من الفرد إلى الجماعة وسؤال الأجيال: مساحات التعبئة والاحتفال

عندما بدأ الحراك الشعبي عام 2011، أوَّل من تَلقّاه وتضامن معه في الأوساط الثقافية والفنية في فرنسا هم الذين أمضوا حياتهم بانتظاره، نساء ورجال كان لعدد منهم موقعه أصلاً في المشهد الثقافي الفرنسي.حول مسارات بعض الشخصيات الثقافية السورية المُقيمة في فرنسا قبل عام 2011 والتي تضامنت مع الحراك الشعبي منذ أيامه الأولى، انظر مجموعة اللقاءات التي أنتجتها مبادرة «لارو La Rue» وأخرجتها هالة العبد الله عام 2021، تحت عنوان Récits sur Toile (حَكايا على كرسي من قش). يتحدَّث الباحث الفرنسي سيمون دوبوا في رسالة الدكتوراه التي ناقشها حول المسرح السوري في المنفى، وتحديداً في بيروت وبرلين، عن خصوصية علاقة الأوساط الثقافية والفنية السورية في فرنسا بتاريخ طويل من النضال المُنظَّم، حتى أن باريس تُعتبر أحد معاقل المعارضة السورية وذلك قبل عام 2011. يرى دوبوا أن ما يُمكن اعتباره كشرط النضال والالتزام السياسي لدى عدد كبير من الفنانين والفاعلين الثقافيين السوريين المُقيمين في فرنسا منذ عدة عقود، وعلاقة هذا الوسط بالفوج الأول من الفنانين السوريين الذين وصلوا إلى فرنسا في السنوات بل والأشهر الأولى من اندلاع الثورة، قد يكون أدى إلى الحد من الحرية الإبداعية في الأوساط الفنية والثقافية السورية الجديدة التي بدأت بالتشكُّل في فرنسا ابتداءً من عام 2011.DUBOIS, Simon, De la Marge au Centre, de Syrie en Exil : Itinéraires d’un Jeune Théâtre syrien, Thèse de Doctorat, Université d’Aix-Marseille, Institut de Recherches et d’Études des Mondes arabes et Musulmans IREMAM, 2019, p. 196-198.

أثارت اهتمامي هذه الفرضية التي يطرحها دوبوا لتفسير تفضيل الفنانين والفاعلين الثقافيين السوريين لبرلين بالمقارنة مع باريس، وإن لم يتوسَّع بالشرح كون فرنسا لم تكن موضوع بحثه، وذلك لأن هذا الطرح يُضيف بعداً جديداً لقراءة تطوُّر وتَلَقّي مسارات الفنانين والفاعلين الثقافيين السوريين من القادمين الجدد إلى فرنسا. عندما أُفكّر في الممارسات الفنية والثقافية السورية في فرنسا خلال العقد الأخير، أفكّر في البيئة الحاضنة لهذه الممارسات منذ ما يزيد عن عشر سنوات، أي المؤسسات الثقافية الفرنسية وجمهورها. أفكّر أيضاً في قوانين الهجرة واللجوء في فرنسا، وفي أجهزة استقبال اللاجئين بمن فيهم الفنانين الخاصة بالمناخ الفرنسي، كـ«ورشة الفنانين في المنفى» على سبيل المثال والتي تمَّ تأسيسها عام 2017 للتعريف بالفنانين المنفيين في فرنسا ومرافقتهم على الصعيد المهني والإداري.تعمل «ورشة الفنانين في المنفى» على تمكين الفنانين الذين لجؤوا إلى فرنسا في السنوات الأخيرة، وذلك عبر توفير الدعم القانوني والإداري وتنظيم الأنشطة الفنية وتأمين مكان عمل للفنانين من الوافدين الجُدد في وسط العاصمة الفرنسية. أعي تماماً الإشكاليات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية التي يعاني منها الفنانون والفاعلون الثقافيون السوريون في منافيهم المختلفة، كصعوبة البدء من جديد في مكان غريب قد لا يتقنون لغته، ولكني لم أفكر من قبل بمسألة الالتزام السياسي والإخلاص للثورة، خاصة في مراحلها السلمية الأولى، كأحد المحاور الأساسية لقراءة واقع منتجي الثقافة والفنانين السوريين في فرنسا اليوم، ولا بمسألة الأجيال وتأثيرها المُحتمَل على هذا الإنتاج الثقافي والفني. كما أن أكثر من ثلاث سنوات مضت منذ ناقش سيمون دوبوا رسالته عام 2019، والتي تُغطي سنوات مفصلية في تاريخ الممارسات الثقافية والفنية السورية مع انتقال عدد كبير جداً من فاعليها إلى منافيهم المختلفة (2014-2016)، وهي مرحلة اتسمت بـ«غموض المستقبل» نظراً لطابعها «الانتقالي»، مما دفع دوبوا إلى عدم «تثبيت الفاعلين في مواقع جغرافية محددة». أما هذا البحث فهو ينظر في درجات الاستقرار والتجذُّر – إن صح التعبير – بعد مُضي أكثر من عشر سنوات على خروج معظم الفنانين والفاعلين السوريين من بلدهم، ووصول عدد منهم إلى فرنسا التي من المفترض أنها تعرفهم أكثر من غيرها من البلدان الأوروبية التي استقبلت لاجئين سوريين من أجيال وأوساط اجتماعية مختلفة.

انطلاقاً من فرضية دوبوا، رحتُ أنظر في العلاقة بين العمل الثقافي والنضال السياسي في الأوساط الثقافية والفنية السورية التي تشكَّلت في فرنسا بعد عام 2011، وخاصة في السنوات الأخيرة التي تلت التحولات التي طرأت على المناخ الفرنسي بعد هجمات عام 2015 وإشكاليات أزمة اللاجئين في أوروبا باعتبارها عَقَّدت مسألة تمثيل الهوية السورية بسبب ارتباط سوريا في المُخيِّلة الجمعية بواقع الإرهاب والعنف في العالم اليوم. إن كان الإخبارُ عمّا يحدث في سوريا ما زال حاضراً لدى معظم الفنانين والفاعلين الثقافيين السوريين في فرنسا، إلاَّ أنه زاد عليه – وربما تجاوزه أيضاً – موضوع المنفى وسؤال الهوية والذاكرة بعد عشر سنوات من وقوع كارثة لم تنته بعد، خاصة لدى أفراد هم أصغر سناً بكثير من الجيل الأول الذي ينطلق منه البحث.

