أتاح انهيار الدولة العثمانية مع نهاية الحرب العالمية الأولى مساحة لتشكل الهوياّت الوطنية في عدد من دول المشرق العربي. لم يكن ذلك ليمرَّ دون أن يترك أثراً على الموسيقى في هذه الدول، بعد أن كان الفضاء العثماني المتأخّر مساحة مشتركة يتنقّل فيها الموسيقيون والمطربون، فلم يكن يندر أن نرى موسيقياً مثل إبراهيم المصري في اسطنبول التي زارها أيضاً، على ما يُروى، عبده الحمولي أحد الأسماء الأساسية في عصر النهضة المصرية أواخر القرن التاسع عشر، ولا كان مستغرباً أن تصبح مصر، التي بدأ تشكيلها الهوياتي واستقلالها الثقافي عن العثمانيين مبكراً بسبب الأسرة العلوية ونظرها نحو أوروبا ثم الدور البريطاني، بلدَ استقبال وهجرة للكثير من الشوام كأنطون الشوَّا (ت 1914) وابنه سامي (1885 ـ 1965)، ورائد المسرح الغنائي العربي أبو خليل القباني (ت 1903)، وآخرين مثل اسكندر شلفون (ت 1934) وكميل شامبير (ت 1934) وغيرهم.
من نتيجة انفتاح هذا الفضاء وأبوابه المُشرَّعة أن الموسيقات في هذه البلدان كانت، رغم لهجاتها المحلية المختلفة، متقاربة وقابلة للتعارُف والتمازج. فأخذ الموسيقيون عن بعضهم، ووجدنا مقطوعات تركية عديدة سجّلتها شركات الاسطوانات مع عازفين مصريين مطلع القرن العشرين، في حين كان محي الدين بعيون البيروتي (ت 1934) يغني بالطنبور أدواراً مصرية، وامتزج إرث الموشحات الحلبية بالموروث المصري منذ منتصف القرن التاسع في حين تمازجَ بعضُ شغل الملا عثمان الموصلي (ت 1923) بالإرث الشامي وانتقلت ألحان داود حسني (ت 1937) القاهري لتبلغ شعبية هائلة وانتشاراً واسعاً بكلمات مختلفة في الشام (آه يا حلو) كما في العراق (دزني/الحلو نام).
غير أننا إذا قفزنا عقوداً قليلة بعد ذلك، حتى منتصف القرن العشرين، وجدنا تمايُزاً معلناً أو على الأقل رغبةً مُشهَرةً بالاختلاف والتأصيل لهوية موسيقية خاصة بكل بلد تقريباً، بما يعنيه ذلك من نسيان لموسيقات سابقة، أو إعادة صياغة وتركيب لها «لتنظيفها» ممّا تم النظر إليه على أنه شوائب دخيلة أو غير لائقة، ومن إنتاج مخصوص تُروِّجُ له وتُدافع عنه باسم الوطنية أو الحداثة أو الأصالة الحقّة مؤسسات بالغة النفوذ في عصر كانت فيه الإذاعة بيد الدولة، وشركات التسجيل تُراعي غالباً رغبات السلطة. وكان التلفزيون، تلفزيون الدولة، لا يزال في مطلع عهده، أما السينما المصرية عموماً فكانت تحت رقابة صارمة حين لم يكن الإنتاج نفسه من تمويل الدولة، وكانت هذه المؤسسات قادرة عملياً على فرض التوجه الذي تريد حيث كانت أغلب مفاتيح الاستهلاك والانتشار والدعاية بيدها، بما في ذلك المهرجانات والحفلات الكبيرة (بعلبك في لبنان، أعياد الثورة في مصر) والنقل الإذاعي.
تتركز أسباب ذلك أساساً في سعي وحاجة الدول الناشئة حديثاً، وحاجة نخبها مُتسارِعة التحديث، إلى استحقاق الاستقلال عن الدول المنتدبة باسم التحضر، واللحاق بما ظُنَّ أنه ركب التقدم، وبناء هوية لها تسمح بتجاوز الطابع المصطنع للحدود الجديدة وتبرير اختلافها عن جيرانها. هكذا كان ينبغي أن يُثبت الإنتاج الموسيقي في الوقت عينه ارتكازه الوطني وأصالته (كشرط للهوية وعدم اللحاق بالمستعمر) وحداثته القابلة للمقارنة بالغرب (استحقاق الاستقلال) واختلافه عن جيرته وتمثيله لشعبه (الهوية الخاصة الجامعة والمانعة، المنفتحة في الداخل والمتوقفة على أول الحدود). بيد أن تفاوت حاجات هذه الدول السياسية واختلاف مواعيد استقلال كل منها النسبي أو التام، أدَّيا إلى تفاوت توجه الموسيقيين فيها واختلاف مقارباتهم لمسألة الموسيقى الجديدة وهويتها.
