في 26 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، سلَّمَ الاحتلال الإسرائيلي نحو 70 جثماناً داخل أكياس بلاستيكية لشهداء فلسطينيين كان قد اختطفهم من مستشفى الشفاء والمستشفى الإندونيسي شمالي قطاع غزة. وصلت الجثامين إلى مستشفى أبو يوسف النجار في رفح بالتنسيق مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وخلال وصفه للحالة التي وصلت عليها الجثامين قال د.مروان الهمص مدير المستشفى إن بعضها كان «أنصاف أجساد»، بينما كان المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان قد أشار في وقت سابق إلى شبهات سرقة أعضاء حسب شهادات أطباء. 

هذا الواقع ليس جديداً، وهو لا يقتصر على غزة، بل يعود تاريخه إلى بدايات النكبة الفلسطينية المستمرة، وارتفعت وتيرته بشكل واضح منذ العام 2015 في الضفة الغربية، حيث أصبح احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين فيها واقعاً تُواجههُ عشرات العائلات الفلسطينية. كان هذا يجعلني دائماً أتساءل: هل يوجد ما يوقف الموت لمدة زمنية غير محددة؟ هل يموت الشخص فينا لحظة إعلان موته، أم لحظة وداعه، أو ربما دفنه؟ أم يبقى الموت مشهداً منقوصاً إلى الأبد، ليبقى السؤال مفتوحاً: متى نُسلِّم بأن عزيزاً لدينا قد مات؟ يعتاد الإنسان أن يستبدل الجسدَ بِشاهدة القبر، أو بالقبر كله، لكن ثمة قبورا تُفتَح وتُترَك فارغةً في فلسطين، أُفكّر أن العادة جرت على أن ينتظر الجسد فتحَ القبر ليذهب في رحلته الأخيرة، لكن ماذا عن القبر الفارغ الذي ينتظر؟ 

المصدر: (Getty Images)

الآن، يحتجز الاحتلال الإسرائيلي 450 جثماناً فلسطينياً بين مقابر الأرقام والثلاجات، 18 منهم أسرى سابقون في سجون الاحتلال كُسِرَ قيدُ سجنهم بالموت ليبدأ قيدٌ آخر على جثامينهم، و21 منهم أطفال، وذلك حسب توثيق الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء. وحسب الحملة أيضاً فإن الأرقام قد تكون أكثر من ذلك، وهي لا تشمل المفقودين أو الشهداء في قطاع غزة أو محيطها منذ 7 أكتوبر، بسبب عدم توفر أي معلومات من أي جهة فلسطينية أو إسرائيلية حول عدد الشهداء ومصير وجثامينهم.

مطاردٌ حيّاً كنت أم ميتاً

كان العام الماضي (2023) أكثر الأعوام التي تمّ فيها احتجاز جثامين الشهداء منذ عام 2015؛ حيث تم توثيق 101 حالة احتجاز لجثامين شهداء خلاله، فيما تم تسليم 28 جثماناً بعد عمليات احتجاز متفاوتة المدة، 6 منهم محتجزون منذ سنوات سابقة.

تحدثتُ إلى حسين شجاعية، منسّق الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء، وهو يقول إن «سياسة احتجاز جثامين الشهداء بدأت منذ الانتداب البريطاني وامتدت مع الاحتلال الإسرائيلي. منذ 7 أكتوبر ونحن نتابع مشاهد التنكيل والتشويه واحتجاز جثامين الشهداء في غزة وغلافها، على نحو يخالف كل الأعراف الدولية بما في ذلك ترك جثامين في الشوارع لأيام طويلة، وهو انتهاك صارخ لكافة الأعراف والقوانين الدولية والشرائع السماوية».

واحدةٌ من أبرز حالات احتجاز الجثامين عبر التاريخ الفلسطيني الحديث كانت على يد الشرطة البريطانية في ثورة البراق عام 1929، تحديداً في القدس، حيث اعتُقل 26 مناضلاً فلسطينياً في ذلك الوقت، وحُكم بعدها بالمؤبد على 23 منهم، وأعدم ثلاثة منهم في سجن القلعة بمدينة عكا. اشتُهر يوم الإعدام باسم الثلاثاء الحمراء، حين أُعدمَ محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير ولم يتم تسليم جثامينهم.

سياسة احتجاز جثامين الفلسطينيين غير محددة بأي قانون واضح، إذا لا مدة محددة لاحتجاز الجثمان قبل تسليمه لأهله، حتى أن قائمة جثامين الشهداء المحتجزة تضم فلسطينيين مُحتجزة جثامينهم منذ العام 1967، وتعتمد هذه السياسة فقط على قرارات «كابينت إسرائيلي» حسب ما يتطلبه الأمر.

