يشهد قطاع التعليم في ريف دير الزور الذي تديره الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، إهمالاً كبيراً ونقصاً حاداً في الكتب والمستلزمات المدرسية، يُضافُ إلى النقص المستمر منذ عدة أعوام في الكوادر التعليمية وتدني مستوى كفاءة شطرٍ كبيرٍ من أفرادها. لكنّ هذا ليس كل شيء، فقد أدت العملية العسكرية التي شنتها قوات سوريا الديمقراطية في ريف دير الزور الخاضع لنفوذها إلى تبدّل أحوال المشهد التعليمي، رغم مرور أكثر من ثلاثة أشهر على قضائها على التمرّد الذي قام به مسلحون من أبناء المنطقة ومقاتلون من مجلس دير الزور العسكري التابع لقسد.
نظرة على أحوال التعليم في المنطقة
رغم انطلاق العام الدراسي الجديد 2023-2024 منذ أيلول (سبتمبر) من العام الفائت، ومضي أكثر من 4 أشهر على افتتاح المدارس، إلا أن العملية التعليمية لم تسرِ حتى الآن بشكلها المعتاد. أبرز ما طرأ هو إغلاق عشرات المدارس بسبب الظروف الأمنية والاقتتال بين العشائر وقوات قسد.
يوجد في مناطق دير الزور التابعة للإدارة الذاتية 11 مُجمَّعاً تربوياً جميعها في الجانب الشرقي لنهر الفرات الذي يقسم المحافظة إلى قسمين، وهي: الجزرة والكسرة والنهضة والصور والبصيرة وذيبان والجزيرة والفرات وهجين وغرانيج والسوسة. وتقع تلك المجمعات ضمن 4 تقسيمات إدارية، أو «كانتونات» بلُغة مسؤولي الإدارة الذاتية، هي: الغربي والشرقي والشمالي والوسط. من جهتها، لا تتدخل حكومة نظام الأسد في عملية التعليم في هذه المناطق.
تقول سهى العبد الله، وهو اسمُ مستعار لمسؤولةٍ في اتحاد المعلمين في ريف دير الزور رفضت الحديث باسمها الحقيقي لأسباب وصفتها بالأمنيّة: «يوجد قسم من الكوادر التعليمية الحالية في مدارس ريف دير الزور من غير الاختصاصيين، وخاصةً للغات الإنكليزية والفرنسية، وبعض المعلمين هم من حملة شهادات الصف التاسع والبكلوريا وبعضهم بشهادات مزورة». تعزو العبد الله ذلك إلى «سياسة الإدارة الذاتية في عشوائية التعيين». وتشرح ذلك: «كانت الإدارة تبحث عن حاضنةٍ شعبية لها في ريف دير الزور دون الاهتمام بالجانب التعليمي، فصارت تعمد إلى التعيين على أساس الولاء والمحسوبية دون النظر إلى وجود الشهادات العلمية الحقيقية من عدمه، وإلى إزاحة بعض المعلمين الذين لديهم مئات الساعات في التدريس خلال سنوات سابقة».
من جانبٍ آخر، تضيف العبد الله أن أصحاب الشهادات العلمية باتوا يفضّلون العمل مع المنظمات الإنسانية، لأن الرواتب فيها تعود عليهم بدخلٍ أعلى مما قد يحصلون عليه من التدريس في المدارس العامة. ويتقاضى الموظف 150 دولاراً أميركياً شهرياً في منظمات مثل بهار أو دان، ويصل الراتب في منظمة روابط الأمل إلى 300 دولار أميركي.
في حين يتقاضى المعلم في مدارس الإدارة الذاتية راتباً قدره مليون و40 ألف ليرة سورية، تُخصم منه ضرائب قيمتها 35 ألف ليرة سورية، ويتبقى مليون و5 آلاف ليرة، أي ما يعادل 70 دولار أميركي. ونتيجة صعوبات المعيشة وارتفاع الأسعار، يُضطر المعلم-ة إلى البحث على عملٍ آخر حتى يؤمّن احتياجات أسرته. يلتقي عامل المحسوبية في التوظيف وضعف الرواتب معاً ليُبعدا المعلمين والمعلمات المؤهلين عن العملية التعليمية ما يزيد من تعثّرها.
