* * * * * 

كيف نتذكر أجزاء تاريخنا التي نُفضّل نسيانها؟ القمع والمراجعة خياران مُتاحان. قلةٌ مَن سوف يحذون حذو رون ديسانتيس، الذي أعاد تصوير العبودية الأميركية كنوع من التدريب الحِرَفي، لكن الناس إذا كانوا صادقين مع أنفسهم فسوف يلاحظون الطرق التي تتطور بها سردياتهم. إن تسليط الضوء على النجاحات والتغطية على الإخفاقات أمرٌ شائعٌ شيوعَ كتابة السيرة الذاتية؛ والأمم ليست أقل ميلاً من الأفراد إلى تجميل ماضيها. قد ينبش المؤرخون الأرشيف سعياً وراء شيء مثل الحقيقة، لكن الذاكرة العامة مشروع سياسي أكثر تزعزعاً في علاقته مع الحقيقة.

لذلك، ليس من المُستغرب أنه حتى وقت قريب جداً، كان تلاميذ المدارس الأميركية يُنشدون بداية إعلان الاستقلال من دون أن يتعلّموا أن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة قد تجاهلوا حق الأميركيين من أصل أفريقي في الحرية، وحق الأميركيين الأصليين في الحياة. تُصمَّم الذاكرة العامة لخلق هويات يفخر الناس بدعمها والانتماء إليها. تبعاً لذلك، لماذا قد نُعلّم تلاميذ المدارس أن الواقع الأميركي لطالما انتَهَكَ المُثل الأميركية منذ نشوء الجمهورية، الأمرُ الذي لن يسفر إلا عن شعور الطلبة بالعار؟ 

والولايات المتحدة ليست فريدة من نوعها في تفضيل النسخة البطولية من ماضيها. قُم بتربية أطفالك على ميثاق ماجنا كارتا ومعركة بريطانيا وسيكبرون سعداء بالمشاركة في مجد الأمة البريطانية. لماذا ستشوشهم بقصص الإمبراطورية؟ يمكن لتلاميذ المدارس الفرنسية أن يفخروا بكونهم مواطني البلد الذي منح العالم إعلان حقوق الإنسان؛ لكن هل ينبغي إخبارهم أنه تمَّ تجاهل الإعلان بعد سنوات قليلة من إلهامه الثورة في هايتي، حيث قدِّر لزعيمها توسان لوفرتور أن يموت في إحدى السجون الفرنسية؟

عندما تكون الإخفاقات الوطنية أكبر من أن نستطيع نتجاهلها، تلجأ الأمم وشعوبها إلى سرديات الضحية: كان من الممكن أن نصبح أبطالاً لو أن التاريخ لم يَدُس على جهودنا. تتأرجح بعض الدول بين ذكريات البطولة والمظلومية – بولندا وإسرائيل تَخطُران على البال. ولكن حتى وقت قريب جداً، لم تقم أي دولة على الإطلاق ببناء سرديتها التاريخية على كونها مُرتكِبَةً لجرائم مدمرة للعالم. من يتصور أن ذلك قد يكون وسيلة لبناء الهوية الوطنية؟

خلال العقود القليلة الماضية، كان ذلك ما فعلته ألمانيا بالضبط. من السهل أن نقول إنه لم يكن لدى ألمانيا خيار آخر، وإن فظائع الحرب العالمية الثانية كانت بأمسّ الحاجة إلى كفّارة. ولكن على مدار أربعين عاماً تلت الحرب، لم ترَ إلا قلة قليلة من الألمان (الغربيين) الأمرَ على هذه الشاكلة: وبدلاً من ذلك، صاغوا سردية جعلت منهم الضحايا الرئيسيين للحرب، على منوال سردية المدافعين الأميركيين عن قضية الكونفدرالية المفقودة: لقد خسرنا الحرب، ودُمِّرت مُدُننا، ومات رجالنا أو أُرسِلوا إلى معسكراتٍ أسرى حرب. نالَ منا الجوع، وكنا على وشك الموت – وفوق كل ذلك، لامَنا اليانكيز على البدء بالحرب. 

ليست هذه الديباجة خاطئة تماماً، لكنها تتجاهل المنظور الأعمّ الذي يجعل من تلك المشاعر تبريرات غير أمينة أو صادقة. ولكي نفهم ألمانيا اليوم، والطُرُق التي تتعامل بها معظم الدول مع أصعب الأجزاء من تاريخها، علينا أن نتذكر أن الشعور بالمظلومية كان محسوساً في ألمانيا ما بعد الحرب بذاتِ القوة والعمق لدى البلدان الأُخرى التي عانت من تبعات الحرب ودمارها. ولكن أيُّ طريقة أفضل للتهرّب من المسؤولية حيال معاناة الآخرين، من التركيز على معاناة الذات؟ 

فَهِم الألمان أن عليهم بين الحين والآخر أن يفعلوا شيئاً ما لكي ينالوا رضا العالم. إلا أن التعويضات التي دفعوها للناجين والناجيات من المحرقة، ولدولة إسرائيل، لم تكن هزيلة فحسب، بل كانت مصحوبة بافتراض مَفاده أن القضية ستكون قد سُوّيت بهذه الطريقة، وأنّه لن تكون هناك حاجة لفعل المزيد للتكفير عن الذنوب. يمكن للألمان الغربيين الآن إزالة أعوام 1933-1945 من دروس التاريخ، وإبقاء النازيين في وظائف الخدمة المدنية، بحيث تمتلئ المدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية بكوادر أكثر ميلاً لتذكّر قصف درسدِن، لا المقتَلة الجماعية في أوشفيتز. 

قلّةٌ خارج ألمانيا أدركوا حقاً مدى امتناع البلاد عن الاعتراف بجرائمها، فما رآه الأغلبية كان مستشار ألمانيا الغربية فيلي براندت وهو يركع إذعاناً أمام النصب التذكاري لغيتو وارسو في 1970. كان براندت يقوم بالتكفير عن الذنوب بالنيابة عن مواطنيه، رغم أنّه شخصياً لم يكن لديه ما يُكفِّر عنه، فقد غادر ألمانيا إلى المنفى في النرويج بعد أشهر من استيلاء النازيين على السلطة. لَفتَتُهُ تلك كانت، بالنسبة إلى الغرباء، منطقية تماماً؛ ولكنّ معظم مواطنيه انتابهم الفزع من جولة الاعتذار التي قام بها؛ ومعارضتهم له هي التي أسهمت في قِصَر ولايته كمستشار. وقتها، كان القليل من الألمان الغربيين راغبين بالاعتراف بالجرائم التي اقترفتها بلادهم، ناهيك عن التكفير عنها. ولكنهم بدأوا بفعل ذلك، ولو ببطء وبشكل متقطّع. 

ألمانيا الشرقية كانت حالة مختلفة. تجدون أبياتُ القس مارتن نيمولّر مطبوعة على الملصقات في جميع أنحاء العالم: 

أولاً جاؤوا إلى الشيوعيين
ولَم أرفع صوتي
لأنّي لَم أكن شيوعياً

ثم جاؤوا إلى الاشتراكيين
ولَم أرفع صوتي
لأنّي لَم أكن اشتراكياً 

ثم جاؤوا إلى أعضاء النقابات
ولَم أرفع صوتي
لأنّي لَم أكن نقابياً

ثم جاؤوا إلى اليهود
ولَم أرفع صوتي
لأنّي لَم أكن يهودياً 

ثم جاؤوا إليّ
ولَم يبقَ أحدٌ
ليرفع صوته من أجلي

إنه بيانٌ لطيف يوضح أنّه إن لم يدافع المرء عن الحقوق المدنية للجميع، فقد لا يجد أحداً يدافع عن حقوقه. ولكننا غالباً ما ننسى أن أبيات نيمولّر هي أيضاً بيان لحقيقة تاريخية: فأولاً، قد جاؤوا بالفعل إلى الشيوعيين، إلى آخره. ونتيجة لذلك، كان معظم القادة السياسيين في ألمانيا الشرقية مناهضين ملتزمين للفاشية. وقد عانى البعض منهم في معسكرات الاعتقال النازية؛ وفرّ آخرون للنجاة بحياتهم. كثيرون منهم، مثل الكُتّاب برتولت بريخت وشتيفان هَيم وآنّا سيغيرز، عادوا من المنفى حرصاً على بناء ألمانيا مناهضة للفاشية من الأنقاض. ولكن عندما أصبح القمع الذي تمارسه الدولة الاشتراكية أسوأ من المحتمل، غادر بعضهم، مثل الفيلسوف إرنست بلوخ، مُجدَّداً إلى الغرب. 

مع ذلك، بذلت ألمانيا الشرقية جهداً أكبر، على كافة الصُّعد، لاجتثاث النازية، من جارتها الغربية المُعادية للشيوعية. 

تمت محاكمة المزيد من النازيين وعزلهم من مناصبهم. أُقيمت نصب تذكارية للضحايا؛ وتم تأليف نشيد وطني جديد. في ألمانيا الشرقية، ركّزت مُقرَّرات المدارس والأفلام وبرامج التلفزيون على شرور النازية؛ بينما في ألمانيا الغربية، تجنّب النظام التعليمي والثقافة الشعبية هذا الموضوع تماماً. في ألمانيا الغربية، سُمّي يوم 8 أيار (مايو) يوم الاستسلام غير المشروط؛ بينما في ألمانيا الشرقية، احتُفل به وسُمّي يوم التحرير. بالطبع، استخدمت حكومة ألمانيا الشرقية سرديتها المناهضة للفاشية، التي كانت متحيزة وغير مكتملة؛ ولكن فحوى السردية كان شيئاً يمكن لبقية العالم أن يشاركه: النازيون كانوا سيئين، وهزيمتهم كانت أمراً جيداً؛ هذا الأمر لم يكن أبداً موضع شكّ على أحد جانبَي جدار برلين. أمّا في ألمانيا الغربية، فقد كان هذا الادّعاء البسيط غارقاً بالإبهام. 