نتحدث هنا عن شباب وشابات بدأت مسيرتهم المهنية أو تبلورت في الشتات بالمقارنة مع من كان لديهم رصيد مهني مُعترَف به في سوريا قبل عام 2011. بالتأكيد أن هذه التساؤلات وتعقيداتها لا تنحصر بواقع الفنانين والفاعلين الثقافيين السوريين في فرنسا وحدها، إلاَّ أن هذا البحث يفترض أن انتقال عدد من الفنانين والفاعلين الثقافيين السوريين إلى فرنسا خلال العقد الأخير مختلف عن انتقالهم إلى ألمانيا وغيرها من البلدان الأوروبية. يأتي هذا الاختلاف من وجود تاريخ واضح وعميق من العلاقات الثقافية والفنية بين البلدين يجد جذوره في الماضي الاستعماري في المنطقة، ومن ارتباط المسيرة المهنية للعديد من الفنانين والفاعلين الثقافيين السوريين الذين ما زالوا حاضرين اليوم في المشهد الثقافي السوري في الشتات بالعالَم الفرنسي والفرنكوفوني. بالفعل، لا يمكن مقارنة تاريخ العلاقات الثقافية والفنية بين سوريا وألمانيا مع هذا الرابط القديم والعميق بين العالمين السوري والفرنسي. يرى دوبوا أن غياب هذا التاريخ هو تحديداً ما حرَّر علاقة الفنانين والفاعلين الثقافيين السوريين بالمؤسسات والجمهور في ألمانيا، وأن وجود ما يُمكن اعتباره أنتلجينسيا سورية فنية وثقافية – وسياسية أيضاً – «قديمة» في فرنسا هو ما عثَّر تطوُّر بعض المسارات وتأقلمها مع محيطها الجديد. قد يكون هذا الكلام صحيحاً إلى حد ما، ولكن مراقبتي للمشهد الثقافي والفني السوري في الفترة الأخيرة جعلتني أنتبه لظهور جيل جديد من الفنانين والفاعلين الثقافيين السوريين في فرنسا الذين يعملون بطريقة مختلفة، ربما لأن سوريا باتت تعنيهم بطريقة مختلفة. جيل متحرِّر من تلك العلاقات القديمة وآليات العمل التي تشكَّلت في الأوساط الثقافية والفنية السورية والفرنسية التي سبقت عام 2011، جيل يبتكر اليوم شكلاً آخراً من النضال عبر الفن والثقافة كان بحاجة لوقت لأن يتشكَّل ويتنظَّم.

أُفكّر هنا مثلاً بمبادرات جماعية كمهرجان «Syrien n’est fait» الذي تمَّ إطلاقه عام 2016 عبر التعاون بين جمعية دعم الإعلام الحر (ASML-Syria) ومجموعة من الجمعيات الفرنسية والسورية. من الصعب ترجمة اسم المهرجان كونه يقوم على لعبة لغوية بين كلمة «سوري» بالفرنسية (syrien) وعبارة «إن لم» (si rien)، بالتالي يُمكن ترجمة اسم المهرجان على النحو التالي: «إن لم يُفعل شيء». أَطلقَ المهرجان الناشط السياسي والاجتماعي الفرنسي آرمان أورو،آرمان أورو – Armand Hurault – ناشط سياسي واجتماعي فرنسي قريب جداً من أوساط المعارضة السورية في فرنسا والخارج. خرِّيج علوم سياسية مختص بالعلاقات الدولية، أقام أورو في دمشق بين عامي 2008 و2009 حيث أجرى بحثاً في مجال تخطيط المدن ضمن دراسته في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى. انتقل أورو للعيش في مارسيليا بعد إغلاق جمعية دعم الإعلام الحر عام 2020 وما يزال حتى الآن منخرطاً في إدارة وتنظيم مهرجان Syrien n’est fait. الذي أدار جمعية دعم الإعلام الحر حتى إغلاقها عام 2020. اليوم، استقلَّ مهرجان «Syrien n’est fait» وتمَّ تسجيله كجمعية غير ربحية، كما انتقلت الإدارة الفنية إلى الفنان السوري تمام العُمر (مواليد مصياف، 1986)، الذي وصل إلى فرنسا عام 2014 وهو اليوم يعيش في باريس. عُقِدت الدورة الأولى من المهرجان من 21-24 تموز(يوليو) 2016 وقد تمَّ تعريفه على النحو التالي:

«لأول مرة منذ الثورة، يتم تخصيص مهرجان في باريس للفن السوري وللتفكير فيما يحدث في سوريا، التي أصبح اسمها بالنسبة للكثيرين مرادفاً للصراع والتعقيد وعدم الوضوح. Syrien n’est fait هو مهرجان فن ملتزم يُحرِّك ويُجدِّد محاور النقاش: يقترح المهرجان زاوية جديدة للنقاش، وهي مجتمع مدني سوري مبدع وديناميكي. (…) يقدم المهرجان للجمهور الباريسي مدخلاً استثنائياً واحتفالياً لمشهد ثقافي سوري مزدهر بقدر ما هو غير معروف. تهدف البرمجة الواسعة ومتعددة المجالات إلى تسليط الضوء على تنوُّع الإنتاج الفني والثقافي في سوريا».

