مرّتْ أكثر من ثلاثين سنة منذ ظهور أولى عصاباتِ الجريمة المُنظّمة في السويد. كان الحديثُ حينها يقتصرُ على النوادي غير الرسميّة لراكبي الدراجات الناريّة أو كما تُسمى عصابات الـ 1%،يُفضّل سائقو الدراجات النارية الخارجون عن القانون تسمية جمعياتهم بـ «نوادي الواحد في المئة» بدلاً من العصابات. نشأ مصطلح «واحد في المئة» من بيان أصدرته الجمعية الأميركية للدراجات النارية بعد أعمال عنفٍ تخلّلتْ تجمعاً للدراجات النارية عُقد في عام 1947 في كاليفورنيا. الجمعية قالت حينها إن «99% من جمهور الدراجات النارية هم من الملتزمين بالقانون وهناك فقط 1% ليسوا كذلك». بعد ذلك التصريح اختار عددٌ من المشاركين الخروج من الجمعية الأميركية للدراجات النارية وتشكيل جمعيات خاصة تفتخر بأنها من هذه الـ 1% الخارجة عن القانون. وأول تلك العصابات كانت «Hells Angels»، ثم تَبِعَتها عصابة «Bandidos». وبسبب الصراع على مناطق النفوذ ومحاولات السيطرة على تجارة المُخدرات وخلافات شخصية بين أعضاء في الناديين، وكذلك بسبب تأثيراتٍ دولية، دخلتْ العِصابتان في الدول الإسكندنافية في حَربٍ سُمّيتْ بـ «حرب الدراجات الناريّة الكُبرى في الشمال» بين عامي 1994 وَ 1997، استُعمِلتْ فيها أسلحةٌ رشاشة وتفجيرات وراح ضحيتها اثنا عشر قتيلاً.

في الوقت نفسه كانت تَجمُّعات المهاجرين الذين وصلوا إلى السويد، خصوصاً من إيران والعراق ولبنان في الثمانينات ثم من دول البلقان والصومال ودول إفريقية أخرى مطلع التسعينات، تَتضخّمُ في أطراف المُدن، في المناطق التي اصطُلح على تسميتها بـ «برنامج الإسكان المليوني». وبرنامج الإسكان المليوني هو مشروع ضخم لبناء المساكن تم تنفيذه في السويد خلال الفترة 1965-1974، كان الهدف منه بناء مليون مَسكَن جديد لمواجهة التحضّر المتسارع. التجمعات التي بُنيتْ ضمن البرنامج كانت في الغالب مبانٍ إسمنتية ضخمة غير جذابة على أطراف المدن الكبرى، تُشبه المباني السوفياتية. يسكن هذه التجمعات اليوم غالبية من المهاجرين، وقسمٌ كبيرٌ منها يُصنفُ مناطقَ مشاكل «سوسيواقتصادية».

رأى بعض هؤلاء المهاجرين في نوادي الدراجات الناريّة مثالاً جماعياً يمكن الاقتداء به للخروج من حالة العزلة التي يعيشونها، ووسيلةً لتحقيق مكاسب اقتصادية واجتماعية. مَطلع القرن الحالي بدأ الحديث عن «عصابات شوارع» في أطراف المدن السويدية الكبرى، منتسبوها في الغالبية العظمى من المهاجرين إلى السويد وتعملُ بشكلٍ أساسي في تجارة المخدرات. انتشار عصابات الشوارع هذه وتَفوُّقها على نوادي الدراجات الناريّة غيّرَ الصورة النمطيّة لرجل العصابة، من سائق دراجة نارية طويل الشعر يُظهِرُ عضلاته ورموز ناديه إلى شابٍ براغماتي ساخطٍ لا يهتم بالشكليات قدر اهتمامه بنتائج أعماله؛ انتقالٌ من صورةِ هارلي دافيدسون إلى صورة توني مونتانا. يبقى استعمالُ العنف والإفراط فيه المُشترَكَ الأساسي في تاريخ هذه العصابات، عنفٌ يحملُ فيما يحمله رفضاً للرضوخ للقوانين الرسميّة وكسراً لاحتكار الدولة للعنف، ويعني لاحقاً تحويل العنف من وسيلة آنيّة لتحقيق المكاسب إلى علامةِ تسويقٍ تجارية تُسهّلُ السيطرة على أعمالٍ أكبر وتُرهِبُ أي محاولة لدخول المنافسين.