رفضَت ألمانيا الغربية إشارات ألمانيا الشرقية المتكررة إلى وجود العديد من النازيين في حكومتها باعتبارها دعاية شيوعية، ولكن الألمان الغربيين كانوا يعرفون أنّها صحيحة أيضاً؛ وكان ذلك أحد مصادر الضغوط التي دفعت ألمانيا الغربية في آخر المطاف إلى إيلاء عملية اجتثاث النازية من نفسها مزيداً من الجدّية، بعد أن أوقفت الولايات المتحدة وبريطانيا برامجها العقيمة لاجتثاث النازية مع اشتداد الحرب الباردة (كان استخدام النازيين السابقين في مواجهة الاتحاد السوفييتي أكثر فائدة من زجّهم في السجن أو رَميهم في العتمة). 

لكن معظم العمل الشاق في مواجهة الماضي النازي كان مدفوعاً من قبل المثقّفين والمثقّفات من ألمانيا الغربية، بالإضافة إلى الجماعات الكنَسيّة والطَلَبة، الذين جعل غضبهم حيال آبائهم ومعلّميهم النازيين في عقد الستينيات من برلين مدينة أكثر عنفاً من بيركلي. معاً، دفَعت هذه المجموعات المجتمع المدنيّ إلى تطوير فهم جديد للذات. وبحلول 1985، عندما ألقى الرئيس ريتشارد فون فايتسكر خطاباً في ذكرى مرور أربعين عاماً على انتهاء الحرب، أصبح هناك إجماعٌ فَتيٌّ على التالي: أنّ الألمان قد عانوا، ولكن الآخرين عانوا أكثر، وكانت معاناتهم ذنبَ ألمانيا. تميّزت هذه النظرة بتأخُّرها زمنياً؛ ولكنّ خطاب فايتسكر كان يروّج لصورة ذاتية جديدة. لننسَ عار معاهدة فرساي، وهزيمة ستالينغراد، ومؤتمر بوتسدام؛ لا ينبغي على الألمان أن يعتبروا أنفسهم بعد الآن ضحايا القرن العشرين. بل أصبحت هويتهم الجمعية الآن فريدة من نوعها في التاريخ: فالألمان سيرَون أنفسهم أولاً وقبل كل شيء كجُناة. 

لقد رصدت عدة كتب، من بينها كتابي التعلُّم من الألمان، عملية تحويل الألمان لأنفسهم من ضحايا إلى جُناة؛ ولكن في الآونة الأخيرة أصبح من المألوف ادّعاء أنّه لم يحدث أي تَحوُّل حقيقي، وأن الطقوس ومناسبات التذكّر السنوية العديدة لجرائم النازية ليست إلا عروضاً مسرحية. يقول النقّاد إن المناقشات الشخصية حول الذنب والعار نادراً ما تخترق الدوائر العائلية الحميمة، حيث يفضّل الأغلبية الاعتقاد بأنّه، مهما فعل الجيران، فإن «جدّو» لم يكن نازياً. فوق ذلك، أما تزال ألمانيا مجتمعاً عنصرياً؟ ولِمَ ركّزت ألمانيا على جرائم النازية في حين تجاهلت الإبادات الجماعية التي وقعت أوائل القرن العشرين بحق شعبَي ناما وهيريرو في جنوب غرب أفريقيا الألمانية (ناميبيا حالياً)؟ 

هناك أجوبة لكلِّ هذه الأسئلة، التي عادة ما يطرحها الأفراد الأصغر عمراً من أن يتذكّروا أشكال معاداة السامية الصريحة وغيرها من ألوان العنصرية التي كانت ما تزال مقبولة في ألمانيا خلال عقد الثمانينات. أولئك الذين لم يُعايشوا ذلك التغيُّر التاريخي لا يمكنهم اعتبار نتائجه مبتكرة أو رائدة؛ بل تصبح نتائجه المعيار السائد بالنسبة لهم. أما نحن الذين نتذكر الأيام التي كان الألمان يكرّرون فيها، من دون خجل، كليشيهات معادية للسامية، بينما ينظرون إلى أنفسهم كضحايا، فنلاحظ الاختلافات الهائلة. 

كما نعلم أن رغبة الكثيرين بالتكفير عن جرائم أسلافهم ليست تمثيلاً وإنما دافعاً حقيقياً، ولَو أنه في كثيرٍ من الأحيان يتّصف بالعجز. إنّ السرعة التي استجابت فيها ألمانيا للمطالب الأخيرة بمواجهة جرائم الاستعمار أظهَرت أنّها، على عكس بريطانيا أو فرنسا، قد طوّرت بالفعل أسلوباً للمحاسبة التاريخية ربما بدأ مع جرائم النازية، ولكنه ينطبق على جرائم أخرى أيضاً. أولئك الذين يزعمون أن التعويضات عن الإبادات الجماعية التي حدثت في ناميبيا، أو إعادة الأعمال الفنية المسروقة إلى نيجيريا، بوادر شحيحة ومتأخرة، ينبغي أن يسألوا أنفسهم: ما الذي فعلته إسبانيا للاعترافِ، ناهيك عن ذكر التكفير عن، بنظامها الاستعماري الذي كان من بين الأكثر دموية في التاريخ؟  

لا يمكن لأيّ مواطن أو مواطنة ألمانية طرح هذا السؤال، على الأقل ليس في العلن. ورغم أن عدداً من المقالات الأخيرة قد زعمت أن ألمانيا لم تعد قادرة على اعتبار نفسها «بطلة العالم في إحياء الذكرى»، فإنني لم أقابل قطّ أحداً من ألمانيا ينظر إلى نفسه بهذه الطريقة، أو يشيد بالعملية على الإطلاق. بل على العكس، فإن الألمان أشدُّ النقّاد شراسة لأنفسهم، وهم الأكثر حرصاً على إخبارك أنّ معاداة الساميّة ما تزال متفشية، الأمرُ الذي يشهد على صدق جهودهم في المحاسبة التاريخية. ولكن كما يذكِّرنا المثَل الألماني: فإن عكس كلمة «الخير» هي «النيّة الخيّرة». 

إذن، ليس غياب المحاسبة التاريخية للمحرقة النازية، إنما انحرافٌ فيها، هو الذي قادَ ألمانيا إلى المكارثية المُحِبَّة للساميّة التي تهدد بخنق حياتها الثقافية الغنية. لقد انحرفت عملية المحاسبة التاريخية في ألمانيا عن مسارها خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وتحوّل التصميم على استئصال معاداة السامية من اليقظة إلى الهستيريا. وصار كلُّ طلب عمل يُفحَص بحثاً عن العلامات. وأصبحت ادعاءات معاداة الساميّة، بغض النظر عن مصدرها، أساساً لسحب الجوائز أو إلغاء عقود العمل أو العروض الفنية والأدائية. ورغم أن إحصائيات الشرطة تظهر أن أكثر من %90 من جرائم الكراهية المعادية للساميّة يرتكبها ألمان يمينيون وبيض البشرة، إلا أن المسلمين وغيرُ البيض هم الفئة الأكثر استهدافاً من الحملات الإعلامية التي كلّفت الكثيرين وظائفهم. 

السمة الأكثر إدهاشاً في هذا الغضب المُحِبِّ للساميّة هي الطريقة التي استُخدم فيها لمهاجمة اليهود في ألمانيا، بما في ذلك أحفاد وحفيدات الناجين والناجيات من المحرقة النازية، ونحو 40 ألف إسرائيلي يعيشون هناك. باسم التكفير عن جرائم آبائهم وأجدادهم، أصبح الألمان من غير اليهود يتهمون علانية الكتّاب-ات والفنانين-ات والناشطين-ات من اليهود بمعاداة الساميّة، الأمرُ غير المنطقي على الإطلاق، نظراً إلى أنّ الدرس الرئيسي من عقود المحاسبة التاريخية التي أجراها الشعب الألماني لنفسه هو أنّ اليهود كانوا ضحايانا. وكما كتبت المؤلّفة الألمانية اليهودية نيلي بولّاتشيك مؤخراً، فإن الأشخاص الذين عانوا وفقدوا ما لا يقلّ عن نصف أسرهم في المحرقة النازية هم فقط من أصبحوا يعتبرون يُهوداً حقيقيين. 

يمكن للمرء أن يذهب أبعد من ذلك: فبالنسبة إلى الألمان، اليهودي الحقيقي هو من شكّلت المحرقة النازية حياته. ورغم مرور قرن الآن على شَجبِ المؤرخ اليهودي البارز سالو بارون لما سمّاه «التصوّر البكائيّ للتاريخ اليهودي» باعتباره حكاية ويلات لا تنتهي، إلا أن معظم الألمان يتمسّكون بقوة بهذا التصور. ومن ثمّ فإن اليهود الذين لا تركّز حياتهم على المعاناة اليهودية هم في أفضل الأحوال موضع حيرة، وفي أسوأ الأحوال موضع شكّ. 

يتجاهل ذلك إرث الكونيّة اليهودية بأكمله، القديم قِدَم الكتاب المقدس الذي يأمر اليهود بأن يتذكّروا أننا كنّا ذات مرَّة غرباء في مصر، وبالتالي علينا التزام خاص برعاية الغرباء في أي مكان – حتى لو كانوا فلسطينيين. إن الكونيّة اليهودية هي المُقابل للقومية اليهودية، وهي تقليدٌ يمتد من الأنبياء إلى أبرز الشخصيات اليهودية الألمانية، من موسى مندلسون إلى كارل ماركس وآلبرت إينشتاين وحنّة آرنت، الذين يُندَب دوماً غيابهم عن الجمهورية الفيدرالية. من الأسهل وضع صور اليهود الموتى على طوابع البريد بدلاً من استكشاف الأفكار التي جعلتهم شخصيات لامعة؛ أما اليهود الذين يرفضون تسليط الضوء على المعاناة اليهودية فلا يناسبون الخطة الدراسية بعد الحرب. ووفقاً للمنطق الألماني، فإن مثل هؤلاء اليهود قد يقلّلون من أهمية المحرقة، وبالتالي من ذنب الألمان أنفسهم.