في اللقاء الذي أجريته مع تمام العُمر، المدير الفني للمهرجان، شرح لي كيف أصبحت برمجة المهرجان تُركِّز مع الوقت على موضوعات مُعيَّنة باتت تفرض نفسها مع تطوُّر وضع السوريين وإنتاجهم للفنون والثقافة في العالم اليوم.أُجري اللقاء على منصة زوم في 15 آذار (مارس) 2022. في عام 2019، أي في السنة التي تشكَّلت فيها لجنة فنية تختار الأعمال المُشاركة بناءً على معطيات ومعايير محددة، تمَّ التركيز على موضوع «الأراضي والمُتخيَّل»، وفي دورة 2020 تمَّ تسليط الضوء على «العدالة والتوثيق»، بينما ركَّزت الدورة الأخيرة التي انعقدت من 31 آب (أغسطس) إلى 4 أيلول (سبتمبر) 2022 على موضوع «الذاكرة» بتعدُّد معانيها.يمكن الاطلاع على برمجة وبعض فعاليات دورة 2022 على صفحة المهرجان على فيسبوك. كما انفتح المهرجان في السنوات الأخيرة على عوالم غير سوريا وبشكل خاص بلدان شمال أفريقيا كتونس والجزائر مثلاً لتقاطعها مع موضوعات الثورة والحرب والذاكرة والهوية. مازال مهرجان «Syrien n’est fait» فعَّالية سياسية تستخدم الفن والثقافة لإيصال رسالتها التي تدور بشكل كبير حول موضوع العدالة – وهنا من المهم أن ننوَّه إلى كون تمام العُمر قد بدأ بدراسة الحقوق في سوريا قبل تحوُّله نحو الفن – ولكن ما تغيَّرَ في السنوات الأخيرة هو إعطاء ثقل أكبر للمحتوى الفني مقابل الخطاب السياسي. يَعتبِر العُمر أنه لم تعد هناك حاجة لإعادة إنتاج المحتوى الفني الذي رافق السنوات الأولى من اندلاع الثورة، وإنما التفكير في كيفية الحفاظ على هذا الأرشيف الضخم واستخدامه اليوم لصياغة خطاب مختلف حول سوريا، خطاب يأخذ بعين الاعتبار تحولات المكان والزمان والجمهور أيضاً. ما يفعله مهرجان «Syrien n’est fait» في واقع الأمر، وإن كان بإمكانيات محدودة بسبب قلة الدعم المالي لهذا النوع من الفعاليات التي تخرج عن السياقات الرسمية، هو الدفاع عن سردية الثورة السورية والعلاقة بين الفن والنضال السياسي في المشهد السوري المعاصر، وإن كان مشهداً مُقتلَعاً اليوم من جذوره الجغرافية والثقافية.

يقودنا التفكير في تحولات المكان والعلاقة مع المحيط الجديد إلى التوقُّف عند مشروع «المائدة السورية في مونتروي – La Cantine Syrienne à Montreuil» الذي أطلقه عام 2018 أفراد سوريون وفرنسيون آتون من مجال العلوم السياسية والنضال الاجتماعي، حتى أن بعضهم قريبٌ جداً من «حركة السترات الصفراء» التي تشكَّلت في فرنسا في خريف عام 2018. تعمل «المائدة السورية» كمكان لقاء وتضامن عبر تنظيم مجموعة من الفعاليات الثقافية والفنية ودورات اللغة والطهي وبيِّع الكُتب المتعلِّقة بسوريا وحركات النضال في العالم المعاصر. تتقاسم «المائدة السورية» المكان نفسه مع غيرها من الجمعيات التي تُحسَب اليوم على اليسار الراديكالي، وذلك في مدينة مونتروي بالقرب من باريس.استضاف فضاء A.E.R.I الذي يُعرِّف نفسه كـ«جمعية إنسانية للمساعدة المتبادلة واللقاء في مونتروي»، مشروع «المائدة السورية» منذ تأسيسها عام 2018، وذلك حتى قرر الفريق مغادرة هذا الفضاء مؤخراً والبحث عن مكان خاص به. نظَّمت “المائدة السورية” أخر فعالية لها في هذا الفضاء في 24 حزيران (تموز) 2023، أي بعد انتهائي من العمل على هذه المادة. تبحث «المائدة السورية» الآن عن مكان جديد في مدينة مونتروي أيضاً، وتستمر في الوقت نفسه بالتعاون مع مختلف التجُّمعات والفضاءات اليسارية في فرنسا وبلدان أخرى من العالم. كما تُنظِّم نشاطاً سنوياً يحمل عنوان «الشعوب تريد – Les Peuples veulent» يلتقي من خلاله ناشطون ومفكرون وفنانون منخرطين في النضال ضد الأنظمة الرأسمالية والقمعية حول العالم، إذ لا تقتصر أهداف هذا المشروع على دعم القضية السورية وحدها وإن كانت محوَر عملها الأساس.انظر برنامج الدورة الأخيرة من «الشعوب تريد» التي انعقدت من 21-23 تشرين الأول (أكتوبر) 2022 وجمعت ناشطين وفاعلين ثقافيين من عدة بلدان. وهكذا نقرأ في فقرة «أكثر من سوريا» على موقع المائدة السورية في مونتروي:

«لقد أظهرت الثورة ثم الحرب في سوريا إنه لا يمكن اختزال المشاكل المحلية على إطار وطني خالص. بالنسبة لنا، إنشاء فضاء عابر للقوميات والحدود في مدينة مونتروي حيث تتعايش جنسيات وأصول مختلفة هو وسيلة لبناء جسور بين الشعوب. سنشارك على سبيل المثال في تنظيم أمسية تضامنية مع الشعب اللبناني الثائر، أو سنزوِّد إعتصام السترات الصفراء في مونتروي بوجبات لذيذة أو سندعو ناشطين/ات من تشيلي للتحدُّث عن انتفاضتهم. إن دعم الشعوب الثائرة حول العالم والمكافحة إلى جانبها والتواصل معها يُشكِّل ضرورة بالنسبة لنا. ففي الوقت الذي تستغل فيه القوميات الرجعية في كل مكان في أوروبا وفي العالم الكوارث الاجتماعية والاقتصادية والبيئية لتعزيز وجودها، أفضل استجابة للعنصرية والخوف من الآخر تكمن في المساعدة المتبادلة والتضامن العابر للحدود. بإمكان أي شخص مؤمن بمبادئنا ويرغب في المساهمة بتحقيقها أن يجد مكاناً في المائدة السورية».