*****

أيلول الأسود

حصيلة ليلة 27-28 أيلول (سبتمبر) 2023 كانت ثلاثة قتلى في مناطق مختلفة من السويد.

مساءً سُمِعَ صوت إطلاق رصاصٍ قريباً من ملعب تدريبي لكرة القدم في منطقة فروإنجن جنوب ستوكهولم، وَصلتْ سيارات الشرطة والإسعاف إلى المكان، مُراهقٌ في الثامنة عشرة من عمره مُصاب في عِدة أماكن من جسمه، مات بعد دقائق نتيجة الإصابات.

في ليلِ اليوم نفسه، في منطقة يوردبرو في بلدية هانينجي، إطلاقُ رصاص على رَجُلين. الأول في الثامنة عشرة من عمره قُتِل مباشرةً، الثاني عمره حوالي أربعين عاماً نُقِلَ إلى المستشفى.

ساعاتٌ قليلة بعد منتصف ليلِ اليوم نفسه، تفجيرٌ في حيٍّ سكني في منطقة ستورفريتا في مدينة أوبسالا، قُتلتْ على أثره فتاةٌ في الخامسة والعشرين كانت نائمة في منزلها. وسائل الإعلام قالت أنها قُتِلتْ بالخطأ، منزلُ جيرانها كان المقصود بالتفجير.

ثلاثة قتلى في ساعاتٍ قليلة. الحوادث السابقةُ امتدادٌ لحوادث إطلاق نار وتفجيرات مُشابهة مُستمرة منذ فترةٍ ليست بالقصيرة، أساسها الصراعات بين العصابات المتنافسة على سوق تجارة المخدرات في البلد. بلغ عدد الضحايا في شهر أيلول (سبتمبر) وحده اثنتي عشرة ضحية، والعدد الإجمالي للضحايا في هذا العام 44 ضحية.

موجةُ العُنف الأخيرة تتركز في مناطق ستوكهولم والمحافظات المُحيطة بها في وسط السويد، وأساسها التصفيات وعمليات الانتقام التي تشارك فيها مجموعة «Foxtrot» أو تتعلق بها. المجموعة، أو كما تُسمّى «عصابة الثعلب»، بدأت بالظهور حوالي العام 2010 في مناطق ستوكهولم وأوبسالا، زعيمها راوى مجيدراوى مجيد أو الثعلب الكردي، من مواليد العام 1986، والداه من كُرد العراق، ولِد في إيران ووصل إلى السويد مع والديه عندما كان طفلاً صغيراً. «Rawa Majid» اسمه الحركي «الثعلب الكردي».يختار أعضاء العصابات استعمال أسماء حركية على تطبيقات التواصل المُشفَّرة في الغالب بدل استعمال أسمائهم الحقيقية، وتكشف الشرطة أو وسائل الإعلام عن بعض هذه الألقاب. في بعض الحالات يكون للشخص نفسه أكثر من اسم حركي، ولا تخلو بعض هذه الأسماء من ابتكار وإبداع. حاولتْ الشبكة منذ بدايتها ترسيخ نفسها كموزِّع رئيسي للمخدرات في البلاد، لتدخل في صراعات مستمرة مع العصابات والموزعين الآخرين.

تخوض المجموعة حالياً حروباً على ثلاث جبهات. حربٌ قديمة ومستمرة مع مجموعة «Dalennätverk» وزعيمها ميكايل تينزوس واسمه الحركي «الإغريقي»، للسيطرة على أسواق المخدرات في ستوكهولم وما حولها. حربٌ مع نادي «Bandidos» نتيجة خلافٍ على تكاليف شحنة مخدرات كبيرة صادرتها الشرطة. وثالثاً حرب انتقامٍ وتصفيات داخل عصابة الثعلب نفسها، بين راوى مجيد ومساعده السابق إسماعيل عبدو واسمه الحركي «توت الأرض». بعضُ المصادر تحدثتْ عن تعرض راوى لمحاولة اغتيال في اسطنبول بداية أيلول (سبتمبر)، اتُّهمَ إسماعيل عبدو بالوقوف وراءها، وبعدها بأيام قُتلتْ سيدةٌ في الستين من عمرها بإطلاق رصاص في منزلها في أوبسالا، عُرف لاحقاً أنها والدةُ إسماعيل «توت الأرض» عبدو.

