بعد أن كانت منطقة الجنوب السوري مُستهدفةً من قبل المنظمات الدولية والمنظمات المحلية الشريكة لها بين عامي 2013 و2018، ومع عودة سيطرة النظام على المناطق المحررة جنوباً، عانت المنطقة من غياب هذه المنظمات وكذلك من غياب المؤسسات والخدمات الحكومية.

كيف يمكن قراءة دور المنظمات غير الحكومية الدولية في الجنوب، والتي تنوعت مشاريعها بين الإغاثة والخدمات والتعليم والحماية والمشاريع الطبية والنفسية وغيرها، وصار الموظفون والموظفات فيها دون عمل بعد توقفها عن العمل في المنطقة نتيجة عودة سيطرة النظام في عام 2018؟ يأتي هذا السؤال على خلفية نقص المعطيات الكافية لتبيان مدى نفعها للمستفيدين والمستفيدات وللكوادر العاملة فيها ضمن مقياس الاستدامة. وكذلك هل يمكن البحث في مدى الضرر الذي خلّفه غياب هذه المنظمات والمشاريع التي شكلت مصدر دخل لعدد من الأفراد والأسر في الجنوب؟ وما الذي يعنيه التمكين، وهو أحد الأهداف التي تحمله المنظمات كشعار أثناء تنفيذ مشاريع في المناطق المحلية؟ هل تحقق مبدأ تجنب الاعتمادية؛ أي ضمان تمكين المجتمعات المستهدفة من الاعتماد على الذات، والذي تنطلق منه سياسة المنظمات غير الحكومية عادةً؟ وكيف يمكن رصد نفع هذه التجربة للسكان والبيئة المحلية؟

في السنوات التي سبقت الثورة، ورغم توسع حضور الشركات الخاصة والبنوك والاستثمارات التجارية، إلا أن المهارات الوظيفية والإدارية التي اكتسبها بعض السوريين والسوريات ممن عمل فيها، كان معظمها في مجالات محددة كالتجارة وإدارة الأعمال، ويغلب تركّزها في المدن الكبرى وبشكلٍ رئيسي في دمشق وضمن طبقات اجتماعية معينة. في المقابل، خلق ذلك حالةً من الفروقات بين هذه الفئة وبين الفئات التي تعمل في القطاع الحكومي ذي الدخل المحدود، والذي لا يسهم في أغلب قطاعاته بتطوير كفاءات الأفراد.

إذ عانى العمل الوظيفي ضمن القطاع الحكومي في السنوات الأخيرة من بطالة مقنعة، حيث يتم توظيف عدد من الموظفات-ين دون احتياج حقيقي. كما يتصف العمل ضمن القطاع الحكومي السوري بكونه رتيباً ولا يمنح الأفراد خبرات معمقة. ومن السمات العامة للقطاع التعليمي في سوريا أن الشهادات الأكاديمية لا تمنح مهارات تناسب سوق العمل الحديث والديناميكيات التي تقتضي اكتساب لغات أجنبية والحصول على تدريبات خاصة.

نتيجة ما سبق، شكّل حضور المنظمات غير الحكومية الدولية والمحلية حالةً مختلفةً في ما يتعلق بوظائفها التي تتطلب مهاراتٍ مختلفة. وقد برز حضور هذه المنظمات بعد انطلاق الثورة في السنوات بين 2013 و2018 مع خروج بعض المناطق من سيطرة النظام. أما سابقاً، فلم يكن للمنظمات غير الحكومية وما تحمله من «ثقافة» من حضور في المنطقة وخاصة عند مقارنةً ذلك مع الأردن ولبنان المجاورين مثلاً. ويستلزم العمل في هذا القطاع خبرات ومهارات محددة لم يكن تطويرها متاحاً سواء من خلال المنظومة التعليمية أو قطاع العمل الحكومي. ومع حضور المنظمات الدولية والتي ساهمت بتمويل منظمات محلية وتأمين مشاريع اقتضت تدريب بنات وأبناء المناطق المحلية، ساهم هذا بتطوير مهاراتهن-م. ومن المميز في هذه التجربة أنها كانت في مدن ومناطق لم تكن ضمن أولويات النظام التنموية، وقد أبدى الأفراد اللواتي والذين عملوا في قطاعات مختلفة ضمنها، قدرةً على تنفيذ المشاريع رغم التحديات المرتبطة بالوضع الأمني العنيف؛ حيث القصف المستمر والاعتقالات والتهديدات الأمنية. خلال تلك الفترات جرى تنفيذ عدد من مشاريع الطاقة الشمسية ومشاريع فتح الآبار ومشاريع تعليمية ومشاريع مساحات صديقة للأطفال ومشاريع حوكمة وتدريبات في مجال المشاركة السياسية، والتي ساهمت بدورها في تقديم حلول لغياب الخدمات الحكومية ولتطوير المنطقة. 

