من الصّعب ألّا يلحظ المراقبُ الموضوعيّ للشأن السّوري التبسيطَ الاختزاليّ الذي تطوف به التحليلات السياسيّة لظاهرة «الإدارة الذاتيّة» في شمالي شرق سوريا؛ إذ لا تكاد هذه التحليلات تُقدّم إلا صورة ذاتَ بعدٍ واحدٍ لهذا الجسمِ السياسي-العسكري المُقام بشكلٍّ أساسي شرقَ وشمال نهر الفرات ضمن الجغرافيا السوريّة. تنطلقُ غالبية هذه التحليلاتِ من فرضيّة أنّ هذه الإدارة ليست إلا كياناً قوميّاً كُردياً؛ غير أن هذا الافتراض التأسيسي المتعجِّل، والمشوّه، لا يفضي سوى لنتائج تعوزها الدقّة، في أفضل الأحوال. لهذا السبب، تسعى هذه المقالة لطرح معاينة مغايرة، من شأنِها إبراز الغائب أو المُغيَّب عمّا هو سائد.
الإدارة الذاتيّة من منظورِ الكُرد السوريين
ثمّة حقائق أساسيّة تبدو غائبة عن كثير من السوريين، ويجبُ التطرّق إليها لفهم تجربة الإدارة الذاتيّة بشيءٍ من الموضوعيّة، وللإحاطة بما يشاعُ بشأن نزعتها القومويّة-الانفصاليّة عبر جناحها العسكري المتمثّل بقوات سوريا الديمقراطيّة (قسد).
في البدء، لا بدَّ من الإشارة إلى التباين الحاد في نظرةِ الكُردِ لظاهرة الإدارة الذاتيّة؛ هناك، بطبيعة الحال، كردٌ سوريّون يؤيّدون الإدارة الذاتيّة بلا تحفّظات، ولكن هناك أيضاً أحزاب سياسيّة كُرديّة وشخصيّات اجتماعيّة وثقافيّة بالإضافة إلى عددٍ لا يُستهان به من عامّة الناس ممن يجدون في تجربة هذه الإدارة مشروعاً مُريباً أو حتّى مُعاديّاً؛ ولهذه النّظرة غير المتصالحة مع مشروع الإدارة بواعث تتأرجحُ ما بين إيديولوجيّة-سياسيّة وإنسانيّة-حقوقيّة وصولاً إلى أسباب معيشيّة مباشرة.
فيما يخصّ النقد الإيديولوجي، ثمّة عددٌ غير قليلٍ من الأحزاب السياسيّة الكرديّة في سوريا تتبنى فكراً قومياً كردياً (صار) يُعرَف بـ«نهج البارزاني»، في إشارةٍ لأفكار وتصوّرات المُلا مصطفى البارزاني ومن بعده أبناؤه وأحفاده، المعروفين بخصومتهم التاريخيّة، كي لا نقول بعدائهم التاريخيّ، لحزبِ العمال الكردستاني ذي السطوةِ الإيديولوجيّة في مناطق الإدارة الذاتيّة السّورية. بالمقابل، هناك كُرد سوريّون، مهتمّون بالشأنِ العامّ، لكنّهم يقفون سياسيّاً وفكريّاً خارج مظلّة هاتين الإيديولوجيتين السائدتين، ولهم تصوّراتهم المختلفة، المركّبة، حول الإدارة الذاتيّة و«معارضتها» البارزانيّة. ومن ناحية أخرى، يقومُ النقدُ الحقوقي للإدارة الذاتيّة، في جوهره، على حقيقة أنّ هذه الإدارة، بقوّاتها الرسميّة وغير الرسميّة، أقدمت غير مرّة على أفعالٍ منافيّة للديمقراطيّة والحريّات الفرديّة والعامّة. أمّا النقد المعيشي المُباشر، فيشترك فيه معظمُ المتضرّرين من السياساتِ الاقتصاديّة والإداريّة، دون أن يُولوا اهتماماً بالجانبِ الإيديولوجي أو الأهداف السياسيّة لهذا المشروعِ.