لقد كان إعلان آنجيلا ميركل عام 2008 بأنّ أمن إسرائيل جزءٌ من المصلحة الوطنية لألمانيا من الغموض بحيث لا يمكن اعتباره بيان سياسة خارجية. هل كان يعني، مثلاً، أنّ ألمانيا سترسل قواتها إلى الجولان إذا تعرّضت إسرائيل للهجوم؟ لَم تُقابَلْ مثل هذه الأسئلة بالإجابة قط، ولكن تصريح ميركل عبّرَ عن مشاعر تبلورت خلال العقود السابقة. فليس من المستغرب أن يشير الألمان إلى بلادهم باسم الأمّة الجانيَة. يتبع ذلك، على ما يبدو، أنّ اليهود يشكّلون أمّةً ضحيّةً إلى الأبد. وفي هذه الحالة، فإن الطريقة الوحيدة للتكفير عن خطايا الآباء هي دعم الضحية المُحتملة فوق الجميع.إشارة إلى المقطع الأول من النشيد الوطني الألماني الذي حُظِر بعد الحرب: «ألمانيا فوق الجميع». (المُترجِم)

إذا كان هذا يمثل مشكلة لبعض اليهود، فإنّه أكثر إشكالاً بما لا يُقاس عند التفكير بإسرائيل، الدولة التي تدّعي تمثيل اليهود. لقد مرّ أكثر من نصف قرن على ادّعاء هذه القوة النووية المتطورة تكنولوجياً أنّها داوود الصغير الذي يحمل مِقلاعاً. ولكن التزام ألمانيا المطلق بالمحاسبة التاريخية لم يترك لها إلّا يقيناً واحداً فحسب: لقد قتَلنا الملايين من اليهود. وأيّ قضية تمسّ اليهود على الإطلاق لن تُقرأ إلا من خلال عدسة الماضي الألماني. ونتيجة لذلك، فإن هذه الدولة، التي يحكمها ائتلاف يساري وسطي، تنتهج سياسة خارجية أكثر يمينية من لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية، آيباك.

في 2019، أصدر البرلمان الألماني قراراً يعلن أنّ أي شخص يدعم حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (بي دي إس) أو أهدافها، يُعتبر معادياً للساميّة، وبالتالي لا يستحق الظهور في أي مسرح أو متحف أو قاعة محاضرات حكومية، أو أي مؤسسة ثقافية أخرى تمولها الدولة. أَسَّست مجموعة من الفلسطينيين حملة مقاطعة إسرائيل عام 2005 ، لمعارضة احتلال فلسطين عبر مقاطعة المنتجات الإسرائيلية بدلاً من ارتكاب الأعمال الإرهابية. عندما مُرِّرَ قرارُ البرلمان المذكور، اعتُبِرَ الخبر هامشياً في ألمانيا، حيث ما يزال معظم الناس يجهلون ما تمثّله أحرُف بي دي إس. ولكن، بما أنّ كل مؤسسة ثقافية في ألمانيا تقريباً تتلقّى بعضاً من التمويل الحكومي، فقد أصبحَ القرار بمثابة حظر فعليّ على أي شخص يُشتبه بقربه من حركة مقاطعة إسرائيل، المفهوم الذي بقي غامضاً بشكل تام. 

لا شكّ بأن بعض مؤيدي حملة مقاطعة إسرائيل معادون للساميّة. ولكن بدلاً من تحديد مدى مشاركة الأفراد في الحركة فضفاضة التنظيم، اكتفى الألمان بالإشارة إلى تاريخهم المشوّه: ففي 1933، دعا النازيون إلى مقاطعة الأعمال التجارية اليهودية، وكانت تلك إحدى الخطوات التمييزية الأولى التي أدّت لاحقاً إلى إصدار النجمة الصفراء وإقامة معسكر أوشفيتز. لذلك فإنّ القرب من أي شخص يفكّر بمقاطعة إسرائيل، بأي شكل من الأشكال، يدعو بما لا يقبل الريبة إلى تنفيذ خطوة أولى من سلسلة إجراءات قد تنتهي بغرف الغاز. ولو تم عرض التسلسل المنطقي لهذه الأفكار بوضوح، لظهرَت عيوبها على الفور. ولكن المنطق لا يحضر حقاً في المناقشات الحالية.

في برلين، يمكن لعبارة «الفصل العنصري» أن تتسبب بإلغائك أسرع من كلمة «زنجي» في نيويورك. ولكنها، على عكس كلمة «زنجي»، ليست مسبّة عنصرية، بل هي مصطلح قضائي يشير إلى نفاذ أنظمة قضائية مختلفة على فئات مختلفة من السكان. في إسرائيل والولايات المتحدة، ما يزال الباحثون والباحثات القانونيون يتباحثون فيما إذا كان التعبير ينطبق على تلك الأجزاء من إسرائيل الواقعة ضمن الخط الأخضر، ولكن معظمهم يتفقون على أنّه وصف دقيق للأوضاع في الضفة الغربية. دافعت منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية، إلى جانب هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، عن استخدام هذا المصطلح. مع ذلك، عندما أصدرت منظمة العفو الدولية تقرير «الفصل العنصري الإسرائيلي ضد الفلسطينيين» في عام 2022، نأى فرعها الألماني بنفسه علناً عن التقرير ورفض مناقشته.

إن الألمان الذين ينفرون من مصطلح «الفصل العنصري» لا يفكّرون بالأراضي المحتلّة، التي لم يرها إلا قلّة منهم. عبارة «الفصل العنصري» تحمل بعض الألمان على التفكير بجنوب أفريقيا أكثر من الملصقات النازية التي عُلِّقت على واجهات المتاجر اليهودية وأمرَت: لا تشتروا من اليهود. الصور الجامدة لعار الماضي تمنعُ الألمان من التفكير بوضوح في الحاضر، حتى عندما يحثّ السفراء الإسرائيليون السابقون، الغاضبون من التشريع الأخير الذي حدَّ من سلطة المحكمة العليا في إسرائيل، زملاءهم الألمان على أنّ وقت المقاطعة قد حان: على الحكومة الألمانية أن تتوقف، على الأقل، عن دعوة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحكومته، وإقامة فعّاليات مشتركة معهم كما كانوا يفعلون من قبل.

من النادر أن تصل مثل هذه النداءات إلى وسائل الإعلام الألمانية، لأن التقارير المفصلّة التي تَرِدُ من إسرائيل تتناسب عكسياً مع مكانة البلاد في النفسية الألمانية. خلال الحرب الإسرائيلية القصيرة والشرسة على غزة 2021، نشرت جريدة النيويورك تايمز على صفحتها الأولى صور الأطفال السبعة والستين الذين قُتلوا أثناءها. أما الصحافة الألمانية، على الكفة الأخرى، فركّزت على مظاهرة ضد الحرب أقيمت في غيلسنكيرشن، حيث هتف بعض المواطنين (وأغلبهم مسلمون) بألفاظ بذيئة ومعادية للساميّة. عندما يتعلق الأمر باليهود، يفكّر الألمان بأنفسهم أولاً: هل (ما تزال) هناك معاداة للساميّة في ألمانيا؟

لذلك، ليس من المستغرب أنّه في الأسابيع التي تلت انتخاب إسرائيل لأكثر حكومة يمينية في تاريخها، ركّزت وسائل الإعلام الألمانية على حالة معاداة ساميّة مزعومة في ميونيخ. في تشرين الثاني (نوفمبر) 2022، اتّهمَ طالبان جامعيان يهوديان عرضاً مسرحياً بأنه مُعادٍ للساميّة، ورفَضَا عرض المخرج لاستضافة عرض آخر يمكن من خلاله مناقشة معاداة الساميّة المزعومة، وهدّدا بمطالبة المدينة بسحب التمويل من مسرح متروبول إذا لم يُلغَ العرض. أُلغي العرض بالفعل وحسب الأصول، ثمَّ بدأ النقاش. 

المسرحية المعنية تحمل عنوان طيور، من تأليف الكاتب اللبناني الكندي وجدي معوَّض بالتشاور مع المؤرخة اليهودية البارزة ناتالي زيمون ديفيس. تسرد المسرحية قصة طالب وطالبة دراسة عليا، يقعان في الحب داخل مكتبة جامعة كولومبيا. الأمرُ الذي يجعل هذَين الاثنين بمثابة روميو وجوليت معاصرَين هو أنّ إيتان، عالم الوراثة الشاب، ينحدر من ناجين من المحرقة النازية، بينما وحيدة، المؤرخة الشابة، فتصف نفسها بأنها عربية من أصل مغربي. تتحول قصة غرام إيتان ووحيدة إلى صِدام عائلي عندما يتضح أنّ والد إيتان، الذي يعارض بشدة أيّ علاقة بين اليهود والعرب، فلسطينيٌّ متبنّى. تُحيل نهاية المسرحية إلى نص آخر بعنوان ناثان الحكيم، هو عبارة عن نداء إلى التسامح الديني ألَّفه إفرايم ليسينغ في القرن الثامن عشر، وكان أول مسرحية سمح الجيش الأحمر المحتلّ بتقديمها على أنقاض برلين بعد الحرب. 

كيف يمكن تفسير قصة كهذه على أنها معادية للساميّة، ومن الخطورة بحيث لا يمكن عرضها على المسرح الألماني؟ قدّمت الرابطة الاتحادية لإدارات البحوث والمعلومات المتعلقة بمعاداة الساميّة (رياس) تفسيراً قالت فيه إن المسرحية تصوّر اليهود بصفات سلبية؛ وإنّها تُظهرهم كشخصيات عُصابية وعنصرية؛ بل إنّ أحد الناجين من المحرقة النازية يُلقي نكتة حول بقائه على قيد الحياة. على أسُس كهذه، قد تحظر منظمة رياس مؤلّفين مثل فيليب روث، ووودي آلين، وحتى هاينريش هاينه. 