نبتعد هنا عن منطلقات جمعية «سوريا حرية» على سبيل المثال وإن كان هناك قاسمٌ مشتركٌ واضحٌ وعضوي: سوريا وثورتها كقضية مُشتركة بين مختلف هذه الأجيال والخلفيات. من المؤكد أن الكثير من الأشياء تغيَّرت منذ تأسست جمعية «سوريا حرية» في أيار (مايو) 2011، وقد يكون أهمها هو شعور طاحن بالهزيمة وضرورة التفكير في ما يحدث في الشتات إضافة إلى ما يحدث داخل سوريا نفسها. عندما نقرأ صفحة «من نحن» على موقع سوريا حرية، ندرك أن لحظة تأسيسها تُعبِّر عن إيمان حقيقي بإمكانية التغيير من الداخل والضغط على المجتمع الدولي لتحقيق مطالب الشعب السوري. أما معظم الجمعيات والمبادرات الثقافية التي ظهرت لاحقاً – والتي بالتأكيد استفادت ممّا أسست له جمعية «سوريا حرية» على صعيد وضع قاعدة للحشد والإخبار عن سوريا داخل الفضاء الفرنسي والفرانكوفوني – فيبدو أنها تعمل على إعادة صياغة السردية السورية ليس فقط للتعبئة عبر الثقافة، وإنما أيضاً لتغيير النظرة إلى من باتوا يعيشون في الشتات اليوم، والإجابة عن تساؤلاتهم حول الهوية والذاكرة وموقعهم في مجتمعاتهم الجديدة. تريد «المائدة السورية في مونتروي» أن ينظر العالم إلى الحكاية السورية بتشعباتها كجزء لا يتجزأ من الحركات التي تدعو إلى التغيير حول العالم اليوم، وتلك التي تُناضل من أجل حقوق المقموعين والفئات المهمشة أيّاً وأينما كانت.«لا بدَّ من الدفاع عن أممية تدعم الانتفاضات الشعبية، وتستقبل جميع المنفيين. أممية تتمكَّن من أن تطرح من جديد، بطريقة مسموعة وجيدة الصياغة، صوتاً بديلاً لأشكال الديمقراطيات الرأسمالية الغربية والسلطوية الرأسمالية الروسية والصينية. من المؤكد أن مثل هذا المفهوم كان من شأنه أن يساعد الثورة في سوريا على الحفاظ على لون ديمقراطي قائم على المساواة، وحتى أن يساهم في النصر». المائدة السورية، حرب أوكرانيا: عشرة دروس من سوريا، موقع الجمهورية. كما تعمل «المائدة السورية» على التفكير في طبيعة العمل السياسي وكيفية تنظيمه خارج أماكن الهيمنة المركزية، بمعنى أنها لا تكتفي بالحشد والإخبار وإنما تعمل مع مختلف شركائها على استكشاف آليات عمل قادرة على التأثير والتغيير من القاع إلى الأعلى، وهنا يلعب الفعل الثقافي والفني دوراً أساسياً لفتح حوار وخلق آفاق نضال مشتركة مع الآخرين. يعتبر فريق «المائدة السورية» أنه لا يُمكن أن يُطلَب من العالم التضامن مع القضية السورية دون التضامن مع قضاياه أيضاً، وأن الربط بين مختلف هذه القضايا قادر على تحدي هيمنة السرديات النافية وخلق مساحات بديلة للتحرُّك والحشد والتغيير.حوار مع فريق المائدة السورية في مونتروي، 5 آذار (مارس) 2022.

شهدت السنوات الأخيرة ظهور عدد من المبادرات التي يشغلها أيضاً موقع الإنسان السوري في الشتات، والعلاقات التي يمكن ابتكارها بين أجيال مختلفة من المنفيين والمنفيات، منها مثلاً مبادرة «لارو La Rue» (الشارع) التي أطلقتها الناشطة السورية جاد كحَّالة (من مواليد فرنسا، 1994) في مطلع عام 2021، وتمَّ تعريفها على النحو التالي: «مساحة عامة تتقاطع فيها الأنظار والأفكار والآراء والآفاق. تم انشاؤها من قبل مجموعة سورية ـ فرنسية. هي منصة تهدف إلى تحفيز الحوار والخيال عبر نشر إبداعات فنية وحوارات ومقابلات وكتابات حرة. تطمح منصة لارو لأن تعكس كل تنوُّعات الروح المعاصرة في فرنسا». وكذلك «تجمُّع البيت – Collectif Al-Beyt» الذي أَطلق نشاطاته بشكل رسمي في 5 حزيران (يونيو) 2021، وهو «جمعية شبابية في باريس لتعزيز الروابط مع مهجَّري الداخل وتذكير الفرنسيين بالثورة السورية». تعمل مجمل هذه المبادرات السورية «الشابة» التي تشكَّلت في فرنسا بعد عام 2015 – وهي السنة التي اعتبرناها مُنعطفاً على صعيد تلقي السردية السورية في الفضاء العام الفرنسي وأوساطه الفنية والثقافية – على التذكير بمبادئ الثورة الأولى ومنطلقاتها السلمية التي نادت بالعدالة والديمقراطية والتعددية، وذلك عبر تنظيم تظاهرات ثقافية وفنية تتوجَّه إلى الجمهور الفرنسي وأعضاء الجالية السورية ومجتمعات اللاجئين على حد سواء. جمهور يأتي لكي يتضامن ولكن أيضاً ليحتفل، وهو جمهور أصغر سناً من ذلك الذي كان يُتابع فعاليات جمعية «سوريا حرية» عندما كانت في أوج نشاطها في السنوات الأولى التي تلت اندلاع الحراك الشعبي. لا تُنتج مجمل هذه المبادرات أعمالاً فنية، وإنما تُعطي مساحة للعرض واللقاء (حفلات موسيقية، عروض أفلام، معارض جماعية، قراءات أدبية، حلقات نقاش، وفي بعض الأحيان عروض أداء لا تتطلَّب تجهيزات تقنية معقدة)، وفي فرنسا حيث يصعب اختراق المؤسسات وفضاءات العرض الرسمية من قبل الإنتاج غير الأوروبي، يبدو وجود هذه المساحات بالغ الأهمية وإن كانت تعمل بإمكانيات أقل ما يُمكن أن يُقال عنها إنها محدودة. لم يعد خفياً أن كلمة «سوريا» باتت كفيلة بإثارة ريب الجهات المانحة والمُنتِجة في مختلف أنحاء العالم، خاصة في القطاع الفني والثقافي. وهنا قد تتبادر إلى الذهن الأسئلة التالية: كيف يُمكن لهذه المبادرات أن تستمر بالعمل في ظل مناخ عام يبدو أنه قد تأقلم مع المأساة السورية كأحد شروط هذا الكيان داخل وخارج حدوده الوطنية؟ كيف لها أن تُكمل مشروعها وأن تحافظ على وجودها وقد بات العالم أكثر إنكاراً وتجاهُلاً لحقيقة مشروع الثورة التي اندلعت منذ أكثر من عشر سنوات، ولما يعيشه السوريون والسوريات من كوارث تاريخية وسياسية وشخصية؟ 

