Notice: Only variables should be passed by reference in /home/u213006060/domains/aljumhuriya.koeinbeta.com/public_html/wp-content/themes/reendex-child/functions.php on line 1747
شهرياً، نُقّدم مقترحات مُحرِّرَة القسم الثقافي بما يشمل الإصدارات المكتوبة، سواء كانت صادرة حديثاً أو ثمّة ما يجمعها كتصنيف، وكذلك إصدارات الوسائط الأخرى بما يتجاوز النصّ المكتوب. نتطلع قُدُماً لاستقبال ضيوف آخرين من المهتمين والمهتمات أيضاً، مع مقترحاتهم-ن على الزواية في المستقبل!
على الرغم من كونه ليس من الأجناس الشائعة عربياً على نطاق واسع، ولكن أدب السيرة الذاتية يبقى فسحة هامة لتلمُّس مَواطن من التاريخ والتفاعلات الإنسانية التي لا تضيء عليها أشكال السرد الإخباري التقريري والأدبي – الخيالي، للاطّلاع على وقائع سياسية وتاريخية وكذلك لرؤية مُنجَز كُتّاب وكاتبات هذه المذكرات ضمن سياقها التاريخي والاجتماعي.
اخترنا لهذه الزاوية خمسة مختارات من أدب السيرة الفلسطينية، يتناول كلٌّ منها فصلاً من فصول المروية الفلسطينية، في الأرض وفي الشتات، في دمشق وبغداد والقاهرة وعمان، من الثورة العربية والانتفاضة على الانتداب البريطاني إلى النكبة والشتات وما بعد أوسلو، وأشكال العمل السياسي والفدائي المختلفة.
******
1- طعم الفراق لـ ربعي المدهون
تُقدِّم هذه المذكرات التي صدرت عام 2001 صورة حيوية مباشرة عن عقودٍ من السيرة الفلسطينية، تعود حتى لحظات ماضية من تاريخ عائلته الأقدم في المجدل وخان يونس، ومن ثم رحيل أهله عن المجدل مع النكبة وسنوات دراسته في القاهرة، لتتخذ بعد ذلك بعداً ضاجَّاً بالوقائع المشتعلة والتي شَهِدَ عليها بعد أن وجد نفسه ضمن صفوف المقاتلين في الأردن بعد إبعاده من مصر، ومعاصرته لحرب أيلول عام 1970 واستئناف نشاطه السياسي بين العراق وسوريا.
تبدأ السيرة من قطار جنوب غرب لندن في يوم اعتيادي أثناء عمله في وكالة أسوشيتد برس، في نهاية التسعينيات عندما بدأ بكتابة هذه السيرة، ومن ثم يعود إلى تاريخ عائلي سبق لحظة ولادته في المجدل ليسرد حكاية أجيال من عائلته تمتد حتى اللحظة الراهنة. نقف هنا أيضاً على سيرة تقليدية للشتات؛ عدم تمكّن الكاتب من لقاء أمه لعقود سوى لحظة خاطفة في مخيم اليرموك، أمه التي غادرت المجدل وهي ابنة 19 عاماً مع أطفالها، ومنهم رضيع بعمر الشهرين هو شقيقه الكاتب الفلسطيني راسم المدهون.
يستذكر في بدايات السيرة ملامح من حياته كطالب في مصر، وبداية نشاطه السياسي منخرطاً في اجتماعات مع أعضاء من الجبهة الديمقراطية، مندفعاً بالحماس وبالهرب من قصة حب فاشلة، متجاوزاً مخاوف الاعتقال والتعذيب والترحيل وانقطاع دراسته، والذي رآه قدراً فلسطينياً.