وتشير العبدالله إلى أن المحسوبية في تعيين المعلمين والإداريين والمسؤولين من أبرز سمات الفساد داخل القطاع التعليمي، إذ يلعب عامل العشائرية والقرب من السلطة العسكرية والأمنية دوراً كبيراً في التعيين، في حين تؤثر هذه الحالة من الفوضوية على الأجيال المتعلمة: «أستطيع تشبيه العملية التعليمية بالشجرة التي أصابها العطب من الجذور حتى طال الثمار. القطاع التعليمي بحاجة لإصلاح من جذوره».
تعمل اللجنة التعليمية التابعة للإدارة الذاتية منذ بداية العام الجديد 2024 على إعادة هيكلة الكوادر في المجمعات التربوية بريف دير الزور، ولا تجد العبد الله نفسها راضيةً عن التغييرات الجديدة من حيث الخبرات والشهادات والكفاءات.
صارت المدارس نقاطاً عسكرية
مع بداية العام الدراسي 2023-2024، أدت الأوضاع الأمنية غير المستقرة إلى إغلاق الكثير من المدارس في ريف دير الزور لفترة طويلة، خاصةً في كانتونات الوسط والشرقية والشمالية، في حين أُغلقت بعض المدارس بعد افتتاحها مرةً ثانيةً بسبب تكرّر التوترات الأمنية بين الحين والآخر حتى يومنا هذا.
تتمركز القوى العسكرية والأمنية التابعة لقوات سوريا الديمقراطية في الوقت الراهن في مدارس منطقتي الوسط والشرقية، وذلك رغم إعلان قسد القضاء على خصومها في المنطقة منذ منتصف شهر أيلول (سبتمبر) من العام الماضي. ورغم مُطالبات اتحاد المعلمين ومؤسسات المجتمع المدني للجنة التربية والتعليم في الإدارة الذاتية بخروج القوات من تلك المدارس واستعادة العملية التعليمية فيها، إلا أن مطالبهم «لم تلقَ رداً إيجابياً» وفق ما أخبرتنا به سهى العبد الله.
أدى تحويل المدارس إلى نقاط تمركزٍ أمنية وعسكرية إلى عرقلة العملية التعليمية التي «فارقت الحياة قبل بدايتها فعلياً» وفق تعبير حسان الجمعة، وهو اسمُ مستعار لرئيس مجمعٍ تربوي في ريف دير الزور: «تمركزت القوى العسكرية والأمنية في عشرات المدارس خلال شهر أيلول الماضي، في حين حدّدت هيئة التربية والتعليم موعد افتتاح المدارس أمام الطلاب في العاشر من أيلول الماضي، وأوعزت للمدرسين والإداريين الدوام في الثالث من الشهر».
تمركزت القوى العسكرية والأمنية التابعة لقسد ضمن 46 مدرسة، في حين غادرت مدرستين تابعتين لمجمع الفرات بتاريخ 30 كانون الثاني (يناير): مدرسة أبو حمام غرب الابتدائية، ومدرسة الأعلام في بلدة أبو حمام. كما غادرت مدرسة الحصية بتاريخ 29 كانون الأول (ديسمبر) 2023. وفي السياق ذاته، قطعت القوى الأمنية وعوداً لهيئة التعليم بمغادرة مدرستي أبو حمام شرقي والجرذي. ولكن تبين بعد خروج القوات العسكرية من هذه المدارس أنها تضررت بشكلٍ كبير، ولا يمكن العودة إليها دون إعادة صيانتها وتأمين مقاعد جديدة، وهو ما يوضحه مقطعٌ مصوّر نشرته إحدى المنصات المحلية على مواقع التواصل الاجتماعي قبل يومين.
اليوم، لا تزال قوات قسد تتمركز في 43 مدرسة بالرغم من بَسْطِها السيطرة الأمنية والعسكرية الكاملة على المنطقة التي تديرها، واستطعنا إحصاء هذه المدارس والحصول على أعداد الطلاب والكوادر التعليمية فيها من مصادر رسمية عديدة جميعها كانت تخشى من الإفصاح عن هويتها خوفاً من الملاحقة الأمنية.