البدء من جديد أو الثورة كأسلوب حياة: إعادة ابتكار الذات بعد الهزيمة

عندما بدأ عمل الناشطين الثقافيين يأخذ شكلاً أكثر تنظيماً عبر تأسيس جمعيات تحت القانون 1901 الذي يؤطِّر عمل الجمعيات غير الربحية في فرنسا، لم يكن الهدف هو بناء مؤسسات ثقافية سورية أو داعمة للقطاع الثقافي داخل وخارج سوريا، وإنما إعطاء إطار قانوني لأنشطة وفعاليات بعضها ذات طابع فني وثقافي تهدف بالدرجة الأولى إلى التعبئة عبر الثقافة. أي أن تأسيس هذه الجمعيات لم يكن هدفاً بحد ذاته، وإنما أداة عمل تسمح بإعطاء طابع رسمي لنشاطاتها القائمة بشكل أساس على مبدأ التطوُّع، كالحصول على تراخيص وفتح حساب بنكي والتقدُّم على مِنَح، وخلق شراكات مع مؤسسات المجتمع المدني الفرنسية والأوروبية الناشطة بشكل خاص في مجال السياسة وحقوق الإنسان والإغاثة. وإن لم تكن هيكلة القطاع الثقافي والفني السوري هدفاً في لحظة الغليان التاريخي تلك (السنوات الأولى التي تلت عام 2011)، إلاَّ أن ظهور هذه المبادرات وتنظيمها قانونياً – في فرنسا وفي أماكن أخرى من العالم – هو خطوة كبيرة بحد ذاته في تاريخ المشهد الثقافي السوري، حيث لم يكن تسجيل جمعيات من هذا النوع ممكناً داخل سوريا وذلك بسبب قانون الطوارئ الذي منع التجمُّع وضيَّق الخناق على كافة أشكال عمل المجتمع المدني.عرفت سوريا قوانين الطوارئ منذ أواسط عشرينيات القرن الماضي، ويبقى أبرزها المرسوم التشريعي رقم 51 الصادر في 22 كانون الأول (ديسمبر) 1962. انظر نص قانون الطوارئ السوري 1962 على موقع الجزيرة نت. إلاَّ أنه وعلى الرغم من غياب الطابع المؤسساتي لهذه المبادرات التي تنشط بشكل أساس عبر الفعاليات التي تُنظِّمها بشكل دوري مُعتمدة بشكل كبير على متطوعين سوريين وفرنسيين – هناك استثناءات طبعاً، كـ«المائدة السورية في مونتروي» التي باتت توظِّف بعض العاملين فيها شرط أن يتقاضى الجميع الراتب الشهري نفسه أياً كانت مهامهم – نلاحظ أن هناك مجموعة من الأفراد الذين يتنقَّلون بين بعض هذه المبادرات عبر مهام مختلفة، أي أن هناك شبكة من العلاقات الفعَّالة التي شكَّلها الناشطون والفاعلون الثقافيون السوريون تساعدهم على التحرُّك والتعاون في مدينة مثل باريس، وفي الفضاء الثقافي الفرنسي بشكل عام. سنجد مثلاً الناشطة جاد كحَّالة في فريق «Syrien n’est fait» إضافة إلى عملها في العديد من مبادرات المجتمع المدني المعنية بالشأن السوري ومجتمعات الشتات في فرنسا وأوروبا وأماكن أخرى من العالم،حول التشبيك بين مُختلف هذه المبادرات، انظر عمل «تحالف نحن هنا» – We Exist – الذي يجمع جمعيات المجتمع المدني السورية التي تعمل مع السوريين داخل سوريا وفي الشتات، من بينها مهرجان Syrien n’est fait و«المائدة السورية في مونتروي». وغيرها كُثر ممن يتحرَّكون أيضاً بين مختلف هذه المبادرات كأحد أبرز أشكال استمرار التزامهم بالثورة، وبآليات عمل الناشطية كما ظهرت في سوريا مع بدء الحراك السلمي. والحقيقة أن غياب الهرمية هي نقطة أشار إليها مُختلف من حاورتهم في سياق هذا البحث، غياب الهرمية بمعنى العمل الجماعي من أجل تنفيذ مشاريع ذات أهداف مشتركة تريد اليوم أن لا ينسى العالم ما حدث في سوريا، كما تسعى إلى تعزيز الفضاءات التي تجمع الجالية السورية المنفية في فرنسا مع من يتضامنون مع قضيتها من الفرنسيين وغير الفرنسيين. سمح هذا النوع من العمل الجماعي الذي يقوم على قدر كبير من الالتزام والديمقراطية بخلق منابر بديلة للفنانين الذين لم تستقبلهم المؤسسات الرسمية الفرنسية بعد تلاشي الاهتمام بالسوريين وبقضيتهم على نطاق واسع، وهكذا باتت الناشطية الثقافية المساحة الأساسية لعرض النتاج الفني السوري المستقل في باريس وغيرها من المدن الفرنسية. وقد يكون هذا الدور المزدوج – كمساحة تعبئة ولكن أيضاً كمساحة عرض – الذي تلعبه الناشطية الثقافية السورية في مدينة مثل باريس، من أهم ما جلبه العقد الأخير على صعيد العمل الثقافي السوري داخل المساحة الفرنسية.