عام 2017 أصدر الكابينت الإسرائيلي قراراً يقضي باحتجاز جثمان أي فلسطيني يُنفّذ عملية ويوقِع فيها قتلى إسرائيليين، وفي 2020 أصدر الكابينت قراراً آخر يقضي باحتجاز جثمان أي فلسطيني يُنفِّذ أي عملية كانت سواء أوقع قتلى أو إصابات أم لا. هذه الضبابية في القرارات تُتيح للاحتلال الإسرائيلي الإمعان في ممارسة أي انتهاك يطال الفلسطيني حياً كان أم ميتاً.

عن أهداف هذه السياسة يقول حسين شجاعية: «احتجاز جثامين الشهداء هو سياسة عقاب استعماري لمطاردة الفلسطيني حياً أو ميتاً، التحكم بحزن الفلسطينيين وحرمان مئات العائلات الفلسطينية من حقها في تشييع أبنائها، وحرمان الأم والعائلة من الحزن قرب قبر ولدها. يضرب الاحتلال بعرض الحائط كل المواثيق والأعراف الدولية على هذا الصعيد، وقد أصدر الكابينيت الإسرائيلي أيضاً قرارات تُتيح للاحتلال احتجاز جثامين الشهداء كورقة ضغط في أي صفقة تبادل بين المقاومة والاحتلال، وبالتالي تحويل هذا الملف من ملف إنساني إلى ملف سياسي».

يحاول العديد من الأهالي التوجُّه إلى محكمة العدل العليا الإسرائيلية لرفع دعاوى بشأن مصير أبنائهم، وبحسب الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء، لا يوجد أي قرار إيجابي من المحكمة منذ 2015، بل على العكس تماماً، يقول السيد شجاعية في مقابلة سابقة إن المحكمة قد تطلب بشكل غير مباشر من الجهات المختصة تسليم الجثمان إن لم يكن هناك حاجة له، وذلك بهدف تجنّب إصدار قرار إيجابي في ملفّ الادعاء الذي يحمله الفلسطينيون.

وحسب القوانين الدولية فإن سياسة احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين وعدم الكشف عن هوية المفقودين منهم مخالفةٌ لمعاهدة لاهاي لعام 1907، ومخالفة لاتفاقية جنيف الأولى في البندين 15 و17 اللذين يُلزِمان الدولة المحتلة بتسليم الجثامين للعائلات حتى يتسنى لهم دفن أبنائهم وبناتهم والحفاظ على كرامتهم وفق معتقداتهم الدينية.

حظي شهداء الثلاثاء الحمراء بأن يتم دفنهم في سجن القلعة في مدينة عكا، لكن مع استمرار هذه السياسة الاستعمارية وتوريثها لاحتلال آخر يهدف لاقتلاع الفلسطيني من أرضه ويحارب هويته، تحجز إسرائيل جثامين الفلسطينيين غالباً في مقابر الأرقام أو في الثلاجات.

مقابر الأرقام أم الثلاجات؛ كيف يضيق الموت؟

في مقابر الأرقام، تتخلص إسرائيل منك برقم، أو هكذا تحاول. ومقابر الأرقام هي مناطق عسكرية مُغلقة، لا يمكن الدخول إليها أو التصوير فيها إلا بتصاريح من الصعب الحصول عليها. حتى الآن يعرف الفلسطينيون منها أربع مقابر؛ الأولى هي مقبرة الأرقام القريبة من جسر بنات يعقوب في منطقة عسكرية عند ملتقى الحدود الإسرائيلية- السورية- اللبنانية، يقال إن فيها ما يقارب 500 قبر لشهداء فلسطينيين ولبنانيين، سقطوا في حرب 1982 وما بعدها. الثانية مقبرة الأرقام الواقعة في المنطقة العسكرية بين مدينة أريحا وجسر دامية في غور الأردن والتي تأسست عام 1967، وهي مُحاطة بجدار وفيها بوابة حديدية مُعلَّق عليها لافتة كبيرة كُتبَ عليها بالعبرية «مقبرة لضحايا العدو»، فيها أكثر من 100 قبر، والقبور هناك تحمل أرقاماً من 5003 إلى 5107، ربما تكون جزءاً من أرقام تسلسلية لقبور في مقابر أخرى. الثالثة هي مقبرة «ريفيديم» التي تأسست بعد 1973، وتقع في غور الأردن، ولا أرقام مُحدَّدة عن عدد القبور فيها. الرابعة هي مقبرة «شحيطة» في قرية وادي الحمام شمال مدينة طبريا، وغالبية الجثامين فيها لشهداء معارك منطقة الأغوار بين 1965-1975، ويُقدَّر عدد القبور فيها بـ350. تكمن قباحة هذه المقبرة في أنها رملية، وأن الجثامين فيها مدفونة على عمق قليل، ما يجعلها عُرضة للانجراف في سيول الأمطار، وعُرضة لنهش الحيوانات.