لئن كانت مصر أول وأسرع الدول العربية إلى التشكُّل السياسي، فإن فلسطين تشكل الحالة النقيض. حيث تأخر الاستقلال عن العثمانيين حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، وتبعه الانتداب البريطاني والنزاع مع اليهود الوافدين، وصولاً إلى حرب 48 وعدم إنجاز الاستقلال السياسي. فلم يُتَح للمجتمع الفلسطيني آنذاك أن ينتظم في أطر حديثة تطرح موضوع الهوية الموسيقية أو تكون في حاجة إليه، فظل الإطار الموسيقي متنازعاً أساساً بين الفضاء المصري والجوار الشامي/اللبناني حتى عندما استقبلت يافا ثم القدس موسيقيي الجوار وتجاربهم في إذاعة الشرق الأدنى حيث التقوا بأقرانهم الفلسطينيين. أما بعد النكبة وفي الشتات، فقد صار جمع الإرث الشعبي والفولكلور الهمَّ الأساسي تعبيراً عن رفض النسيان وبناءً للهوية حوله، وكاد الإنتاج الحديث ينحصر في مواكبة حركة التحرر بالغناء الثوري في السبعينيات.
لقد تأخّرَ ظهور جيل متميز من الموسيقيين الفلسطينيين حتى أواخر القرن العشرين بل وبدايات القرن الحادي والعشرين، حين بدأ جمعٌ من عازفي العود والكمان بتضمين المزاج الشرقي الشامي إلى الدراسة الأكاديمية، وبالبروز داخل وخارج فلسطين طارحين هموماً موسيقية متطورة، مثل سيمون شاهين وكاميليا جبران وخالد جبران وكميل شجراوي وأحمد الخطيب ونزار روحانا ومؤخراً المغنية والمؤلفة والعازفة على الفلوت ناي البرغوثي، وسواهم.
في حين كان غياب مسألة تجديد الهوية الموسيقية وحصرها في محاولة تسجيل الفولكلور نتيجة للقضية الفلسطينية والشتات، فإن سوريا ـ التي استقلّت عن فرنسا واستقل معها وعنها لبنان أواخر الحرب العالمية الثانية ـ عاشت غياباً للمسألة لأسباب إيديولوجية، حيث اعتبرت نفسها قلب العروبة النابض، لا سيما بتأثير من حركات القوميين العرب ومن حزب البعث حتى قبل وصوله إلى السلطة، مروراً بمطالبة النخب السورية لعبد الناصر بتولي الحكم والاندماج مع مصر في 1958 في وحدة أخفقت بعد ثلاث سنوات غير أنها استمرت حلماً يدغدغ أحلام السوريين باستمرار. لذا رغم ثراء الإرث الحلبي (حيث كانت حلب المتصلة بالموصل وإسطنبول قد أصبحت العاصمة الموسيقية في سوريا مع بداية القرن العشرين، لا دمشق)، واستمرار الإنتاج والتطوير في الموشحات مع عمر البطش (ت 1950) وتلامذته، ودمج الدور المصري في الغناء الحلبي ومحاولات تطوير تلحين القصيدة مع بكري الكردي (ت 1978)، وبرغم محاولات العازفين والمنظرين مثل توفيق الصباغ (ت 1964) وغيره، وبدايات إذاعة حلب (1949) التي شهدت إنتاج خالد أبو النصر وزكية حمدان (اللذين غادرا سوريا بعد ذاك بقليل)، إلا أن الموسيقى في سوريا بدت كما لو أنها تجمدت بُعيدَ الاستقلال بقليل، وباتت إما أداءً للتراث بأصوات عظيمة ولا شك مثل صبري المدلل، لا سيما في حلب التي انطوت على مُنافَسَتِها مع دمشق وعلى هويتها المدينية الخاصة، عازفةً عن تحويلها هوية وطنية عامة، أو باتت مشرعة على الأغنيات المصرية واللبنانية الشائعة.