يُدير راوى مجيد الحروب هذه عن بعد، مُعتمِداً على مساعده الحالي مصطفى الجبوري واسمه الحركي «بنزيما»، إذ كانت السلطات السويدية قد سمحت لراوى بالخروج من البلد في العام 2018، رغم أنه كان حينها تحت المراقبة ويقضي فترة خروج مشروط من السجن. يتواجد راوى منذ سنوات في تركيا بعد أن اشترى الجنسية التركية عن طريق استثمار أموال هُناك، وترفض الحكومة التركية التعاون مع السويد لاعتقاله أو تسليمه.مساء الأحد 8 تشرين الأول (أكتوبر) نشرتْ بعضُ وسائل الإعلام خبراً عن اعتقال راوى مجيد في إيران، وعلّقَ رئيس الوزراء السويدي أولف كريستينسون على الموضوع: «نعم وصلتني معلومات استخباراتية عن احتمال اعتقال راوى مجيد في إيران، لا يمكننا تأكيد هذه الأخبار حالياً».

جرائم العصابات ليست جديدة، لكن موجة العنف في الأشهر الأخيرة تحمل خصائص مختلفة تجعلها أكثر إشغالاً للرأي العام السويدي.

مشاركة الأطفال 

أصبح جليّاً أن العصابات هذه تتجه لتجنيد مراهقين وأطفال تحت سن الثامنة عشرة لتنفيذ عملياتها، وحسب تقرير للراديو السويدي صدر العام الماضي فإن أكثر من 1200 مراهق تحت سن الثامنة عشرة مشاركون في أعمال مرتبطة بالشبكات الإجرامية، من هؤلاء حوالي 180 طفل تحت سن الخامسة عشرة. الأرقام الحالية بطبيعة الحال ستكون أعلى من أرقام العام الماضي.

تجنيدُ المراهقين والأطفال يعطي شبكات الجريمة بعض المزايا الإضافية، فالشرطة بشكل عام لا تُراقب المراهقين بالطريقة نفسها التي تراقبُ فيها البالغين، ولا يمكن إدانة الأطفال في حال ارتكابهم الجرائم، والمراهقون يحصلون على أحكام مخففة، وبالعموم يرى قادةُ العصابات أنَّ التأثير على الأطفال والمراهقين واستغلالهم أسهل من التأثير على البالغين.

كان مجموع المراهقين بين عمر 15 و 17 سنة الذين خضعوا للمحاكمة نتيجة القتل أو الشروع في القتل أو المشاركة في القتل هو 49 مُراهقاً في العام 2022. لا يمكن محاكمة الأطفال تحت سن الخامسة عشرة، وفي حال مشاركتهم في أعمال إجرامية تتدخل دوائر الخدمات الإجتماعية لرعايتهم. المراهقون بين 15 و17 عاماً يخضعون لبرنامج مراقبة الأحداث في حال إدانتهم بجرائم.

واحدة من حالات استعمال الأطفال والعنف ضدهم وقعتْ في الصيف الماضي، حيث هَرب طفلان في الرابعة عشرة من عمرهما من مسكنين مختلفين من مساكن الخدمات الإجتماعية في مدينة نيشوبينج. تمَّ العثور على جثة الأول منهما في نينسهامن جنوب ستوكهولم بعد هروبه بأربع أسابيع، وبعد حوالي شهر تم العُثور على جثة الآخر في أوبلاندس برو شمال ستوكهولم. اعتقلتْ الشرطة على إثرها مراهقاً في الخامسة عشرة من عمره بتهم المشاركة في القتل، القتيلان والمتّهمُ بالقتل كانوا على تواصلٍ مع بعض العصابات.

الضحايا الأبرياء

لم تكن الفتاة التي قُتلت في تفجير أوبسالا الضحية الأولى التي تُقتل بالخطأ في حوادث العصابات. قبلها بأسبوعٍ تماماً فتح مُسلحٌ النار على مطعمٍ في مدينة ساندفيكن قُتِل على إثره شخصان، واحدٌ منهما رجلٌ أعمى في الواحدة والسبعين من عمره كان من زبائن المحل المعروفين وليس له أي علاقة بالعصابات وحروبها. في آذار (مارس) الماضي أيضاً قُتل رجلٌ بإطلاق رصاص داخل نادٍ للرياضة وسط ستوكهولم، والمُستهدفُ بإطلاق النار رجلٌ آخر كان يتدرب في النادي وقتها. في حالات أخرى قُتل أطفالٌ صغار بالخطأ في حوادث إطلاق نار وتفجيرات.

