لقد قدَّمَ العسكر العائدون إلى السلطة في مصر في انقلاب 2013 رَجُلَهُم عبد الفتاح السيسي على أنه، على وجه الدقة، الرجل الذي «طلع مش إخوان». أُدلوجةٌ عاد إليها السيسي مراراً، مُذكِّراً المصريين: «أنا مش إخوان، ومش حَبقى إخوان». فما هي «الشيفرات» التي تُحيل إليها هذه الأُدلوجة؟(1)

في الماركسية  الكلاسيكية – التي تعاملت مع ظروف عمل القرن التاسع عشر الأشبه بالاستعباد – تُعرَّف الإيديولوجيا على أنها ذلك الاحتياج لدى المُستغِل الرأسمالي، في ظروف المصنع، إلى نظام فكر موهوم يحجب واقع الاستغلال، ويجعل العاملَ قانعاً يحترم واقعة الاستثمار الفجّ في حياته وجسده لإنتاج الربح للرأسمالي، بما يؤدي لـ«انفصال إرادة الفرد عن ظروفه المادية».(2)

ومنذ الخط النظري الذي يبدأ مع أنطونيو غرامشي، ويستمرّ مع لويس ألتوسير الذي طَبَّقَ تعليم جاك لاكان حول النُظُم الرمزية للمجتمعات على مفهوم الإيديولوجية كـ لاوعي، وصولاً إلى سلافوي جيجك وأرنستو لاكلاو والآخرين ممّن يجمعهم الاعتناء بالبُعد التحليلنفسي لهذا المفهوم (مثلما عندما يُعيد جيجك تعريف الإيديولوجية؛ هذه الباقة أو تلك من اليقين السعيد يهديها المرء لنفسه- على أنها علاقتنا التلقائية مع الواقع، أن الخبرة المباشرة مُؤدلَجة يتخللها الوهم)، تُدرَس الإيديولوجية في استقلالها النسبي كحقل، وفي خصوصيتها الوظائفية.

خلال العام 2013، كانت جماعة الإخوان المسلمين، مُمثّلةً بحزب الحرية والعدالة، قد أوصلت رئيساً لمصر هو محمد مرسي. كانت الأحزاب الإسلامية والسلفية في مطالع العام ذاك تعيش غلواء النصر، بتعبيرات ومرجعيات صدمت التقاليد العلمانية المستقرة للبرجوازية والطبقات الوسطى المصرية وقيَمها.

 قبل ذلك بزمن قريب، كان المسّ بـ المواطن المصري، مفهوماً على أنه مواطن البرجوازية، هو ما حسم سقوط الترتيب(3) المباركيّ، حين تعدّت الشرطة على حياة الشاب الإسكندراني خالد سعيد، الذي تَصادَفَ أن له أهلاً ومُجتمعاً يسألون فيه، فلم يمر حادث مقتله دون أن يهز ثقة الجمهور المصري بالدولة، بالشكل الذي جعل تدفق المصريين إلى الميادين في يناير 2011 أمراً طبيعياً.(4)

وأيضاً فإن الإخوان، بصورة أساسية حين لم يتمكنوا من الإبقاء على حقيقة التعقيدات المجتمعية في أذهانهم، والتي كمنت وراء الأغلبية التي مُنِحوها، وحقيقة أن  فوز محمد مرسي في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية قد جاء ضد منافسه أحمد شفيق المحسوب على فلول الفلول، وأنه ليس «تفويضاً» للحركة الإسلامية، كانوا يُعجّلون بالدفع بمسار حُكمهم إلى النهاية التي هندسها الجيش. هكذا فمع سقوط الحدود الواهية، التي كان الإخوان قد رسموها بين خطابهم وخطاب باقي التيارات الإسلامية(5) في سنوات بناء دورهم في السياسة المصرية خلال حكم السادات ومبارك، ومع إعلامٍ إسلامويّ متزايدٍ في حدة النبرة والإحساس بالاضطهاد وحشد رايات كثيرة، كان النفور من الإخوان بصفتهم يمثلون كل ما هو دخيلٌ على ثقافة المصريين، محسوماً أيضاً.