ولكن عندما يصبح نقد المنظمة أكثر تفصيلاً، تصبح أساليبها أكثر وضوحاً. فحقيقة أن الطالب اليهودي عالم وراثة دليلٌ على معاداة السامية، لأن «الجمع بين علم الوراثة واليهود وألمانيا يحمل المرء على التفكير بعمليات القتل الممنهجة والمحرقة النازية». كذلك تعليق والد إيتان بأنه لن يرغب بأن يكون فلسطينياً «يعيدُ إلى الأذهان تصريح هيرمان غيرينغ بعد ليلة البلّور، عندما قال: لن أرغب بأن أكون يهودياً في ألمانيا اليوم». يستمر التقرير على هذا المنوال لسبعة عشر صفحة كاملين، ولكنّ شكل النقد الذي يوجهه تامُّ الوضوح: إذا كان ادعاءٌ حول يهود يدفع الألمان إلى التفكير في النازيين، فإنّه حُكماً معادٍ للساميّة. المشكلة هي أن أيّ ادعاء حول يهود تقريباً يدفع الألمان إلى التفكير في النازيين. 

كتبت ديفيس مقالاً تدحض فيه تُهَم معاداة الساميّة، واختتمته بعبارة مفادها أنّ لدى النقاد «نظرةٌ مُقيّدة ومذعورة وقاسية لما يعنيه أن يكون المرء يهودياً». ردَّت المنظمة بوصف ديفيس، من دون أي أساس على الإطلاق، بأنها ناشطة في حركة مقاطعة إسرائيل. استمرّ الجدال عدة أشهر، أيّدَ البعضُ خلالها نداء ديفيس للسماح بأداء المسرحية حتى يتمكن الجمهور من الحكم على محتواها بأنفسهم، بينما شدّدَ آخرون على ألّا تكون للحرية الفنية الأسبقية على مكافحة معاداة الساميّة. كل ذلك أثار تساؤلات حول ما إذا كانت المسرحية معادية للساميّة بالفعل؛ ولكن الادعاء يكفي في ألمانيا اليوم لِبَثّ الخوف في قلب أي شخص يموّلُ القطاعُ العامُ أعمالَه. وبعد الكثير من المداولات، قرر مسرح متروبول حذف بعض الأسطر التي أثارت حفيظة النقاد، وإعادة عرض المسرحية؛ ففي نهاية المطاف، ألا تقوم المسارح باقتطاع أجزاء من المسرحيات التي تقوم بإنتاجها؟ وإلّا كيف لجمهور أن يجلس خلال عرض لمسرحية الملك لير؟

أنهى معوّض النقاش بإصراره على أن يُنتِجَ المسرحُ المسرحية بأكملها أو لا ينتجها على الإطلاق. ولم يفعل. ولكن العنصر الأكثر غرابة في القصة لم يدخل حيَّز النقاش، وهو أنه قبل ثلاثة أعوام من اندلاع الفضيحة، تم عرض مسرحية الطيور، وقوبلت بردود فعل شديدة الإيجابية، في أربع مدن ألمانية، بعدما عُرِضَت بنجاح في فرنسا وكندا وإسرائيل. «دراما الساعة» كان عنوان مراجعة ألمانية للمسرحية تعود إلى 2019، أكّدت للقرّاء والقارئات أنّ المسرحية ستبقى على خشبة المسرح لسنوات عديدة قادمة، لأنّها تحتوي على كل شيء قد يتمناه مخرج أو مخرجة. وفي 2020، منحت ولاية بادن فورتمبيرغ الألمانية أول جائزة دراما أوروبية لمعوَّض. 

تُفسّر بعض التطورات الأخيرة في السياسة الألمانية تغيّر المناخ الثقافي بهذه السرعة. ففي 2017، أصبح حزب البديل من أجل ألمانيا أول حزب يميني متطرف يحصل على أصوات تؤهله لدخول البرلمان منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. كان السبب في ذلك هو الحماسُ المناهض للمهاجرين، الذي حشدَ الأحزاب اليمينية المتطرفة الأخرى في القارتين الأوروبية والأميركية، وليس كونه قضية ألمانية بشكل حصري. انتقد قادةُ حزب البديل من أجل ألمانيا عملية المحاسبة التاريخية التي أصبحت عموداً في مجال التثقيف المدني، لكونها «عبادة الذنب»، وأعلنوا أن فترة الحكم النازي الذي دام اثني عشر عاماً لا يعدو كونه «زرقَ عصافير» في حساب التاريخ. أُصيب الألمان المحترمون بالقلق إزاء ذلك، لأسباب مفهومة. 

في ذعرها، ارتكبت الحكومة الألمانية سلسلة من الأخطاء، أولها إنشاء مكتب فيدرالي لمكافحة معاداة الساميّة، أعقبه بسرعة فتح مكاتب على مستوى الولايات. لم يكن أيّ من المفوضين يهوداً، على الرغم من تَحوُّل أحدهم بعد وقت قصير من تعيينه؛ بل إن معظمهم لم يملك سوى قليل من الفهم لتعقيدات الهوية اليهودية أو تقاليدها. (التُقطت، على سبيل المثال، صورة للمفوض الفيدرالي وهو يسير مع إحدى الجماعات المسيحية الصهيونية التي تهدف إلى إطلاق نهاية العالم من الأرض الموعودة، بما سيسفر إمّا عن تحوّل اليهود أو إبادتهم. كانت مشاركة المفوض بريئة، فقد رأى ببساطة العلم الإسرائيلي، وافترض أنه يجب عليه الانضمام). للتعويض عن عدم إلمامهم، يعتمد المفوضون على مصدرين للحصول على المعلومات حول اليهود والإسرائيليين والفلسطينيين: السفارة الإسرائيلية، والمجلس المركزي لليهود في ألمانيا؛ إحدى أكثر المنظمات اليهودية يمينية في العالم. الأهم من ذلك، أنهم يعتمدون على ما تعلّموه بعد عقود من المحاسبة التاريخية لألمانيا، بالنظر إلى كل ما يخص اليهود من منظور الذنب الألماني. 

كل هذا جعل ألمانيا عرضة لجميع أنواع التلاعب. وقد ارتكبت خطأها الثاني في 2019، عندما تبنّى اليمين المتطرف، بإلهام من ستيف بانون الذي اجتمع معه قادة حزب البديل من أجل ألمانيا بشكل منتظم، استراتيجية أصبحت شائعة لدى جميع الأحزاب اليمينية في العالم، من دالاس إلى دلهي، تقتضي بأنّه يمكنك التستر على العنصرية تجاه الفئات الأخرى طالما أنّك تدين معاداة الساميّة وتُقسم على دعم الحكومة الإسرائيلية أيّاً كان شكلها؛ ففي نهاية المطاف، أي شخص قد يفعل ذلك لا يمكن أن يكون نازياً. وفي 2020، ظهر يائير، ابن نتنياهو الأكبر، على ملصق إعلاني لحزب البديل من أجل ألمانيا، وصف فيه الاتحاد الأوروبي بالمنظمة «الشريرة والمعولَمة» وعبّر عن أمله بأن «تعود أوروبا حرّة وديمقراطية ومسيحية». ولدحض الشكوك بكونه حزباً نازياً جديداً، بدأ حزب البديل من أجل ألمانيا بمحاولة تجنيد اليهود في ألمانيا، بمن فيهم أنا نفسي، عبر بثّ حكايات عن المسلمين القتلة. الأنجع من ذلك كله كان اقتراح الحزب، الذي قدّموه إلى البرلمان في 2019، بحظر حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على (بي دي إس) في ألمانيا. 

كانت تلك، من الناحية الاستراتيجية، حركة رائعة، فقد تسببت بالذعر لدى جميع الأحزاب الألمانية الأخرى. عندما دخل حزب البديل من أجل ألمانيا البرلمان، رفض النّواب الجلوس بجوار نوّابه، وكانوا من حيث المبدأ ضد أي شيء يقترحه الحزب. كيف تمكّنَ حزب البديل من أجل ألمانيا، إذن، أن يتفوق عليهم في مَحبَّة الساميّة؟ كان الحل الذي توصَّلَ إليه البرلمان هو توحيد الصفوف وإقرار الحظر الذي يطال أي شخص «مقرب من حركة مقاطعة إسرائيل» من التحدث أو العرض أو الأداء في الأماكن التي تمولها الدولة. وعلى عكس قرار حزب البديل من أجل ألمانيا، بدا هذا القرار المختلف قليلاً، متوافقاً مع الحماية الدستورية لحرية التعبير، على الرغم من أن كل محكمةٍ طُعِنَ بالقرار أمامها قد أعلنت أنه غير دستوري.

وسواء كان القرار غير دستوري أم لا، فقد بات مُستخدَماً بانتظام. وكانت ضحيته الأولى الباحث اليهودي المشهور بيتر شيفر، الذي أُجبر على الاستقالة من منصب مدير المتحف اليهودي في برلين بعد أن اشتكى نتنياهو منه إلى وزير الثقافة الألماني. وفي الآونة الأخيرة، تم استخدام القرار لطرد ماتوندو كاستلو، وهو ألماني من أصل كونغولي يبلغ 29 عاماً، من وظيفته كمقدم لبرنامج تلفزيوني للأطفال. وجريمته؟ حضور مهرجان بيئي للأطفال في الضفة الغربية.

كلما ساءت الظروف في إسرائيل/فلسطين، كلما ازدادت حماسة وسائل الإعلام الألمانية في البحث عن حالات معاداة الساميّة لإدانتها. وفي تموز (يوليو) 2023، تمّت الإشارة – بإيجاز – إلى نجاح نتنياهو في تقويض النظام القضائي الإسرائيلي في الصحف الألمانية الكبرى. ولكنّ الشيء الذي ملأ موجات الأثير الألمانية في الأسابيع التي تلت ذلك كان تقارير حول شيء كان ينبغي أن يكون فضيحة صغيرة على الأكثر، عندما اعترف الصحفي الألماني الشاب فابيان فولف، بأنه، على عكس ما يُفترض عنه، ليس يهودياً.

