أخيراً شَعَرَتْ بالرضا تجاه غطاء الأريكة التي تتموضع في زاوية الغرفة خلف الباب الذي يفصل بين المطبخ والفسحة المؤدية إلى باب الصالون. تلك الأريكة اللعينة كانت تُشكل أزمة حقيقية بغطائها الكئيب وقواعدها الحديدية الغبية وغير المستقرة. بتاريخ 8 حزيران 2023، وفي الساعة الخامسة بعد الظهر، وبعد عراكٍ دام ستة أشهر مع الأغطية غير الملائمة، جلست أمي على الشُرفة المقابلة لأحد الأنهار الباريسية، وتأملت بطرف عينها الغطاء الجديد الذي استهلكت طاقتها لإحضاره، وتطلّب السماح للرغبة بتغييره ووجوده الكثير من الجهد العقلي والنفسي. لونه رملي فاتح. أقرب ما يكون إلى الأبيض. نظيف. مكوي. مرتّب. تَطمئِنُّ قليلاً مبتسمة، تأخذ له صورة مُربعة وترسلها إليّ. ابتسمتُ وقلتُ لها مبروك دون الكثير من الاهتمام الفعلي ودون حتى أن أضع إيموجياً واحداً أو قلباً أو حتى قبلة.
في هذا التاريخ بالتحديد وفي المنزل السفلي الذي يفصل بينه وبين منزل عائلتي سقفٌ رقيق؛ يحدث انفجار هائل، يشتعل حريق غير مفهوم. لا أحد يعرف ما الذي يحصل. يمسك أخي بيد أمي التي كانت لوهلة ستخلع الغطاء الرمليّ وتأخذه معها، يفتحان الباب وينزلان على الدرج الذي يتصاعد منه الدخان الكثيف مهرولَين.
جلبة ورجال إطفاء وشرطة ونيران تحرقُ حتى الحديد. تتأمل أمي الدخان الأسود والكثيف المتصاعد ليطال شقتها وبلكونها الصغير وتقرر أن لا تتحسّر على ذاك الغطاء الجديد. فقد خسرت الكثير ممّا يماثله في الماضي منذ أن تركت بيتها في سوريا، وأصبحت الأغطية والملاءات لا تعني شيئاً أمام الصور والذكريات والخسارات المتكررة.
انفجرت إعدادات الغاز الموجودة في منزل يقطنه عجوزان. امرأة وزوجها، وحيدان، لا أبناء، لا أقارب، لا أصدقاء، لا أحد! الزوج يموت احتراقاً تحت تأثير الانفجار والحريق. وهي تذهب إلى المشفى. حادثٌ كأي حادث يمكن أن يحصل في أي مكان من الكرة الأرضية. توفي الرجل عن 83 عاماً من حياةٍ مستقيمة وبائسة. قالت الشرطة بعد التحقيقات إن الرجل مصاب بمتلازمة «اضطراب التخزين»، فما ساعد باحتراق المنزل هو وجود الكثير من المجلات والصحف التي تعود إلى الثمانينيات من القرن الماضي. يضطر جميع سكان المبنى إلى إخلائه ويُمنع الدخول إليه ويتم إغلاقه بالشمع الأحمر. يا للسعادة!
ماذا نفعل الأن؟ ما هي الطرق والوسائل كي لا نُعيد استحضار التروما مرة ثانية؟ كيف يمكن لنا أن لا نفكر في أصولنا ومن أين جئنا وما هي مشكلتنا الحقيقية في هذا العالم؟ يعود كل شيء وكأنه يحدث الآن… سوريا! فلسطين، لبنان! المنفى والتشرّد وقلة الحيلة وعدم القدرة على تصديق ما يحدث. كل محاولات تغيير غطاء الأريكة اللعين لملئ الوقت وعدم التفكير بمروره ذهبت سدىً. في اليوم نفسه، تأتي امرأتان وصديقاتهما من قاطني البناء وهنّ تحملنَ لافتات مكتوب عليها: يجب السماح للسكان بالدخول لإحضار الأغراض المهمة. نضحك من غباء الموقف. الشرطة لا توافق على أي من المطالب وتطرد الجميع.