خلال العام 2013، عام حكم الإخوان المضطرب وقبل أن تتناهى الأحداث إلى حَشدَي ميدان التحرير المعادي للإخوان والحشد الإخواني في ميدانَي رابعة العدوية والنهضة المتجاورين، كان يمكن تلمُّس كراهية الإخوان أينما تلفّتَّ في المراكز الحضرية في القاهرة والجيزة. لو قابلتَ صاحب متجر إخوانيّ الهوى ستجده عالقاً في نقاش غير متوازن مع جيرانه في الشارع، يمنعهم عن إسكاته أو مخاصمته أنه يؤيد الإخوان وليس إخوانياً، وحين كانت مظاهرات مُحازبي الإخوان بلباسهم الموحد المهندم وهتافهم لمرسي تمرّ في شوارع وسط البلد، حيث تفضي الشوارع إلى ميدان التحرير، كان الجمهور من المارة والساكنة يُشيرون للمتظاهرين بأصابع الإبهام إلى أسفل، ويهز الرجال الأكبر سناً في الشارع رؤوسهم ويتبادلون الكلام المتذمر.

وحين كُرِّسَ وسط البلد وميدان التحرير ميداناً للثورة على الإخوان، كانت الصفوف الأكثر محافظةً وتعففاً عن السياسة في البرجوازية المصرية تتقاطر إلى الميدان من أجل الثورة، وراح شباب الحركات الثورية يتندّرون على مظاهرات «العربيات» (السيارات الخاصة)، التي بدت مُفارَقة تتناقض مع الصورة الكلاسيكية للثورة التي عاينها الناس في 25 يناير، بمطلبيّتها وطابعها الطبقيّ.

هكذا تجمَّعَ الناقمون على الإخوان، وطوال العام وصولاً إلى «سهرة» 30 يونيو -كما يحلو لجمهور الإخوان تسميتها- والتي «أسقطت» الإخوان في ليلتين بالعدد من الغناء في الميدان بحماية الجيش (أُعلِنَ بيان الجيش يوم 3 يوليو)، برز هتاف الترحُّم على عبد الناصر الذي «قالها زمان.. الإخوان مالهمش أمان»، وغَنَّى الجميع عدداً غير نهائي من المرات مع شادية أغنيتها الجميلة: يا حبيبتي يا مصر، التي تُقدِّمُ تخييلاً ضمنياً لآخرٍ ما:

«ما شافش الأمل، في عيون الولاد، وصبايا البلد، ولا شاف العمل، سهران في البلاد.. والعزم اتولد

ولا شاف النيل في أحضان الشجر، ولا سمع مواويل في ليالي القمر.. أصلو ما عداش على مصر..

ما شافش الرجال، السمر الشداد، فوق كل المحن، ولا شاف العناد فى عيون الولاد، وتحدي الزمن، ولا شاف إصرار في عيون البشر، بيقول أحرار ولازم ننتصر، أصلو ما عداش على مصر».

 قبل التصاعُد الدرامي للأحداث، كان الحديث عن مآل حكم الإخوان وارداً دائماً، وأمام أن تقول -كمراقب خارجي- إنَّ الجيش سينقلب لو ساءت الأمور، سيُقال لك إن ذلك لن يحصل «لأن السيسي تبعهم»، أي «تبع» الإخوان. يكون واضحاً نسبياً أن البديهية التي تنبني عليها هذه الحجة هي أن الجيش، الذي لم يُرَ يوماً ينقلب، هو ليس في حاجة إلى ذلك.

ولكنْ كان ذلك هو ما يُقال لأن السيسي كان قد قُدِّمَ من إعلام الفلول كما الإخوان، كلٌّ لحاجاته الدعائية، بصفته «رجل الإخوان»(6) في الجيش.