لا يوجد شيء أكثر ألمانيّة من الرغبة في أن تكون يهودياً. بعد فترة وجيزة من الحرب، انتحلَ العديد من النازيين هويات يهودية لتجنب اكتشافهم، كما أخبرَت ببراعة رواية إدغار هيلسنراث الساخرة النازي والحلّاق (1971). في الكثير من الأحيان، لم تكن هذه الرغبة انتهازية بقدر ما كانت مدفوعة بالتوق. مَن مِنّا لا يُفضِّلُ أن تكون دماء الضحايا في عروقه بدلاً من دماء الجُناة؟

لم يكن ميل فولف إلى تصديق إشارات أمّه الغامضة حول أسلافه اليهود المفترضين شيئاً خارج المعتاد. هناك ألمان أصبحوا قادة كنيس وحتى حاخامات من خلال قيامهم بأشياء مماثلة. عيبُ فولف القاتل بالنسبة لوسائل الإعلام الألمانية كان أنّه أصبح يهودياً يسارياً كونيّاً، ينتقد الحكومة الإسرائيلية ويكتب مقالات عن توني جُدت وإسحاق دويتشر. الغضب الذي هاجمَتهُ به كل الصحف الكبرى لم يكن له صلة بحقيقة أنّه تخيَّلَ نفسه من أصل يهودي، مثل العديد من الألمان الذين سبقوه، وإنّما بحقيقة أنه انتقد السياسات الإسرائيلية من هذا الموقف بالذات.

إن التعبير عن السخط إزاء فظاعات الألمان شيءٌ سهل بالنسبة إلى الألمان. أما التعبير عن السخط إزاء فظاعات اليهود فيُخشى أن يكون رجعياً أو وليد معاداة الساميّة التي ورثوها حتماً. ورغم عدم توافق مقولته مع نظرياته الخاصة حول الفعل التواصلي، إلا أن فيلسوف ألمانيا الكبير يورغن هابرماس قالها بنفسه: ليس للألمان من جيله الحق في انتقاد إسرائيل؛ الأمرُ الذي لم يشجّع الشباب الألمان من بعده على الخوض علناً في المسألة. وقد أخبرتني إميلي ديش-بيكر، المديرة اليهودية للفرع الألماني لتحالف الشتات، وهي منظمة غير حكومية صغيرة مكرسة لمحاربة معاداة الساميّة وإساءة استخدام مزاعم معاداة الساميّة، أنّ معظم الألمان لا يستطيعون تحمل مواجهة الحقيقة: «لقد أرادوا أن تكون دولة إسرائيل النهاية السعيدة للمحرقة النازية، ولا يمكنهم قبول حقيقة أنه لا توجد نهاية سعيدة».

ليست الحالات التي وَصفتُها شاملة بأي حال، بل هي محض نماذج. تصلني حالاتٌ جديدة من القمع المحبّ للساميّة كل أسبوعين. وقد تَثَبَّتَ تحالف الشتات من تسعة وخمسين حالة إلغاء – لمناقشات أو عروض أو معارض أو مناصب وظيفية – خلال العامين الماضيين فقط. ما لا يمكن التحقق منه هو الحالات التي تبقى مخفية وراء الأبواب المغلقة. سوف تنتهك هيئات المحلفين التزامها بالسرية إذا كشفت عن عدد المرات التي يُحرَم فيها شخصٌ ما من جائزة أو وظيفة بسبب مزاعم غير مثبتة بمعاداة الساميّة يطلقها مدوّنون من الدرجة الثالثة. أعرف أربع قضايا تتعلق بشخصيات بارزة لَم يتم الكشف عنها مطلقاً. ولكن لا يستطيع أحد أن يحصي أعداد أولئك الذين يمارسون الرقابة الذاتية قبل توجيه التهمة إليهم، أو أولئك الذين وقعوا في مشاكل ولكنهم امتنعوا عن الظهور علناً خوفاً من المزيد من الانتقام.

وبينما تستمر التهديدات بقطع التمويل عن الجماعات ذات الميول اليسارية، فقد اندلعت فضيحة من نوع آخر في أواخر آب (أغسطس) 2023، عندما كشفت صحيفة سودّويتشه تزايتونغ عن أن نائب حاكم بافاريا ووزير المالية هوبرت أيفانغر كان ضليعاً بمنشور كريه نُشِر في 1987، عندما كان مراهقاً. وقد تضمن المنشور مسابقة وهمية من أجل «العثور على أعظم خائن للوطن»، جائزتها الأولى هي «رحلة مجانية في مدخنة أوشفيتز»، وجائزتها الثانية «إقامةٌ مدى الحياة في مقبرة جماعية»، إلى آخره. وسواء كتب أيفانغر المنشور أم لا، أو عُثِر على نسخ منه في حقيبته المدرسية، أو كتبه أخوه الأكبر، كما ادّعى فيما بعد، فإن الحقيقة قد تبقى مجهولة، لأن أيفانغر عندما استُجوِبَ فيما بعد، كان من المراوغة بحيث لم يأخذه إلا قلّة على محمل الجد، ودعا الزعماء الوطنيون للأحزاب ذات الميول اليسارية إلى استقالته.

ولو أعرب أيفانغر عن خجله أو ندمه الصادقَين، لكانت القضية قد انتهت بهدوء. ومن مِنّا لن يتوب عن شيء اقترفه وهو في السابعة عشرة من عمره؟ ولكن الأسوأ من النشرة كانت ردة فعل أيفانغر، الذي صوّر نفسه على أنه ضحية للصحافة الليبرالية ومتمردٌ ضد ما أسماه السياسيون الداعمون له «عصابَ الذنب الجماعي» و«الأخلاقيات السامّة»، وظلّ متمسكاً بسلوكه حتى بعدما ذكر زملاء دراسته السابقون المزيد من الأمثلة على استخدامه للّغة والرموز النازية خلال المرحلة الثانوية. بل إنّ صحيفة دي تزايت قارنت ردود أفعاله بردود أفعال دونالد ترامب حيال التُّهم التي وجِّهت إليه.

وسرعان ما حصل حزب أيفانغر الصغير، الناخبون الأحرار، على نسبة %5 في استطلاعات الرأي التي سبقت انتخابات الولاية المقبلة في تشرين الأول (أكتوبر). وعلى عكس ما حصل مع ماتوندو كاستلو، الكونغولي الألماني الذي فقد وظيفته بعد زيارة مهرجان للأطفال الفلسطينيين، أو نيمي الحسن، الطبيبة الفلسطينية الألمانية التي تم إلغاء موعدها لاستضافة برنامج تلفزيوني علمي على الرغم من تعبيرها الصادق عن الندم لحضورها مظاهرة إسلامية قبل تسع سنوات، احتفظ أيفانغر بمنصبه. أعرب الكثير من السياسيين والصحفيين الألمان عن غضبهم بسبب رفض حاكم ولاية بافاريا إقالة أيفانغر، ولكن آخرين زعموا أن هذا هو الخيار الوحيد، وأنّ التضحية السياسية بأيفانغر لن تُسفر إلا عن جلب المزيد من الدعم لحزبه الذي يزداد تطرّفاً إلى اليمين. إن عبارة «كفى شعوراً بالذنب» تجذب أصوات الناخبين والناخبات، وليس فقط في بافاريا. انتُشِلت صورة للمحافظ على فيسبوك وهي تُظهره يحمل لافتة صغيرة مكتوب عليها «نحن نتذكر». لاحقاً، كتَب باللغة الإنكليزية، في تورية عنصريّة لناخبيه وناخباته: «إننا نعرف كيف ينبغي التحدث مع الأجانب، ولكننا نعرف أيضاً ما نفكّر فيه في بافاريا». اقترح مفوض معاداة الساميّة الفيدرالي في ألمانيا أن يقوم أيفانغر بزيارة الموقع التذكاري لمعسكر داخاو. والعزاء الوحيد في كل هذه القصة البائسة هو أن إدارة الموقع طلبوا منه ألّا يأتي.

ماذا يمكننا أن نتعلم من جهود الألمان في مواجهة التاريخ الإجرامي لبلادهم؟ قبل أربع سنوات، كنت أعتقد أن بإمكانهم أن يكونوا نموذجاً يحتذى للدول الأخرى التي تحاول مواجهة إخفاقاتها والعمل على بناء نُسَخ أكثر صدقاً لتاريخها. لم يكن النموذج الألماني مثالياً قط، ولكن لم تجرب أي دولة شيئاً مثله من قبل. فكيف يمكن للألمان أن يأملوا في تصحيح الأمور؟

لقد جعلتني السنوات الثلاث الماضية أكرر جملة كان صديقي وزميلي الذي أفتقده بشدة، توني جُدت، يحب أن يقتبسها: «عندما تتغير الحقائق، أغير رأيي. ماذا تفعل، سيدي؟» لقد تغيّرت الحقائق في ألمانيا إلى درجة أنني أظن أن أقصى ما يمكن تعلّمه الآن هو الحذر. حزب البديل من أجل ألمانيا هو الحزب الوحيد الذي يقترح العودة إلى الأيام التي تسبق اعتراف الألمان بكونهم جُناة الحرب العالمية الثانية، تماماً مثلما يتمسَّك العنصريون البيض في أميركا بمظلوميّة الكونفدرالية. ولكن منذ أن بدأ الاعتراف الذي طال أمد انتظاره بأنّ أميركا لا بدّ وأن تواجه الجانب المظلم من تاريخها، صارت العديد من الأصوات تنكر وجود أيّ شيء سوى الجانب المظلم في تاريخ أميركا.

