ندوات مُلغاة وبيانات استنكار وانسحابات جماعية، في هذه الأجواء التي ظلّلتها الحرب على غزة افتَتح معرض فرانكفورت للكتاب دورته الخامسة والسبعين. بدأ كل ذلك ليلة الجمعة، قُبيلَ بدء أعمال المعرض وبعد مضيِّ أسبوع على عملية طوفان الأقصى في فلسطين وتفاعلاتها، حين قرر المعرض إلغاء حفل تسليم الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي جائزةَ LiBeraturpreis، والتي تمنحها مؤسسة ليت بروم (Lit Prom) الممولة جزئياً من الحكومة الألمانية ومن معرض فرانكفورت للكتاب نفسه. أرجعت المؤسسة أسبابها في بيان إلكتروني نشرته إلى نشوب «الحرب التي بدأتها حماس، والتي يعاني منها ملايين الأشخاص في إسرائيل وفلسطين». تزامنَ خبرُ إلغاء حفل توزيع الجائزة مع تصريحٍ أدلى به مدير المعرض يورغن بوس، موضحاً فيه أن «الحرب الإرهابية ضد إسرائيل تتناقض مع كل القيم التي يدافع عنها معرض كتاب فرانكفورت»، ومعلناً نيَّته توفيرَ مساحة إضافية بشكل استثنائي في هذه الدورة لأصواتٍ إسرائيلية.
لم يُفلح الغياب شبه الكامل للكاتبات والكُتّاب العرب عن فعاليات المعرض، بالإضافة إلى انسحاب هيئات نشر ومؤسسات عربية وغير عربية، في تفادي مواقف الصدام والتوتر؛ حيث ألقى الكاتب السلوفيني سلافوي جيجك في الحفل الافتتاحي خطاباً توبيخياً لإدارة المعرض بعد يومٍ على مجزرة المشفى المعمداني، وصف فيه ما يحدث في الدورة الحالية من المعرض بالـ«فضائحي» مُديناً غياب أي إمكانية لتحليل «الصراع»، ومنتقداً وكيف لم يأت اسم فلسطين حتى كلفظ إلا على لسان الرئيسة السلوفينية في نهاية خطابها (سلوفينيا هي ضيفة الشرف لمعرض الكتاب في هذه الدورة). ويُذكَر أن موقف جيجك الذي أثار حفيظة جزء من الحاضرين، والذي تعرَّض بسببه إلى المقاطعة واعتُبر «جريئاً» في سياق الحاضر الألماني، قد جاء بعد افتتاحه الخطاب بإدانة صريحة لعملية طوفان الأقصى.
رواية تفصيل ثانوي للكاتبة عدنية شبلي، والتي حازت عنها جائزة LiBeraturpreis من ليت بروم عام 2023، تسترجع وقائع جريمة اعتداء وقتل حدثت على أرض الواقع اقترفها أفرادُ وحدةٍ من جيش الاحتلال الإسرائيلي بحق فتاة بدوية في النقب عام 1949، الجريمةُ التي تعودُ لتتبُّع خيوطها بعد عقود صحفيةٌ مقيمةٌ في رام الله. كانت الرواية قد تعرضت للتشهير واتُّهمت بمعاداة السامية في عدة مناسبات، وتناولتها مقالات صحفية تستهجن تصويرها لإسرائيل «كآلة قتل»، ما ساهم غالباً في اتخاذ قرار إلغاء حفل التسليم، بما يشمل استهجاناً وصل إلى حد مقارنة منح الجائزة لرواية كرواية تفصيل ثانوي باحتفال العرب في حي نويكولن وتوزيعهم الحلوى ابتهاجاً بمقتل مدنيين إسرائيليين.
يوضح الكاتب السوري محمد العطار، الذي أعلن انسحابه من ندوة كان يُفترض أن تجري ضمن فعاليات المعرض، أسباب انسحابه: «جاء قرار الانسحاب بعد الإعلان عن إلغاء مراسم تسليم جائزة أدبية للكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي، الجائزة التي كانت قد حصلت عليها منذ شهور عن روايتها تفصيل ثانوي. المخزي أيضاً أن هذا الإعلان ادَّعى استشارة عدنية قبل اتخاذ القرار، وهو ما نفته عدنية لاحقاً نفياً قاطعاً. من المُقلق حقاً أن تتخلى فعالية ثقافية بحجم معرض فرانكفورت للكتاب عن دورها الأساسي في توفير مناخ قائم على حرية التعبير والنقاش، خاصة في الأجواء الحالية في ألمانيا التي تشهد تضييقاً غير مسبوق على كل الآراء والأنشطة الداعمة للقضية الفلسطينية».
بالنسبة للكاتب المصري، شادي لويس، والذي انسحب بدوره من ندوةٍ خاصة بالأدب العربي المعاصر، هناك نقطتان ساهمتا في قرار انسحابه؛ الأولى متعلّقة بالجدوى في ظل ما يحدث: « ما معنى أن نتكلم عن الأدب والناس تُقتل جماعياً في نفس الساعة، وما معنى أن نتكلم عن الأدب العربي في ألمانيا التي تمنع أي مظاهرات للتضامن مع الفلسطينيين والتنديد بذبحهم وتُجمِّد المعونات المخصصة لهم، وفي الوقت ذاته ترسل سلاحاً وذخيرة للإسرائيليين. يعني تورط مباشر في القتل».