ونشير هنا لعدد من المنظمات الدولية التي برزت في الجنوب، ومنها منظمة أنقذوا الأطفال الدولية ولجنة الإنقاذ الدولية IRC ووتد (وحدة تنسيق الدعم) وآكتد وكير وأطباء بلا حدود وسامز وبروكسيمتي (التقارب الدولية). من المنظمات المحلية في الجنوب، والتي جرى تأسيسها في أعوام الثورة نجد على سبيل المثال غصن زيتون وآفاق وأورانتيس وسنابل الأمل والحلم الكبير. وبحسب منظمة همزة وصل، تم مسح ما يقارب 96 منظمة مجتمع مدني محلي في محافظتي درعا والقنيطرة في العام 2017، عمل عدد منها عن طريق الأردن، كما قام بعضها بتدريب الكوادر في الجنوب إما عبر الإنترنت أو عن طريق دعوتهن-م للأردن بالتنسيق مع السلطات الأردنية.

تجارب العمل في المنظمات جنوب سوريا

في حديث للجمهورية.نت، شارك عددٌ من المقيمين والمقيمات في درعا تجربتهن-م خلال الفترات التي عملوا وعملن فيها مع بعض المنظمات الدولية والمحلية والتي قدمت لهن-م تدريبات في مجالات متنوعة. يُبيّن محمد مثنى (اسم العائلة مستعار لدواعٍ أمنية، 33 عاماً) وهو خريج أدب إنكليزي ويقيم حالياً في درعا البلد، أنه تلقى تدريبات ساعدته ليعمل في منظمة تعليمية كمدير لفريقها. كذلك، من التدريبات التي تلقاها محمد تدريباً على بناء السلام ونبذ العنف. ساهمت تجربة محمد بتطوير مهاراته وبتوليه مهام إدارية، وكانت هذه التجربة من العوامل التي ساهمت في دفعه للبقاء في البلد رغم مغادرة البعض في الفترة التي ارتفعت فيها نسب اللجوء في عام 2013 حتى 2018 على حد قوله. يقول محمد: «شعرنا باليأس بعد أن اخترنا البقاء في البلد والعمل مع المنظمات التي توقّفت عن تمويل مشاريعنا بعد أن تلقينا تدريباتٍ ساعدتنا على التطور الوظيفي». 

من ناحيةٍ أخرى، ترى رشا الحنين (اسم العائلة مستعار لدواعٍ أمنية، 27 عاماً) وهي خريجة صيدلة مقيمة في نصيب، أن غياب المنظمات الدولية وحتى المحلية الممولة من قبلها قد خلق فراغاً في مجال الخدمات الطبية. تقول رشا: «عملتُ في مشفى نصيب الميداني في مجال الإسعافات الأولية وفي صيدلية المشفى. تغير الوضع بعد غياب المنظمات التي ساهمت في توفير مستلزمات ومعدات طبية لم تعد موجودة حالياً. نعاني من نقص المواد والأدوية، حيث تغيب الخدمات الحكومية ولا وجود لبدائل عنها». وتصف رشا الوضع الحالي بأنه «يُهدّد بحدوث أزمة صحية مع النقص في الكوادر الطبية والأدوية والارتفاع الكبير في الأسعار». 