لا شك بأن الحملة اليمينية لحظر أي شيء قد يسبب عدم الراحة في الفصول الدراسية الأميركية هي حملة بالغة الخطورة، فعلى كلّ شخص أن يفخر بانتمائه إلى أمّة من بين أبطالها مارتن لوثر كينغ وتوني موريسون، وهما كاتبان حُظِرَت أعمالهما العديد من المجالس المدرسية. ومثلما يحفل تاريخ أميركا بألوان الظلم والاضطهاد، فإن لديها أيضاً رصيداً عامراً بالأشخاص الذين ناضلوا ضد الظلم والاضطهاد. ولولا الأمثلة على الرجال والنساء الشجعان الذين عملوا معاً لتحقيق المزيد من التقدم نحو العدالة، لن تكون لدينا يوماً الإرادة لبذل المزيد. إنّ من لا يستطيعون الاعتراف بماضي التقدُّم محكومٌ عليهم بالرضوخ للسينيكيّة أو الاستسلام. وتصوير التاريخ الأميركي بأكمله كمُحرِّك لتفوق العرق الأبيض، أو تصوير التاريخ الألماني بأكمله على أنه مسموم بشكل حتميّ بمعاداة الساميّة، من شأنه أن يثير ردود فعل عكسية، كما حدث بالفعل. ولكن حتى لو لَم يُثِر ردود فعل عكسية، فإنّه لن يكون صواباً – أليس طلب المحاسبة التاريخية في حد ذاته طلباً للحقيقة؟

لقد أخبرني بريان ستيفنسون بهذه النقطة، عندما أجريت معه مقابلة خلال تأليف كتابي التعلُّم من الألمان. ستيفنسون هو مؤسس النصب التذكاري الوطني للسلام والعدالة، المعروف باسم النصب التذكاري للإعدام الغوغائي، الذي أنشأه بعدما شهد أمثلة على المحاسبة التاريخية في ألمانيا. عندما زرته في مونتغمري قال لي ستيفنسون، من بين أمور أخرى: «على الأميركي أن يفخر بأولئك الجنوبيين البيض في ميسيسيبي ولويزيانا وألاباما، الذين جادلوا في خمسينات القرن التاسع عشر بأنّ العبودية ممارسة خاطئة. كان هناك جنوبيون بيض في عشرينات القرن الماضي حاولوا وقف عمليات الإعدام الغوغائي، ولا نعرف أسماءهم».

يعتقد ستيفنسون أن إحياء ذكرى تلك الأسماء من شأنه أن يساعد الولايات المتحدة على التحوُّل من العار إلى الفخر: «يمكننا في الواقع أن ندّعي تراثاً متجذراً في الشجاعة، وأن نتحدى فعل الأمر السهل، ونفضّل فعل الأمر الصائب. يمكننا أن نجعل هذا المعيار الذي نريد الاحتفاء به باعتباره تاريخنا وتراثنا وثقافتنا الجنوبية».

يحملني تذكُّرُ تلك الزيارة بعد بضع سنوات على التفكير بأولئك الألمان الذين يتصوّرون أن تاريخهم قاتمُ السواد إلى درجة رفضهم الاعتراف بأي تقدُّم مُحرَز، ويصرون على أن محاولات بلادهم لمحاسبة نفسها على جرائمها الماضية ليست إلا خداعاً أو مهزلة. تفشل هذه الأطروحات التبسيطية في تحديد العيوب الكامنة في ثقافة الذاكرة الألمانية. جزءٌ من المشكلة هيكليٌ الطبيعة. فعندما يُطالب المواطنون دولهم بمواجهة ماضيها العنصري، الذي يضمن إلى حد بعيد استمرار سياساتها العنصرية، فإنهم يسعون إلى تغيير الوعي الوطني. وعندما ينجحون إلى حد كبير، كما حدث في ألمانيا، فإنهم يريدون أن يؤدي التغيير في الوعي إلى تغيير في السياسات. لذلك أصبحت التواريخ والأحداث التي كانت منسية بسرور، بمثابة مناسبات رسمية: ليلة البلّور، محاولة اغتيال هتلر عام 1944، تحرير أوشفيتز، وغيرها من المعالم البارزة، جميعها يتم إحياؤها بانتظام، بعضها على المستوى الفيدرالي والبعض الآخر على مستوى الولايات، بقيادة سياسيين مهذبين يرتدون الكيبّاه اليهودية، وأحدُ الناجين المسنّين من المحرقة، ومؤدّي كليزمرنمط وتراث موسيقي خاص باليهود الأشكيناز. واحد على الأقل.

لكن السياسات الحكومية هي… سياسات حكومية، أي أنها ليست حساسة لدقائق الأمور. وطالما أنها لا تستند إلى الخوارزميات، فإنها تواجه خطر الاعتماد على صيغ يمكن أن تصبح متحجرة وتلقائية. هذا ما حدث لعقيدة مُناهَضَة الفاشية في جمهورية ألمانيا الديمقراطية.

من بين النتائج التي أسفرت عن اتباع النهج التقليدي في المحاسبة التاريخية تصوّر المجموعات التي تعرضت للاضطهاد كما لو أنها تتحدث بصوت متجانس وثابت إلى الأبد. وإذا اعتبرت ألمانيا أن اليهود الذين يركزون على معاداة السامية هم فقط اليهود الحقيقيون، فإن أميركا عرضة لخطر اعتبار الأميركيين السود الذين يرَون العنصريةَ مصدرَ كل الشرور على أنّهم السود الوحيدون الحقيقيون. إن التصور البكائي للتاريخ اليهودي ليس بعيداً عن النظرة الأفريقية التشاؤمية للتاريخ التي طرحها كُتّابٌ مثل فرانك بي ويلدرسون الثالث. هل هناك طريقة للاعتراف بالعنصرية ومعاداة الساميّة دون تحويل أولئك الذين يعانون منها إلى ضحايا أبديين؟

ينبغي أن يكون من الممكن فحص الجرائم التاريخية بعناية ودقة، رغم معرفتنا بنُدرة هذه الصفات. إن إحدى الدروس التي يمكن للأميركيين أن يتعلموها من الألمان هو مدى السوء الذي قد تؤول إليه الأمور عند فقدان العناية والدقة. لقد شهدت أميركا خلال السنوات القليلة الماضية عملية محاسبة تاريخية هائلة؛ إلا أن عملية محاسبة تاريخها السياسي العنصري لم تبدأ بعد، على الرغم من جهود المؤرخين والمؤرخات المحترفين. فالقمع المنهجي والعنيف للحركة العمالية، والذي استمر بعد انتهاء المكارثية، خلّفَ الشعب الأميركي بحقوق أقل من تلك التي يتمتع بها مواطنو أيّ ديمقراطية ثرية مُماثلة. دراسة التاريخ السياسي المنسي لأميركا جزءٌ بالغ الأهمية من أجل العمل نحو مستقبل يصبح فيه السعي وراء السعادة حقيقة واقعة للجميع. ولكن من أجل تحقيق ذلك، نحتاج إلى المحافظة على فكرة التقدم، إلى جانب معرفة أنّه نادراً ما يسير في خط مستقيم.

* * * * *

ألمانيا على الحافّة

خلال الأسابيع الماضية، وصل الدفاع عن إسرائيل في ألمانيا، وقمع أي جهة تنتقدها، درجة الغليان 

تزداد الذكريات ضبابية. لكن الغريب أنّ ألمانيا قد نسيت هجمات 11 أيلول (سبتمبر) في أعقاب المذبحة التي اقترفتها حماس، رغم أنها كانت لحظة مفصلية في تاريخ ألمانيا بعد الحرب. فمنذ 1945، دعمَت ألمانيا الغربية كل قرارات السياسة الخارجية الأميركية، بما في ذلك نشر صواريخ نووية على الأراضي الألمانية، وحذَت ألمانيا الموحدة حذوها. لذلك، تردَّدَ الكثيرُ بشأن إدانة الحرب في العراق عام 2002، وانسكب كثيرٌ من الحبر الألماني التماساً لتفهّم صدمة أميركا بعد 11 أيلول. في ذلك الوقت، أعلنَت حكومة التحالف الاشتراكي الديمقراطي / الخُضر بأنّ الصدمة ليست أساساً لاتخاذ قرارات سياسية معقولة، ورفضَت دعم غزو العراق. 

شهدت السياسة الأميركية لحظة مفصلية خاصة بها في 18 تشرين الأول (أكتوبر)، عندما خاطب جو بايدن الشعب الإسرائيلي قائلاً لهم إنّه يتفهم غضبهم ويتعاطف مع آلامهم، ولكنه يأمل ألّا يرتكبوا الخطأ نفسه الذي ارتكبته أميركا بعدما اقترفَ تنظيم القاعدة مذبحة بحقهم أودت بحياة ثلاثة آلاف مدني صباح ذلك اليوم من أيلول. ربما كانت هذه أول مرة ينتقد فيها رئيس أميركي سياسة أمريكية معاصرة وهو يقف على أرض أجنبية. لاحظت الصحف الألمانية خطاب بايدن، ولكنّي لم أرَ أحداً هنا يتابع أفكاره. في نهاية المطاف، كان من الممكن إدراكُ هَولِ المذبحة ومعارضة الحرب في العراق في الوقت نفسه؛ ملايين منّا فعلوا ذلك. ألمانيا هي ثاني أهمّ حليف لإسرائيل، لذا يمكنها أن تلعب دوراً مفيداً في تذكير قادتها بأن استمرار الهجمات الضخمة على غزة ستكون لها عواقب مُدمّرة. 

يمكن القيام بذلك دون ذِكر لحقوق الإنسان أو أرواح الفلسطينيين، فالمُحاججة البسيطة على أساس العواقب تعمل أيضاً. لقد كلّفت الحروب في أفغانستان والعراق ترليونات من الدولارات من أجل قتل عدد لا يحصى من المدنيين والجنود، وخلقت أزمات في الشرق الأوسط ما زلنا نُعايشها حتى اللحظة. في معظم أنحاء العالم، عزّزت هذه الحروب شعوراً بالريبة من دوافع الولايات المتحدة وأساليبها، قد لا يزول أبداً؛ كل ذلك يجعل من المُحال استخدام عبارات مثل «الوضوح الأخلاقي» دون إثارة السخرية. 