اسم المدرسة | البلدة | عدد الطلاب | عدد المعلمين | عدد الغرف الصفّية |
مدرسة الطيانة الغربية المحدثة | الطيانة | 14 | 400 | 12 |
مدرسة الجريسية | الشحيل | 30 | 700 | 21 |
مدرسة الحصية | الشحيل | 39 | 930 | 34 (تم إخلاؤها في 29 كانون الأول 2023). |
مدرسة موح الشحيل | الشحيل | 28 | 600 | 22 |
مدرسة عباس الشاهر | البصيرة | 22 | 550 | 20 |
مدرسة أبو حردوب المحدثة | أبو حردوب | 33 | 980 | 13 |
إعدادية موح الجرذي | الجرذي | 30 | 400 | 12 |
الشنان وسط | الشنان | 17 | 450 | 13 |
الشنان شرق | الشنان | 17 | 300 | 14 |
الشنان محدثة | الشنان | 14 | 500 | 8 |
درنج وسط | درنج | 18 | 700 | 12 |
درنج جنوبي | درنج | 20 | 600 | 14 |
درنج الحصية | درنج | 18 | 500 | 12 |
إعدادية درنج | درنج | 22 | 430 | 12 |
جمة | جمة | 20 | 624 | 16 |
سويدان القوس | سويدان | 20 | 650 | 14 |
سويدان جنوب | سويدان | 18 | 460 | 12 |
تجمع السيد المصلح | سويدان | 20 | 525 | 12 |
الحوايج غرب | حوايج ذيبان | 23 | 817 | 14 |
الحوايج وسط | حوايج ذيبان | 14 | 579 | 14 |
الحوايج أساس | حوايج ذيبان | 35 | 910 | 20 |
الحوايج الريفية | حوايج ذيبان | 31 | 830 | 20 |
إعدادية الحوايج بنين | حوايج ذيبان | 19 | 360 | 10 |
إعدادية الحوايج بنات | حوايج ذيبان | 26 | 480 | 16 |
الحوايج المحدثة | حوايج ذيبان | 24 | 813 | 19 |
الرغيب أساس | حوايج ذيبان | 22 | 700 | 15 |
الرغيب وسط | حوايج ذيبان | 20 | 560 | 14 |
إعدادية اللطوة | ذيبان | 40 | 860 | 23 |
مدرسة الحمدان | ذيبان | 36 | 815 | 22 |
مدرسة المناعرة | ذيبان | 17 | 500 | 10 |
مدرسة موح اللطوة | ذيبان | 30 | 865 | 21 |
مدرسة ذيبان شرق | ذيبان | 16 | 480 | 11 |
مدرسة أبو حمام إعلام | أبو حمام | 24 | 800 | 20 (تم إخلاؤها في 30 كانون الثاني 2024) |
مدرسة أبو حمام غرب | أبو حمام | 31 | 922 | 20 (تم إخلاؤها في 30 كانون الثاني 2024) |
مدرسة أبو حمام شرقي | أبو حمام | 38 | 1275 | 33 |
إعدادية الوسط | أبو حمام | 29 | 700 | 21 |
مدرسة إعدادية لاذ الكشكية | الكشكية | 25 | 907 | 16 |
مدرسة العليا الابتدائية | العليا | 7 | 319 | 13 |
مدرسة طيب الفال شمالي الابتدائية | طيب الفال | 8 | 274 | 12 |
مدرسة السجر الابتدائية | السجر | 14 | 490 | 14 |
مدرسة الحجنة غربي الابتدائية | الحجنة | 13 | 510 | 16 |
مدرسة الحجنة الإعدادية | الحجنة | 9 | 200 | 11 |
مدرسة الزر جنوبي الابتدائية | الزر | 20 | 660 | 18 |
مدرسة ابريهة الجنوبية الابتدائية | ابريهة | 20 | 702 | 16 |
مدرسة الحصين الشمالي | الحصين | 13 | 375 | 16 |
جدول إحصائي للمدارس وأعداد الطلاب والكوادر التعليمية فيها
أدى هذا الاحتلال العسكري والأمني للمدارس إلى تحويل الغرف الصفية البالغ عددها 740 إلى نقاط ومقرات عسكرية وإخراجها من العملية التعليمية، وبالتالي حرمان 27800 تلميذاً وتلميذة من حقهم في التعلم في مدارسهم القريبة من أماكن سكنهم مع انطلاق العام الدراسي الجديد، وقسمٌ صغير منهم فقط استطاع إكمال التعليم في مدارس أخرى تبعد عدة كيلومترات عن منازلهم. ونقل المرصد السوري لحقوق الإنسان أنباءً تفيد بخروج الأهالي في مظاهرةٍ تطالب القوات العسكرية بالخروج من مدرسة في بلدة أبو حمام.