ازدياد حالات قتل الأبرياء، وانتقال الصراع إلى مناطق تسكنها تاريخياً الطبقة المتوسطة، يُجبرُ عموم السويديين على الخروج من حالة الإنكار أو عدم الاكتراث التي لازمتْ الحوادث هذه. لم يعد بالإمكان متابعة العنف باعتباره حالاتٍ متفرقة تحدث في أماكن بعيدة عنا.

أهداف جديدة

التفجير في منزل والدة إسماعيل «توت الأرض» عبدو وقَتلُها كان تصعيداً يختلفُ عن حوادث القتل العادية، فهي المرة الأولى، على ما نعرف، التي تُستهدَف فيها والدةُ أحد المشاركين في الصراعات. حاول إسماعيل الانتقام عن طريق إطلاق نار على منزل والدة زوجة راوى «الثعلب» مجيد، دون أن تُصاب بأذى.

في حوادث أخرى قُتل أشخاصٌ فقط لأنهم يحملون اسم العائلة نفسه الذي يحمله أحد أفراد العصابات. وتتواردُ أخبارٌ غير أكيدة عن عدم رِضى بعض العصابات على هذا التطور، إذ لا يجوز برأيهم استهداف الأقارب، وخاصة الأمهات والأطفال، ولا اعتباره شكلاً من أشكال تصفية الحسابات.

******

كان الحدُّ من عنفِ شبكات الجريمة في السويد واحدةً من أهم النقاط في البرنامج الانتخابي للأحزاب في التحالف الحاكم الحالي، مصحوبةً بانتقاداتٍ قاسية لمعالجة الحكومة السابقة للوضع. ورغم كل الوعود والانتقادات تعترفُ الحكومة السويدية الحالية الآن بأنَّها لا تملك حلولاً سريعة وجاهزة، وفي تصريحاتٍ مختلفة يقول سياسيون وخبراء إن موجة العنف ستتصاعد غالباً قبل أن تهدأ لاحقاً.

بعض القوانين شُدِّدتْ، مثل تمديد العقوبات على المنضمين إلى شبكات الجريمة الذين تتمُّ إدانتهم، وتمَّ سنُّ قوانين جديدة منها إعطاء الشرطة سلطاتٍ أوسع لوقف العنف مثل الحقَّ في التنصتُ على أعضاء شبكات الجريمة حتى دون وجود إذن أو حكم قضائي ضدهم، واقتراحاتٌ أخرى قد تصبح قوانين سارية قريباً مثل السماح للشرطة بتفتيش المواطنين في مناطق معينة أيضاً دون إذن قضائي سابق.

كلمةٌ خاصة وجَّهها مؤخراً رئيس الوزراء إلى الشعب بسبب ازدياد عنف العصابات، عَرض فيها اقتراحاتٍ جديدة منها إمكانية تَدخُّل الجيش لمساعدة الشرطة في إيقاف شبكات الجريمة، وبطبيعة الحال لا يعني هذا أنَّ دباباتٍ ومُدرعاتٍ عسكرية ستُلاحقُ «بنزيما» في شوارع العاصمة، بل يبحثُ الاقتراح إمكانية مساعدة الجيش للشرطة في شؤون لوجستية كنقلِ المجرمين ومراقبةِ المُتهمين.