انحسر تمثيل غناء الأطراف كالجزيرة أو اللاذقية إلى عرض شبه كاريكاتوري في زنزانة في مشهد تمثيلي، أو تم تغييبها تماماً لأسباب إيديولوجية كحال الأكراد. في حين اعتُبرت الموشحات الحلبية إرثاً عربياً عاماً وقُدِّمَت كعنصر أثري من التاريخ، يرتدي مؤدوها العمائم والعباءات اللاتاريخية بألوان فاقعة مزركشة.
بالمقابل، بدا كما لو أن سوريا لم تهضم الانفصال اللبناني عنها، وكلفت فيروز والرحابنة وسعيد عقل بتمثيلها وتمثُّلها في الحاضر الموسيقي على أنها بستان هشام وعاصمة أمية التي لا تزال عندها طموحات جمع الأمة والذوبان شبه الصوفي فيها.
في العراق، المنافس العروبي الآخر، تم أيضاً تهميش موسيقات الأكراد والأطراف والأقليات لصالح مركزية الإرث البغدادي المشهور بالمقام، وتضاءلَ الاهتمام بحضور المقام خارج بغداد (كالمقام في الموصل وفي البصرة). حين أنشأت الدولة مدرسة للفنون الجميلة وتعليم الموسيقى فإنها ركزت بادئ الأمر على الموسيقى الغربية، ومن ثم على العود الذي كان شبه غائب عن الموسيقى البغدادية آنذاك، فلم يكن العود من ضمن آلات فرق الجالغي الأصلية (الجوزة، الأقرب إلى الكمنشة التركية، والسنطور الأقرب إلى القانون، والإيقاع)، ولم يكن هنالك تراث كبير في صناعته في العراق حتى أنه يُقال إن أول صانع للعود في العراق، حنا ججي، تعلمه من ضابط تركي في حلب عَبَرَ بورشة نجارته لإصلاح عوده.يُنظر رواد فن العود في الوطن العربي (طارق عبد الله)، الصادر عن مؤسسة البحث والتوثيق في الموسيقى العربية، 2020.
ربما كانت الموصلُ الأقربُ إلى الشام استثناءً في هذا الأمر، إذ كان والد جميل ومنير بشير صانعَ أعواد. ولا يدل عزف عزوري هارون المسجل في مؤتمر الموسيقى العربية على العود آنذاك على تميُّز عراقي في مقاربة العود وعزفه، بل يذكر البعض أن العود لم يدخل بغداد إلا ربطاً بافتتاح الكباريهات فيها واستقدام مغنين وعازفين شوام ومصريين لتقديم الغناء الترفيهي الخفيف، المختلف عن المقام البغدادي الصارم. عودة الاهتمام بآلة العود (فضلاً عن دخول القانون إلى جانب أو بدل السنطور)، ونشوء جوقات موسَّعة بالمقارنة مع الجالغي التقليدي، قد تكون ربطاً بالموسيقات المصرية والشامية، ومحاولةً لتحديث حضور وسمعة الموسيقى العراقية فيها، كما ظهر من الاهتمام الكبير بتمثيل العراق في مؤتمر القاهرة في 1932.
غير أن عودة العود تمت من خلال استقدام الشريف محي الدين حيدريُنظر كتاب الموسيقى الفنية المعاصرة في العراق (حسقيل قوجمان). العربي التركي (1892 ـ 1967) إلى بغداد في 1936 وحتى 1950، والذي فرض منهجاً مستقىً من آلة التشيلو التي كان يُتقنها، ونتج عن ذلك عزف خاص على العود تابعه عليه تلامذته مثل سلمان شكر، أو مزجوه بإرث المقام العراقي والأغاني الشعبية كما فعل الموصليان جميل بشير ومنير بشير.
منحَ ذلك العودَ العراقيَ سماتٍ تميزه عن المدرسة الشرقية لجهة تقنيات العزف وإصدار الصوت ودوزان الآلة وسرعة العزف ومحاكاة الأصوات أو الصور الذهنية وغير ذلك، حتى صارت آلة العود الرمز الأبرز للهوية الموسيقية العراقية.