لا شكّ بأن موقف إسرائيل الهشّ في الساحة الدولية سيتضرر مع كل تصعيد إضافي للحرب على غزة، كما لن يَسَعَ حماس إلّا أن تستفيد من المزيد من صور الأطفال القتلى الذين كتَب آباؤهم أسماءهم على أرجلهم على أمل أن يتم التعرف على جثثهم بعد أن تسوّي القنبلة التالية منازلهم. حتى أولئك الذين لا همّ لهم إلّا حياة اليهود، لا ريب يعرفون أن الحرب الواسعة لن تجعل إسرائيل أكثر أماناً لفترة طويلة. فإلى جانب تحطُّم 1400 حياة يهودية، تحطّمت أيضاً السياسات الأمنية التي عززت الدفاع الإسرائيلي في 7 تشرين الأول (أكتوبر).

وقد تناولت صحف مثل هآرتس، والعديد من الصحف الأميركية، هذه القضية بشكل يومي. ولكن لو قُلتَ شيئاً مشابهاً في ألمانيا، فيُستحسَنُ أن تهيئ نفسك لمواجهة تُهمة معاداة الساميّة – وأن تتأكد من أن وظيفتك آمنة. 

تصاعد إصرار ألمانيا على التكفير عن ذنوب النازيين، من خلال إعلان إسرائيل مصلحةً قومية لها، حتى درجة الغليان في الأسابيع الأخيرة. ودعا السياسيون اليمينيون إلى جعل الدعم غير المشروط لإسرائيل شرطاً للعيش في ألمانيا. من غير المُستغرَب أن هذا النداء يستهدف المهاجرين والمهاجرات من بلدان إسلامية، أما مواطَنة أعضاء الرايخسبورغر، وهي مجموعة من الألمان البيض اليمينيين المُعادين للساميّة، الذين تم اعتقالهم في كانون الأول (ديسمبر) 2022 أثناء التخطيط لانقلاب ضد الحكومة، فستبقى آمنة في الدولة التي يرفضون الاعتراف بها.

أولئك الذين يُفضّلون التفكير الأخلاقي على المنطق الذرائعي لديهم حجةٌ لوقف إطلاق النار ربما تَعلَّموها في رياض الأطفال: لا يصنع خَطآنِ صواباً. فقط أولئك الذين يعتقدون أن الشر شيءٌ يوجد في جوهر بعض الناس يمكنهم إدانة جريمة حرب واحدة دون أُخرى. تقسيم الشرور إلى أكبر وأصغر، ومحاولة وزنها، ليس أمراً ميؤوساً منه فحسب، بل وربما فاحشاً أيضاً. لا ينبغي قياس الشر كميّاً، ولكن يمكن تمييز أشكاله عن بعضها. بعد مُراسلته أحد الطّيارين المُشاركين في رمي القنبلة النووية على هيروشيما، قدّمَ الفيلسوف اليهودي الألماني غونتر أندرس تمييزاً مهماً مفاده: إنّ أيَّ شخص يستطيع قيادة طفلة إلى غرفة الغاز، أو حرقها حية، لديه هوّة حيث يجب أن تكون هناك روح. معظمنا لن يتمكن من فعل ذلك. ولكن من الأسهل رمي قنبلة على أطفال لا نستطيع رؤيتهم. لهذا السبب بالتحديد، يكون النوع الثاني من الشرّ – حسب أندرس – أكثر خطورة. ولكن ما الذي يمنعنا من إدانة كلا الشرَّين؟

بينما كان جو بايدن يتحدث في تل أبيب، كان معرضُ الكتاب السنوي في فرانكفورت يفتتح أبوابه. تستحضر عبارة «معرض فرانكفورت للكتاب» أجنحة وحلويات وألواناً مختلفة، خاصة عندما يعلم الزائر أنّه كان حدثاً أدبياً مُهمّاً منذ أن قام يوهانس غوتنبرغ بتطوير الطباعة بالحرف المتحرك ليس بعيداً عن نهر الراين. يشبه معرض فرانكفورت للكتاب مطاراً مكتظاً، إذا كانت المطارات تحتوي على آلاف الأكشاك التي يتداول فيها جميع الزوار أفكارهم. ونظراً لأن طوابير المطاعم الطويلة تمنع التنقل بِحُرّية بين الاجتماعات، يكتفي باعة الأكشاك بتناول البطاطس وشرب المياه. ولكن المعرض هو أكبر تَجمُّع للقرّاء والقارئات في العالم، وكل مُؤلِّف أو ناشر لديه كتاب جديد يريد الترويج له، وكل وكيل أو مُنتِج أفلام يود إبرام صفقة، وكل وسيلة إعلامية تريد تأكيد وجودها، يجب أن تحضر معرض فرانكفورت للكتاب. حتى في أفضل الأوقات، هذا معرضٌ يطغى على الإنسان. 

هذا العام، سُئل المؤلفون اليهود عمّا إذا كنا نرغب بالحصول على مرافقة أمنية بالإضافة إلى الحراسة المسلحة التي تجوب الممرات. وإلى جانب فحص التذاكر، فُحِصت الحقائب عند الدخول، رغم أن أحد الحراس أكد لي أنّهم لم يكونوا يبحثون عن قنابل أو أسلحة، بل عن «أي رموز سياسية. بالأمس حاول أحدهم تهريب أعلام فلسطينية». هذه الأخيرةُ قانونية، ولكن ذلك غير مهم. أشعلَ معرض فرانكفورت للكتاب شرراً قبل أن يفتتح أبوابه. 

الشرارة الأولى كانت إعلان إلغاء – أقصد «تأجيل» – حفل منح جائزة للكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي، عن روايتها تفصيل ثانوي، التي رُشِّحَت للعديد من الجوائز العالمية، وتسرد قصة فتاة بدوية تَعرَّضت إلى اغتصاب جماعي على يد جنود إسرائيليين قتلوها في 1949. القصة حقيقية، وقد سُجِن بعضُ الجنود بسبب الجريمة. ولكن منظمي معرض الكتاب قرروا أنّه من غير المناسب منح الجائزة لهذه الرواية في مثل هذا الوقت. احتجّت إيفا ميناسه، المتحدثة باسم جائزة القلم في برلين، على القرار بقولها: «لا يوجد كتاب يتذبذب، أو يصبح أفضل أو أسوأ أو أكثر خطورة لأنّ الأخبار قد تغيَّرت. إما أن يستحق الكتابُ جائزة ما أو لا يستحقها… وحرمان شبلي من الجائزة خطأ سياسي وأدبي». ميناسه كاتبة نمساوية متميزة، نجا والدها اليهودي عندما أُرسِلَ إلى إنكلترا على متن عربة لنقل الأطفال. احتجاجاً على قرار حجب الجائزة عن شبلي، قرر الكتّاب السوريون الذين دعتهم منظمة جائزة القلم برلين لقراءة أعمالهم في فرانكفورت مُقاطَعة المعرض بالكامل. ونظّمت ميناسه، بالاشتراك مع مُؤلِّفين يهود، قراءة جماعية لرواية شبلي – فقد أدركوا أن قرار حجب الجائزة كان في المقام الأول خطأ سياسياً لن يُسفر إلّا عن تغذية وجهات النظر الإسلامية والفلسطينية بالأخص، التي لا يمكن سماعها في ألمانيا. 

يضم المعرض كل عام كُتّاباً ومؤلفين من دولة ضيف واحدة. ولأنّ العام كان دور سلوفينيا، فقد ألقى أشهر كاتب سلوفيني في العالم الكلمة الافتتاحية، انتقد سلافوي جيجك خلالها قرار إلغاء منح الجائزة لشبلي، وأصرَّ – بعد إدانة فظائع حماس بعبارات لا لبس فيها – على تحليل السياق الذي حدثت فيه. كانت حُججه أكثر دماثة من الكثير من المُحاججات التي قرأتُها على صفحات هآرتس أو النيويورك تايمز خلال الأسابيع الماضية، ولكن مُفوَّض معاداة السامية المحلي هاجم جيجك واتهمه بإجراء مساواة أخلاقية خاطئة لم يقترفها. إن ادعاءات جيجك، رغم كونها أقلّ إقناعاً، لم تختلف كثيراً عن ادّعاءات حنة آرنت في كتابها آيخمان في القدس: إذا أردنا أن نُبطِل الشر، فيتعين علينا فهمه أولاً. ولكن وقتها، لم يقتنع إلا قليلٌ من الناس بكلام آرنت. التنديد أسهل دوماً من الفَهم.  

يختتم معرض فرانكفورت للكتاب، كل عام، الحفلَ السنوي بجائزة السلام، وهي الجائزة الأدبية الأهمُّ في ألمانيا. هذا العام، مُنِحت الجائزة إلى سلمان رشدي لإصراره الشُجاع على حرية التعبير. 

لقد أصبحت الإدانات الألمانية لحماس، وتصريحات التضامن الذي لا يني مع إسرائيل، تلقائية إلى حدّ أنّ إحداها ظهرت في ماكينة الصرّاف: «نشعر بالذهول من الهجوم الوحشي على إسرائيل. نود أن نعرب عن تعاطفنا مع شعب إسرائيل والضحايا وعائلاتهم وأصدقائهم». ظهر الإشعار مرة عندما نَقرتُ على الشاشة، ومرة أخرى عندما اخترتُ اللغة، ومرة ثالثة عندما كتبت رقم التعريف، ومرة أخيرة عندما خرجَت الأموال من الفتحة. مثل هذه التصريحات، سواء جاءت من آلة أو من شخصية سياسية، لا تجعلني أشعر بالأمان، بل إن تكرار صيغتها التافهة يزيد من مخاوفي من ردود الفعل العكسية. إن دفاع ألمانيا الانعكاسي عن إسرائيل، وامتناعها عن انتقاد الحكومة الإسرائيلية أو انتقاد احتلالها لفلسطين، لا يمكن أن يؤدي إلا إلى شعور غامر بالاستياء. قد يعترف أغلب الساسة بالمشكلة سرّاً، ولكنهم يشعرون بأنهم مضطرون إلى ترديد مثل هذه العبارات الفارغة في العلن – حتى لو عرفوا أن الأحزاب اليمينية تستغل المذبحة التي وقعت لإثارة المشاعر المناهضة للهجرة في ألمانيا.