يتقصّدُ التحالف اليميني الحاكم اختيارَ تفسيرٍ شعبويّ مُبسّط لأصل المشكلة وتقديمها على أنها نتيجةٌ حتميّة لاستقبال السويد لأعدادٍ كبيرة من المهاجرين، مع إشاراتٍ مُبطّنة إلى اختلافاتٍ ثقافية بين بعض  المهاجرين و«السويديين»، اختلافات جوهريّة تجعلُ الوافدين ميّالين طبيعياً إلى العُنف والفوضى. يلحقُ التفسيرات هذه عادةً تبسيطٌ للحلول يتمحور عموماً حول نقطتين، تشديد العقوبات والحدُّ من أعداد الوافدين إلى السويد. ولأن الانتشار بالعدوى من الخصائص الأصيلة للشعبوية، ومع استمرار حوادث العنف وتَحوُّلِ الموضوع إلى نقاشٍ يشغلُ الرأي العام السويدي، فإن أحزاباً أخرى خارج التحالف الحاكم، مثل الحزب الاشتراكي الديمقراطي أكبر أحزاب السويد، تتجهُ أيضاً إلى تبنّي بعض هذه الأفكار الشعبوية خصوصاً فيما يتعلق بتشديد سياسات الهجرة.

تطغى إذاً، على الجوّ السياسي العام، أفكارٌ لا تخلو من عنصرية واضحة ضد المهاجرين وما يحملونه معهم من مشاكل. الناس أنفسهم، أو قسمٌ غير قليل منهم، الذين وقفوا في الساحات في 2015 حاملين لافتاتٍ تُرحّبُ باللاجئين، يُرددون اليوم عباراتٍ قاسية تطالبُ بمنع دخول أي وافدٍ جديد. في الحقيقة تُبيّنُ الأرقام الرسمية الصادرة عن مؤسسات مراقبة الجريمة السويدية أن قسماً كبيراً من المشاركين في العنف ليسوا من الوافدين الجدد إلى السويد، بل إن الغالبية العُظمى من منتسبي شبكات الجريمة هم مِمن يُطلقُ عليهم الجيل الثاني من المهاجرين. نتحدثُ هُنا عن أطفال ومراهقين وشباب ولدوا في السويد أو وصلوا إليها في أعمارٍ صغيرةٍ جداً، عاشوا بالعموم في مناطق سكنية مكتظة بالمهاجرين، في أوضاع اقتصادية واجتماعية سيئة، مع أهالٍ عاطلين عن العمل، ودون مداخلَ سَلِسة للنجاح في السويد. هُناك خللٌ واضح في سياسات الاندماج أساسه فشل المؤسسات الرسمية، على رأسها دوائر الخدمات الاجتماعية والمدارس والشرطة، في الوصول إلى المهاجرين ومعالجة مشاكلهم، خللٌ أدّى مع الوقت إلى ازدياد في أعداد الشباب الناقمين على المكان الذي ولدوا وعاشوا فيه، شبابٌ يحملون تعقيدات الآباء المُهاجرين من كُرهٍ عامٍ للمؤسسات الرسمية وارتدادٍ مُستمرّ إلى الهويّات الجماعية قبل المدنية، وعيشٍ في مساحات جغرافية ضيقة دون عملٍ أو تعليم عالٍ أو آفاق واضحة.

ورغم أن الغالبية العُظمى من المشاركين في العنف والغالبية العظمى من المتضررين منه هم من أصول مُهاجرة، فأن هناك تجاهلاً عاماً لآراء هذه الجماعة وتفسيراتها للأسباب والحلول المُمكنة، مع استثناء لبعض الجمعيات الصغيرة التي تحاول العمل على إيصال صوت عائلات الضحايا دون تأثيرٍ يُذكَر. يمكن، بشيءٍ من التعميم، الحديث عن نقصٍ في التمثيل السياسي لمناطق الفقراء من المهاجرين، تتقاسم أسبابه، مرةً أخرى، مشاكل في سياسات الاندماج وعزوفٌ عام عن المشاركة في العمل السياسي عند المهاجرين.

ومع صعوبة إجراء مسحٍ شامل لآراء المقيمين في السويد من أصول مهاجرة، يبقى من الواضح ربطُ الكثيرين منهم لهذا الحال بالتهميش الذي يعيشه المهاجرون، وبشعور اليأس الذي يسببه الاتساع المستمر للفروق الطبقيّة بينهم وبين «السويديين». ويبقى واضحاً أيضاً تأثُّر بعض المهاجرين بالأفكار الشعبويّة المُكرَّرة وترديدها كحلولٍ قطعيّة لمشاكل العصابات. يُضاف إليها أحياناً شيءٌ من التشفّي من البلد وأهله باعتباره واعتبارهم لا بلدنا ولا أهلنا، أو تَحسُّرٌ مَرَضِيٌّ على زمنٍ كانت فيه السويد أفضل قبل قدوم المُهاجرين الجُدد، أو جَرٌّ للموضوع إلى نظريات مؤامرة تقترحُ «أنَّهم يتقصّدون السماح بالعنف ليستعملوه لاحقاً ضِدّنا»؛ وكالعادة دون أن نعرف من نحن ومن هُم.