كما شهدت تلك المرحلة أيضاً تغييب الأثر اليهودي على الموسيقى نتيجة لقضية فلسطين ونقل اليهود العراقيين إلى إسرائيل، حيث كان أغلب أعضاء فرق الجالغي في بغداد يهوداً، بل أغلب الموسيقيين عموماً (يذكر حسقيل قوجمان استثنائين فقط هما عازف الإيقاع في فرقة الإذاعة حسين عبد الله، وعازف العود اللبناني الطرابلسي صليبا القطريب).ينظر علاقة اليهود العراقيين بالموسيقى العراقية، (حسقيل قوجمان، ترجمة عدنان حسين أحمد) على موقع الحوار المتمدن الإلكتروني.
كذلك كان عدد كبير من الملحنين والمغنين، مثل الأخوين صالح وداود الكويتي، من اليهود، وكانت الموسيقى صنعة عائلية يتم توارثها ضمن عائلات مثل عائلة بتّو التي كان منها حوكي بتّو وابنه يوسف بتّو وعائلة بصون.يُنظر الجالغي البغدادي: دراسة نظرية (مهيمن ابراهيم الجزراوي) على موقع «المقام العراقي» الإلكتروني. ويقال إن رئيس الوزراء نوري السعيد أمر باحتجاز الموسيقيَين اليهوديَين عازف الجوزة صالح الشميل وعازف السنطور يوسف بتّو حتى تعليم أول عراقييَن غير يهودييَن على آلتي الجوزة والسنطور وهما شعوبي ابراهيم وهاشم الرجب.يُنظر علاقة اليهود العراقيين بالموسيقى العراقية، (حسقيل قوجمان)، المصدر السابق. هكذا ارتبطت عملية الحفاظ القسري على الذاكرة الموسيقية بنقلها من اليهود إلى غير طائفتهم بتغييب جزء كبير من صانعيها. وعجزَ النظام الصدّامي عن صناعة موسيقى توائم طموحه، فاستقدم مثلاً مؤلفاً لبنانياً (وليد غلمية) ليؤلف له سيمفونية معركة القادسية، في الوقت الذي استقدم فيه مخرجين مصريين ليصوروا أفلاماً عن ذلك إبان الحرب مع إيران. وحدها الموسيقى الشعبية العراقية استمرت وسمح خروج بعض أبنائها من العراق، كما فعل كاظم الساهر، بنشر إيقاعاتها الجميلة خارج الحدود.
عرفت تونس محاولة مشابهة لأثر مدرسة الفنون الجميلة العراقية هي دار الرشيدية، حيث حاولت النخب التونسية من خلالها تنقية الإرث الشعبي لأسباب أخلاقية محافظة غالباً، وأثَّرَ ذلك كثيراً على إرث اليهود التونسيينيُنظر الشيخ عفريت وموسيقى يهود تونس، هيكل الحزقي، موقع معازف الإلكتروني. مثلاً والحفاظ عليه، حيث يذكر هيكل الحزقي أن ستين أغنية فقط من أصل خمسمائة للشيخ العفريت قد بقيت لنا. كذلك حاولت الرشيدية هضمَ وإعادةَ إنتاج إرث الأطراف (البدوي والجبلي والحدودي الليبي) وتنظيم وترتيب الإنتاج الموسيقي الجديد في قالب الفوندو، ودفعت بصوت صليحةينظر الصوت الذي لم يروض: صليحة والمشروع الوطني التونسي، هيكل الحزقي، موقع معازف الإلكتروني. ليكون حامل لوائها، مع تهميش موسيقات كالسطمبالييُنظر السطمبالي التونسي: سجع السلاسل ورنين الأصفاد هيكل الحزقي، موقع معازف الإلكتروني. (ذات الأصول الأفريقية) والربايبية (ذات الأصول اليهودية)، في حين كانت الحكومة بعد الاستقلال تدعم التعليم والأوركسترا الكبيرة على الطريقة الغربية في محاولة للوقوف على قدم المساواة مع ما تعتبره العالم المتحضر. وكان تراجُع حضور العود التونسي المعروف بالعود العربي، وهو غير العود الشرقي المعروف، دليلاً على تأثّر التقاليد الموسيقية التونسية بهذه التوجهات.