وبالنّظرِ في هذه المعطيات يمكن للمرءِ أن يتبيّن التفاوت الحادّ في رؤى الكُردِ السّوريّين لمشروعِ الإدارة الذاتيّة. ومن أجل إجابة واضحة على السؤال المُصاغ في عنوان المقالة، لا مناص من المرورِ بعرضٍ مختصرٍ، يُساهمُ في إماطةِ اللثامِ عن الجذورِ التي أنبتت هذه الإدارة لتصبح بالصورة التي صارت عليه مع مرور الوقتِ.
جذور الإدارة الذاتيّة
من المعلومِ أنّ هذه الإدارة تشكّلت كسلطة أمر واقع إثر انسحابٍ سلميّ بارد لقوّات النّظام السّوري من المناطق الشماليّة الشرقيّة في البلاد؛ وقد ساهمت في ذلك ظروفٌ موضوعيّة لعلّ أهمّها رغبة النّظام السّوري في تركيزِ جهودِه على مناطق الدّاخل المشتعلة، وإخلاء المنطقة الشماليّة الشرقيّة لقوّة «مُحايدة» ليست لها مصلحة في الانخراط المباشر في الصّراعِ السّوري، بالإضافة لجاهزيّة حزب الاتحاد الديمقراطيّ، على أكثر من صعيد، لاستبدال النّظام السّوري في هذه الرقعة الجغرافيّة إداريّاً وعسكريّاً دون قلاقل. انطلاقاً من هذه الخلفيّة التاريخيّة يتبدّى للمرءِ أن هذه الإدارة لم تنشأ في سياقِ نضال قومي كُردي ضدَّ النّظام الحاكم في دمشق، إنما نتيجة لتوافق نفعي بين حزب الاتحاد الديمقراطي والنّظام السّوري، وهو توافق قائم في جوهره على أمرين: تحييد المنطقة الشماليّة-الشّرقيّة، ذات الحضور الكردي الوازن، عن الصّراع العسكري والسياسي الدائرِ في الداخل السّوري من جهة؛ وحصول حزب الاتحاد الديمقراطي على مكتسباتٍ اقتصاديّة وسياسيّة تؤمّنها سيطرته على هذه المنطقة، من جهة أخرى. كما لم يتّفق طرفا هذه «الصفقة» على أيّ شيءٍ رسمي يخصُّ الحقوق القوميّة الكُرديّة في سوريا؛ بل إن مسألةً «بسيطةً»، ولكنها جوهريّة بالنسبة للكُردِ السّوريين، كالاعتراف الدستوريّ بوجودهم، لم تُطرَح في سياق هذا التوافق البراغماتي المحض. ومن هنا نجد أنّ القضيّة الكُرديّة لم تشكّل محوراً في تشكّل هذه الإدارة، التي حرصت بشدّة، منذ تأسيسها، بمسميّاتِها المختلفة وصولاً لصيغتِها الراهنة، على إبرازِ صبغة تعدّدية، عرقيّاً وقوميّاً ودينيّاً، بإشراك شّخصيات وأحزاب غير كُرديّة ضمن أُطرِها، وذلك بالتزامنِ مع استبعادِ حاسمٍ للأحزابِ الكُرديّة السّوريّة، ذات الخطاب القومي الواضح.