مدارس ليست مخصصة لاستقبال البشر
تفتقد المدارس الموجودة داخل مناطق نفوذ الإدارة الذاتية في دير الزور للتجهيزات الداخلية، كما أن بعضها طينية بالكامل وأخرى دون أسوار. أما صفوفها فكثيراً ما تكون دون أبواب ونوافذ ومدافئ وألواح للكتابة، في حين تفتقر غرف الإدارة والمدرسين، إن وجدت، للطاولات والكراسي. ويشيع استخدام الكرفانات مسبقة الصنع كصفوف دراسية. وقد حصلت الجمهورية.نت على صورٍ توضح أحوال المدارس الكارثية في مناطق متفرقة من قرى الضفة الشرقية لنهر الفرات في ريف دير الزور، والتي لا يحضر فيها أي ملمحٍ لاحترام كرامة التلاميذ وإنسانيتهم.
في حديثه للجمهورية.نت أخبرنا مسؤولٌ في هيئة التعليم، نعرّف عنه هنا باسمٍ مستعار هو نايف الخلف، أن آلاف الطلاب يتعلمون في مدارس طينية وأخرى مسبقة الصنع (كرفانة)، وذكر لنا بعض الأمثلة التي توضح كارثية أوضاع المدارس: «في منطقة العزبة تحديداً يوجد مدرسة واحدة مسبقة الصنع و8 مدارس هي عبارة عن منازل طينية، و5 مدارس تتألف من عدة صفوف طينية، تُقدّم في مجملها التعليم لما يقارب 3500 تلميذ-ة».
ويضيف الخلف أنه «في قرية عِزبة مرّاط، يتعلم 1100 تلميذ-ة في مدرسةٍ مسبقة الصنع ومدرستين أُخريتين تتألف كلٌّ منهما من غرفتين فقط. وفي منطقة معيزيلة يتواجد 6 مدارس طينية، و5 مدارس تتألف من غرفتين صفيّتين مجهزتين بحمامات وخزانات مياه، ومدرسة مسبقة الصنع، تُعلّم أكثر من 3000 تلميذ-ة. وفي قريتَي عظمان وكشة يتواجد حوالي 800 تلميذ-ة يدرسون ضمن مدرستين مسبقتي الصنع و3 مدارس أخرى تتألف كلُّ واحدةٍ منها من صفين اثنين ودورات مياه».
وتحدثت الجمهورية.نت مع المسؤول في مكتب الإحصاء في هيئة التعليم بدير الزور للاستفسار عن عدد المدارس الطينية وعدد المدارس المُدمرة في ريف دير الزور، ونقل هذا المسؤول بدوره استفسارنا للرئاسة المشتركة لقطاع التعليم حتى يُسمح له بالرد علينا، لكنها قابلت ذلك بالرفض دون تقديم أسبابٍ أو تبريرات.
ما هو أكثر مأساويةً من أحوال المدارس في قرى دير الزور هو أحوال نظيرتها في المخيمات الموجودة في منطقة دير الزور التابعة للإدارة الذاتية، وخاصةً العشوائية منها، فهي في ذيل اهتمامات الإدارة الذاتية إلى حدّ انعدام وجودها أصلاً، وحرمان الأطفال من حقهم الأساسي في التعليم. كما تغيب المنظمات التعليمية وبرامج الدعم النفسي عن أطفال تلك المخيمات، مما ساهم في ازدياد معدلات التشرّد وجعلهم عرضةً للعمالة.
كرامة المعلمين والمعلمات ليست محفوظة
أصاب قطاع التعليم في ريف دير الزور مشكلات كثيرة إبان سيطرة الفصائل المُعارِضة ثم تنظيم الدولة وصولاً إلى قسد أخيراً، وانعكست نتائجها في تدني المستوى التعليمي للأطفال واقتراب العملية التعليمية من الفشل الكامل مع غياب الانضباط المدرسي والفوضى الأمنية في المنطقة. إذ يتعرض الكادر التدريسي في كثيرٍ من الحالات للاعتداء من قبل ذوي التلاميذ. وفي هذا السياق تقول المعلمة فاطمة الأحمد (اسم مستعار) للجمهورية.نت إن الكوادر التدريسية تأخذ بعين الاعتبار ردة فعل ذوي التلميذ في حال أرادت التعامل مع أيّ تجاوزٍ يقوم به تجاه أقرانه أو الكادر التعليمي.