ابتعدت هذه المبادرات الثقافية السورية «الشابة» شيئاً فشيئاً عن الخطاب السياسي المباشر لتُركِّز على خلق أنشطة ذات طابع احتفالي تنادي أيضاً بالثورة والحرية، وهي مساحات بدأت بخلق شراكات مع جاليات أخرى من المنطقة العربية عرفت ثورات أو تعاني من أشكال شتى من القمع، كالأمسيات التي ينظمها «تجمُّع البيت» على سبيل المثال تحت اسم «سوا». تهدف هذه الأمسيات إلى توفير مساحة تعبير للناشطين المنفيين من مختلف الجنسيات، مساحة لتبادل التجارب حول أشكال مختلفة من النضال وأسبابه وأدواته، وذلك عبر حلقات نقاش وعروض أفلام وحفلات موسيقية. كما فتح مهرجان «Syrien n’est fait» برمجته في الدورتين الأخيرتين لسرديات من شمال أفريقيا متعلقة بدورها بفكرة الهوية والذاكرة والتوثيق. والحقيقة أن هذا النوع من الفعاليات – الذي يُمكن حضورها مجاناً أو أن تدفع ما تستطيع – بات يستقطب جمهوراً متنوِّعاً لا يأتي بالضرورة لأنه معني بالشأن السوري على وجه الخصوص، وإنما لاهتمامه بفكرة «الثورة» بشكل عام ورغبة منه باكتشاف إنتاج فني وثقافي مختلف عن السائد، وأكثر قدرة على مخاطبة تعددية المجتمع الفرنسي الشاب والطامح بدوره إلى مزيد من العدالة الاجتماعية والتغيير. وهي فئات قلَّما تجد نفسها في برمجة منابر العرض الرسمية التي تستمر بإنتاج سرديات لم تعد قادرة بالضرورة على مواكبة تحولات فكرية واجتماعية كُبرى يتَّسم بها مطلع القرن الحادي والعشرين. نتحدث هنا عن خطاب عالمي رافض للرموز الأبوية وداعم للحركات النسوية والكويرية وغيرها من قضايا المجتمعات المهمَّشة حول العالم، خطاب ينادي بمزيد من الحريات الشخصية ويؤكّد مسؤولية كافة أوجه السلطة والقوى الرأسمالية عن أزمة سياسية واقتصادية وبيئية لم تعد حِكراً على مجتمعات البلدان النامية والفقيرة. ضمن هذا السياق، يبدو «تمثيل ما يتَّصل بالمصير الإنساني في القصة السورية، وما هو سوري في الإنسانية المعاصرة»،ياسين الحاج صالح، ما هي الثورة السورية؟، موقع الجمهورية. وذلك عبر صورة ثورة سورية شابة وحيوية – وعلمانية أيضاً في الكثير من الأحيان – كما تؤكِّد عليها المبادرات التي سبق ذكرها، قادرة بالفعل على الدخول في حوار مع خطاب عالمي يدعم فكرة «الثورة» والتحرر من الطغيان السياسي والاجتماعي أينما كان. الثورة كأسلوب حياة على الصعيد الشخصي، ولكن أيضاً الثورة على قيود الإنتاج التي تفرضها آليات عمل المؤسسات الرسمية في فرنسا وغيرها من البلدان المستضيفة. يقول ياسين الحاج صالح في أحد تعريفاته للثورة السورية إنها «قوة دفع لثورة شخصية، ليس كحدث أفضى إلى اللجوء فقط، ولا كجهد شخصي لتدارُك فشل سياسي أو التعويض عنه فقط، وإنما بانتسابٍ واعٍ في حالات كثيرة. فكأنما نحقق في مجالنا الشخصي الثورة التي تعذَّرت في المجال السياسي»؛ فعلى الرغم مما يبدو «فشل» الثورات في المنطقة العربية منذ عام 2011 حتى هذه اللحظة، تبقى هذه الثورات مستمرة وشديدة الحيوية في مساحات اللقاء بين مختلف الانتفاضات الشعبية – العربية وغير العربية – كما يُساهم في تفعيلها هذا الجيل الجديد من الناشطين والفاعلين الثقافيين السوريين إن كان في باريس، أو غيرها من المدن الأوروبية التي أتاحت المجال لخلق مساحات مشابهة للحشد والتعبئة عبر الفن والثقافة.