*****

المشاركون في العُنف أقوياء صريحون، يستمرون في عملهم غير مكترثين بما يُقال في السياسة والإعلام: «أنتَ معي أو ضدّي.. أسود أبيض أصفر لا أهتم.. يمكنكَ أن تكون أبن بلدي، يمكنك أن تكون أخي، لا أهتم، أنت معي أو ضدي، الأمر بهذه البساطة.. سأعطيك فُرصةً واحدة والأمر متروكٌ لك، يمكنك أن تؤذيني أو أن تدعمني، لا يهمني تاريخنا معاً ولا كم ساعدنا بعضنا سابقاً.. أنت تؤذيني الآن فلماذا تبقى حيّاً؟»؛ يقول واحدٌ منهم..

والمُستقبلُ مُعتم. لا أحد يعرف حقاً متى سيتوقف كُلُّ هذا العنف، ولا كيف سيتوقف. اقتراحاتٌ جديدة كُلّ يوم: تشريعُ بيعِ بعض أنواع المُخدرات، مُراقبةٌ أكثر على الحدود، تشديدُ العقوبات على متعاطي المخدرات، ترحيلُ عائلاتِ المُدانين بارتكاب الجرائم، وأفكارٌ متنوعة أخرى تتناقضُ أحياناً ويستحيلُ تطبيقُها في أحيانٍ أخرى.. وفي الواقع، إنّ ما يجبُ التركيز عليه أولاً هو إيقاف انضمام الأطفال والمراهقين والشباب إلى شبكات الجريمة، وعندها فقط، عندما تنخفض أعداد المنضمين الجُدد ثم عندما تستمر في الانخفاض باضطراد، يمكن الحديث عن أن تغييراً إيجابياً قد بدأ. لكن انخفاض هذه الأعداد يتطلب أيضاً عملاً على المدى الطويل، إذ يَصعبُ الآن ضبطُ تدفق الشباب إلى شبكات الجريمة، ولا يمكن عملياً البدء بمعاقبة الأطفال والمراهقين الذين يقتربون من هذه الشبكات. ومرةً أخرى لا تصلحُ الحلول السويدية الميكيانيكة لحلِّ مشاكل تتعلق بالبشر ورغباتهم واختلافاتهم. لا يوجد مَخرجٌ بسيط للوضع الحالي، وفي لحظةٍ ما يتوجبُ البدء في السير في الطريق المُتعبِ الطويل لحلِّ المشكلة.

*****العنف مُستمر، وسيبقى مَعنا هُنا حيناً، سيقتربُ مِنا وستكبرُ دوائرُه قبل أن تختفي، نشعر به ونتسلّى خائفين بأخباره. يستحوذ مع الوقت على مساحاتٍ أكبر في يومياتِنا، مُستَعمِلاً حواسّنا مَدخلاً لترهيبِنا: نَشمُّ رائحة مبنىً يحترق، ونرى صورةً لخواتم ذهبية بنقوشٍ كرؤوس الحيوانات الضارية في أصابع شابٍ يحملُ رشاشاً، ثم نسمعُ قبل النوم تسجيلاً صوتياً قصيراً يتحدثُ فيه رئيس العصابة بودٍّ مع أصحابه: «مرحبا يا شباب، كيف الحال؟ الحيوان هُنا.. أودُّ فقط أن أذكركم ألّا يقترب أحدٌ من منطقة سترينجنِس، سترينجنِس منطقتي، وإذا سمعتُ أي كلمة أخرى بشأن أوريبرو أو فيفالا أو أي مكان آخر وبغض النظر عمّن يكون القائل فإني سأضاجعه من رأسه إلى أطراف أصابعه.. عيد النوروز قريب، وقتٌ مناسبٌ للألعاب الناريّة، سأفجرُ مَدخل كُلِّ بناية وأطلق النار على كُل رأس، أنا استمتعُ بهذا، أتمنى أن تتابعوا الأخبار..».