وصحيحٌ أن القوى الأشدّ نفوذاً داخل حزب الاتحاد الديمقراطي، ومن خلاله داخل بنى ومؤسسات الإدارة الذاتيّة، هي من القوميّة الكُرديّة ولكثير منها تاريخٌ في النضالِ القوميّ، قبل تحوّلها الإيديولوجي الكبيرِ من مشروع «الدولة القوميّة» نحو «الأمّة الديمقراطيّة» متعددة القوميّات والطوائف والأديان؛ غير أنّ برنامجها السياسيّ، منذ نحو عقدين، ومَسعاها الاستراتيجي لم يعد قوميّاً بأيّ شكل. وبمراجعة ما وضعته من أهدافٍ للإدارة، ولسوريا بالعموم، نلحظُ مثاليّةً تصلحُ أن تصبح مانيفستو لكيانٍ عابرٍ للقوميّات والأديان والطوائف؛ وبالتحديد فإن هذه النزعة التي لا تجدُ في البعد القوميّ الكُرديّ مرجعاً معياريّاً أو غايةً أساسيّةً هي التي تُثيرُ قلقَ وغضبَ القوميّين الكُرد؛ كما أن «تجاوز» حزب الاتحاد الديمقراطي، ومعه الإدارة الذاتيّة، للنزعة القوميّة ليس مُراوغةً براغماتيّة كما يُخيَّلُ لكثيرين، بل هو ركنٌ جوهريٌّ من إيديولوجيّتها «الجديدة»، المستندةِ بشكل رئيسي على «انقلابِ» حزبِ العمّال الكردستانيّ على الفكرِ القومويّ المتزمّت، وتبنّيه منظوراً فكريّاً معارِضاً للقوميّة في المنطقة بأسرِها. وهذا ما ستتناوله المقالة بشيءٍ من التفصيل في موضع لاحق.
هل تُشكّل «قسد» الأداة العسكريّة لانفصالِ الإدارة الذاتيّة؟
تشكّلت «قسد»، الجناح العسكريّ للإدارة الذاتيّة، سنة 2015 كاستجابةٍ لعوزِ التحالف الدولي إلى حليفٍ يمكن الوثوق به في سياقِ محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)؛ وبذلك أصبحت «قسد» ذراعاً عسكريّة محليّة للتحالف الدوليّ في مواجهة داعش، مما ساهم في تحوّل هذه القوّة لكيانٍ عسكريّ سياسي شديد الفاعليّة والتأثير على الساحة السوريّة؛ ومن غيرِ المنصفِ إرجاع هذه المكانة لمجرّد دورِها في دحر داعش وتحرير مدن ومناطق واسعة في شمالي وشمالي شرق سوريا من قبضة الإرهاب، بل لا بدّ، إضافة لذلك، من الإقرار بخصوصيّةٍ تمتازُ بها قسد وتفتقدها مختلف الفصائل والميليشيات على طرفي الحربِ الأهليّة السوريّة؛ إذ لم تَعرف سوريا كياناً عسكريّاً سياسيّاً على هذا النحو من القوّة والانضباط، يضمُّ بين صفوفه أحزاباً وتيارات وفصائل من كافة المكونات الإثنية والقوميّة والدينية في المنطقة، إضافةً لدورِ المرأةِ البارزِ في بنيّتها العسكريّة والتنظيميّة. فشلت المعارضة السوريّة ومن قبلها النّظام الأسديّ – رغم قدراته المتراكمة عبر عقودٍ من السلطة – أيما فشلٍ في تأسيس كيانٍ سياسيّ عسكري على هذا النحو من القوّة والانضباط والتعدُّد. لا أريد القول، بالطبع، إن هذه الإدارة، بشقيها السياسيّ والعسكريّ، تجسّد أفضل صورةٍ ممكنةٍ، بل فيها من العيوب والنواقص ما ترتعد له الأبدان؛ إذ الأمر في الواقعِ، وبكلّ أسفٍ، ليس كما يجب أن يكون: فهذه الإدارة، أولاً، ليست ديمقراطيّة؛ إذ لم تتشكّل بمبادرة أو انتخابات شعبيّة نزيهة، بل تمّت هندستها من قبل حزبٍ سياسيٍّ ذي إيديولوجيا وغايات محدّدة؛ وهي، بالتالي، خاضعة لسطوة هذا الحزب، وهي ليست عادلةً في تمثيلها للسكانِ. كما أنّها، وبالرغم من تقدُّمهما على مختلف التنظيمات السياسيّة والفصائل العسكريّة الموجودة على الأرضِ السوريّة، لا تُراعي، كما يجب، حقوق الأفرادِ والجماعاتِ والأحزابِ المختلفة عنها إيديولوجيّاً، وقد أقدمت على أفعالٍ شائنة غير مرّة وفي أكثر من مكان. ولا بد، والحال هذه، من محاكماتٍ ومحاسباتٍ حين تحطُّ قدمُ العدالة أرض بلادنا.