كان مطلوباً من الهدنة التي بادرَ الجيش بها تجاه الإخوان المسلمين، بعد التخلُّص من مبارك، أن تبدو مبدئية، حيث إن الجيش كان قد «انحاز للشعب»، وعليه ساد الحرص على أن يبدو كما لو أن الإخوان، الذين فاز تحالفهم بالانتخابات البرلمانية، حين كانوا يشكلون حكومتهم فإنهم إنما كانوا يختارون ممثلاً لهم ضمن المؤسسة العسكرية وزيراً للدفاع. وما يزال ثابتاً في رواية النظام المصري أن الجيش تعامل بحسن نية مع الإخوان، وأنه لدى التخلُّص من محمد مرسي فإن ذلك لم يكن في سياق الصراع على السلطة.

من جهتهم، كان الإخوان مُرتاحين، في ارتياحهم إلى السلطة المستجدة، إلى رجلٍ يمكنك أن تدّعي أنه «قريب من الفكر الإسلامي»، يصلي ويعرف ربِّنا.

من جهة العسكر، ففي مسلسل (الاختيار3) الذي عرض في شهر رمضان 2022 ويحكي رواية النظام المصري لأحداث صعود وسقوط حكم الإخوان المسلمين، يَعرِف السيسي، الرجل التقي والهادئ، أنه اختيرَ لمهمة وزارة الدفاع من خلال مكالمة هاتفية، وحين يعترض: ولماذا ليس المشير طنطاوي؟(7) يقول محدثه على الهاتف من الجهة الأخرى إن المشير طنطاوي نفسه هو من أراد. في مشهد آخر، نشاهد الرئيس محمد مرسي يعرض على وزير الدفاع الانضمام للإخوان، لأنه «رجل ملتزم وعلى خلق وهذا نادر في هذا الزمان»، ولأن الناس بتقول عليه إخوان، فلماذا لا يصير إخوان.

بعد ذلك، وخلال السهرة/الثورة إياها، وقبيلَ إذاعة بيان استحواذ الجيش على السلطة، كانت قيادات الجيش تجتمع مع ممثلي المحتجين في ميدان التحرير وقيادييّ حركة «تمرد»، التي كانت تجمع التواقيع لإسقاط مرسي في الذكرى السنوية الأولى لوصوله إلى الحكم، هناك حيث انتهى الأمر بالجيش «مقتنعاً» بالتدخل، بطريقة تريد القيادة المصرية بشكل يائس دائماً إحالتها إلى الصيغة الناصرية لقائد راديكالي يخرج من صفوف الجماهير، ويستبدّ باسمها وبالتناغم مع مطالبها الرئيسية، ودائماً ما يتحمل «الإعلام» اللوم في عدم سد هذه الثغرة.

وقد تكون هناك عوامل تُبرّر تشبيه عبد الفتاح السيسي بجمال عبد الناصر، لكن الأكيد أن العلاقة الخاصة المفترضة مع الجماهير ليست مما يجمعهما، فالنظام المصري يعاني من قلة اكتراث مستفحلة من الجمهور المصري بـ«إنجازاته»، وإعراضهم عن «انتخاباته» واستفتاءاته، وتقصيرهم عن همة قائد مجتهد، خلافَ الآلة الإيديولوجية الناصرية، التي لم تكن تواجه مشاكل على هذا الصعيد، بل كانت تتبادل غزلاً صافياً مع «الشعب»، ُتحيي تضحياته ويفدّي قيادتها في جموع هادرة.(8)

ولكن ما المعنى الذي يُفترَض بالمصريين أن يلحظوه، وما الذي بالضبط يُقصَد من السيسي حين يقول إنه يُمثِّلُ ما ليس الإخوان؟

المصري كـ عكس إخواني

تعود التقاليد العلمانية للدولة المصرية إلى عوامل، بينها حرص محمد علي على تأسيس مؤسسات دولة خبيرة وحديثة يديرها بيروقراطيون عارفون، ممّا أُجهز عليه في سيرورة انحدارية بدأت مبكراً(9)، فضلاً عن الاختيار الاشتراكي لدولة عبد الناصر، والتأسيس تالياً للطبقة الوسطى المصرية التي واكبت عهد عبد الناصر كقوة قاعدية صاعدة من الصعيد والدلتا إلى شمس المدينة الحديثة والمدنيّة. طبقة عاشت تقلبات درامية في عهدَي السادات ومبارك، ودعمت ثورة يناير وصفَّقت لعودة العسكر.