«من مصلحتي تحطيم المكان وتغيير الزمان. سوف ينقلني الرحيل بعيداً، إلى عمان، إلى مكانٍ آخر وزمان آخر. هناك أترجم انتمائي وأفكاري إلى لغة عملية. أعيش زماناً يُنسيني أيام الزمان. لست أفضل من مئات، وحتى آلاف تركوا جامعاتهم ومهنهم طواعية؛ مهندسون وأطباء ومدرِّسون انتقلوا إلى عمان وجرش وإربد، أصبحوا مقاتلين في صفوف المقاومة التي بدأت تصعد في سمائنا الفلسطينية». يركز هذا الجزء من السيرة على أحداث العام 1970، مع موافقة جمال عبد الناصر على مشروع وزير الخارجية الأميركي وليم روجرز لوضع حد للصراع وتسوية نتائج حرب الـ67، وما رافقه من حملاتٍ شنتها السلطات المصرية لاعتقال وقمع معارضي المشروع، بما تضمَّنَ إغلاق إذاعتين فلسطينيتين (صوت فلسطين وصوت العاصفة)، وملاحقة طلاب فلسطينيين مقيمين في مصر، أسفرت عن إبعاد قسم منهم إلى دمشق، ومنهم ربعي المدهون نفسه، ليسافر الطلبة المُبعدون في اليوم نفسه إلى عمّان وتبدأ هناك سيرة جديدة مختلفة من نشاطهم السياسي منضمين إلى صفوف الفدائيين.
تلقى الطلبة المُبعَدون دورة تدريبية في معسكر سوف، وخاضوا مناورات في جرش في ظل الأوضاع التي كانت تزداد توتراً مع السلطات الأردنية. في أول لقاء للطلبة مع ياسر عبد ربه لمناقشة وضع استكمال دراستهم الجامعية، يتبخّر حلم الكاتب بالسفر مجدداً إلى سوريا والالتحاق بجامعة هناك، إذ يردُّ القيادي ذو الكاريزما الصلبة، ذات السطوة كما تصفها المذكرات، على طلبات الطلبة: «مين قال بدنا طلاب؟ إحنا بحاجة لمقاتلين».
«كلنا تخيَّل، حتى لحظات قليلة أننا سنكون طليعة مثقفة. تخيلاتنا مزقتها عبارات ياسر القاسية. صادرت منها دورنا المرسوم في الكتب التي صاغ كلماتها لينين. أسكتَ صوته فينا».
بعد ذلك سيجد الطالب الجامعي نفسه مع زميلٍ له ببندقيَّتي سمينيوف في حربٍ يتلمّس فيها طريقه محارباً مستجداً.
17 أيلول / 1970
الساعة 5:45
أفقت على أصوات المدافع والانفجارات. فتحت عيني على عمان تقصف عمان.
تسرد السيرة بعد ذلك يوميات الحرب، «عمان تحترق بجبالها السبعة. في الشمال أراضٍ محررة. في المخيم قصف لا يرحم». الاشتباكات مع الجيش التي تبددت في نهايتها أحلام رؤية الأردن «جمهورية»، ومن ثم محاولات الهروب من المخيم بعد اختفاء بقية المقاتلين، قتلى أو هاربين، تحت وقع القذائف، في صور أبوكاليبتية من التَوَهان في بقايا المخيم المدمّر الذي شهد الحرب الطاحنة، والذي بدأ بعض أهله يُطلون من النوافذ والأبواب كحياة تخرج من الموت، والمخيم لا يموت كما تورد هذه المذكرات.
سيخرج بعد ذلك إلى دمشق بتدبير من لجنة الوزير التونسي الباهي الأدغم، حيث «كان الفدائية يملؤون الشام بعد خروجهم من عمّان بعد أيلول».
لا تقلّ يوميات دمشق قسوة عن يوميات عمّان الدامية، إذ وبعد لقاء خاطف بأفراد العائلة تضمَّن زواجاً غيابياً من ابنة عمته في غزة، والذي انتهى بطلاق غيابي بعد سنوات، سيتعرَّضُ للاعتقال والتعذيب في دمشق شاهداً على مقتل زميلٍ شاب له. يقرّر بعدها الانتقال إلى بيروت، مارّاً بالسيرة أيضاً على تدوين يوميات عمله السياسي في فترة قضاها في بغداد حيث كان مشروعه الأدبي قد بدأ بالتبلور.
2- دفاتر فلسطينية – معين بسيسو
«أيها الكذابون، لا يوجد معتقل فلسطيني واحد في مصر.
كان الصوت صوت أحمد سعيد، وكان يرتفع من إذاعة صوت العرب، وكنا نسمعه جميعاً في الزنزانة فلقد تمكنا من تهريب راديو تزانزستور».
تُضيء مذكرات الشاعر الفلسطيني معين بسيسو على الحياة السياسية في قطاع غزة إبّان إدارته من قبل السلطات المصرية، السلطات التي اعتقلت الشاعر مرتين، ترِدُ تفاصيلهما في هذا الكتاب الذي يُركّز بشكل خاص على تجربته في السجون المصرية.