«النقطة التانية» يستأنف شادي «أننا في لحظة أصاب الغرب فيها لوثة الحرب، انهيار مفاجئ للثقة في إمكانية التواصل والحوار، فيه تعطُّل لوظيفة لغة مشتركة، كل تعبير يمكن اتهامه بمعاداة السامية وحجبه وقصه وإلغائه. من فرنسا اللي بتمنع مسرحية فلسطينية لفرانكفورت، للجارديان اللي بتفصل رسام كاريكاتير عشان رسمه لنتنياهو. فيه مصادرة كاملة ومسبقة على الكلام ضد طبول الحرب، وافتراض مبدئي وأساسي أنه الفلسطينيين وعلى الأغلب العرب كلهم هم حيوانات وفي أفضل الأحوال بشر من درجة أدنى. وده كله سياق يخلي الواحد ماعندوش رغبة لا أنه يتواصل مع الأوروبي ولا يسمعه ولا يفهمه ولا يحاول يقنعه بحاجة. مش مضطر أقنع الأوروبي أني مش حيوان، دي مهمة مهينة جداً والأفضل هو الانسحاب والصمت».
في تصريح صحفي مُقتضَب أعلن مدير المعرض «حزنه لانسحاب فعاليات عربية» من المعرض، مؤكداً أن المعرض يقف بالتساوي مع «ملايين الضحايا على الطرفين ممن أثَّرت الحرب على حياتهم».
قرار الإلغاء هو جزءٌ من صورة أعم في المشهد الأوروبي حالياً وفي ألمانيا على وجه الخصوص، حيث تعمل آلة الإلغاء بحق الصوت الفلسطيني والصوت الداعم لفلسطين على مستويات عدة، وما يبدأه جهاز الشرطة في الشوارع ومع المتظاهرين تُكمِلُه الهيئات الثقافية ومنصات الإعلام بذريعة معاداة السامية. والصوت الذي لا تُسكته الهراوة يلاحقه الحذف والترهيب والضغوطات وصولاً إلى الفصل من العمل وحملات تشويه السمعة العلنية، وعلى «ذنوبٍ» لا تتجاوز في بعض الأحيان إعجاباً ببوستات سوشل ميديا.
منذ عقودٍ تُواجه شتى أشكال العمل والإنتاج الثقافي والمناصرة الفلسطينية عوائقَ وتضييقاً في ألمانيا. يكثر الحديث عن الذنب التاريخي الألماني وتَمثُّله في هذا التضييق. مظاهرات يوم النكبة ممنوعة في برلين، في المظاهرات الفلسطينية قد ترفع لافتة: «الحرية لفلسطين من الذنب الألماني»، إذ يبدو أن كثيراً من عبء المحاكمة الألمانية اللامنتهية لتاريخها يقع على كاهل القضية الفلسطينية، وقد بدأت آثار هذا التوجه تظهر بشكل ملموس في العقدين الأخيرين على نحوٍ ممأسس ومتداخل مع سيرورة العمل الثقافي من جهة، وعلى شكل نوبات تصعيد تتكثف في مناسبات بعينها من جهة أخرى؛ مثل حملة اتهامات معاداة سامية بالجملة للفنانين الفلسطينيين المشاركين في معرض دوكمتنا الفني في مدينة كاسل الألمانية عام 2022، ويصل إلى حد أن تنشر صحيفة بيلد في ظل الوقائع الحالية عنواناً مثل: البرابرة بيننا لمقال مرفق بصورة مظاهرة تنتصر لفلسطين في شارع العرب في برلين، كذلك سبق وأن صنَّف البرلمان الألماني (البوندستاغ) حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل (BDS) عام 2019 كمجموعة تستخدم تكتيكات معادية للسامية لتحقيق أهدافها السياسية، في ذلك الحين لاحقت حملات التشهير والضغط أي صوتٍ معارض لهذه الخطوة، مثل مدير المتحف اليهودي في برلين حينها، بيتر شيرفر، والذي اضطر للاستقالة من منصبه على إثر الضغوطات، بعد نشره لتويتة تضم رسالة مفتوحة من باحثين وأكاديميين يهود ضد قرار البوندستاغ بتجريم حركة (BDS). بعضُ الحوادث كانت مثيرة للضحك على فظاعة ما تُمثِّلُه وتستبطنه من تربصٍ ومزاودة، مثل احتجاجاتٍ ظهرت في حمّى مهاجمة معرض دوكمنتا ضد حفلة (BDSM) التي أُعلن عنها في المدينة، ظناً من المهاجمين أنها حفلة تابعة لحركة مقاطعة إسرائيل (BDS)!
ما قد يُعَدّ معادياً للسامية في العرف الألماني السائد، يمتد على طيف واسع من أشكال التعبير والتفاعل. في خطاب سلافوي جيجك المذكور سابقاً في هذا التقرير، قوطع جيجك مرتين على الأقل من قبل أحد الحاضرين بنبرة لا تخلو من تهديد مستبطن، والذي اتهمه بإجراء مقارنة، وهو ما يعتبر، إلى جانب التنسيب (relativasion) في السياق الألماني، جزءاً من ممارسة عامة متهمة بمحاولة تبسيط جرائم مرتكبة بحق ضحايا من اليهود عبر مقارنتها بجرائم أخرى بهدف الإقلال من شأنها، وهي تهمة تعود جذورها إلى عقود سابقة وتم البناء عليها وبلورتها منذ أواخر عقد الثمانينيات، حين كان مؤرخون ألمان محافظون متهمون بمحاولة التقليل من أهوال الهولوكوست بمقارنته بجرائم ستالين مثلاً، وذلك خلال ما عرف بخلاف المؤرخين.
يطرح أفراد وتجمعات وفعاليات ثقافية على الدوام مبادرات ونقاشات حول إشكاليات الرقابة على العمل والنشاط الفلسطيني في ألمانيا، تشهد حضوراً وتفاعلاً من النشطاء والفاعلين الثقافيين الفلسطينيين أنفسهم والعرب بالدرجة الأولى، مع قلة من الأصوات والتفاعلات الألمانية حتى الآن.