هذه العلاقة غير الصِدَامية مع المستعمر السابق كانت حاضرة أيضاً في لبنان، حيث تم تكليف الأخوين رحباني منذ 1957 رسمياً بصياغة هوية معبرة عن دمج سائر المكونات اللبنانية الجبلية والساحلية، في شكلٍ يميزها عن الموروث الحلبي وعن الموسيقى المصرية وبما يعزز الاستقلال السياسي عن الجوار، إذ كان هذا الاستقلال السياسي لا يزال موضوعاً للتجاذب بين المسيحيين الذين قبلوا برحيل الفرنسيين الضامنين لحكمهم في مقابل قبول المسلمين بالتخلّي عن رغبات الانضمام والوحدة مع سوريا أو مصر. هكذا عبَّرَ الأخوان رحباني ببراعة عن هذه المتطلبات السياسية، مقدمين الأولوية والصدارة للإرث الزجلي والقروي الجبل ـ لبناني مع دمج تقنيات من الغناء الكنسي البيزنطي والسرياني وألحان من مصر ومن حلب ومن البقاع اللبناني. وكانت أداة الدمج هي ما كان يدعوه موسيقيو تلك الفترة «العلم»، أي التوزيع الموسيقي الذي مهرا فيه، وكانت علامةً على الدور المنوط بلبنان جسراً بين الشرق والغرب، وعلى العلاقة الهادئة بينه وبين أوروبا. هكذا في مقابل مشهد موسيقي بالغ التعقيد قبل حكم كميل شمعون (1952ـ 1958)، حين كان الموسيقيون اللبنانيون والفلسطينيون والسوريون يتفاعلون معاً في اذاعة الشرق الأدنى (التي انتقلت من جنين إلى يافا فالقدس فبيروت حتى أُغلقت عام 1956)، تمّ الاحتفاء بصناعة «فولكلور» لبناني قروي، في حين يشير زكي ناصيف مثلاً في أوراقه التي نشرتها الجامعة الأميركية إلى أن الساحل لم يعرف ذلك الفلكلور أبداً، وإنما كان متشبعاً بالمواويل البغدادية والغناء المصري.
وكان من آثار ذلك أيضاً فرض نسيان جيلين من صُنّاع الموسيقى، جيل الرواد القدامى مثل فرج الله بيضا وبولس صلبان ومتري المر ومحي الدين بعيون وغيرهم على اختلاف تأثُّراتهم وأنماط موسيقاهم بين الجبلي والشامي والمصري، وجيل البحث الأول عن الموسيقى اللبنانية بعد الاستقلال الذي حاول منذ الأربعينيات تركيب هوية لبنانية غير أنها بدوية شبه عراقية (مثل حوّل يا غنام، يا جارحة قلبي، واستعادة يام العباية) لم تصمد طويلاً، منهم سامي الصيداوي ومصطفى كريدية وسواهم بأصوات مطربين ومطربات منسيين اليوم (من بينهم نهوند وتغريد ونازك وحنان).يُنظر كتاب محمود الزيباوي وأسعد مخول نجمات الغناء في الأربعينيات اللبنانية (لبنان، 2017). وقد فرضت تقنية التوزيع الأوركسترالي نفسها باعتبارها المدخل إلى الحداثة، لكنها أيضاً كانت تسمح بالعثور على سمة موحّدة بين عناصر تبدو متنافرة، إذ يمكن من خلالها معالجة الموشحات الأندلسية كما قصائد الزجل اللبناني البديع لأسعد السبعلي، أو قصائد سعيد عقل الباهرة بالفصحى والعامية. وسمح ذلك لكل امرئ بأن يعثر على شيء من نفسه في الإنتاج الرحباني، سواء كان من أنصار زجّالي الجبل والجنوب اللبنانيين أو من عشاق محمد عبد الوهاب القاهري أو من الحالمين بدمشق بني أمية. وكانت الدراسة وأساليب التأليف على الطريقة الغربية أيضاً في قلب اهتمامات المؤلفين الموسيقيين الذين عُرِفوا باسم عصبة الخمسة التي ضمت توفيق سكر وتوفيق الباشا ورفاقهما. واستمرت هذا التوجه الموسيقي عَلَماً على لبنان، من خلال أصوات كفيروز وديع الصافي، حتى وإن بدأ تفكك عناصره منذ السبعينيات وربما قبل ذلك.يُنظر ما قبل الرحابنة، فادي العبد الله، على موقع معازف.