يتضح من الشهادات التي حصلنا عليها أثناء كتابة هذا التقرير وجود خبراتٍ ترتبط بالمجتمع المدني والمجالس المحلية، والتي لم تكن مطروقةً سابقاً. وتبعاً لدانيا محمد (اسم العائلة مستعار لدواعٍ أمنية، 36 عاماً) وتعمل في التعليم وحاصلة على بكالوريس في الترجمة: «لا يوجد فرص عمل تناسب التدريبات التي تلقيتُها، مثل تدريبٍ على جمع البيانات وآخر مختص بالمجالس المحلية والمجتمع المدني والحوكمة الرشيدة. نعاني حالياً من تردي الوضع الاقتصادي ومن انهيار البنى التحتية». 

ويقول عبد الرحمن معاذ (اسم مستعار لدواعٍ أمنية، 33 عاماً): «لقد طورت مهاراتي وخبراتي نتيجة عملي مع المنظمات وحصلتُ على تدريبات في مجالات التعليم والدعم النفسي والاجتماعي والإسعافات النفسية الأولية. كما عملتُ مع مؤسسة الإنقاذ الدولية ولجنة الإنقاذ الدولية IRC، وتغيّر مصيري باختيار البقاء في البلد كوني كنت أملك وظيفةً جيدةً وأساهم بتطوير مدينتي. الآن أشعر بالخذلان مع غياب المنظمات والتي أرى أن بعضها يحاول الاستمرار في العمل رغم كوني غير متأكد من الآليات التي تسمح لهن-م بذلك». يأتي هذا الشعور بالإحباط على خلفية خروج المنظمات غير الحكومية الدولية والمحلية دون أن تؤمن في معظم الحالات ظروفاً تحمي فِرقها وتضمن لهن-م استمرار المشاريع التي بدأتها، لكن لا بد هنا من الإشارة إلى أن العائق الأساسي أمام عدم قدرة هذه المنظمات بمواصلة عملها هو عدم سماح النظام بذلك وملاحقته لكوادرها. 

يتضح من التجارب السابقة كيف ساهم وجود فرص عمل في المنظمات بدفع البعض لاتخاذ خيارات مصيرية مثل عدم السفر، فيما بعد أثر هذا الخيار على مصير هؤلاء ومستقبل عائلاتهن-م. كذلك، يظهر حجم الاحتياج لتأمين خدمات صحية وتعليمية وغيرها والاستجابة لاحتياجات المجتمعات التي يتم تهميشها وعدم توفير الخدمات الأساسية لها من قبل النظام.

وفي حديث للجمهورية.نت، يقول يدن الدراجي، وهو شريك مؤسس ومدير عام سابق لمنظمة أورانتس لايف لاين ومسؤول شؤون إنسانية سابق لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأردن: «شكّل الوضع الإنساني في جنوب سوريا وتنامي الحاجات الإنسانية الأساسية خلال السنوات الاولى للثورة السورية، عوامل حاجة لظهور مؤسسات إغاثية ومنظمات محلية متعددة التخصصات والقدرات ومستوى النمو، بينما أثر الشركاء الدوليون والمانحون الدوليون على مستوى تطور هذه المؤسسات من خلال تطوير وتدريب الفرق لترقى إلى المستوى المطلوب لتنفيذ مشاريعهم».

ويتابع القول: «نستطيع القول إن منظمتنا أورانتس لايف لاين كانت المنظمة المحلية الأكبر في جنوب سوريا من حيث أنواع وعدد المشاريع المنفذة وميزانياتها، و من حيث الفريق وامكاناتهن-م، وذات تنوع برامجي واسع».

يبين الدراجي أسباب توقف عمل منظمة أورانتس في درعا: «بعد سيطرة النظام السوري على الجنوب عام 2018 مدعوماً بالقوات الروسية والميليشيات غير السورية، وعلى الرغم من محاولة الأمم المتحدة عبر مكتب أوتشا الإبقاء على نشاط المنظمات المحلية العملية، إلا أنها قوبلت من النظام بشروط مجحفة للغاية بحق المنظمات ومحاولة اِتباعها إلى سيطرة مباشرة من الهلال الأحمر السوري، وهو ما قوبل برفض أغلب المنظمات».