يفتتح الكتاب بمقتطفات من فترة سجنه الأولى، التي امتدت لعامين وشهرين إثر انخراطه ضمن عُصبة التحرر الوطني في الاحتجاجات في غزة ضد مشروع التوطين في سيناء. ويعود بعد ومضات من حياة السجن إلى وقت أبعد، مذكرات حي الشجاعية في غزة، ونادي غزة الرياضي حيث تعرَّفَ على عُصبة التحرر الوطني وأصبح جزءاً منها.
تلي ذلك سيرة شاعر مقاومة نموذجية، قصائد ممنوعة توزَّع سراً من قبل عُصبة التحرر الوطني، ومن ثم تَبلوُر تجربته الأدبية في مصر حيث لعبت مجلة الرسالة وتفاعله مع عبد الرحمن الخميسي دوراً هاماً في هذه المرحلة. يسافر بعد ذلك إلى العراق منخرطاً في أنشطة سياسية ويعود إلى غزة في العام 1953. تتم حينها محاكمة أفراد عصبة التحرر الوطني، ويدور في هذه الأثناء مشروع التوطين في سيناء، الذي ينشط بسيسو ورفاقه في مواجهته جامعين الأصوات ضد المشروع في نقطة تجمّع متمثلة بالمعلمين في وكالة الغوث. تتمكن عُصبة التحرر من الحصول على تقرير مشروع سيناء سراً وتعمل على ترجمته وتوزيعه منخرطة في المظاهرات المستمرة في غزة ضد المشروع، والتي اعتُقل بسيسو على أثرها ليتم نقله إلى العريش ومن ثم إلى سجن مصر العمومي، حيث سيلتقي بمعتقلين من خلفيات مختلفة، من ضمنهم سيد قطب على سبيل المثال. بعد خروجه من السجن وعودته إلى القطاع واستئناف عمله في التعليم سيجد نفسه في قلب الخلاف الشيوعي – الناصري، حيث سادت أجواء التحريض على الشيوعيين، وتم تحريض الطلبة للتظاهر ضد أساتذتهم بحجة مناهضة ثورة عبد الكريم قاسم في العراق. سيُعتقل بسيسو مرة أخرى عام 59 على خلفية هذه الأجواء، ويتم نقله إلى معتقل الواحات في مصر؛ التجربة التي استغلها لتوطيد العلاقة مع الشيوعيين المصريين من المعتقلين.
«بعيدون تماماً عن غزة… معتقلون في الواحات الخارجة – فنحن الأممية الوحيدة».
تُتابع السيرة سرد مذكرات المعتقل وسط أجواء هستيريا الدفع باتجاه «التبرؤ من الشيوعية»، إلى حدٍّ وصل إلى ضغط السلطات على عائلات المعتقلين وزوجاتهن وخطيباتهن ليطلبوا منهم توقيع ورقة التبرؤ مقابل إطلاق سراح المعتقلين وعودتهم إلى حياتهم اليومية، وتمر المذكرات على الإضراب الذي نفذه المعتقلون لتنبيه الرأي العام إلى وضعهم كسجناء دون مدة محكومية معلومة.
«عام يُسلّمنا لآخر، وحذاء المعتقل قطعة من قميصه يلف بها قدميه ويواصل المشي فوق الرمال المشتعلة. كان علينا أن نفعل شيئاً، لكي نلفت انتباه الذي يمشون بأحذيتهم فوق الكرة الأرضية. وهكذا كان لا بد من الإضراب، وقررناه إضراباً مفتوحاً مهما كانت النتائج».
3- رحلة جبلية، رحلة صعبة – فدوى طوقان
لعلّ أهمية مذكرات فدوى طوقان، بالإضافة إلى كونها سيرة عن الحياة السياسية والاجتماعية في فلسطين ونابلس بالتحديد، هي كونها صورة تُغاير الكثير من التوقعات عن الشاعرة التي التزم اسمها بمسار المقاومة والنضال.
ترسم المذكرات التي نُشِرَت عام 1985 صورة امرأة تدوِّن بشفافية لحظات صراعها مع سلطات تُواجهها، معترفة بانكسارها حيناً، وبانتزاعها جزءاً من حرية وسيطرة على حياتها تارة أخرى. تُورد علاقتها بأخيها إبراهيم، بظله الذي لم يثقل عليها كما يحدث عادة في العائلات التي تضم منشغلين بالشأن الإبداعي نفسه.