المسلمون ليسوا الألمان الوحيدين الذين يتزايد استياؤهم. فقد أظهر استطلاع للرأي أجري في 27 تشرين الأول (أكتوبر) أنه على الرغم من تأكيدات الساسة، فقد تضاءل الدعم الألماني لإسرائيل. وبعد أسبوعين من وقوع مذبحة حماس، غيَّر البنك الذي أتعامل معه رسالته: «نحن متضامنون مع ضحايا الحرب والعنف في أوكرانيا، والشرق الأوسط، وأماكن أخرى من العالم». إذا كنت تبحث عن العبارات الفارغة فهذه واحدة معقولة، والبنك في نهاية المطاف يقع في حي تسكنه أغلبية مسلمة، شهد مظاهرات عنيفة بعدما أصاب صاروخٌ المستشفى الأهلي في غزة يوم 17 تشرين الأول. بعدها، تم حظر أي مظاهرة يمكن تفسيرها على أنها مؤيدة للفلسطينيين، بما في ذلك المظاهرات التي أقامها اليهود في برلين. وأطفأت الشرطة الشموع التي أشعلها أشخاصٌ كانوا يندبون أقاربهم الذين قُتلوا في غزة على الأرصفة.

بعد ثلاثة أيام من ذلك، أُرسِلَت دعوات لإقامة إضراب عام في زونينالي، حيث يملك العرب معظم المتاجر، فأغلقوا أعمالهم لمدة يوم تحدياً للحظر المفروض على الاحتجاجات. خلصت الشرطة إلى أن منع المظاهرات لن يؤدي إلا إلى المزيد من أعمال الشغب، وقررت السماح لبعض المظاهرات المؤيدة لفلسطين، والتي أصبحت منذ ذلك الحين سلمية. مع ذلك، فإن شوارع برلين يفوح فيها جوٌّ من الرهبة. الناس في مترو الأنفاق منفعلون، سريعو الغضب في كثير من الأحيان. ألقى رجلان ملثمان زجاجات مولوتوف على كنيس يهودي في وسط المدينة. أخطأوا هدفهم، ولم يُصَب أحد بأذى، ولكن العديد من اليهود في البلاد باتوا يشعرون بالخوف. تساءلَ البعض عمّا إذا كانت كناية المحرقة أو كلمة «المذبحة» تُناسب وصفَ الوضع، ولكن بالنسبة إلى العديد من اليهود، أثارت أحداث 7 أكتوبر مخاوفَ قديمة.

لذلك ليس من المُستغرَب أن يتم إلغاء الفعاليات العامة – سبعة عشر منها حتى وقت كتابة هذه السطور – مع الكتاب والصحفيين والفنانين الفلسطينيين. وقوبلت محاولات صحيفة دي تسايت لإجراء مقابلات مع الفلسطينيين الذين يعيشون في ألمانيا بالاعتذارات: فحيث يتم وزنُ كل كلمة مثل قطع ماس، فضّلَ هؤلاء عدم التحدُّث على الإطلاق. طلبَ مني أحد الألمان البيض المعروفين، الذي تعرض لانتقادات شديدة بعد شجبه العنف الإسرائيلي، ألّا أكتب عنه.

لعلَّ الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو إسكات الأصوات اليهودية الناقدة. فقد عُلِّق حديثاً إنتاج مسرحية الموقف للمخرجة الإسرائيلية يائيل رونين، والتي تتناول حياة الإسرائيليين والفلسطينيين في برلين، واعتبرتها مجلة تياتر أويته المرموقة «مسرحية العام» عندما افتتحت في 2015. كما طُرِد المرشدُ السياحي الذي استخدم كلمة «الفصل العنصري» من المتحف اليهودي في برلين. وتّلقت ديبورا فيلدمان – التي كان كتابها الأكثر مبيعاً، غير تقليدية، أساساً لسلسلة ناجحة على نتفليكس – عدة دعوات لتقديم كتابها الجديد، فيتِش اليهود، ثم أُلغيَتْ جميعها. كتبت فيلدمان فيتِش اليهود بالألمانية، وتناولت فيه تشوهات الهوية اليهودية التي تحدث في بلد يؤدي تصميمه على تخليص نفسه من الذنب الموروث إلى اعتبار اليهود ضحايا أبديين. رفعت حركة حباد قضية على فيلدمان تطالب فيها بإزالة الكتاب من الرفوف، ووصفته الصحيفة الرسمية للجالية اليهودية الألمانية بأنه «سامٌّ من الصفحة الأولى إلى الأخيرة». 

حتى اليهود الذين لا يعيشون في ألمانيا تأثَّروا. ألغَت ساسكيا إسكين، الرئيسة المُشاركة للحزب الديمقراطي الاشتراكي الحاكم، اجتماعاً مع بيرني ساندرز بعد أن وصفَ الهجمات الإسرائيلية على المدنيين في غزة بأنها انتهاكات للقانون الدولي. وهي كذلك بالفعل. ولكن بالنسبة لإسكين، كان تصريح ساندرز بمثابة «نسبية أخلاقية لم تُظهِر أنه كان يقف بوضوح إلى جانب إسرائيل».

لقد ناقشتُ أصدقائي اليهود في برلين، ممّن يتمتعون بنفس النزعة الكونية الراسخة مثلي، حول ما إذا كان الردُّ الألماني على الحرب أفضل من الردِّ الأميركي. «الطاعون أم الكوليرا؟» قُلت، فأجاب أحدهم: «في زمن القبائل، أبحث عن الأمان بدلاً من التضامن. لدي مناعة ضد الكوليرا، وليس الطاعون. إذا تَمكَّنا من التخلص من القَبَلية، فربما سوف يكون لدي مبادئ». ما زلتُ غير متأكدة ما إذا كنت أوافق. فهَل القبلية الملتوية في ألمانيا أفضل من القبلية الأميركية؟ يتألمُ الأساتذة اليهود ذوو الميول اليسارية ونُشطاء العدالة الاجتماعية بسبب تحطُّم صداقاتهم مع الزملاء الذين هلَّلوا لحماس في الولايات المتحدة. كيف سيكون شعور اليهود في برلين بين الأميركيين الذين يطلقون على أنفسهم اسم التقدميين ولكن يبدو أنهم قد فقدوا صوابهم؟ هنا، لحسن الحظ، تبقى نقاشات ما بعد الاحتلال، التي تدور رحاها في الجامعات الأميركية، أكثر عقلانية. إن الألمان الذين يعتبرون أنفسهم تقدميين قد يضعون إسرائيل في الشمال العالمي وفلسطين في الجنوب العالمي، الأمرُ الذي يسلط الضوء على حماقة جغرافية ومفاهيمية. مع ذلك، فإن عقوداً من الحساب التاريخي الألماني منعت أولئك الذين يعتبرون أنفسهم تقدميين من الخلط بين التحرُّر والذبح ــ أو على الأقل من قول ذلك بصوت عالٍ.

إنني أشعر بالفزع، ولكنني لست متفاجئة تماماً من أن كثيرين ممّن يُطلقون على أنفسهم يساريين يفعلون ذلك في أميركا. لقد جادلتُ بأن ما يُسمَّى بـ «اليسار المستيقظ» تُغذيه المشاعر اليسارية التقليدية، مثل الرغبة في الدفاع عن المضطهدين والتصدي للجرائم التاريخية. لكن هذه المشاعر، التي أشاركها أيضاً، قد تم تقويضها من خلال إيديولوجيا رجعية تتخلّى عن المبادئ الأساسية لأي سياسة ليبرالية أو يسارية، أيْ الالتزام بالكونية على القَبَلية، والتمييز الصارم بين العدالة والسلطة، والإيمان بإمكانية تحقيق التقدم. بالنسبة لكلٍّ من اليسار واليمين، أدَّى الصدام بين المشاعر والأفكار إلى خلق ارتباك هائل حول معنى «اليسار» اليوم. إن التفصيل الأكثر مأساوية في الفظائع التي ارتكبتها حماس هو أن العديد ممن قُتلوا أو اختطفوا كانوا من الرجال والنساء الذين كرَّسوا حياتهم للكونية والعدالة والتقدم. الشرُّ ليس نقيضَ الخير فحسب، بل هو مخالفٌ له؛ الشر الحقيقي يهدف إلى تدمير الفروق الأخلاقية بالكامل. ومن خلال مهاجمتهم للإسرائيليين الذين أمضوا سنوات في مساعدة جيرانهم في غزة لكي يحصلوا على الرعاية الطبية، ظهرَت حركة حماس على حقيقتها.

بعد أيام قليلة من المذبحة تلقيتُ رسالة نصية من زميل إسرائيلي لي، تقول: «حماس لم تذبح الناس فحسب، بل ذبحت العقل». كانت إجابتي: «النازيون لم ينجحوا في ذبح العقل، ولا يمكننا أن نسمح لحماس أن تفعل ذلك أيضاً». وكما أشار الكاتب الإسرائيلي الألماني تومر دوتان دريفوس، فإننا لم نقم بتسوية ألمانيا بأكملها بالأرض بعد أن قتلت ستة ملايين يهودي. ردّاً على ذلك، أرسل زميلي مقاطع فيديو لإرهابيين يصرخون «الله أكبر» فوق جثث الإسرائيليين. أعلم أن العقل غالباً ما يخذلنا عندما نكون في أمسّ الحاجة إليه. لذلك لم تكن مقاطع الفيديو هي التي تركت أملي يترنح، بل حدث ذلك عندما صوَّتت الولايات المتحدة وإسرائيل وعدد قليل من الدول التابعة ضد قرار غير ملزم للأمم المتحدة يدعو إلى «حماية المدنيين والوفاء بالالتزامات القانونية والإنسانية». كثيرٌ من البلدان تنتهك هذه الالتزامات بانتظام، ولكن هل وصلنا إلى مرحلة لا نستطيع فيها حتى تأييد تلك الالتزامات بالكلام؟ أمّا ألمانيا فقد امتنعت عن التصويت.