وذكرت لنا الأحمد إحدى الحوادث التي شهدتها بنفسها: «ضرب أحد المعلمين تلميذاً ووبّخه، فهاجم والد التلميذ المدرسة وهو يقود تركس مهدداً بتدميرها، ثم طرد جميع المدرسين وشتمهم، مستغلاً قربه من السلطة الأمنية، ولم يردعه أحد حتى لو بكلمة». يتّضح لنا من كلام الأحمد أن ضرب التلاميذ ما يزال شائعاً في المدارس رغم عدم قانونيته، وبدلاً من اللجوء إلى الجهات المعنية بمحاسبة المعلم فإن القرب من الجهة العسكرية الحاكمة للمنطقة وغياب القانون دفع والد التلميذ لمعاقبة المدرسة بالكامل ومن تلقاء نفسه.
وبهذا الخصوص، تُعلّق الرئيسة المشتركة لاتحاد معلمي ديرالزور السيدة عائشة سعيد الجكر أن «مدارس دير الزور تسجل حالات اعتداء على المعلمين من قبل الطلاب أو الأهالي، ومن دون إنصاف من قبل اللجنة أو الهيئة التعليمية والمجمعات التربوية». وتضيف: «الدفاع عن المعلم وحفظ كرامته موضوع نقاش دائم في اجتماعات اتحاد المعلمين وهيئة التربية وفي اجتماعات مؤسسات المجتمع المدني».
يقول المعلم أحمد إبراهيم، وهو مُكلّفٌ منذ العام 2019 في مدرسة الطيانة، إن ذوي الطلاب من المعوقات الرئيسية لسير العملية التعليمية، فالأسر هنا تعمل في الزراعة والرعي وهو مصدر رزقهم التقليدي، لذا يغيب الطلبة عن المدارس أثناء فترات الحصاد والزراعة بأمرٍ من أرباب أسرهم.
ويعلّق على ذلك أحمد حاج مصطفى، مدير منظمة طيف الإنسانية الناشطة في ريف دير الزور، بأنّ الزراعة والرعي والنشاطات التجارية المتعلقة بهما هي مصدر الرزق الرئيسي للعائلات في ريف دير الزور، ولذا لا يتغيب التلاميذ عن المدرسة فحسب، بل «يفرض أرباب الأسر على أبنائهم الانقطاع عن المدرسة بالكامل بعد تعلّم القراءة والكتابة لمساعدتهم في هذه الأعمال».
ويضيف المصطفى أن عدم الاعتراف بالشهادة التي تصدر عن المدارس والمؤسسة التعليمية، حوّلَ الأنظارَ عن الاهتمام بالتعليم إلى منحىً آخر: «الفقر ليس السبب الوحيد لانقطاع التلاميذ عن المدرسة، فكذلك العائلات ميسورة الحال تحذو حذو العائلات الفقيرة». وعن دور منظمات المجتمع المدني لمواجهة هذه الظاهرة، فإن المصطفى «يشيد» بما وصفه «الدور الإيجابي للمنظمات واستهدافها قطاع التعليم من خلال الحملات التوعوية والحماية والدعم النفسي، ومساهمتها في تجهيزات المدارس بمياه الشرب ودورات المياه والقرطاسية في سبيل عودة الطلاب إلى المدارس».
في حديثنا مع المعلمة هدى من سيدات المنطقة، فإنها كرّرت ما قاله المعلم أحمد، وأضافت: «يغيب عن المدارس الوسائل الإيضاحية التعليمية والهياكل والخرائط، والمعلمون يضاعفون جهودهم لتعويض النقص في تلك الوسائل».
أما المعلمة ساجدة، وهي خريجة لغة عربية تُدرّس في أبو حمام، فتركّز حديثها على «عدم توفّر الاستقرار الأمني بوصفه أبرز معوقات العملية التعليمية، إضافةً إلى التمييز المناطقي والعشائري بين سكان المدن والأرياف، والتمييز على أساس قوة ونفوذ العشيرة أو القبيلة التي ينتمي إليها الأهالي والنازحون إلى المنطقة، وعدم وجود مناهج تعليمية معترفٍ بها».