تبدأ المذكراتُ شاحبةً، تحمل سخرية مريرة منذ لحظة خروجها إلى العالم مُحبِطةً محاولات والدتها لإنهاء الحمل، إلى طفولة رافقتها حمى الملاريا مع أم تضنُّ عليها بالرفق والاهتمام، أم هي ضحية بدروها لقيود خنقتها وانعكست كقسوة تربوية على أبنائها. في سنوات اليفاعة المبكرة سنرى كيف حاولت فدوى طوقان إيجاد متنفّس لها من ثقل التزمُّت العائلي المحيط بها في الشعر والموسيقى ومحاولة تعلم العزف على العود.
لم تكن هذه المحاولات ذات نتائج مبهرة، إذ استسلمت الشابة للإحباط جراء حصار العائلة لهذه المحاولات حتى وصلت حد التفكير بإنهاء حياتها، كآخر مساحة تتمتع فيها بالحرية على نفسها كما تروي المذكرات.
يحضر إبراهيم، شقيقها، في هذه المرحلة، مُسانداً ودافعاً لها لمباشرة مشروعها الشعري، الذي دخلته مستلبة بصورة شقيقها الشاعر، متتبِّعة خطّه وتوجيهاته في البداية نحو كتابة الأشكال الأكثر كلاسيكية من الشعر في الشكل والمضامين، على خطى قصائد العصر العباسي.
«التصقت بالتراث الشعري سنين عديدة ظلّ خلالها هو النموذج الذي أحتذيه في محاولاتي الشعرية، على امتداد الفترة ما بين 1933 و1940، وظل اهتمامي ينصب على ما يسمى بالديباجة والتعابير الفخمة. لكم شعرت بالزهو والاعتزاز حين رأيت الدكتور عمر فروخ صاحب مجلة الأمالي البيروتية يقدم لإحدى قصائدي المنشورة في مجلته بقوله: هذه أبيات لشاعرة ناشئة، وفي الوقت الذي نرى كثيرين من الرجال ينظمون شعراً مؤنثاً رقيقاً، نرى فتاة في الخطوات الأولى من حياتها تعيد إلى خيالنا ذكرى أبي تمام والمتنبي وتطلع علينا بديباجة شوقي».
نلمس في هذه السطور سيرورة تقليدية لطالما حضرت في كتابات النساء، مقياس الجودة والاستحسان هو ما يفترض أن «يكتبه الرجال»، الذين يُعاب عليهم أيضاً كما في المثال الوارد أعلاه كتابة «شعر مؤنث رقيق» عوضاً عن أساليب الجزالة اللغوية والالتزام بالأفكار والقضايا الكبرى في مواضيعهم.
عندما بدأت فدوى طوقان بكتابة شعر الغزل، اختبأت خلف اسم مستعار من الشاعرة البرمكية دنانير التي «يفصلها أحد عشر قرناً عن شاعرة تخفي ارتباكها» ومن ثم كان أدب المهجر نافذة لها على عوالم شعرية جديدة تتحرر فيها من عبء الأوزان والديباجة التي قيدتها، لتسير نحو عوالم تحمل مساحة تأمّل ذاتية أكبر. تمر المذكرات على أجواء نابلس السياسية في مطلع الخمسينيات مع تشكل الحزب الوطني والحزب الديمقراطي وأجواء المنافسة بينهما، وفي حدث رمزي ستتجه فدوى طوقان إلى كتابة الشعر السياسي بعد وفاة والدها؛ إذ كان السلطة المتمثلة بشخصية الأب بما تشكله من ضغط على حياتها، جعلتها تنبذ الكتابة عن شؤون الحرية كقضية سياسية وهي تفتقدها في حياتها الخاصة، فلم تتجه إلي الكتابة عن القضية سوى بزوال رمز حصار هذه الحرية.