وبالنظر لأن الطبقة المُتحكمة في مجتمع هي من يُنتِجُ لهذا المجتمع ثقافته، أو بتعبير المأثور العربي (الناس على دين ملوكها)، فإن البرجوازية المصرية تفهم الشيء المصري -لو وُجِدَ شيءٌ كهذا- على أنه ذلك المرتبط بظروف بزوغها كبرجوازية دولة(10)، أي الأطر الإيديولوجية الناصرية: الشعب كمبدأ مطلق للسياسة(11)، وأن الدولة مُفترضٌ بها أن تُمثِّلَ الشعب تمثيلاً مباشراً، من خلال كونها بالطبيعة مُكوَّنة من رجال حكماء منتمين لهذا الشعب. لم تصطدم الاشتراكية العربية -الإيديولوجية الرسمية للحكم الناصري- بالدين، والمصري هنا هو مزيج «مزبوط» من إنسانٍ يُصلّي وفضاء عام مُعلَمن بحدود مُحدَّدة معروفة.

لهذه الأدلوجة آَخَرٌ اسمه «الجماعة». يفسر هذا، جزئياً على الأقل، أن الناصريين حركاتٍ وأحزاباً ونشطاءَ مستقلين كانوا رأس الحربة في تنظيم وتعبئة الحراك الشعبي ضد الإخوان المسلمين، والأكثر وضوحاً إيديولوجياً في عدائهم الجذري للإخوانية.

ولقد تلاعبت الحكومات المصرية دائماً بهذا الآخر، بتقريبه وتبعيده، مُتلاعبةً بمشاعر الفئات الشعبية من ثَم، وذلك أخذاً بالاعتبار المكانة التأسيسية للآخر في التكوين السيكولوجي للإنسان، على ما يوضح درسُ المحلل النفسي جاك لاكان. فالآخريّة مطلقاً، المحبوبة في الرغبة اللاواعية (الآخر الكبير)، المُقلَّل من شأنها في الرغبة الواعية ذات الطبيعة الإنكارية (الآخر الصغير)(12)، هي في السيكولوجيا العنصرية ضرورة بنيوية. ومثلما في بيت الشعر: «الحب في الأرض بعضٌ من تخيُّلِنا.. لو لم نجده عليها لاخترعناهُ»، فإن هذا النوع الجامح من الحب هو أيضاً يتطلّبُ خلقَ الآخر لو لم يوجد، وتضخيم دوره، فالعنصرية دائماً ما لا تزدهر ولا هي تستطيع تقديم نفسها بدون توسيط صورة الآخر ونفيه(13)، في فورانٍ نرجسي من توكيد الذات تصير معه أخاييل الإبادة أمراً منطقياً. وحين يهتف جمهور عنصري «الموت للآخرين» المُحدَّدين، فإنهم يكونون يستخدمون شيفرة محددة، مثيرين أخيلة وتصورات وأحكاماً يعرفها مُخاطَبوهم. بالطريقة نفسها، وهذا ما لا يخفى، فإن الحكم العسكري المصري ليس نفسه لولا الإخوان.

والإخوان، الذين كانوا في زمن المَلَكية مرجعيةً حزبيةً نَشِطةً والأقربَ لعديد الضباط الأحرار في يَفاعتهم، هُم في المروية الناصرية النهائية يمثلون خصيمَ الروح العلمانية للدولة المصرية، وكل ما هو ضد مركزية الإنسان المصري، لمصلحة مركزيةِ الحزبية الإخوانية الضيقة التي «تستخدم الدين» لأهدافها السلطوية (دائماً ما يتم التركيز على تصوير حضور الولاء والطاعة للمرشد العام للجماعة، وأدبيات التخاطب الخاصة).