بنى الناشطون والفاعلون الثقافيون السوريون من القادمين الجُدد شبكتهم الخاصة بشكل مستقل عن العلاقات الثقافية والفنية الفرنسية-السورية التي تأسَّست وازدهرت في السنوات التي سبقت لحظة عام 2011، أو حتى تلك التي استمرت في السنوات الأولى بعد اندلاع الثورة معتمدة على رصيدها السابق من العلاقات الثقافية بين البلدين. شكَّل الرصيد الثوري لمن أتوا إلى فرنسا خلال العقد الأخير رابطاً عضوياً يجمعهم حول فكرة الحرية والتغيير، فمعظمهم شارك في الثورة على الأرض وربما تعرَّضَ للملاحقة والاعتقال وكان شاهداً على مجازر ودمار. كما أن مجيئهم إلى فرنسا كلاجئين وضعهُم في موقع شديد الاختلاف عن أجيال سابقة من السوريين – بما فيها أجيال سابقة من المعارضة السورية المنفية – الذين أتوا إلى فرنسا بإرادتهم وأسسوا حياة فيها، وهنا تبدو العلاقة مع اللغة الفرنسية والعالم الفرانكوفوني نقطة اختلاف مهمة أيضاً بين الجيلين. لا يأتي هذا الاختلاف من تراجع تعليم اللغات الأجنبية في سوريا منذ سبعينيات القرن الماضي فحسب، وإنما يكشف أيضاً عن مركزية الفعل الثقافي داخل سوريا نفسها التي عزلت شرائح كاملة من المجتمع عن الشبكات الثقافية والفنية التي تأسست وازدهرت في العاصمة دمشق أو غيرها من المدن الكبرى، كحلب مثلاً حيث كانت الوكالة الثقافية الفرنسية شديدة النشاط أيضاً. اليوم، وقد أصبحت فكرة إسقاط النظام والعودة إلى سوريا أكثر من مستحيلة، تعمل الناشطية الثقافية كما يعيدُ ابتكارَها السوريون والسوريات من الأجيال الجديدة على تحدي خطر نسيان ونفي الحكاية السورية داخل مساحات الشتات، كما أنها تُعطي مساحة للتعبير الفني والإبداعي عن منطلقات الثورة السلمية وعن كيان الإنسان السوري المعاصر في هذه المجتمعات الجديدة. إنها فضاءات عرض ولقاء، ولكنها أيضاً نواة لفرص عمل لجيل كامل من الناشطين والفاعلين الثقافيين والفنانين الذين لا يكِّلون عن تحدي الأطر الثابتة وتحريكها لخلق مساحات أكثر اتساعاً تشبهم وتشبه غيرهم ممن يطوقون للحرية والتغيير. وهنا، ما يلفت النظر أيضاً، هو جو الفرح الذي يسود هذه المبادرات على الرغم من ثقل ما يعيشه ويعاني منه القائمون عليها، ثقل المنفى والإحباط السياسي وغيرها من إشكاليات الحياة اليومية، أي أنها أيضاً مساحات تساهم في عدم تلاشي الأمل بالمطلق في ظل ضغوطات بناء حياة جديدة بعد الهزيمة. ليس من السهل على الإطلاق الاستمرار بالدفاع عن سردية الثورة السورية في سياق عالمي – وهنا تحديداً فرنسي – بات اليوم نافياً أو ناسياً لحقيقة الانتفاضة الشعبية والقمع العنيف الذي تعرَّضت له، خاصة عندما تتجنَّب المنابر الثقافية والفنية الرسمية تبني سردية من هذا النوع، في حين باتت قضايا الهجرة واللجوء والإسلاموفوبيا أداة ضغط ومفاوضة سياسية في صفوف اليمين واليسار على حد سواء. بالفعل، نحن اليوم بعيدون كل البعد عن اللحظة التي فتح فيها مسرح الأوديون في باريس – وهو من أكثر المسارح تمثيلاً للهيمنة الثقافة الفرنسية والأوروبية: L’Odéon – Théâtre de l’Europe – أبوابه تضامناً من الشعب السوري. كان ذلك في عامي 2011 و2012 عندما تمَّ تنظيم عدة أمسيات شعرية وأنشطة ثقافية لدعم ثورات الربيع العربي. في ذلك الحين، كان المسرح تحت إدارة المخرج والكاتب المسرحي أوليفييه پي (Olivier Py)، الذي كان قد زار سوريا في السابق ولديه علاقات مع أوساطها الثقافية والفنية. طرأت تحولات كبيرة على المشهد الثقافي والسياسي الفرنسي منذ ذلك الحين، وتلاشى الحماس الذي ولّّدته صور الشباب الثائر والمُتظاهر مع انتشار صور العنف والقتل والدمار، حتى أنه يمكننا الحديث عن شعور عام بالضيق (malaise) أمام تصاعد العنف في سوريا، لدرجة أبعدت المبرمجين والمنتجين الفرنسيين عن تناول هذا الشق من الحكاية السورية المعاصرة. وهذا تحديداً ما يجعل من مهرجان كـ«Syrien n’est fait» مساحة عرض مهمة جداً لسرديات لم تعد تجد مكانها في فضاءات العرض الرسمية والمركزية. يبني هذا المهرجان شراكات من نوع آخر مع فضاءات بديلة ليست بالضرورة مخصصة لهذا النوع من الفعاليات، ولكنها فضاءات ذات طابع يساري معنية بالشأن العام وملتزمة بإعطاء مساحة لسرديات مضادة ومتنوعة.بالفعل، ما كان تأسيس مهرجان Syrien n’est fait ممكناً لولا الشراكة مع فضاء Les Grands Voisins الذي لم يعد موجوداً اليوم. عُقدت الدورات الأولى من المهرجان في هذا الفضاء الذي كان شريكاً منذ البداية. بعد إغلاقه عام 2020، انتقل المهرجان إلى فضاءات متعددة منها أيضاً Les Petits Bains وهو فضاء ربحي ولكنه مع ذلك يستضيف ويدعم المهرجان تضامناً مع القضية التي يدافع عنها. كما عُقدت دورة عام 2020 على الإنترنت بسبب جائحة كوفيد-19.