4- شارع الأميرات – جبرا ابراهيم جبرا
شارع الأميرات هو الجزء الثاني من سيرة الكاتب الفلسطيني الذي عُرِف كروائي بالدرجة الأولى، مع كتابته للشعر والدراسات النقدية. تُركِّز هذه السيرة على مطلع عقد الخمسينيات، إبّان إقامته في بغداد بعد النكبة، قريباً من شارع الأميرات في غرب بغداد والذي أخذ عنوان السيرة منه. يحتل عاما 1951 و1952 مكان الصدارة في السيرة بأحداثٍ مكثّفة، وهي الفترة التي اختارها لكونها تمثل بداية أجواء انسحبت على عقد الخمسينيات بأكمله، بما فيه من أحداث تواشجت مع حياته الشخصية، وببداية تعرُّفه على زوجته لميعة العسكري والتي تحضر في مجمل الكتاب.
بدأت فكرة الكتاب كعدد من المقالات لصالح مجلة أسبوعية، ومن ثم انتهت ككتاب أنجزه قبل رحيله بأشهر عام 1994، وقدَّم له الروائي عبد الرحمن منيف؛ الذي تشارك مع جبرا كتابة رواية عالم بلا خرائط. وقد ذكر جبرا أن جولات المشي في شارع الأميرات كانت ملهمة له إلى حد بعيد، وخصوصاً لدى إنجاز روايتي البحث عن وليد مسعود ويوميات سراب عفّان.
تعود المذكرات إلى أيام سفره الأول وهو صبي في التاسعة عشر، يتابع أخبار الحرب العالمية الثانية ويتجهز للسفر إلى إنجلترا بمنحة دراسية بعد تخرجه من الكلية العربية في القدس، على متن سفينة يابانية كون اليابان كانت لا تزال على الحياد في الحرب وتستطيع سفنها دخول أي ميناء. لسفرات السفن مكانة بارزة في مذكراته، وقد كانت الرحلات البحرية مصدر إلهام متجدد له يبدو أثره الأجلى في رواية السفينة، إحدى أشهر رواياته. اصطبغت تجربة سفره الأولى بذكرى القبض عليه من قبل الشرطة المصرية لاقترابه مع زملاء له من نصب فردناند ديلسيبس وتأمل التمثال بفضول. في الجزء الأول من المذكرات يمر سريعاً على أيام دراسته في بريطانيا متحضراً لدخول جامعة كامبردج ليتخصص في الأدب الإنجليزي، حيث سيعيش جبرا الطالب حياةً مليئة بالإلهام والأحداث والحوارات شكسبيرية الطابع، وهذه الحوارات ستكون ذات صدى في الروايات التي كتبها في وقت لاحق، والتي يلعب الحوار جزءاً هاماً منها.
بعد عودته إلى فلسطين انتُدب للتدريس في العراق، فغادر منزل أهله في بيت لحم ليذهب إلى بغداد كمدرس للأدب الإنجليزي، وليشارك في تأسيس قسم الأدب الإنجليزي في كلية الآداب. تروي السيرة تفاعلاته مع تيارات أدبية وفكرية، ومع شخصيات عاصرها مثل علي الوردي ومظفر النواب وحتى أجاثا كريستي التي كانت تتواجد برفقة زوجها عالم الآثار ماكس مالوان في العراق أثناء عمله في الموقع الأثري لمدينة نمرود.
«كانت أوائل الخمسينات ببغداد عند الأدباء الشباب عصر الوجودية الذهبي، كيفما كان فهمهم لها مما وصلهم من مترجمات، متثملة في كتابات جان بول سارتر وألبير كامو. قلائل منهم استطاعوا أن يميزوا بين الواحد والآخر».
كانت الأحداث السياسية المحيطة بهذه الفترة التي تغطيها المذكرات عاصفة، من قُرب لحظة النكبة وتفاعلاتها، وبداية مرحلة الشتات الفلسطيني، ولكن المذكرات نفسها تبدو منشغلة بالإلهام والأدب ووقائع الحياة اليومية والتوق لتلمُّس جماليات هذه المسارات التي تطفو على سطح التقلبات السياسية الهادرة.
5- رأيت رام الله – مريد البرغوثي
دوَّن الشاعر الراحل مريد البرغوثي في هذه السيرة، التي نشرت للمرة الأولى عام 1997، وقائع عودته إلى رام الله بعد ثلاثين عاماً من الغياب. بتلمُّسه لملامح مدينة تغيرت حتى بات غريباً عليها، تبدو هذه السيرة سيرة منفى أكثر من كونها سيرة للعودة بحسب تقديم إدوارد سعيد للكتاب.