تتكثّف كل تلك المسارات في الحالة المصرية، سواء لجهة مركزية العاصمة وتهميش الأطراف، وقوة السلطة وأدواتها في فرض توجّهات فنية من خلال المؤسسات والرقابة والتمويل، والعلاقة الملتبسة مع الماضي بين إحياء أصالته المُفترَضة وبين ضرورات تنقيته وترقيته، بل وإعادة صياغته، لأسباب أخلاقية محافظة ولدواعي نقله إلى ركب الحداثة. فيمكن أن نعثر على بعض ملامح العلاقة بين الموسيقى ومسألتي الاستقلال والتحديث منذ مؤتمر الموسيقى العربية (1932 أي بعد أكثر من عقد على ثورة 1919 التي تبعها دستور 1923 ومع نضج ملامح الوطنية السياسية المصرية قبل أربعة أعوام فقط من معاهدة الاستقلال مع بريطانيا في 1936، حتى وإن تأخّر الجلاء فعلياً إلى 1956). فالمؤتمر الذي حضّرَ له، ولم يحضره، نزيل تونس البارون ديرلانجيه مع الشيخ السوري علي الدرويش، عُقد في القاهرة، عاصمة الدولة العربية الأكبر والأقرب إلى اكتمال تشكلها السياسي الحديث برعاية مَلَكية، وجمع إلى الوفود القادمة من البلاد العربية باحثين ومؤلفين أتراكاً وأوروبيين. وكان الهدف على ما يبدو بحث موضوع «الموسيقى العربية»، وهو تعبير قريب العهد من عهد المؤتمر وبدأ يحل محل تعبير «الموسيقى الشرقية» الأشيع في السابق، وسُبُل «ترقيتها» وصولاً إلى مستوى الموسيقى الأوروبية. لذا لم يكن غريباً أن يحلّ بين مشاركي المؤتمر بعض رموز الموسيقى القومية في أوروبا الوسطى مثل بيلا بارتوك، حيث كانت أوروبا الوسطى وقبلها روسيا قد شهدتا مساراً مشابهاً لناحية البحث عن سبلٍ لمضاهاة الموسيقات الألمانية والإيطالية والفرنسية الموصوفة بأنها الموسيقى الأوروبية، وأحياناً المُسمّاة بالموسيقى العالمية. غير أن هذا كان بالضبط ما أثار الخلاف بين الموسيقولوجيين الأوروبيين الذين يبحثون هذه الموسيقى من مقاربة أنثروبولوجية تسعى إلى الحفاظ على موضوعها على حاله، وبين العرب المشاركين الساعين إلى هجران القديم الموصوم بعدم «العلمية» وإلى مقاربة مسائل جديدة على موسيقاهم كالهارموني وتقسيم السلّم الموسيقي إلى أبعاد متساوية والبيانو الشرقي.
في ظل صراع معلن بين «الأصالة» (المُخترَعة حديثاً) والحداثة،يُنظر أيضاً فإلى أية أصالة ينتمون، فادي العبد الله ،على موقع معازف. كانت الموسيقى المصرية تشهد تغييرات كثيرة نابعة من دخول تقنية التسجيل، ومن أثر المسرح الغنائي الذي بدأ مع الدمشقي أبو خليل القباني واستمر مع الشيخ سلامة حجازي قبل أن يصل إلى سيد درويش وداود حسني وغيرهما، ومن ثم عصر السينما الغنائية الذي لمع فيه محمد عبد الوهاب كما شاركت فيه أم كلثوم ومن ثم أسمهان. سريعاً انتهى عصر الدور الغنائي الذي طبع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بطابعه، وانتشرت الطقاطيق الخليعة أولاً، ثم حلّت محلها الأغنية بصورها العصرية (المونولوج المُستوحى من الموسيقى الغربية الذي قدمه محمد القصبجي لأم كلثوم، والطقطوقة المحدثة التي اشتغل عليها الشيخ زكريا أحمد، والقصيدة المحدثة مع عبد الوهاب ومن ثم ألحان السنباطي لأم كلثوم). صحيح أن أم كلثوم غنّت عدداً قليلاً من الأدوار في الثلاثينيات لزكريا أحمد وداود حسني، غير أن ذلك لم يكن أساس شهرتها ولا وسيلة انتشارها واستمرارها في زعامة الغناء، ولسنا نعلم إن كانت قد قدمتها في الحفلات. وابتداءً من الأربعينيات لم يكن هناك إنتاج لأي أدوار جديدة، وكان استمرار صالح عبد الحي في أدائها، فضلاً عن تأثره الشديد بخاله عبد الحي حلمي، مثار تندرٍ وسخرية. فقد وقع كل الإرث السابق على نهاية العشرينيات (التي برز فيها غناء عبد الوهاب لقصيدة «جارة الوادي» وأم كلثوم لمونولوج «إن كنت أسامح») في خانة تصنيف «القديم» وتم وصمه بأنه غناء تركي عثماني، غير متطور ولا معبّر، مملّ التكرار والاجترار وإلى ما هنالك من أوصاف سلبية.