المصدر: (Getty Images)

تُمارِس إسرائيل سياسة احتجاز الجثامين كوسيلة لمعاقبة أسرة الشهيد بعد استشهاده، وبغرض استعمالها أوراقاً تفاوضية مستقبلية، ولكن ثمة مؤشرات وقرائن وتقارير صحفية وحقوقية تشير إلى أن من بين الأهداف أيضاً استغلال الجثامين في بنوك الأعضاء البشرية.

في عام 1985 أنشأت إسرائيل بنك الجلد الإسرائيلي لعلاج الجنود الإسرائيليين الذين أصيبوا بحروق، ويبقى السؤال قائماً: ما هو مصدر هذه الجلود أو حتى الأعضاء؟ صحيحٌ أنه لا يوجد دليل ملموس قطعي، لكنّ هذه القضية مُحاطة منذ سنوات بتصريحات مسؤولين إسرائيليين سابقين تُشير إلى بعض المعطيات التي من شأنها أن تفتح باب الشكّ، على الأقل، حول استخدام إسرائيل لجلود وأعضاء الفلسطينيين الذين تحتجز جثامينهم لعلاج جنودها.

في 2009 نشرت صحيفة افتونبلاديت السويدية شهادة الصحفي دونالد بوستروم، الذي وثَّقَ استشهاد شاب فلسطيني في الضفة الغربية شُقَّت جثته من المعدة حتى الذقن ثم خِيطت بحيث يبدو الشقّ كأنه ندبة، وأشار في حينها أنه يعرف كثيراً من العائلات التي واجهت المصير نفسه فيما يتعلق بأبنائها.

لا تكتفي إسرائيل باحتجاز جثامين في مقابر الأرقام، إنما هناك كابوس ثلاجات الاحتلال، واحتجاز جثامين الفلسطينيين فيها هو واقعٌ مفرط في بشاعته. تستلم عائلات فلسطينية أبناءها وهُم عبارةٌ عن قوالب من الثلج، هذا ليس تضخيماً للحدث بل هو واقعٌ يحدث، تحتجز إسرائيل بعض الجثامين في ثلاجات تصل درجة حرارتها إلى 40-50 تحت الصفر، وعند تسليم الجثمان فإنه يحتاج قرابة الأسبوع في ثلاجات المستشفيات العادية حتى يعود إلى حالة قد تبدو طبيعية.

في حزيران (يونيو) 2021 قتل جنود الاحتلال الإسرائيلي الفلسطينية مي عفانة (29 عاماً) عند حاجز حزما شمال القدس، ثم احتجزَ جثمانها لمدة 14 شهراً في ثلاجة؛ 14 شهراً هي المدة التي انتظرتها عائلة مي وطفلتها لإلقاء نظرة الوداع عليه، وعند استلامها كانت مي عبارة عن قالب من الثلج. حرم الاحتلال الطفلة من إلقاء النظرة الأخيرة على أمها ومن وداعها بشكل يمكن اعتباره لائقاً.

يوضح حسين شجاعية: «يمارس الاحتلال سياسة العقاب الجماعي، ويسعى لمحاولة ردع الفلسطيني عن أي فعل مقاوم، وبالتالي يستخدم احتجاز الجثامين كورقة ضغط ومساومة، كما يحاول التحكم في جنازات التشييع الفلسطينية. قانون الطوارئ البريطاني كان يُجيز لقائد المنطقة أن يحدد عدد المشيعين، وهو ممتدٌ إلى اليوم تحديداً في القدس والأراضي المحتلة، فالاحتلال لا يسمح بأكثر من 25 مشيعاً، هذا بالإضافة إلى دفع كفالة مالية طائلة قد تصل إلى 40 ألف شيكل (11064 دولار) لضمان تنفيذ الشروط في حال الإفراج عن الجثمان».

يضيف شجاعية: «أكثر ما يؤذي الفلسطينيين في قضية احتجاز الشهداء هو إخفاء الأدلة. لو تم قتل أحد الشبان على الحواجز فإن احتجازه يَحولُ دون المعاينة الطبية والتشريح وكل ما يمكن أن يثبت تعرُّضه للقتل أو الإعدام، وبالتالي يُفقدنا دليلاً مهماً قد تحتاجه العائلة في حال توجهها للمحاكم».