كانت رام الله في هذه الفترة تحتل مكانة مركزية في المشهد الثقافي الفلسطيني. يبدأ سرد المذكرات بوقوف الشاعر على الجسر، جسر الأردن الذي كان قد قطعه منذ ثلاثين عاماً من رام الله إلى عمان عام 1966. ليذهب إلى القاهرة للدراسة، وبعدها تقطعت سبل العودة في العام التالي، عندما «قامت الحرب وسقطت رام الله».
يفرد البرغوثي مساحة في هذه اللحظة للتأمل في جسر الأردن، في رمزيته وموقعه بين مكانين وسلطتين.
قبل لحظة العبور هذه، كانت أقرب نقطة منه إلى الأرض المحتلة عندما لمس من خلف الشريط الحدودي في سوريا في زيارة له هناك عام 1979 طرف شجرة مزهرة نبتت في الجولان وامتدت أغصانها خارج الأسلاك.
تحمل هذه السيرة كل عناصر التغريبة والشتات الفلسطيني، وما يشبه سير الشتات عربياً، حتى ما أتى منها في وقتٍ لاحق؛ الانتزاع من الجذور وهوية المرء كغريب في دول الشتات المجاورة منها والأبعد، العالق في حالة المؤقت، وترتيبات أصعب مما ينبغى لتدبر أمر لقاء أفراد العائلة في أماكن مثل جبل اللويبدة في عمَّان، يتعرف المرء على أهله فيها من جديد في هذه الأماكن البديلة، الشغل المؤقت والإقامة المؤقتة في بلد، ومتابعة تطورات العمل الفدائي منذ 1948 بين الأردن وبيروت وتونس والشام والخيام.
«الغريب هو الشخص الذي يملأ تصريح إقامة ويقدم أوراقاً. وهو من لا تعنيه شؤون القوم أو سياساتهم الداخلية ولكنه أول من تقع عليه عواقبها.لا يفرحه ما يفرحهم ولكنه يخاف ما يخافون».
سنعثر هنا على سيرةٍ لشخصٍ من العائلة مشى تائهاً في الصحراء لأربعة عشر يومياً في حرب الـ67، مستدعياً إلى الذهن تقاطعات مع سير الكتاب المقدّس، وعلى تدوين لمشاعر الانكسار الساحقة بعد الهزيمة التي تشخصت بالنسبة إلى البرغوثي في خاله عطا؛ الذي شارك في الحرب وفُجِع به من أول ساعة عندما أرسلته كتيبة كويتية – حيث كان مقيماً – للدخول مع مصر.
يتفاعل مريد البرغوثي في الكتاب، واقفاً قبالة الجسر، مع أسئلة عن دور الأدب والثقافة في المحن، في أزمنة البطش والقمع. يتناول كمثال أغنية فيروز عن الجسر « الصامتون يعينون المتكلمين نواباً عنهم في برلمان خيالي. محرم عليهم. لذلك يحب الناس أغنية فيروز عن الجسر وهي مباشرة أكثر مما ينبغي».
يستدعي في رحلة العودة هذه طيف الراحلين ممن «لا يطرقون الباب»، غسان كنفاني وناجي العلي، وهو يدخل بمشقة أبواب مكتبٍ تلو الآخر لإتمام الشؤون الإجرائية لهذه الرحلة.
يتخيل لحظة حرية مستقبلية مقابِلة لهذا العبور المنقوص، كغريب، أن يتم العبور من فلسطين كرمز، كسنسلة تعلَّق في الأعناق، إلى كونها شؤوناً يومية مضجرة والتذمر من حرها وبردها والبقاء فيها طويلاً.
يستكمل رحلته من عمّان إلى أريحا، حيث يصطدم بمرأى المستوطنات للمرة الأولى، قبل أن يصل رام الله ويترك نفسه سائراً في طرقاتها «كما أراد لها أهلها حيناً وكما أراد لها أعداؤها حيناً آخر».
تكمل السيرة سرد وقائع يومياته في هذه الرحلة، في رام الله ودير غسانة، منغمساً في طقوس الواجبات الاجتماعية والفعاليات الثقافية، في لغةٍ متبسِّطة تسربت إليها مفردات ومنظورات شعرية، مهما حاول أن يكفها عامداً.
«لم أنبذ الرومانسية لأن نبذها موضة فنية، بل الحياة ذاتها هي التي لا شغل لها إلا إسقاط رومانسية البشر. إنها تدفعنا دفعاً نحو تراب الواقع الشديد الواقعية».