وكان هنالك استثناء أوحد على ذلك، هو الشيخ سيد درويش،يُنظر على قد الليل ما يتأول، سيد درويش والتركة المشاع (فريديريك لاجرانج) وكذلك حوار فادي العبد الله مع ياسر عبد الله بعنوان أساطير سيد درويش، على موقع معازف. الذي اعتُبر أباً للموسيقى المصرية الحديثة، لأسباب ملتبسة ومتناقضة. فلسنا نعدم من يقول إن سيد درويش هو من «خلّصَ» الغناء المصري من عُثمانيته وأعاده إلى مضمونه العربي الأصيل، وآخر يقول إن سيد درويش هو من «جدّد» الغناء المصري وفتح له أفاقاً تعبيرية ويُذكِّرُ بتطلُّع الشيخ سيد درويش للسفر إلى إيطاليا للدراسة وأخذه عن الأوبريتات المسرحية الإيطالية والألحان الأوروبية التي سمعها في مسقط رأسه، إسكندرية الكوزموبوليتية. رغم شهرة واستمرار داود حسني في الإنتاج حتى الثلاثينيات، في مقابل موت سيد درويش في 1923، إلا أن التباسَ الشيخ سيد في ظني، وليس يهودية داود حسني، هو ما أدى إلى اعتبار الأول استثناءً من وَصْمِ القديم بالملَل والعثمانية، في حين إن تمسّك داود حسني بالموسيقى القديمة وقواعدها عمل ضد مصلحته. بمعنى ما، وافق سيد درويش التوجُّه المصري المنصرف عن اسطنبول نحو أوروبا، حيث مصدر الاحتلال المنشودِ الاستقلالُ عنه وحيث إشعاعُ التقدُّم المطلوب للوقوف نداً ضد المستعمر.
لذا كان سهلاً على عبد الوهاب في أحد أفلامه أن يسلك نفسه في إثر عبده الحمولي ثم سيد درويش، باعتبارهما مُجدِّدَين (لا باعتبارهما رمزين للأصالة) وهو ثالثهما. في وقت لاحق، لأسباب تتعلق بحكم عبد الناصر، تعدلت صورة سيد درويش مرة أخرى، وانتقل محورها من اهتمامه بالتجديد والتعبير والأوبريتات إلى ألحان الطوائف التي كثرت في مسرحه، والتي عرضت مُعادِلاً مسرحياً وصوتياً لمجتمع مصري متنوع قبل الثورة، كألحان الموظفين والعربجية والفقهاء والحشاشين، باعتبارها «ألحان الشعب»، مضافاً إليها الألحان الوطنية (قوم يا مصري، أنا المصري…إلخ)، فبات سيد درويش فناناً وطنياً قبل أي شيء. استتبع ذلك، حتى في التعامل مع فن سيد درويش، إخضاعُه لمعايير الرقابتين السياسية والأخلاقية فضلاً عن الفنية، فتمت إعادة تسجيله بأصوات حديثة وبتوزيع موسيقي يعتمد على الفرق الكبيرة، وبإعادة صياغة بعض الكلمات التي اعتبرت سوقية أو إباحية (كانت الرقابة أصلاً قد منعت وقضت على تسجيلات الطقاطيق الخليعة، قبل ذلك). وحصل الأمر عينه لاحقاً مع فرق الموسيقى العربية وعبد الحليم نويرة حين أعادوا اكتشاف التراث السابق، من موشحات وأدوار، فتم تقديمه لمسميات التطوير والعصر بصورة جامدة أوركسترالية مناهضة تماماً لما فيه من روح الارتجال والحرية. مثل ذلك كان أيضاً التقديم الرسمي للأغنية الشعبية القاهرية من خلال أصوات كمحمد عبد المطلب ومحمد رشدي، الذي يروي في حلقة تلفزيونية مع عمار الشريعي كيف كان يتم تحضيره من قبل مثقفين وأطراف في السلطة لتقديم غناء شعبي يناسب تلك المرحلة من العهد الناصري، حيث كانت الرغبة بتوسيع القاعدة الشعبية للنظام المتوسِّع في التوظيف وفي التعليم، والخروج من إطار أفندية المدن الكبيرة التي كان إنتاج جيل عبد الحليم حافظ مُعبِّراً عنهم، خصوصاً مع تنامي النزوح إلى المدن.