ينفجر الرجل الفرنسي في بيته بسبب سوء تقديره لإعدادات الغاز، هل هذا هو السبب فعلاً؟ ربما! لنقُم بإعادة صياغة الجملة. هل يمكن أن يكون الرجل الفرنسي قد انفجر بسبب وحدته العميقة وعجزه عن مواصلة العيش مع ذاته! أو ربما بسبب عدم قدرته على إنشاء صداقات، تلك الصداقات التي يمكن أن تجعل من شؤمه شيئاً مرناً أو تمنحه بعض التعاطف في غربته النفسية.
لو كنا نعلم أن هذا الجار الذي لا يردُّ تحية الصباح في الصباحات الباردة شخصٌ كئيب ووحيد لكُنّا حاولنا أن نرسل له صحن طعام كلما تسنّت لنا الفرصة، تماماً كما كنا نفعل في حياتنا السابقة. فالعادة جرت أن نطبخ ونطعم من يطأ منزلنا، أو من يقطن معنا في نفس المبنى والحي، أمّا هنا فكلّما كنتَ مستقلاً في كل شيء، ووحيداً، كلما كانت فرصك في النجاة أكبر. لكننا مع ذلك لم نندفع لاكتساب طبعٍ بارد ومرير، إذ لا نملك سوى الانتماء إلى أنفسنا.
ترى هل كان الرجل العجوز يعيش في فقاعة الخوف، يبني معها أفكاره وأحلامه. هل قلت أحلامه؟ الأحلام هي رغبات فردية تنمو في داخلنا. ما هي أحلام جارنا العجوز؟ أشعر بالفضول والذنب الشديدين. الرجل مات وكان جارَنا لمدة خمس سنوات. أيضاً لما الذنب؟ فنحن لا نعرفه، لماذا علينا إنقاذ الجميع؟ إنقاذ الجميع من وحدتهم البيضاء ونحن نخوض حرباً مع أغطية الملاءات الملونة.
لا يعرف جارُنا الذي مات محترقاً أننا لاجئون، أيضاً لا يعرف أننا نعيش معارك حقيقية مع الوجود تتمثل في جهود جبارة تقتضي الإنكار، لأن ما عشناه خلال سنوات الحرب كان جحيماً على جميع الصُعُد. ولكن لماذا عليه أن يعرف؟ حتى وإن كنا لاجئين نعاني من وحدة الغربة وانقطاع التواصل مع مجتمعنا! هل يعلم أن هذا المنزل الذي استأجرناه بصعوبة هو كل ما يمكن أن نحصل عليه؟ وبأنه عالمنا الوحيد؟ ليس عالمنا الوحيد لأننا تقاعدنا ويجب علينا الآن أن نتمتع بالراحة. هو عالمنا الوحيد لأنه لم يتبق لدينا أي عالم آخر.
لا أكتب ضد «آخر» مُفترَض، من الممكن أن تنفجر إعدادات الغاز في منزل للمهاجرين من نيجيريا، أو من المغرب، الهند، سوريا، أفغانستان. ولكن ما تداعيات هذا الانفجار على المحيط؟ لا يسعني سوى التفكير بماهية حياتنا وكيفية تشكيلها من قبل الحكومات. التعميم ممنوع، والعنصرية هي شكل من أشكال التعميم. لذا لا للعنصرية. ولكن هذا الانفجار يجعلني ساخطة وموتورة. اعذُرني أيها الجار العجوز الذي مات محترقاً في منزله المليء بالأغراض، أعتذرُ منك وأشعرُ بالأسف عليك وعلى نفسي وعلى عائلتي التي تشردَّتْ للمرة الرابعة.