لكن، اليوم، وتبعاً لما هو قائمٌ على كامل الجغرافيا السوريّة، لا مناص، في نظري، لأيّ ديمقراطيّ من العمل للحفاظ على هذه القوّةِ والسعيّ لتحسينها – باعتبارها تؤمّن حدّاً أدنى من الأرضيّة اللازمة للبناءِ عليها، سيما لجهة توفيرها بنية تحتيّة أوليّة للعلاقات العابرة للانتماءات القبلية والعرقية والدينية وتقديرها للهويّات المجتمعيّة المحليّة بدلاً من السعي المحموم لهدم كلّ قائمة ترتفع لها. وسيتطرّقُ المقال، فيما يلي، للتنظيرِ الذي يُشرعِنُ، من حيث يدري أو يجهل، لهدمِ هذه القوّة وإخلاء مكانها لقوّةٍ نعرفُ جيّداً كيف تعملُ وإلى أيّ هاوية ستودي بالبلد.
الغريبُ في أمرِ النقد الموجّه لهذه القوى، من قبل معظمِ المحللين السياسيين السوريين، يكمن، بدرجة أساسيّة، في عرضِه المُختصِرِ لقوات سوريا الديمقراطيّة (قسد) على أنّها تنظيم قوميّ كُرديّ يعمل وفقاً لمصالحٍ قومويّة متعارضة مع مصالح «أكثرية» غير كرديّة. أي أنّ ظاهرة قسد تُحلّل على الدوامِ انطلاقاً من «فرضيّة» أنّها قوّة قوميّة تجرّها استراتيجية كردستانيّة لا تؤمن بالحدود السوريّة. وبغض الطرف عن بعضِ النقمة القوميّة في هذا النقد، فإنّه يستبطن جهلاً بما يدّعي معرفته: إذ لم يفلح – بعدُ – معظم النقد السياسيّ السوري المعارض في التعرّضِ لبنية قوات سوريا الديمقراطيّة دون اغفال – أو تغافل عن – جوانب أساسيّة لا بدَّ من النّظر فيها بشيءٍ من الانصاف؛ ولعلّ واحداً من أسبابِ هذا الإغفال (أو التغافل) كامنٌ في بنية هذه القوّات المُركّبة بصورة غير مألوفة سوريّاً – سيّما من حيث خبوِ طابع العروبة والإسلام، وتوقُّد اهتمامات أناسٍ كانوا دوماً على الهامش – ما جعلها تبدو زائفة وعصية على المزاج التحليليّ السائد. ومن هنا يمكن الخلاصُ إلى أمرين يتم إغفالهما (أو التغافل عنهما) في النقدِ الشّائع لظاهرة الإدارة الذاتيّة ومن خلفها «قسد ومسد»:
أوّلاً، يتمّ تجاهل حقيقة أنّ هذا الكيان السياسي-العسكري هو الأشدُّ تعدّديةً – من حيث الانتماءات القوميّة والدينيّة والطائفيّة – على كامل الأرضِ السوريّة. والأمر ليس خليّاً من طابع دعائي شكليّ، غير أنّه ليس مجرّد دعاية، بل يُعتبر، في الواقعِ، شرطاً أساسيّاً لبقاءِ هذا الكيان وحصوله هذا على الدّعمِ اللازم من الجهات الخارجيّة والداخليّة؛ وبالتالي، تُمثّل التعدُّدية واللاقومويّة حاجة وجوديّة مُلحّة في برنامجها الاستراتيجي على المدى الطويل؛ فلا القوى الدّاعمة من الخارجِ، ولا القوى المتواجدة على الأرضِ، ضمن أطر الإدارة وخارجها، والمنتمية لمختلف المكوّنات القوميّة والطائفيّة والدينيّة سترضى بغير ذلك. ويمكن الذهاب أبعد للقول إن وجود الإدارة ومعها قسد، بالشكلِ الذي تسعى إليه، معتمِدٌ بشكل حاسم على تعدّديته، وابتعاده