السيادة على الجسد انعكاسٌ للسيادة على الأرض

تقول سهاد ظاهر- ناشف، الباحثة في العلوم الاجتماعية، في كتابها الطب الشرعي في فلسطين- دراسة أنثروبولوجية: «إن قوة الرغبة في السيادة على الأرض تنعكس رغبةً في السيادة على كل جسد حي وميت على هذه الأرض. وعليه، فرغبة إسرائيل في السيادة المطلقة على أرضها تنعكس على ممارستها السيادة المطلقة على الأجساد، حتى لو لم تكن تلك الأجساد لإسرائيليين/ات. ويمكن رؤية التفاوت في قوة السيادة على الأرض في المنطقة وعلى الجسد، بين الجانب الإسرائيلي والجانب الفلسطيني، من خلال معرفة أن السلطة الفلسطينية لا يمكنها تشريح جسد إسرائيلي/ة مات/ت على أرض تحت سيطرة السلطة، أو في المنطقة “أ”، بينما تقوم إسرائيل بذلك حتى من دون الحصول على موافقة عائلة الميت/ة الفلسطيني/ة».

من هنا نستطيع أن نفهم أن ممارسات الاحتلال تسعى بشكل ملحوظ إلى تصفية كل أشكال الحياة الفلسطينية، من خلال ملاحقتها للجسد الفلسطيني حياً أو ميتاً. في الثقافة الشعبية يُعتبَر الدفنُ من مظاهر التكريم للميت، لكن إسرائيل تقفُ حائلاً بين الفلسطيني ولحظته الأخيرة، تُعكِّرها وأحياناً كثيرة تسرقها، وتسعى لترك الجرح نازفاً، ذلك أن عائلات فلسطينية كثيرة تفتح قبوراً وتُجهّزها بانتظار لحظة الدفن، وعائلات أخرى لم ترَ ابنها أبداً شهيداً لتعيش على احتمال أنه ما يزال حيّاً.

في الوضع الطبيعي يُدفَن الفلسطيني الشهيد كما هو، لكن لحظة اقتحام إسرائيل للمشهد تكمن في نزع الميت من مصيره الطبيعي في السياق الفلسطيني، وتحويله إلى رقم أو ملف أمني، فيُحرَم من الدفن على يد عائلته وأحبائه كشهيد، ما يَفرض واقعاً ممتداً من السيطرة الإسرائيلية على لحظة موت الفلسطيني وفضائه الزمني والجغرافي، وما يأتي بعد لحظة الموت أيضاً.

المصدر: (Getty Images)

تقول مئيرة فايس، البروفيسورة الإسرائيلية المتخصصة في الانثروبولوجيا، في كتابها على جثثهم الميتة: «خلال الانتفاضة الأولى، سمحَ الجيش الإسرائيلي للمعهد (الإسرائيلي) باستئصال الأعضاء من الفلسطينيين بموجب أنظمة خاصة تسمح للمعهد بتشريح كل فلسطيني يقتل. وكانت عمليات التشريح هذه تترافق مع استئصال الأعضاء التي كان يستخدمها بنك الجلد وبنوك الأعضاء الأخرى لزرع الأعضاء، وإجراء البحوث، والدراسات الطبية. وفي مقابلات أجريت معهم، يُشير عددٌ من موظفي المعهد إلى أن الانتفاضة الأولى (1987-1993) كانت أفضل فترة لاستئصال الأعضاء الذي كان ينفذ بشكل متكرر وحرية تامة، مقارنة بفترات أخرى. أما في الانتفاضة الثانية، فكان يصل إلى المعهد عددٌ أقل من الجثامين الفلسطينية».

كل هذا وأكثر يُعيدنا إلى مسألة السيادة على الأرض الفلسطينية، أرضٌ أكثر وفلسطينيون أقل هو ما تريده إسرائيل. يوغل الاحتلال في كل ما هو فلسطيني، يتنقّل بين الأرض والجسد ليفرض احتلالاً ممتداً على كل مظاهر الحياة والموت لدى الفلسطيني. يؤرقه الجسد حياً، وعندما يقتله لا يتوقف، بل يحولُ أمام الاحتفاء به وتكريمه، ويحوّلُ الجسد الفلسطيني إلى مشاع يمكن الاستفادة منه وتفكيكه للحصول على غنيمة هنا أو هناك.

اليوم تُحتجَز جثامين الشهداء الفلسطينيين في قطاع غزة، ولا معلومات مؤكدة حول أعداد أو هويات المفقودين في ظل حرب الإبادة على غزة الي تنهش كل شيء، ولا توقعات حول من سيرصد ومن سيسأل عمّن فُقِد. الجريمة هذه المرة تُرتكَبُ بحق الجسد وأعضائه وجلده وكل شيء، ما يجعلني أفكر: هل سنصل إلى «رفاهية» السؤال في ظل ما يحدث حول مصير هذه الجثامين؟