وبتدريج متفاوت منذ عهد السادات، حين كان يُحتَاج إلى دور الإيمان في السياسة، وإلى دور الإسلاميين في تحييد الأحزاب الديمقراطية والقوى المجتمعية الفاعلة الأخرى، وأحياناً إلى دورهم في القيام بواجبات الدولة الخدمية الأساسية(14)، كانوا أحياناً ما يصيرون أولئك الذين يعرفون ربنا، والذين يُمثّلون/يُمكن أن يُمثِّلوا الغلابة.

 ولم يكن الإخوان، في عامهم الوحيد في السلطة، مهتمين بتكذيب التشنيع الناصري على الإخوانية في حزبيّتها الضيقة وسلطويتها، فهم بالعكس تصرفوا بما يؤكد الادعاء الناصري ضدهم. وإذا كان فضُّ اعتصامي رابعة العدوية والنهضة قد أسفر عن تقديرات تتراوح بين ألف إلى ألفين من القتلى، فإن أياماً قبل الانقلاب، أواخر حزيران (يونيو) 2013 كانت قد شهدت بدافع من العصبية السنّية المُوقَظة، هجوم حشد من الغوغاء على اجتماع ديني للشيعة المصريين في قرية أبو النمرس جنوبي القاهرة، قُتِلَ فيه زعيم الطائفة في مصر حسن شحاتة وآخرون، بطريقة بشعة.

وفي ما يخصّ علاقتهم بالجيش، وبعيداً عن أن يكونوا على دراية بأوجه استخدام الدولة لوجودهم، فإن الإخوان المصريين كانوا مهتمين بإظهار الاحترام الثابت لدور الجيش، وبالنسبة لهم فقد كانوا مصدومين بالانقلاب الجاري، ويعيشون في عالم آخر إزاء الأحداث، ويمكن في هذه النقطة مطالعة الفيلم الوثائقي الذي أنتجته الجزيرة حول الساعات الأخيرة لمحمد مرسي وحكومته في القصر، بعنوان الساعات الأخيرة: كواليس لعبة الخداع الاستراتيجي للسيسي

اختراق مُحتمَل

في تشرين الأول (أكتوبر) 2022، أصدر رئيس حزب الإصلاح والتنمية محمد أنور السادات بياناً بعنوان: هل يفعلها الرئيس 2024؟، يتوقع فيه مفاجأةً من الرئيس السيسي بعدم الترشح في الانتخابات الرئاسية القادمة. وما يقوله هذا البيان، أهم من محتواه الحرفي، أن الحاكم العسكري الذي زحمَ السجونَ بشباب ثورة يناير الواعي، ما يزال، بعد عشر سنوات من عَهده، الرجل الذي يُتوَقَّع منه الاستقالة، وأنه إذا فاجأنا فترشَّح، فذلك بسبب نفس الاستثناء ياولداه، الذي حدا به لقبول المسؤولية من قبل.

أَخْذاً بالاعتبار هذا الإجراء الإيديولوجي، فإن سؤالاً آخر هو أحرى أن يُسأل. 

مراتٍ عديدة بعد استقرار الأمر للحكم العسكري منذ 2013، أثار النائب أحمد الطنطاوي تساؤلات حول القوة التي يستند إليها في تصريحاته الجريئة ضد الرئيس. فالنائب السابق الذي مثَّلَ دائرة دسوق وقلين بمحافظة كفر الشيخ، مُستنِداً إلى أصوات الكتلة الشابة من الناخبين المحليين، وعضو تكتّل 30/25 الذي يضمّ قوى تقدمية حزبية ومستقلة تتبنى شعارات ثورة 25 يناير2011 وحراك 30 يونيو2013، ويُعَدُّ من وجوه الجيل الثاني من مُحازبي حزب الكرامة الناصري(15)، والذي تم استبعاده بالتزوير في انتخابات 2020 النيابية، هو ذلك الرجل الذي تداولت المواقع والصفحات تصريحاً له في خضم مناقشة برلمانية: «أنا لا أحب الرئيس ولا أثق في سياساته، وهذا حقي كمصري قبل أن أكون نائباً» ما استدعى استهجاناً في القاعة.