عن الخطابات القوميّة والدينيّة المتزمّتة. وثمّة إجراءات، لا تنقصها الغرابة، لجأت إليها الإدارة الذاتيّة لـ«تمتين» هذا الجانب التعدّدي في مناطقها، كما في إعلانها، مثلاً، عن فرع جامعي يُدعى «الإسلام الديمقراطي»، في رغبة واضحة لكسبِ أو دمج القوى الإسلاميّة المتديّنة في بنيّتها «العلمانيّة»، ذات الميول اليساريّة-الأوجلانيّة، «المعاديّة» للتدين تاريخيّاً. إذن هنالك، والحال هذه، تحرّك عمليٌّ، بل ثمّة مشروعٌ كاملٌ يقوم على التعدُّديّة، وتدفعه، على أقلِّ تقدير، عجلات المصلحة، في حالِ تعثّرت عجلات العدالة والديمقراطية. ورغم عديد النواقصِ التي مازالت تعتري هذا المشروعِ، إلا أنه يبقى متقدّماً، بوضوحٍ، على مختلف مشاريع المعارضة السوريّة الرسميّة، بشقيها العسكري والسياسي، ناهيكم عن المشروعِ الأسديّ بطبيعة الحال.
ولا شكّ أن إغفال – أو التغافل عن – هذا الجانب المتقدّم، أو المُتجاوزِ، بالمعنى الهيغلي، للانتماءات القوميّة والطائفيّة والدينيّة، من تجربة هذه الإدارة، إنما يعود، في جزءٍ رئيسي منه، إلى تلك الصلة الإشكاليّة التي تربطها بإيديولوجيا حزب العمال الكردستاني وزعيمه عبدالله أوجلان؛ وبالفعلِ ليس ثمّة شكٌّ في تلك الصلة الوثيقة بين قيادات الإدارة الذاتيّة وقوات سوريا الديمقراطيّة من جهة وحزب العمالِ بقيادة عبدالله أوجلان من جهة أخرى؛ بل إن قياديين بارزين في الإدارة أبدوا غير مرّة «إعجابهم الشديد» بفكر هذا الحزب وبما يسمّونه «فلسفة عبد الله أوجلان». ومن غير المنطق إنكار تأثير حزب العمال على ما يجري ضمن مناطق الإدارة الذاتيّة. إلا أنّ حزب العمال نفسه، ومن خلفه أوجلان، قد بات منذ عقدين تقريباً حزباً مناهضاً – بشكل مبالغ فيه – للفكرِ القوميّ بعمومه، والكُرديّ خصوصاً، بل راح يتّهم القوميين الكُرد بالرجعيّة والقَبَليّة والتقوقع على الذاتِ ومرّات كثيرة بالخيانة؛ كما يُتَّهم حزب العمال وحزب الاتحاد الديمقراطي من قبل القوميين الكُرد بالتخلّي عن «النهجِ القومي الكرديّ» والعمل على تحقيق مصالحِ «أعداء الكُرد التاريخيين»، في إشارة واضحة إلى تقاربه مع باقي مكونات المنطقة وسعيه لدمجها في كيانه السياسي والعسكري بغض النّظر عن انتماءاتها العرقية واعتقاداتها الدينية. ومن المؤشّرات الباكرة لهذا التحوّل في النهجِ والإيديولوجيا، مثلاً، خلوِّ اسمِ حزب الاتحاد الديمقراطي (وهو عملياً الحزب الحاكم في الإدارة الذاتية، وقد تشكّل سنة 2003 في جبال قنديل بإيعاز من حزب العمال بعد أن نزع الأخير عن نفسه لبوس القومويّة) من أيّة صفةٍ تدلّ على كرديّته أو انتمائه القومي، على عكسِ الأغلبية الساحقة من الأحزاب الكرديّة على امتداد جغرافيا كردستان. ولم يأتِ ذلك عن عبث أو عجلة، إنما عن دراية وانسجام مع