من المؤكد أن هذه السطور لا تغطي كافة المبادرات التي استخدمت الفن والثقافة للحشد والإخبار عن سوريا في باريس وغيرها من المدن الفرنسية، إنها بعض العيِّنات التي تسمح بإلقاء نظرة عامة على تطوُّر الناشطية الثقافية داخل المناخ الفرنسي خلال ما يزيد عن عقد من الزمن. لم نتوقَّف مثلاً عند «القافلة الثقافية السورية – La Caravane Culturelle Syrienne» التي أطلقها المصوِّر السوري محمد الرومي (مواليد حلب، 1945) في باريس عام 2014 تحت شعار «الحرية للشعب السوري». جابت هذه القافلة مختلف المدن الفرنسية والأوروبية، وقد شارك فيها رسامون ومصورون، موسيقيون، كتَّاب وشعراء، سينمائيون ومسرحيون… من أجل «التعريف ودعم الثقافة والفن السوري المعاصرين، لخلق أرضية للتبادل الثقافي مع المنظمات والمؤسسات الناشطة في هذا المجال في أوروبا وبقية أرجاء العالم». كما لم نتحدَّث عن بعض المبادرات التي تعمل على خلق مساحات لعرض الفن المعاصر السوري في فرنسا وفتح نقاش حوله، منها مثلاً «غاليري يوروبيا – Europia New-Culture» باعتبارها صالة العرض الوحيدة في باريس المُخصَّصة لعرض هذا النتاج، أو جمعية «أبواب مفتوحة على الفن – Portes ouvertes sur l’art» التي تدعم عمل الفنانين السوريين وغير السوريين المنفيين في فرنسا. شاركَ في تأسيس «أبواب مفتوحة على الفن» أفراد سوريون وفرنسيون بمبادرة من الفنانة السورية علا عبد الله (مواليد حلب، 1978) التي كانت تُتيح للفنانين السوريين من القادمين الجُدد إمكانية عرض أعمالهم في مرسَمها في باريس. كما انضمت إلى المشروع لاحقاً كل من الفنانة التشكيلية رندا مداح (مواليد مجدل شمس، 1983)، والمديرة الثقافية والباحثة السورية دنيا الدهان (مواليد دمشق، 1979) التي تشغلُ اليوم منصب نائب رئيس الجمعية. تُنظم جمعية «أبواب مفتوحة على الفن» المعارض وورشات العمل وحلقات النقاش، كالمؤتمر الذي عُقد في كلية الفنون الجميلة في باريس في 1 آذار (مارس) 2019 تحت عنوان: الفن المعاصر السوري، تاريخ ثورة بصرية. كما ينبغي التنويه هنا إلى توقُّف العديد من المبادرات الثقافية التي ظهرت خلال العقد الأخير عن العمل، وذلك لأن قيامها كان يفترض أن عملها لن يدوم طويلاً كون «التغيير آتٍ قريباً لا محالة»، وأخرى حوَّلت عملها لدعم اللاجئين ومساعدتهم إدارياً وقانونياً، ولتقديم الدعم النفسي عند الحاجة. ولكن كل هذه المبادرات التي استخدمت الفن والثقافة للحشد والإخبار عن سوريا، وأياً كانت أدواتها أو درجات «نجاحها» في تحقيق مشروعها، استطاعات في كل مرة إعادة التذكير بحقيقة المأساة السورية وإمكانيات من يعيشون اليوم في الشتات داخل مساحات غير مُرحِّبة في الكثير من الأحيان لهوياتهم الثقافية والسياسية.في ظل هذه الخارطة المُعقَّدة، تُخبرنا النماذج التي تَوقَّفنا عندها عن أبرز خصائص الناشطية الثقافية السورية كما ظهرت وتطورت في باريس خلال العقد الأخير. رأينا كيف تشكَّلت بعض المساحات البديلة التي يلتقي فيها السوريون والسوريات بأشكال أخرى من الاحتجاج السياسي والاجتماعي والثقافي، وهي فضاءات كانت بحاجة لوقت لكي تتشكَّل على أيدي جيل جديد من الفاعلين والناشطين الثقافيين السوريين الذين ابتكروا شكلاً جديداً للعمل المشترك وللعلاقة مع المؤسسة الرسمية، وهو شكل عمل مستقل إلى حد كبير عن عقود من العلاقات الثقافية بين البلدين وإن تقاطعت بعض المسارات بين هذين الفصليِّن من التاريخ. وهنا تأتي تجربة مجتمعات شتات أخرى ارتبط وجودها في فرنسا وغيرها من البلدان الأوروبية بتاريخ الاستعمار والحروب في المنطقة وعبر العالم، لكي تُغني وربما تدعم في لحظة ما مستقبل العمل الثقافي السوري في باريس وفي منافيه المختلفة. بالفعل، استُلهِمَت هذه المادة من حقل دراسات الشتات التي تُقارن بين أسباب وتحولات هجرة الشعوب عبر التاريخ، والسرديات الناتجة عن هذه التحولات على صعيدي الواقع والمُتخيَّل. مازال الوقت مبكراً لمعرفة ما ستؤول إليه مصائر مختلف هذه المبادرات التي توقفنا عندها، ولكننا من المؤكد أمام لحظات تَحوِّلٍ لا تقتصر على السوريين وحدهم. تقاوم مُجمل هذه المبادرات الافتتان بجماليات الكارثة كأحد أشكال الاستشراق الجديد، وتخلق تحالفات بديلة تسمح لها بتجاوز قيود المؤسسات الرسمية، كما تُؤمِّنُ منابرَ لعرض نتاج فني وفكري شاب وملتزم، وتُوسِّعُ مساحات لقاء المنفيين والمنفيات وتدعم توقهم إلى المزيد من الحرية والعدالة والتغيير. يكمنُ التحدي اليوم في كيفية الاستمرار دون الإجبار على التخلي عن السردية السورية بالمطلق، وربما أيضاً عبر البدء بوضع هيكليات ثابتة ذات استراتيجيات طويلة الأمد قد تكون قادرة على حماية ما أسست له مختلف هذه المبادرات من خطر الزوال بشكل كامل أمام منظومات نافية ومعادية لهويتها وقضيتها وذاكرتها. وقد تكمن الخطوة القادمة المهمة والضرورية على صعيد أرشفة عملِ مُختلَفِ هذه الكيانات الثقافية السورية التي ظهرت في باريس وغيرها من المدن الأوروبية خلال العقد الأخير، وذلك لرصد كل ما قامت به على صعيد الحشد والتعبئة والمساهمة في صياغة سردية سورية مضادة لم تنته بعد. ذكرنا كيف اندثر عدد كبير من المبادرات أو تَغيَّرَ عملُها، وسيخبرنا رصدها وتحليلها بالكثير مما لا شكّ فيه عن سوريا العابرة للحدود، وعن العالم الذي نعيش فيه اليوم وعن مستقبلنا المشترك هنا وهناك.تجدر الإشارة هنا إلى كون موقع «ذاكرة إبداعية» قد حاول أرشفة المبادرات والفعاليات الثقافية والفنية المرتبطة بالشأن السوري لأهميتها ولمعنى ما تقوله عمّا يجري في سوريا وفي الخارج، وذلك ما بين عامي 2013 و2017. ولكنه لم يَعُد بالإمكان متابعة زخم هذه الأنشطة حول العالم بسبب ما تتطلَّبه مُتابعتها من موارد وإمكانيات بشرية، كما قالت لي مؤسسة الموقع سنا يازجي في محادثة على واتس آب أجريت في 4 حزيران (يونيو) 2023. أُغلقت هذه الصفحة ولكنه مازال بالإمكان الاطلاع على «دليل أصحاب الأعمال» على الموقع.