لا نعرف الآن ما هي طبيعة العيش في مكان واحد بشكل دائم، وكأنها لعنة تُلاحقنا أينما ذهبنا، لا أطلب منك التعاطف صديقي الجار الميت، أنا فقط أرغب بالبوح كي لا أختنق. لعلّك طيبُ القلب لكن هذا العالم وبؤسه أثَّرا على تركيزك وحساباتك للأمور، فنسيتَ إغلاق إعدادات الغاز التي كان من الممكن أن تودي رائحتها بحياة جميع قاطني البناء وهم نيام. لم تكن مُهمِلاً إلى هذا الحدّ! قالت الشرطة إنها اكتشفت جماجم في شقتك والكثير من المجلات والكتب القديمة والشعارات التي تعود لعهد النازية والحرب العالمية الثانية! تهانينا عزيزي الجار: كل هذا كان يحدث في الطابق الذي تحتنا مباشرةً؟ ما هذه المصادفة العجيبة؟ لا أخفيك القول فأنا أشعر ببعض الذهول من كل هذا العبث. كلَّما قلت لنفسي أن كل ما عشناه في حياتنا هو في غاية العبث؛ يأتي حدث جديد ويمسك برقبتي بقبضته ويرمي بي بأقسى قوته لأصبح ألف قطعة. لا أخفيك صديقي الجار أن موتك ومخلفاته وتداعياته تُمثل هذه القبضة، تماماً كالزلزال الذي حدث في تركيا وسوريا في شهر شباط (فبراير) الماضي. هل تعرف صديقي الجار الميت؟ لم أتوقع أن أشهد على هذه الكمية الكبيرة من المصائب في حياتي. هل تعلم أيضاً أنني فكّرتُ أن أضيف هذا الحدث التراجيدي في مسلسلي الجديد الذي أقوم بكتابته عن حياة اللجوء وعبثية الحياة؟ أعتقد أن المُنتِج سيرفض رفضاً قاطعاً حدثاً كهذا وسيقول إنه مبالغ به جداً. سأحاول إقناعه بوضع الحدث في بداية الحلقة الأولى لشدّ اهتمام المُشاهد، ولكنه حتماً سيقول: «ما هذه الكليشيه»! سأفكر إذاً أن أجعله كابوساً يحلم به أحد الشخصيات في كل ليلة.
تقرير الشرطة الجديد يقول إنك تقصّدتَ تركَ إعدادات الغاز مفتوحة بغية الانتحار، الانتحار إذاً! والجارة التي تسكن في البيت الذي بجانبك تقول إنك عنصري وكاره للعرب وذوي البشرة الملونة، يالها من مصادفة عجيبة عزيزي الجار المتفجر. كل محاولاتي بالتعاطف تبوء بالفشل. أحاول كي لا أبدو شخصاً متحجّراً وقاسٍ، مع أن القسوة تُفيد في هذه الحالات. أيضاً لن أخفيك سرّاً بأن فضولي الشديد بمعرفتك دفعني للتعمّق بكل هذه الحادثة. يالي من شخص كثير الغلبة! جميلٌ أنك أضرمت النار في كل هذا الهراء الذي حولك ولكن ليس إلى هذه الدرجة. يالك من رجل درامي. على الأقل، أضرم النار في بعض ممتلكاتك واخرج إلى الشرفة مترنحاً وألقِ مونولوجاً عن كرهك لهذا العالم. كان يمكننا أن نبقى في منزلنا حينها على الأقل.
لا تعرف مدى اشمئزازي من شعوري بأنني ضحية شيء ما، أو أنني مهما حاولت التحضّر والمضي قُدُماً في حياتي في هذه البلاد وإقناعكم بأنني شخصٌ «كول» ومنفتح بشكل حقيقي غير مبتذل، يبقى معي شعورٌ بعدم الراحة على الدوام. قطعُ الإشارة وهي حمراء صفة سيئة، عدم الوقوف في الطوابير أيضاً ميزة سيئة ورمي القمامة في الشارع لا تنمّ عن أي تحضر. أنا لا أفعل أي من كل هذه الأفعال الشنيعة.
كان يمكننا أن نلتقي يوماً ما في المصعد ونتبادل أطراف الحديث، ولكن حكمك المسبق عليّ وتغيير معالم وجهك عند ملاقاتي لم يكن طبعاً جميلاً. كنتَ حادَّ الطباع هاه؟ يمكنني أن أفهم قليلاً. نحن أحياناً في رأس السنة نسمع جورج وسوف آخر الليل. نعتذر على الإزعاج. كنتُ أريد أن أشارك عائلتي بعضاً من الفرح المصطنع كي لا أصبح مثلك في يوم من الأيام حادة الطباع! كل ما هنالك أنني وبكل سذاجة كنت أرغب بالذهاب إلى منزل عائلتي في باريس كي أهنئ أمي شخصياً على غطاء أريكتها الجديد. سأفضي لك بسر خطير. تلك الأريكة أحضرناها من الشارع وقُمنا بتنجيدها وتنظيفها وشَعَرنا بالسعادة الغامرة. أيضاً لا أخفيك سراً أنك تتمتع ببعض الحكمة، فقرارك بالانفجار في وضح النهار وعدم تهورك بالانفجار في منتصف الليل ونحن نيام نابعٌ عن موقف حكيم. ولكن يمكن لهذا الفراغ أن يصبح أشد قتامةً بعد الآن عزيزي الجار المتفحّم.