الإيديولوجيا الجديدة، «الديمقراطيّة الإيكولوجيّة»، للحزبِ الأمّ. إذن، اتّهام حزب الاتحاد الديمقراطي (ومعه الإدارة الذاتيّة) بالتبعيّة لحزب العمال الكردستاني لا يدعمُ، في الواقع، فكرة أنه ذو إيديولوجيا قوميّة كُرديّة انفصاليّة؛ باعتبار حزب العمالِ ذاته أضحى حزباً يتبنّى إيديولوجيا «الأمّة الديمقراطيّة» والتي تمثّل النقيض العملي لـ«الأمة-الدولة» أي الدولة العائدة لأمّة أو قوم مُحدّد. وغرضُ حزب العمالِ، كما يبدو، هو التحوّل إلى تنظيمٍ إقليميٍّ فعّالٍ عابرِ للحدود القوميّة من خلالِ أجنحته المتوزّعة بين مختلف مكونات المنطقة. ومجرّد أن إيديولوجيّة حزب الاتحاد الديمقراطي (راعي الإدارة الذاتيّة) قادمة من خارج سوريا – في هذه الحالة من حزب العمال الكردستاني ذي الجذورِ الكُرديّة التركيّة -، لا يكفي لإدانتها أو اعتبارها مشكلةً؛ فليس ثمةٌ ما يمنعُ تبنّى أفكارٍ قادمة من الولايات المتّحدة أو البرازيل أو المملكة العربية السعوديّة طالما أنّها لا تُقوّضُ الحدود السياسيّة والاجتماعيّة القائمة ولا تضمرُ مساعٍ مُؤذيّة لتعايشِ «المُختلفين» بسلامٍ ووفاق. وإذا نظرنا بمقياس الربح والخسارة، فمن مصلحة الحزب «كسب» العرب، على سبيل المثال، بصورة تُضاهي مصلحته في كسب الكُرد، لأنّه غدا يفكّر، فعليّاً، أبعد من حدود القوميّة الكُرديّة، ومطامحه باتت ذات طبيعة إقليميّة لن تتحقّق دون قبولٍ شعبيٍّ عربي. كما أنّ تَحوُّلَ تعبير «الدولة القوميّة» في خطاب حزب العمال وحزب الاتحاد الديمقراطيّ إلى ما يشبه الإهانة، ليس تمويهاً كما يفكّر كثيرون، بل تجلّياً لفكرةٍ يُروَّج لها، صباح مساء، في مناطق الإدارة الذاتيّة وفي إعلام حزب العمال بأكمله.
مشكلة الكثير من ناقدي الإدارةِ كامنةٌ، مثلما يُبدون أو يُخفون، في «نزعتِها القوميّة الانفصاليّة» أو علاقتها «الإشكاليّة» مع النّظام السّوري؛ لكن بدحضِ هذه الفكرةِ المشوّهة يظهر أنّ مشكلتهم الأساسيّة كامنةٌ في الحضورِ الوازنِ للكُرد، بلغتهم وألوانهم وثقافتهم، ضمن هذا الكيان المتشكّل حديثاً في شمالي شرق سوريا، بالإضافة لخفوت بريقِ الإيديولوجيا العروبيّة-الإسلاميّة، التي فُرضت، طوال عقود، على المزاج العامّ في المنطقة. الأمر إذن ليس محصوراً في رفضِ حزب الاتحاد الديمقراطي و«إدارته الذاتيّة»، إنما هو متعلّق برفض حضورِ الكُردِ في صدرِ المشهدِ السياسيّ، بدلاً من هوامشه. ويمكن تمتين هذا التحليل بالتعريج على تجربة المجلس الوطني الكُردي، الذي يمثّل عمليّاً امتداداً للقوى السياسيّة الكُرديّة المعروفة بتاريخها المُعارِضِ لسلطةِ البعثِ في سوريا، ضمن الائتلاف أو غيرها من هيئات المعارضة السوريّة. التهميشُ المُذِلُّ، الذي لاقاه وما برح يُلاقيه المجلس الوطني الكُردي ضمن مختلف الهيئات «الوطنيّة» المعارضة وفي مختلف المناسبات، يفضحُ المكانة الهامشيّة التي يُراد «منحها» للكردِ؛ فالكُرديُّ السّوريُّ «الحقيقيُّ» هو ذاك الجالس عاقلاً بصمتٍ موافِقٍ دون قلاقل؛ وليس ذاك النّشط الفعّالُ المُشارِكُ بقوّة في السياسة اليوميّة والقرارات الاستراتيجيّة. ويمكن، والحال هذه، القول إن تبنّي الإدارة الذاتيّة، ولو بشكل غير رسمي، لفكرِ عبد الله أوجلان غير القوميّ، ليس هو المُنفِرُ بالنسبة للمعارضة السوريّة؛ كما أنّ مشروع الإدارة وطرحها لمستقبل سوريا فيه من المرونة وقابلية التحسينِ بما لا يُقارن بمشروع جبهة النّصرة أو مشروع الائتلاف الوطني «الأبي عمشي»، وطرحه لمستقبل سوريا. إذن، المُنفِرُ كما يظهرُ، أكان عن وعي أو من دونه، كامن، بدرجة أساسية، في كرديّةِ النافذين داخل الإدارة الذاتيّة؛ في «شبهة» أن تكون قوّة كُرديّةً بالفعل.
بالنّظر في النظام الداخلي لحزب الاتحاد الديمقراطي (الموصوف في الخطابِ السّوري بجناح حزب العمال الكردستاني في سوريا، والذي هو عملياً الحزب الأكبر نفوذاً في مناطق الإدارة الذاتيّة)، سيجد المرءُ بأن مطلب الحزبِ، فيما يخصّ القضيّة الكُرديّة في سوريا واضحٌ ولا يتعدّى المطالبة بـ«حل ديمقراطي عادل في إطار دستور توافقي ديمقراطي». وهذا مطلبٌ «انبطاحي» في نظرِ القوميين الكُرد. أمّا بشأن اللامركزيّة فيدعو الحزبُ، بلا مواربة، إلى: النضال لترسيخ نظام اللامركزية الديمقراطية في شمالي وشرقي سوريا على أساس الإدارات الذاتية الديمقراطية، وتعميمه على جميع أنحاء سوريا بهدف الوصول إلى سوريا لامركزية ديمقراطية. وبمُعاينة المكان الجغرافيّ الذي تسيطر عليه الإدارة يتجلّى أنها تبسط نفوذها على مناطق واسعة تسكنها غالبية عربيّة. ومن غير المنطقي تبريرَ الأمرِ بنزعةٍ انفصاليةٍ تطهيريّة من خلالِ تغيير ديموغرافي لصالح الكُرد؛ فهذا، أقلّه تقنيّاً، مستحيل التحقُّق. إذ أن أعداد الكُرد المتبقين في البلد لا تكفي لتعويضِ من هاجر من الكُرد أنفسهم، بل إنّ عدداً من الأحزاب الكرديّة تطرحُ النظرية ذاتها، ولكن بشكل معاكس، بقولها إن الإدارة تعمل بشكل منهجي على إفراغ المنطقة من الكُرد.
ذلك كلّه يُقوّض الخطابُ الاختزالي للإدارة الذاتيّة باعتبارها ذات مطامح قوميّة كُرديّة، كما أن تبنّي النافذين داخلها للفكرِ الأوجلاني ليس بحالٍ دلالة على نزعتها الكُرديّة الانفصاليّة؛ على العكس، هي دلالةٌ على مُعاداة فكرة الانفصالِ القوميّ. المؤسف، بدرجة أساسيّة، هو تجاهل ما يستحقّ النقد الحادّ في تجربة وبنية هذه الإدارة، باختزالِ الإشكال في «كُرديّتها»؛ هذا التحشيد ذو الطابع القومي ليس نافعاً لأحدٍ، إلا للحكومة التركيّة، التي تشعر بأنّ كلّ تحرّك يساهمُ فيه كُردٌ مُهدِّدٌ، بالضرورة، لأمنها القومي.