وتعليقاً على مصير الكوادر العاملة في المنظمة، يقول الدراجي: «اضطررنا كمؤسسة لإغلاق كافة أنشطتنا لرفضنا العمل تحت مظلة النظام السوري أو أيٍّ من مؤسساته، بينما تعرض موظفونا داخل سوريا لخطر الاتهام المباشر بالعمالة للخارج والتعامل مع الأجانب، وكان الخوف الأكبر من تعرضهن-م للاعتقال، ولم يتمكن أي من الشركاء الدوليين أو المانحين من التدخل لدعم الفرق في سوريا واقتصر دورهم على تحديث المعلومات حول الأوضاع في جنوب سوريا و النشر والإعلام حول ذلك». وقد أدى هذا الأمر بحسب الدراجي إلى «خسارة الخبرات التي تم اكتسابها وتطويرها وإلى نقص في الخدمات في المنطقة». 

مسؤوليات المنظمات تجاه العاملين-ات

وعند سؤال سلام العريضي، وهي أكاديمية متخصصة في مجال الأزمات وإدارة المنح التنموية، بخصوص مسؤوليات المنظمات الدولية تجاه موظفيها المحليين في مناطق التدخل التي تنفّذ المشاريع ضمنها، أوضحت: «عند البحث في مسؤوليات المنظمات الدولية غير الحكومية عند إيقاف تنفيذ المشاريع في مناطق الكارثة أو الصراع، تتسع العدسة لتشمل ليس فقط هذه المنظمات، بل أيضاً السياسيين وصانعي القرار واستراتيجيات الدول المانحة والمانحين الكبار مثل الـUSAID بالإضافة إلى السياسات الحكومية في البلد المضيف، وبذلك فقط يمكن فهم تعقيد المشهد». وتتابع العريضي عند سؤالها عن الإجراءات التي من شأنها ضمان حقوق الموظفات والموظفين: «تقع على المنظمات الدولية غير الحكومية مسؤولية مباشرة، وهي مسؤولية أخلاقية بالدرجة الأولى تجاه فرقها». وبيّنت العريضي وجود عدد من السياسات الواجب اتخاذها «كالتزام أخلاقي وقانوني لضمان سلامة ورفاهية وحقوق الكوادر، سواءً أثناء عملهن-م أو أثناء عملية الخروج، وتضمن أيضاً إمكانية استدامة التأثيرات الإيجابية التي حققتها المشاريع وتوثيق عملها».

يُظهر السياق السابق التعقيدات الأمنية والسياسية التي يفرضها النظام والتي تمنع المنظمات غير الحكومية الدولية والمحلية من العمل أو تفرض عليها شروطاً تُعيق تنفيذ برامجها ومشاريعها. كما تتضح حجم مسؤوليته في تردي الخدمات في المنطقة وارتفاع نسبة البطالة. ولكن هذا لا يُلغي مسؤولية المنظمات الدولية والمحلية التي تركت خلفها كوادر تغيرت مصائرها مع فقدان وظائفها والمشاريع التي بذلت الكثير لتنفيذها.  

حالياً يبدو الجنوب السوري منسياً من قبل المجتمع الدولي والمنظمات الدولية، ولا يملك الأفراد هناك سوى الاستمرار بالتأكيد على وجودهن-م وعلى قدرتهن-م على العمل لتحقيق التغيير المرجو. ومع عودة حراك السويداء الرافض لحالة العجز والتهميش وغياب الحقوق في الجنوب السوري، من المهم تأكيد التعاضد والتضامن من خلال التذكير بضرورة فتح باب لإيصال الدعم لأبناء وبنات المنطقة، ولا يوجد مبرر لحالة التجاهل التي يتم التعاطي من خلالها مع منطقة عانت الكثير خلال سنوات وكبرت فيها أجيال تبحث عن الأمان وعن تأمين حقوق العيش بكرامة وإنسانية.