فساد وقوانين مُعطلة للتعليم
يُعيَّن المعلمون الجدد في ريف دير الزور التابع للإدارة الذاتية عبر لجنة التربية والتعليم عن طريق الإعلان عن مسابقات، ويجري انتقاء الناجحين وتعيينهم لاحقاً، ولا تخلو العملية التعليمية من المحسوبيات والتمييز العشائري والمناطقي بين النازح والمقيم وغيرها من التقسيمات، في بيئةٍ تسودها الفوضى والاستقواء بالسلاح.
وقد أصدرت الرئاسة المشتركة للمجلس التنفيذي في دير الزور، في 20 كانون الثاني (يناير) 2024، قراراً بإنهاء تكليف 4 مسؤولين في هيئة التربية والتعليم بدير الزور «بسبب الإهمال الوظيفي»، وذلك بحسب نسخةٍ من القرار حصلت عليها الجمهورية.نت. وقالت لنا مصادر مُطّلعة إن قرار إنهاء التكليف «جاء على خلفية فساد مالي وسرقات تخص القرطاسية الخاصة بالمعلمين والسيارات الخاصة بمنشآت التربية والأثاث الخاص بإدارات دير الزور»، وهو ما لم يذكره قرار إلغاء التكليف.
وتُلزم الإدارة الذاتية النازحين إلى مناطقها بالحصول على «بطاقة وافد»، وتشترط وجود كفيل للحصول عليها، وذلك بموجب قانونٍ أصدرته في العام 2021، وهو ما يزيد العبء على المعلمين والمعلمات النازحين إلى ريف دير الزور، رغم أن جُلّهم من أهالي محافظة دير الزور نفسها، وبشكل أساسي من مدن دير الزور والبوكمال والميادين.
احتجاجات متكررة دون استجابة
شهدت مناطق الضفة الشرقية لنهر الفرات في دير الزور على مدار عامَي 2022 و2023 احتجاجاتٍ للكوادر التعليمية والأهالي، ولم تستجب الإدارة الذاتية لمجموعة المطالب التي أعلن عنها المعلمون في ريف دير الزور. وتلخّصت المطالب بما يلي: «تعيين أصحاب الكفاءات في التربية والتعليم ومحاسبة الفاسدين، وصرف رواتب الأمومة، وتطبيق قانون العاملين وتحسين الواقع المعيشي للمدرّسين ورفع سقف الرواتب الشهرية وربطها بالدولار الأميركي بعد تدهور قيمة الليرة السورية، وتفعيل نقابة المعلمين، والسماح للمنظمات بالدخول للعمل في القطاع التعليمي للمنطقة، وتعيين حرّاس للمدارس».
ووصلت الاحتجاجات في شهر آذار (مارس) 2022 إلى مناطق واسعة، وأضربَ المعلمون والمعلمات وأُغلقت المدارس، ثم تبعها إضرابُ ثانٍ استمر لأسابيع في تشرين الأول (أكتوبر) من العام ذاته، وتجدّد آخرها في أيار (مايو) من عام 2023 الفائت.
للتعليق على هذه الاحتجاجات، تحدّثت الجمهورية.نت إلى الناشط الحقوقي جلال الحمد، مدير منظمة العدالة من أجل الحياة العاملة في المنطقة الشرقية، فقال: «كانت أساليب التعبير السلمي للمعلمين متنوعة، واستجابت الإدارة الذاتية جزئياً للمطالب، وتعاملت مع الاحتجاجات بأسلوبين؛ الأول هو محاولتها التجاوب مع بعض المطالب التي تلامس أوجاع المحتجين مثل زيادة الرواتب، إذ ارتفعت بمقدار 100 بالمئة خلال العام الدراسي الجديد، واجتمعت مع المعلمين المُضربين أكثر من مرة لتقريب وجهات النظر مع المحتجين.
أما الأسلوب الآخر، فهو تحذير المعلمين المُضربين من الضرر الخاص الذي سيلحق بهم بالفصل وتطبيق العقوبات الإدارية بحق المعلمين المحتجين، ومن الضرر العام الذي سيلحق بالعملية التعليمية في حال استمرار الاحتجاجات وإغلاق المدارس».