وفي حين أن السؤال الذي يُثار بديهياً: أهو محميٌّ من جهة ما؟ أو بتوازنات ما؟ وهذا جميعاً مما رُجِّح، فإن الأرجح أنه محميٌّ ليس إلا بخطاب السيادة المصري، وبفهمه الاحترافي للخطاب كمُمارسة سياسية. فهو يستند إلى ما يستند إليه السيسي نفسه حين يتحدث، وإلى ما يستند إليه كلُّ تكلُّمٍ مشروع.

فحيث مُحدِّد خطابٍ ما هو «ما يكون على المحك عندما ندعي الحق في الكلام»، وحيث الخطاب(16) هو فعلٌ يؤسس للارتباط الاجتماعي، فمن جهته فإن خطاب السيد، إلى جانب الحق في الكلام، يؤسِّس الارتباط الاجتماعي في شكل إتقان، ويمثل اللغة في بعدها المتعلق بالهيمنة(17).

في شهر تموز (يوليو) 2022، وبُعيد نشر مقال لطنطاوي على موقع المنصة حول الكيفيات القانونية لعزل الرئيس بعنوان: كيف يتم عزل رئيس الجمهورية ومحاكمته؟ تداولت وسائل الإعلام خبراً عن مغادرة النائب المشاغب إلى بيروت، كما تحدثت التقارير الإعلامية حينها عن خلافات حزبية، وكان مما ذُكر أيضاً أنه سمِع: «لن نجعل منك بطلاً»، وهي إشارات عزّزت في ذلك الوقت احتمال أنَّ إبعاده كان مرتبطاً بالتحديد بالخوف من مُنافسَة محتملة في الانتخابات الرئاسية المقبلة مع حالةٍ لعنصر حزبي نزيه ومحترف، استطاعَ التغلُّبَ على تحالفات رجال الأعمال والوصول إلى البرلمان، وشديد الجاهزية لتمثيل الغضب الشعبي ضد السياسات الاقتصادية الجائرة للنظام المصري، ويملك المصريون الأدوات الذاتية لفهم دوره والثقة فيه، الأدوات نفسها التي استغلَّها السيسي في صعوده، أي إثبات أن السيسي «طلع إخوان»، أنه «ما شاف الولاد» ولا البلاد إلخ، باستخدام تلك الرطانة.

وهم يعلمون جيداً خطر هذا الرجل. في وقت سابق من شهر أيار (مايو) من العام الجاري، أعلن طنطاوي عودته إلى مصر، لتتوالى الأنباء بعدها عن إعلانه نيته خوض السباق الرئاسي، ومباشرة حملته الانتخابية هو الذي كان قد تعهد بالمواصلة بقوة، ليتحوَّلَ في هذه الأثناء إلى هدف لضروب من تَفنُّن النظام في التضييق عليه مع وصوله إلى هذه الدرجة من التحدّي، من اعتقال مُحامِي ونشطاء حملته، وحتى مراقبة هاتفه الشخصي كما كشف تقرير مركز ستيزن لاب الكندي المعني بأبحاث أمن الإنترنت، وبثّ أنصار النظام لمحاصرته أمام دوائر الشهر العقاري، وحملة التضليل والهجوم الممنهج المستمر من الإعلام الحكومي، بالتزامن مع مهزلة منعه من تسجيل التوكيلات الداعمة لترشيحه، التي باتت حديث الإعلام في الأيام الأخيرة.

تُشكِّل هذه المواجهة الصعبة، ومجريات مصير العمل السياسي لأحمد طنطاوي فرصة لاختبار الحالة الحزبية المصرية، بتقاليدها الليبرالية(18) العريقة، في مدى قدرتها على اجتراح البديل الديمقراطي لمصر، المُمكن أكثر من أي وقت.