بشكل واعٍ إذاً، كان النظام يسعى إلى صوغ نسخة معتمدة رسمياً من الأغنية الشعبية، مثلما كان أيضاً يقدم نُسَخَاً رسمية مُنقَّحة للأغنية الصعيدية أو الريفية. بالمقابل لم تظهر إلى العلن الأغنية الشعبية غير الرسمية حتى انتشار سوق الكاسيت والبروز الصاروخي لأحمد عدوية في السبعينيات، بالتزامن مع الانفتاح الساداتي وضعف قبضة مؤسسات الدولة التقليدية في صياغة الهوية العامة، وحتى ضعفها عن صياغة الأغنية الوطنية حيث ظهر الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وبرزا داخل وخارج مصر كغناء وطني وسياسي بديل للأغنية الرسمية، بأدوات موسيقية تقليدية وبروح ساخرة متوهجة كتابةً وغناءً. فلم تلبث أن برزت في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات فرق تعزف موسيقى غربية أو بآلات غربية على الأقل، وبرز النوبيّان أحمد منيب قادماً من الهامش الجغرافي والسياسي ومحمد منير الذي دخل سريعاً في الإطار العام المقبول تجارياً، ممثلَين عن أطراف مُهمَّشة في المجتمع المصري، بعد فترة طويلة من هيمنة القاهرة وموسيقاها وموسيقييها القادمين من الدلتا القريبة أو من الإسكندرية أو من حواري القاهرة نفسها، وصولاً إلى بروز الغناء الديني الصعيدي والحظ البورسعيدي وغير ذلك في مرحلة لاحقة بعد كتمان طويل.
في كل هذه الحالات، نجد ارتباطاً مباشراً بين مسار تَشكُّل الدولة واستقلالها السياسي وعلاقتها الخاصة بالاحتلال من جهة ومسار هويتها الموسيقية وتطورها من جهة، خصوصاً وأن هذه الدول ونخبها، عن وعي أو برد فعل عميقٍ وغير واعٍ، كانت قادرة على تحديد ما يمكن له أن يستمر ويتمتع بالدعم والتشجيع والتمويل والدعاية، وما يسقط طيَّ النسيان أو القمع أو المنع. للأسف، يفرض هذا في أغلب الأحيان نسيان أجيال كثيرة قدمت موسيقات فائقة الجمال إن لم تكن تتناسب مع هذا التوجه العام للسلطة ونخبها. ولفترة طويلة أعاقَ هذا عمليةَ التواصل مع أصول الموروث، وقدمه من خلال مِرْشَحِ فرقٍ جامدةٍ غير جذّابة. غير أن زمننا الحاضر يتميز بالمساحة التي افتتحها الإنترنت، بانفتاح السوق الإنتاجية وخروج المجتمع ناحية التوجهات الحكومية في بلدان عدة، وبالنقاش المستمر الذي يصل إلى حدود الثورات حول حدود الحكم ومسائل تموضع الدول تجاه مكونات شعوبها العديدة. أتاحً الوصولُ المُيَّسر اليوم إلى أرشيفات ضخمة من التسجيلات والمعارف القديمة إمكانيةً أكبر للعودة إليها والمزج بين التقنيات والموسيقات القديمة والحديثة، وهامشَ حرية أوسع بما لا يقاس للفنانين تجاه مسائل فنهم وهويته. لعلَّ كل ذلك يَعِدُ بعلاقةٍ جديدةٍ بالمنسيّ من هذا التاريخ، لا يَسعُها إلا أن تكون أيضاً وفي الآن عينه بناءً لحاضر.