوث تمنع منعاً باتّاً إجبار النازحين على الخروج إلا بإرادتهم وفي ظلّ وضع آمن (على عكس المدارس الرسمية السورية، التي لن تتوانى عن رمي النازحين على قارعة الطريق لتثبيت مقولة شريف شحادة بأن كل شيء بخير وأن سوريا دولة مؤسّسات)، لذا فتلاميذ المخيم من الفلسطينيين معرّضون لعدم الالتحاق بمدارسهم هذا العام، فانبرى أفراد وتمثيلات مدنية في المخيم لإيجاد البدائل الدراسية، وبدأوا ينقلون خبراتهم وخبرات فلسطينيي الداخل خلال الانتفاضة الثانية؛ حين أسّس مصطفى البرغوثي لجاناً صحية ولجاناً تعليمية لحماية الأطفال من الانقطاع المدرسي، بدءاً من الحزم التعليمية التي توزَّع في الأحياء إلى التعليم عن بُعد وانتهاءً بالمدارس الميدانية المتنقّلة.

ويجد المراقب المتأني لحال الفلسطينيين أن منعكساتهم وحسّهم السياسي أكثر مِراساً وأكثر شحذاً من كثير من عموم السوريين، ولسنا هنا بصدد مقارنات وأحكام قِيَمية تقلّل من شأن السوريين، ولكنه استقراء لأمر واقع رَزَحَ تحته الفلسطينيون لأكثر من 60 عاماً، جعلهم «مْقضّيين لَمْصدّيين» (أي لهم تجربة طويلة من المعاناة، بالتعبير الدمشقي) وبالتالي لا تفوت عليهم ألاعيب النظام البخسة التي كانت تنوي أن تجعل منهم شبّيحة رخيصة تقمع إخوة لهم من السوريين تحت اسم المقاومة والممانعة وتحرير القدس. لقد نجح فلسطينيو المخيمات في إسقاط الجانب الخاوي والخشبي من خطاب «الوحدة» و«الحرية» لنظام البعث، ليبزغ معنىً طازج لم نعتده، وهو أن الطغيان والظلم «يوحّد» الناس من أجل «الحرّيّة»، وفي آنٍ واحد أسقطوا المدلول الأجوف لصفة «تقدّمية» عن بعض فصائلهم التي ارتضت دور التشبيح للنظام.

لسنا في وارد أن نطالب صفحة الثورة السورية على الفيسبوك بتخصيص جمعة باسم الفلسطينيين، فلا هي ملتفتة لمطالبنا ولا الفلسطينيون في متّسع من الوقت لانتظار الاعتراف بالجميل، فهم في هذه اللحظة بالذات يُلَملِمون جرحاهم في مخيّم اليرموك ويترقبون اجتياحاً لقوات النظام؛ لسنا كذلك بوارد أن نطلب من كتاب عنصريين، يفاخرون بأنهم كتبوا في صحف للنازية الجديدة، بأن يراجعوا تصنيفاتهم الأرسطوطاليسية ويعتذروا عنها، فعلى الأغلب لم يسمع الفلسطينيون بأمثالهم، ولن نكرّر ما ورد في بيان مخيّم خان الشِّيح الصادر بتاريخ 11\9\2012، والذي يشدّد على أن الحياد الحقيقي هو أن تسعى كل الفصائل الفلسطينية الوطنية إلى حماية المخيمات الفلسطينية من السلاح ومن بطش النظام، وليس أن تتجاهل أوجاع المكلومين السوريين الذين يُعدَمون ميدانياً على بعد أمتار قليلة من اليرموك بين يلدا والتضامن والمخيّم. ما نتمنّاه هو أن تنسى الأجيال السورية الجديدة بعد تجربة الثورة السورية المتلازمات الخشبية المملّة بين خطاب الممانعة ومفردات «فلسطين» و«فلسطيني»، وأن تحيّي الفلسطينيين بطريقة عملية ومتواضعة، وهي أن تقرّب «زووم» عدساتها إلى داخل المخيمات التي تقع على بعد كيلومترات قليلة من المدن السورية، وأن تتعلم من طاقاتهم وآلياتهم وخبراتهم في العمل السياسي وفي ديناميات المجتمع المدني.