ويضيف الحمد أن الإدارة الذاتية «قدمت وعوداً لتحسين العملية التعليمية بعد أحداث دير الزور الأخيرة والاقتتال بين أبناء العشائر والسلطة في آب (أغسطس) الماضي، بينما لم تكن المخيمات ضمن قائمة الأوليات لمختلف الفعاليات ومنظمات المجتمع المدني». ولا يعتقد الحمد أنه يوجد في الوقت الحالي خطة واضحة لقطاع التعليم في قرى دير الزور حتى يكون هناك خطة لتحسين التعليم بما يخص أبناء المخيمات.
وللاستيضاح عن أحوال الأطفال التعليمية في المخيمات، تحدّثنا إلى الناشط الإعلامي أبو عدي من ريف دير الزور، وهو متعاون مع قناة روناهي المحلية، فأوضح أنه «يوجد أكثر من 7 آلاف طفل خارج العملية التعليمية في 8 مخيمات عشوائية في ريف دير الزور الغربي، حيث وصلت أعداد العوائل في المخيمات إلى 2693 عائلة موزعين في عدة تجمعات، وهي: مخيم سفيرة تحتاني ومحطة القطار ومخيم الجزرات وحوايج بومصعة وحوايج ذياب ومخيم محيميدة ومخيم السلمان ومعمل البشير».
جيلٌ لا يُجيد القراءة والكتابة
دقّ جلال الحمد ناقوس الخطر مُحذّراً من أن جيلاً كاملاً في المنطقة التي تسيطر عليها قسد في ريف دير الزور لا يجيد القراءة والكتابة، واعتبر أن تعقيدات التعليم مخيفة، وهو ما ينذر بخطر كبير في المستقبل: «التعليم في مناطق الإدارة الذاتية مُعقدٌ جداً وليس من القطاعات سهلة التعامل، وذلك لوجود مشاكل في المنهاج بسبب منع تداول منهاج الحكومة السورية من جهة، ورفض الأهالي لمنهاج الإدارة الذاتية الذي يعتبرونه مؤدلجاً ومُخالفاً للدين والعادات والتقاليد الاجتماعية لأبناء المنطقة من جهة أخرى».
ويَعتبر الحمد أن حكومة النظام السوري، الموجودة على الضفة الأخرى من النهر، تتخلى عن مسؤوليتها كدولة في ما يخص قطاع التعليم شرقي سوريا، وهي تضع عودتها الأمنية كشرط رئيسي قبل الحديث عن مصلحة أبناء سوريا.
الكلام ممنوع: كيف ردت علينا الإدارة الذاتية؟
تمتلئ السطور السابقة بقرائن تحويل المدارس إلى ثكناتٍ عسكرية والتقصير والإهمال وتجاهل احتياجات ريف دير الزور التعليمية من قبل الإدارة الذاتية، لذا حاولنا التواصل مع العديد من المسؤولين فيها ومن مستوياتٍ عديدة للتعليق على الوقائع التي استعرضناها، إلا أننا قوبلنا دائماً بالرفض أو التجاهل. ووصلنا أخيراً إلى المُكلّف بإدارة الأعمال وتيسير الأمور في الهيئة التعليمية بدير الزور السيد عبد الرزاق الشعيطي، وأبلغنَا أنه أخبر إدارته بطلبنا لكنه لم يحصل منها على الموافقة بالرد رغم مرور 12 يوماً على تقديم الطلب. والشعيطي مكلّفٌ بتسيير أعمال الإدارة ريثما يتم تعيين رئاسة جديدة للهيئة التعليمية بدير الزور بعد إقالة الإدارة السابقة.
وكان مُلفتاً لنا أن جميع الذين تحدّثنا إليهم من العاملين والعاملات في قطاع التعليم في ريف دير الزور كانوا شديدي الحذر من الإفصاح عن أسمائهم خشية الملاحقة الأمنية من جانب الإدارة الذاتية وأذرُعها العسكرية، وهو ما يطرح أسئلةً مشروعةً عن معايير الشفافية والديمقراطية والقيم والمبادئ التي تُنادي بها في أدبياتها، طالما أنّ الموظّف في مؤسساتها لا يأمن على نفسه من العقوبة في حال قوله إن المدرسة التي يُعلّم فيها دون شبابيك منذ سنوات!